إسلام ويب

تفسير سورة غافر [55 - 59]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين ومجادلة أهل الباطل، ويأمره بالاستغفار والتسبيح في أول النهار وآخره، والمؤمنون يقتدون بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي يستغفر الله في اليوم مائة مرة. والاستكبار عن الحق والمجادلة بالباطل صفتان من صفات الكافرين، فهؤلاء الذين أنكروا البعث نسوا أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلقهم، ولكنهم لا يعلمون ذلك؛ لأنه لا يستوي من نوَّر الله بصيرته، ومن أعماه الله عن الحق، ولا يستوي الذي يعمل الصالحات والذي يعمل السيئات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق ... )

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة غافر: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ * إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:55-59].

    في هذه الآيات يصبر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه يأمره بالصبر ويخبره عما سيكون بعد ذلك من مجيء الساعة ومن حساب لهؤلاء المشركين، وأنهم لا يستوون أبداً مع المؤمنين عند ربهم سبحانه، قال تعالى: (فَاصْبِرْ)، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين بذلك، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    فعودوا أنفسكم على الصبر كما أمر الله سبحانه وتعالى وكما أخبر عن الجزاء فيه، قال تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    فقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: مهما فعل بك هؤلاء ومهما آذوك فنفذ ما أمرك الله عز وجل به واصبر على ما أمرت به من صبر وتنفيذ لهذه الشريعة وتبليغ لدين الله سبحانه، وجهاد لهؤلاء بالسيف والسنان، وبالكلمة واللسان، وبالقلب والجنان.

    وقوله تعالى: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: وعدكم الله بالنصر إن نصرتم دينه حقاً، ولا بد أن يكون، ووعد الله للمؤمنين بإحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة حق، وإن الله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، ووعيد الله عز وجل للكفار بأن يعذبهم وأن يدخلهم النار حق.

    ثم أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يستغفر، وإن كان ربه سبحانه قد عصمه من الذنوب، وكأنه من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فقال له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، وهذه السورة مكية، والنبي صلوات الله وسلامه عليه أعلمه ربه سبحانه بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في سورة الفتح بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه بست سنوات، في ذي القعدة من سنة ست في عام الحديبية، قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:2-3].

    فبين هاتين الآيتين سنوات طويلة، وأمر الله للنبي بالاستغفار هو أمر للمؤمنين أن يكثروا من الاستغفار مقتدين بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار حتى بعد أن أخبره سبحانه أن ذنبه مغفور عليه الصلاة والسلام، فلا يقع منه ذنب عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان يعد له في المجلس الواحد سبعون مرة وهو يستغفر الله سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة).

    معاني قوله تعالى (وسبح بحمدك)

    وقوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55]، أمر أن يسبح الله في أول النهار وفي آخر النهار، فالعشي: وقت العصر، والإبكار: وقت الفجر، فأمره أن يستغفر الله وأن يسبح حامداً ربه، والتسبيح: هو التنزيه.

    وقالوا معناه: صل في هذا الوقت في العشي والإبكار، وكانت الصلاة في العهد المكي أن يصلي مرتين في اليوم عليه الصلاة والسلام قبل أن يسرى به ويعرج به إلى السماء وتفرض عليه الصلوات الخمس المعروفة، فكان قبل ذلك يصلي ركعتين أول النهار وركعتين آخر النهار، حتى علم صلى الله عليه وسلم كيف يصلي الخمس الصلوات، ونزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة من الصلوات الخمس المفروضة وهي صلاة الظهر؛ ولذلك تسمى صلاة الظهر: الصلاة الأولى، لا لكونها أول صلاة في اليوم، ولكن لأن جبريل أول ما علم النبي صلى الله عليه وسلم وصلى به إماماً صلاة الظهر.

    فقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر:55]، على عموم التسبيح والحمد، وأيضاً على خصوصية معنى الصلاة، ولذلك تسمى صلاة النافلة صلاة التسبيح أو صلاة السبحة، بمعنى: صلاة التطوع، فالأمر هنا بالصلاة التي فيها ذكر الله وتسبيح الله وتحميد الله، والأمر هنا بأن يذكر الله في هذين الوقتين.

    وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين الذكر في هذين الوقتين: بعد الفجر، فالملائكة تحضر الذكر في هذا الوقت، وبعد العصر أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم)، أي: يعرجون بعد الفجر (فيسألهم الله سبحانه وتعالى كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون -أي: صلاة العصر-، وتركناهم وهم يصلون)، أي: الفجر، وهكذا تطوف الملائكة على بني آدم في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، فالمستحب كثرة ذكر الله عز وجل في هذين الوقتين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم...)

    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56]، هنا تنبيه للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يصبر على أمثال هؤلاء؛ لأن هذا أمر يضايق الإنسان أن يسمع الجدل بالباطل، فبدأ ربه سبحانه معه بقوله: فَاصْبِرْ [غافر:55]، فهم سيجادلونك، وسيؤذونك، وسيحاولون أن يفعلوا بك ما يريحُ أنفسهم من أذى لك وإتعاب لك، (فَاصْبِرْ) على ذلك.

    وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رزق عبد خيراً ولا أوسع من الصبر)، فالله يرزق العباد الكثير، وأفضل ما يرزق العبد الصبر، فإذا بهذا الإنسان الصابر يجد نفسه أغنى الناس؛ لأنه رزق الصبر فلا يحتاج إلى أحد من الناس، فتراه يصبر على البأساء وعلى الضراء، ويصبر على قضاء الله وقدره، ويصبر على تكاليف ما جاء في هذه الشريعة من أوامر فيفعلها، ويصبر على ما نهى الله عز وجل عنه فيجتنبه.

    فقوله: تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ [غافر:35]، أي: يضايقونك، ويتكلمون معك جدالاً بجدال، وقوله: بِغَيْرِ سُلْطَانٍ [غافر:35]، أي: بغير حجة من عند الله سبحانه وتعالى، وقوله: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غافر:56]، (إن) هنا بمعنى: ما، أي: ما في صدورهم إلا كبر، وهذا أسلوب قصر، أي: الجدل ليس إلا للكبر الذي في نفوسهم، فهم يجادلون مستكبرين على شرع الله، ومستكبرين أن يطيعوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فليس في صدورهم علم، وليس في صدروهم دين، وليس في صدورهم نور، بل في صدورهم الكبر والتعاظم وبطر الحق وغمط الناس، فهؤلاء القوم يخبر الله عز وجل عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ليس في قلوبهم علم حين يجادلونه، إنما الذي في صدورهم حب الجدل استكباراً عن الحق.

    وكذلك كل إنسان يجادل بالباطل ليس في صدره علم، ولو كان في صدره علم لتكلم بالحق، ولأذعن له، ولا سمع للخصم فيما يقول، ولأنصف من نفسه، ولكن هؤلاء لا ينصتون، فهم يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بآذانهم، أما قلوبهم فلا تعقل ولا تفقه شيئاً، ولكنهم يسمعون ليردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كل مجادل بالباطل يستمع إلى خصمه لا يفكر فيما يقول، إنما يفكر كيف يرد عليه كبراً، فعظمت أنفسُهم في أنفسِهم واستعظموا واستكبروا.

    وقوله تعالى: مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56]، أي: أن العظمة التي يدعونها لن يصلوا إليها أبداً؛ لأن الله يأبى إلا أن يضعه ويذله ويفضحه، فهؤلاء الكفار الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم أذلهم الله وأخزاهم، فجعل شيوخهم وكبراءهم قتلى وصرعى في يوم بدر، فقد أنتنت جيفهم، وألقوا في قليب بدر جثثاً منتنة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا)، وقال لأصحابه: (ما أنتم بأسمع لما أقول من هؤلاء).

    فهؤلاء الذين استكبروا عن الحق قال الله عنهم: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56]، وكل إنسان متكبر عن الحق مستحيل أن يصل إلى ما يزعم أنه متكبر عن قبول الحق ومتعاظم في نفسه يوهم الناس أن معه حق والناس يصدقونه، حتى وإن أطاعه الناس فيما يقول هو في أنفسهم كذاب، ويحتقرونه في أنفسهم ويظهرون له البغضاء، ولذلك كان أتباع مسيلمة حين يسمعون منه ما يقول يضحك بعضهم إلى بعض ويقول بعضهم لبعض: والله إنه لكاذب، ولكن كذاب ثقيف أحب إلينا من صادق قريش، فوجهة نظر هؤلاء الكفار أن هذا كذاب، لكن نحن نحب الكاذب منا على الصادق الذي من قريش.

    فالواحد منهم إذا سمعه يتلو عليه أشياء من وحي الشيطان ويزعم أن جبريل جاءه به يقول له: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، فلا يصدقه، وأبى الله إلا أن يحقره فيما يقوله وأن يذله وأن يضعه.

    فهنا يقول الله: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56]، أي: ليسوا ببالغيه ولن يصلوا إلى ما يتمنون من استعظام أو استكبار، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [غافر:56] أي: استعذ بالله من الشيطان، واستعذ بالله من الكبر، واستعذ بالله من الهوى، وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56]، أي: يسمعك ويسمعهم ويسمع كل شيء، ويراك ويراقبك ويراهم ويراقبهم ويراقب كل شيء ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ...)

    قال الله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، هؤلاء الذين يجادلون في الله سبحانه وتعالى ذكرهم الله في هذه السورة مرتين، فقال: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56]، وقال قبل ذلك كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر:35]، فقوله: (كَبُرَ)، أي: تعاظم هذا الشيء، فهو شيء يغضب الله سبحانه وتعالى، وهو شيء بغيض عند الله عظم في مقته وفي كراهته، وهو الجدال بالباطل.

    ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، يقول لهم ذلك لأنهم كانوا يجادلون في ذلك، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]، أي: هل نرجع مرة أخرى بعدما نكون تراباً، فقالوا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ [المؤمنون:36]، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، قال الله سبحانه: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24].

    ظن كاذب وتخرص باطل على الله سبحانه وتعالى بما يزعمونه، فقال: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غافر:56]، فالكبر يدفعهم بأن يجادلوا بالباطل وأن يدفعوا الحق الذي معك فيرفضوك، فقال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، أي: هؤلاء المتعجبون من كيفية إعادة الله لهم لا ينظرون إلى كيفية خلق السماوات، وكيفية خلق الأرض، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41]، أي: ما أمسكهما من أحد من بعده، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر:41]، سبحانه وتعالى.

    وقال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:17-21]، هذا الذي عليك، قال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99]، صلوات الله وسلامه عليه.

    فقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، أي: خلق السماوات والأرض أكبر وأعظم من خلق الناس، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، أي: لم يتفكروا في ذلك، وقد قال الله سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزلت علي آيات الليلة ويل لمن قرأها فلم يتفكر فيها)، وهي هذه الآيات العشر من آخر سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] إلى آخر السورة.

    فيتفكر المؤمنون في خلق السماوات وفي خلق الأرض، يتفكرون في هذه الأشياء العظيمة التي خلقها الله سبحانه، وكلما نظروا إلى السماوات وإلى الشمس وإلى القمر وإلى النجوم وإلى هذه الأعداد الهائلة من الأجرام التي خلقها الله سبحانه وتعالى قالوا: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ [آل عمران:191]، أي: تعاليت وتنزهت يا ربنا أن تخلق شيئاً باطلاً فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير ... ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)

    قال الله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر:58]، أي: لا يستوي إنسان أعمى لا يبصر آيات الله عز وجل في الكون مع إنسان بصير يبصر آيات الله، وهل يستوي الأعمى في قلبه الذي لا يتفكر ولا يتدبر مع إنسان أعطاه الله البصيرة فهو يتفكر في كون الله سبحانه وتعالى وفي مخلوقات خلقها الله؟! فهو يتأمل ويتدبر، ويعلم أن هذا ما خلق باطلاً، فلا يستوي الأعمى في قلبه الذي هو على الضلالة مع إنسان بصر الله قلبه ونوره.

    قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ [غافر:58]، فالإنسان المؤمن لا يستوي مع صاحب أعظم سيئة وهي الشرك بالله سبحانه، لا يستوي أبداً المؤمن مع الكافر، ولا يستوي من يعمل صالحاً مع من يسيء ويعمل السيئات، قال تعالى: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر:58]، فقليلاً ما يتذكر الإنسان أي: ما يتعظ، وإذا اتعظ حيناً نسي أحياناً كثيرة فلم يتعظ، فقال الله سبحانه: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر:58]، وهذه قراءة الكوفيين بتاء الخطاب، وباقي القراء يقرءون (قليلاً ما يتذكرون) للغائب، أي: هؤلاء المشركون وهؤلاء الكفار قليلاً جداً ما يتذكرون، وإذا تذكروا أحياناً وقالوا: إن هذا القرآن ليس بقول بشر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، سرعان ما يرجعون عن ذلك.

    قال تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:18-25].

    إذاً: هذا الذي قال: القرآن له حلاوة، وعليه طلاوة، رجع عن كلامه بسرعة خائفاً من قومه مجاملاً لهم، فقال: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:24]، أثره عمن كان قبله، فتعلم السحر ممن كان قبله فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وافترى عليه، فقليلاً ما يتذكر أمثال هؤلاء، أما المؤمنون فهم يتعظون بما قال الله سبحانه، ويعلمون أنهم إليه راجعون؛ ولذلك قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ [غافر:59]، أي: اتركهم على ما هم فيه من باطل ومن ضلال ومن كبر، فالساعة ستأتي لا ريب في ذلك، قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا [غافر:59]، أي: لا شك في ذلك، وقال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59] بأنهم راجعون إلى الله، وأنه مجازيهم، قال تعالى: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]، حتى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:107]، فيومئذ يعرفون أن الدين كان هو الحق من عند رب العالمين، وأن شيطانهم أضلهم فاستحقوا أن يكونوا من الغاوين.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756380083