إسلام ويب

تفسير سورة الشورى [22 - 23]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبر الله تعالى عن حال الظالمين في عرصات يوم القيامة، كيف أنهم مشفقون خائفون من عذاب الله تعالى، وهذا الخوف والإشفاق لا ينفعهم؛ بل عذاب الله واقع بهم لا محالة، بينما المؤمنون في روضات الجنات لهم فيها ما يشاءون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقد أخبر سبحانه وتعالى عن وجوب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في أهله وقرابته، ومحبتهم الحب الشرعي الذي ينبغي لمثلهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ [الشورى:22].

    يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بأن الظالمين يوم القيامة يشفقون على أنفسهم من كسبهم الباطل، مما اكتسبوا من الشرك بالله سبحانه والكفر، والوقوع في المعاصي العظيمة وظلم الخلق، تراهم مشفقين حين لا تنفعهم شفقتهم.

    قال تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أي: مما اقترفوا في هذه الحياة الدنيا.

    قوله: وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ أي: جزاء أعمالهم واقع بهم، فسيجازيهم الله عز وجل يوم القيامة ويعذبهم، ولا تنفعهم رحمتهم لأنفسهم ولا شفقتهم على أنفسهم ولا اعتذارهم إلى ربهم سبحانه.

    أما المؤمنون فهم في روضات الجنات، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ فالمؤمن هو الذي اتقى ربه سبحانه، والذي عمل بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبدل ولم يحرف ولم يغير، واتبع صراط الله المستقيم، فهؤلاء المؤمنون الذين عملوا الصالحات لهم روضات وبساتين في جنات الخلود، في أعالي الجنات، ولهم مكان عظيم يتنزهون فيه ويتنعمون فيه ويفرحون بالجزاء فيه، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ ذلك الفضل تفضل الله عز وجل به عليهم، وجعلهم الفائزين الناجين المفلحين، وأعطاهم من رحمته سبحانه وتعالى، وأدخلهم الجنة وجعل ذلك أعظم الفوز.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا...)

    قال تعالى: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى:23].

    قوله: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ذلك الفضل الكبير جنات الخلود وروضات الجنات هو الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، المؤمنين الأتقياء، ولاحظ أنه يكرر (آمنوا وعملوا الصالحات)، فالإنسان الذي يقول: آمنت بلسانه ولا يعمل شيئاً لا ينتظر هذا الجزاء، وإنما يحاسبه الله سبحانه ويقول له: أين العمل الذي أمرناك أن تعمله؟ أين صلاتك؟ أين صيامك؟ أين أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟ هذا كله من خصال الإيمان.

    فالإنسان إذا قال: لا إله إلا الله دخل الإسلام، ولكن لا يكفي، بل لابد أن يعمل؛ لأن الذين آمنوا صدقوا وعرفوا أن الله ربهم، فقالوا: لا إله إلا الله وعملوا الصالحات.

    قال الله سبحانه: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا أي: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل للناس للكافرين وللمسلمين: لا أسألكم عليه أجراً، أي: لا أطلب أجراً من أحد لا من أهل الإسلام ولا من الكفار على تبليغ رسالة الله سبحانه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ينصحهم أن يصلوا أرحامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقطعونها، وأن يصلوا أرحامهم بعضهم مع بعض ولا يقطعونها، فهو يقول: لا أسألكم عليه أجراً، ولكن أطلب منكم المودة في القربى، أن تودوا ما بيني وبينكم من قرابة، هذا يقوله الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ويقول للناس: أن راعوا ما بينكم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من مودة ومن صلة رحم فلا تقطعوها.

    وهذه السورة سورة مكية ما عدا أربع آيات فيها مدنية، وهذه الأربع آيات هي هذه الآية التي معنا: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] وما يليها.

    وجوب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته وعدم أذاهم

    قال المفسرون: وكأن الخطاب للمؤمنين أيضاً: أن راعوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تتعرضوا لهم بأذى، حتى وإن كان إسلامهم متأخراً.

    وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم منهم من كان من السابقين كـعلي رضي الله تعالى عنه، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم، ومنهم من تأخر في إسلامه وتأخر في هجرته للنبي صلى الله عليه وسلم، كـالعباس عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلعل البعض من المؤمنين يقول للعباس شيئاً يؤذيه به: أنت رجل كبير وأنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تتأخر في الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم! فلعل النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك أو يبلغه فيتأذى بذلك، فينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ذلك، ويأمرهم بحب آل بيته صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحبوهم وأن يراعوا القرابة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولعل البعض من الناس يقول لبعض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم تأخرتم في إسلامكم فلا ينفعكم أنكم أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء أخطئوا في ذلك؛ لأن أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم تنفعهم مودة النبي صلى الله عليه وسلم، وينفعهم نسبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال: (كل نسب وسبب مقطوع يوم القيامة إلا نسبي وسببي) صلوات الله وسلامه عليه، فكل نسب وسبب مقطوع يوم القيامة إلا نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ينتفعون بقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهم المؤمنون منهم الذين دخلوا في دين الله عز وجل، فهؤلاء ينفعهم قربهم من النبي صلوات الله وسلامه عليه، طالما أنهم أسلموا حتى ولو كان إسلامهم قد تأخر فتنفعهم قرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك أراد عمر رضي الله عنه أن يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، فلذلك تزوج من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت صغيرة في السن، وهو رضي الله عنه لم يتزوجها إلا لهذا الشيء، مع أن ابنته السيدة حفصة بنت عمر زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه أحب أن يرتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب آخر فيكون أقرب، فتزوج بابنة علي رضي الله تعالى عنه.

    فالغرض: أن بعض المسلمين قد أساء مع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم لعله تطاول عليهم وقال: لا ينفعكم سببكم ولا نسبكم للنبي صلى الله عليه وسلم وقد تأخر إسلامكم، فهذا أحزن النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يأمر الجميع ويقول: صلوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وراعوها، ولذلك كان لهم تشريف عند الله عز وجل بأنهم ممن منعهم الله عز وجل أن يأخذوا الصدقة، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].

    فجعل الصدقات لهؤلاء، أما قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل لهم سهماً آخر وهو سهم ذوي القربى، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [الأنفال:41] فجعل سهم قرابة النبي صلوات الله وسلامه عليه في المغانم.

    فجعل الله عز وجل لهم أشرف ما يكون ومنعهم من أحقر ما يكون؛ تشريفاً لقرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن مرة وقد مد يده على تمرة ملقاة من تمر الصدقة، فأخذها ووضعها في فمه، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذها منه ويقول: (كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟) وهو طفل صغير، وهذا لا يقال إلا لإنسان كبير ومع هذا قال ذلك لطفل صغير في السن حتى يعلمه، ولم يتركها له، ولم يقل: سأدفع ثمنها، وإنما منعه من أن يأكلها صلوات الله وسلامه عليه.

    فالغرض: أن الله سبحانه قال للخلق جميعهم الكفار والمؤمنين: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منكم شيئاً على أن يبلغ رسالة الله سبحانه، ولكن الذي يأمركم به أن تراعوا القرابة التي بينكم وبينه، وهذا الخطاب لقريش الذين تربطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قرابات ما من بطن من بطون قريش إلا وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة، ثم باقي الناس يطلب منهم صلة الأرحام ويقول: لا تؤذوا قرابتي، مثل العباس رضي الله عنه وغيره من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تأخر إسلامهم، وقد وبخهم البعض على ذلك.

    فالله عز وجل يبين لهم أن هؤلاء أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، واحترامكم لهؤلاء من احترامكم للنبي صلى الله عليه وسلم، والعباس كان السن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ليس كبيراً، ومع ذلك كان يفرح النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه، ويقول: (هذا العباس هذا عمي) ويقول: (عم الرجل صنو أبيه) والنخل منها صنوان وغير صنوان، والنخلة غير الصنوان هي التي تكون قائمة على ساق واحدة ويطلع الفروع من الساق الواحدة، أما الصنوان فهي التي لها ساقان، فيكون أصل النخلة واحداً ويتفرع منه ساقان، وكل ساق فيه رأس نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما رأى العباس : (عم الرجل صنو أبيه)، يعني: أنه يجتمع مع أبيه في جده، فإذا كان يقول عن جده أنه أبوه فكذلك العم يكون أباً للإنسان مع عدم وجود أبيه، وهو أولى الناس به مع عدم وجود أبيه.

    وكون العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالحق ويأمر الناس أن يأخذوا منه الحق، ولما خرج جيش الكفار إلى بدر كان العباس فيهم، وهو لم يخرج للقتال، وإنما أجبروه على الخروج معهم، فخرج ولم يقاتل، وأسر العباس رضي الله تعالى عنه، فلما أسر وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا الفدية أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا من العباس الفدية، وقال: (لا تدعوا له درهماً، فقالالعباس للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني كنت مسلماً قبل، قال: ظاهرك كان علينا)، يعني: وإن صدقناك في أنك كنت مسلماً لكنك كنت في جيش العدو، فظاهرك كان علينا، فلابد أن تدفع حتى تخرج من الأسر، ودفع العباس ، والله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:70].

    فـالعباس دفع الفدية وفدى نفسه وفدى عقيلاً ابن أخيه، ولما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:70] قال العباس بعد ذلك: (فوالله لقد آتاني الله عز وجل خيراً مما أخذ مني وأنا أرجو الأخرى) يعني: أنا دفعت الفدية عن نفسي وعن عقيل ابن أخي، والله عز وجل عوضني خيراً من ذلك، وأنا أنتظر مغفرة الله؛ لأن الله وعد بذلك.

    تألف النبي صلى الله عليه وسلم بعض قريش وإعطاؤهم من الغنائم يوم حنين

    إن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يراعوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعرضوا لهم بشيء من التوبيخ أو بشيء من التعيير؛ فإنهم آل بيته صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه تألف البعض من قريش، فإذا بالأنصار يحدث في قلوب بعضهم شيء من الحزن: كيف لما فتح الله عليه يبدأ بقرابته وقبيلته ونحن أهل المدينة الذين عملنا كذا وكذا؟ فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهم من طريق عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قام النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الغنائم في المؤلفة قلوبهم)، ولاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة جمع أهلها قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم) فهم الآن في ضعف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعاملهم مثل معاملتهم له، بل قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

    فعفا عنهم صلوات الله وسلامه عليه، فأسلم خلق كثير من أهل مكة، وكان جيش النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من المدينة لفتح مكة كان عدده عشرة آلاف، فإذا بأهل مكة يمدون النبي صلى الله عليه وسلم بألفين من الجنود يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مكسب كبير للإسلام، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين، وخرجوا معه إلى الطائف وإلى هوازن في حنين، وأفاء الله عز وجل وفتح على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أعطاهم الله درساً هنالك في حنين: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25] فلما غنم صلوات الله وسلامه عليه وبدأ يوزع المغانم، وزع على أصحابه على من يستحق، ولكن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم البعض تأليفاً لقلوبهم ومنع البعض الآخر، فأعطى بعض كبار قريش، فتكلم بعض الأنصار، يقول عبد الله بن زيد بن عاصم: (فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس) يعني: وجدوا في أنفسهم وحزنوا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أقرباءه وقبيلته، ولم يعطنا نحن؟! وفي رواية الإمام أحمد من حديث أبي سعيد قال: (وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة) يعني: بدءوا يتكلمون ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهله قرابته، ولم يعطنا، والنبي صلى الله عليه وسلم حاشا له أن يقسم بغير العدل، فهو صلى الله عليه وسلم لا يطلب شيئاً من الدنيا، وقد نزلت هذه الآيات من قبل ذلك تقول لهم: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الشورى:23] أي: لا آخذ أجراً على الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن أطلب منكم المودة في القربى.

    قال: (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة ، فقال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم) أي: أصابهم حزن أنك أعطيت القرشيين ولم تعط الأنصار من هذا الفيء الذي أصبت، فأنت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، وكأنهم نسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام أخبرهم (أني أعطي الرجل وغيره أحب إلي) يعني: أنا أعطي الإنسان وغيره أحب إلي حتى أتألفه، وأدع هذا للإيمان في قلبه، فهذا قلبه ممتلئ بالإيمان عامر غير محتاج إلى أن أتألفه على هذا الدين، ولكن البعض الآخر أعطيه من أجل أن يثبت على دين الله سبحانه ولا يتزعزع ولا يتزلزل.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل سعد بن عبادة فقال: (قد وجدوا عليك وقالوا: قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ فقال: يا رسول الله! ما أنا إلا امرؤ من قومي) يعني: أنا واحد منهم، لقد كانوا صادقين رضوان الله تعالى عليهم، لا يكذبون، فلم يقل له: لقد أنكرت عليهم وعملت كذا، ولكن قال: أنا واحد منهم.

    فقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه رجلاً صادقاً وهو سيد الخزرج، أما سعد بن معاذ سيد الأوس فكان قد قتل شهيداً أصابه سهم في أكحله يوم الخندق، فدعا ربه سبحانه وتعالى وقال: (إن كنت أبقيت في قتال المشركين شيئاً فأبقني لهم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها) فقبض في ذلك بعدما حكم في بني قريضة، فكان استشهاده قبل حنين بحوالي ثلاث سنوات رضي الله تعالى عنه.

    فقال سعد بن عبادة : (ما أنا إلا امرؤ من قومي، قال صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، فجمع الأنصار، فاجتمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا، وحضر بعض المهاجرين فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر غيرهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟).

    هذه المعاتبة الرقيقة منه صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء، يعني: أنتم نسيتم عندما جئتكم وكنتم تعبدون أحجاراً فهداكم الله على يدي، ثم قال: (وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم) أي: كنتم عالة فقراء ففتح الله الفتوح عليكم فأغناكم الله بي، وكنتم تقتتلون فيما بينكم الأوس مع الخزرج فاجتمعتم مع بعض وصرتم الأنصار، فألف الله بين قلوبكم بي، (قالوا: الله ورسوله أمن وأفضل) فهم اعترفوا بالحق، وقالوا: لله المنة ولك علينا المنة، وكنا مخطئين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ فقالوا رضوان الله عليهم: وبم نجيبك يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك) انظر للإنصاف من النفس، وإن كان الحق كله معه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك يقول هذا تأليفاً وترضية للأنصار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟) يعني: أوجدتم في أنفسكم على حقير من أمر الدنيا تألفت به هؤلاء؟ هل حزنتم من أجل ذلك؟ ثم قال: (أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟) أي: ألا يكفيكم أن الناس يرجعون بالشاء والبعير والغنائم وترجعون أنتم وأنا معكم إلى دياركم؟ فلقد فتحت مكة، وكان بإمكاني أن أمكث في مكة بلدي، لكن لا، بل أرجع معكم معشر الأنصار.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار)، يعني: لولا فضيلة الهجرة وأني مهاجر من مكة إلى المدينة والهجرة لا يعدلها شيء، لقلت: أنا من الأنصار، أي: أنا محمد صلى الله عليه وسلم المدني الأنصاري، فنقول إذا نسبنا النبي إلى البلاد: هو المكي ثم المدني صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عاش في مكة وولد فيها وتربى فيها صلى الله عليه وسلم فهي بلده، ثم هاجر فصار مقره المدينة فصار مدنياً بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، فلو شاء النبي صلى الله عليه وسلم لكان امرأً من الأنصار لا من المهاجرين، ولكن الهجرة لها المنزلة العظيمة عند الله.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بهذه الدعوة العظيمة المباركة التي ظلت فيهم وفي أبنائهم بهذا الأمر العظيم الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاله ثم بكى الأنصار حين سمعوا ذلك، وقالوا: (رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً) أي: رضينا أن يأخذ الدنيا ونحن نأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام، ويكفينا هذا الحظ الأعظم لنا.

    وقد جاء في بعض الروايات أن بعض الأنصار كأنه عير العباس فقالوا: أسلمنا قبلك، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حزن لذلك وأمرهم أن يحبوا آل بيته صلى الله عليه وسلم كما يحبون النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    إذاً: فيدين الإنسان المؤمن بحب النبي صلى الله عليه وسلم، وحب المهاجرين، وحب الأنصار، وحب آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين وصى الله عز وجل بهم.

    عظيم عطاء الله عز وجل وإحسانه وشكره ومغفرته

    يقول الله عز وجل: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أي: من يكتسب حسنة فإن الله عز وجل يعطي على الحسنة من فضله سبحانه وتعالى الإحسان العظيم، ويزيدهم من فضله، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أي: إن الله غافر الذنب سبحانه وتعالى، فهو غافر وهو غفور وهو غفار سبحانه وتعالى، والمعنى في ذلك من الغفر، والغفر بمعنى التغطية، فهو يغطي الذنوب سبحانه وتعالى، فكأن الله سبحانه يغفر ويستر ويكفر ويمحو سبحانه وتعالى، وقد يبدل هذه السيئات إلى حسنات، كما قال الله عز وجل في عباد الرحمن: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70].

    وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أي: يستحق أن يشكر سبحانه وتعالى، فهو المشكور على ما ينعم به على عباده، وهو الذي يشكر صنيع العباد إذا فعلوا الخير وإذا فعلوا الإحسان، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، إذا أحسن العباد فالله يشكر لهم ذلك ويثيبهم عليه، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] أي: إن تشكروا نعمة الله يشكر لكم صنيعكم.

    وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنعم الله على عبد من نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان شكره لهذه النعمة أحب إلى الله منها)، انظر كيف ينعم الله عليك، والإنسان عندما يذهب إلى شخص ويعطيه هدية، يقول له: شكراً، فقيمة الهدية (شكراً) وهي كلمة قالها بلسانه، لكن الله الكريم سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليك بإسلامك، وهو الذي أعطاك نعمة الشكر والعطاء، فأي النعمتين أحب إلى الله؟ الشكر أحب إلى الله مما أعطاك من مال ومما أعطاك من نعم منه سبحانه وتعالى.

    وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نثيب في العطاء، فعندما يهدي لك إنسان فكافئه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي على الهدية المثلين والثلاثة والأربعة والسبعة الأمثال، كان يعطي كثيراً صلى الله عليه وسلم ليذكرنا بفضل الله وبنعمته، فهذا النبي الذي هو عبد لله ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم كان يعطي هذا كله فكيف بعطاء ربي سبحانه وتعالى؟ كم يعطي من فضله وكرمه! فالله شكور يشكر لعباده لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] فاشكروا الله يشكركم ويعطكم من فضله ومن إحسانه سبحانه وتعالى.

    نسأل الله من فضله ومن رحمته فإنه لا يملكها إلا هو.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755895676