إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [1]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • استحق ربنا الحمد فحمد نفسه، وأمر عباده أن يحمدوه لذاته ولأوصافه ولأفعاله، فله الحمد كله. ونفى عن نفسه -جل وعلا- اتخاذ الولد والصاحبة، والشريك في الربوبية والألوهية؛ لأن ذلك يعد نقصاً وعيباً في حق الرب المعبود، الذي يسبحه كل من في السماوات ومن في الأرض مقالاً وحالاً، فلا يستنكف مخلوق عن طاعته، ولا يخرج شيء عن إرادته وقدرته.

    1.   

    الآيات الدالة على عظمة الله في إلهيته وتنزهه عن الشبيه والمثيل والند والولد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

    وبعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ وقول الله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111]، وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]، وقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:1-2]، وقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:91-92] ].

    1.   

    شرح آخر سورة الإسراء: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً)

    قوله: (وقول الله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111]).

    قوله تعالى: (قل) هذا أمر من الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولفظ (قل) دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أوحي إليه، فلما قيل له: (قل) بلغها كما جاءت من عند الله جل وعلا؛ فلم ينقص شيئاً، وهكذا لم يزد شيئاً.

    استحقاق الله للحمد وبيان مرادفاته

    و(الحمد): (أل) فيه للاستغراق، ومعناه: الإحاطة بكل حمد يستحقه الله جل وعلا.

    و(الحمد): هو الثناء على الجميل الاختياري الذي يكون قائماً بالمحمود، سواء كان في مقابل نعمة أو لم يكن، وإنما يكون لما قام به من الأوصاف والأفعال التي يحمد عليها، والحمد لله جل وعلا أولاً وآخراً، فهو يستحق الحمد لذاته ولأوصافه ولأفعاله ولخلقه ولجزائه؛ ولهذا حمد نفسه جل وعلا في مبدأ الخلق ليعلم خلقه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، وكذلك حمد نفسه في المنتهى، كما قال جل وعلا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، وعبر بهذه الصيغة: (وقيل الحمد لله) ليدل على أن كل مخلوق حمده جل وعلا، وأنه حمد على كل شيء حتى الجزاء، فإنه حتى أهل النار يرون أنها مكانهم الذي يستحقونه، فهو محمود أولاً وآخراً ومبدأ ومنتهى، على ما يفعله وعلى ما يقوم به ويتصف به، وعلى ما يقدره وعلى ما يجزيه عباده، فقال: (الحمد لله) لاستغراق الحمد كله، فإنه مستحقٌ لله جل وعلا في الأولى وفي الآخرة، وقد جاء هذاصريحاً في القرآن في أماكن متعددة.

    والفرق بين الحمد والمدح: أن الحمد لابد أن يكون له أثر يقوم بقلب الحامد من الحب والثناء على المحمود.

    أما المدح: فهو إخبار عن الأوصاف الجميلة التي تكون بالممدوح، ولا يلزم أن يكون محبوباً للمادح، فالحمد أخص من المدح.

    وأما الشكر فلابد أن يكون في مقابل نعمة، ويكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، كما قال الشاعر:

    أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

    يعني أن النعمة تقتضي الشكر بالأمور الثلاثة: باليد التي يقدم بها شيئاً مقابل النعمة، وبالثناء الذي يكون باللسان، وبالحب الذي يكون بالقلب وهو الضمير المحجب.

    أما الرب جل وعلا فهو ينعم على عباده ولا يطلب من ذلك أن يسدوا إليه شيئاً أو يقابلوه بشيء، وإنما أن يعبدوه وحده ولا يعبدوا غيره، ونفع عبادتهم عائد عليهم، فإنه سبحانه لا ينتفع بطاعة الطائعين، كما أنه لا يتضرر بمعصية العاصين.

    والشاهد من الآية التي ذكرها المصنف: أن تثبت الصفات الكاملة لله تعالى.

    فقوله: (الحمد لله)، أي: فله الكمالات في كل شيء: في فعله وفي قوله وفي وصفه الذي يتصف به جل وعلا، فهو يحمد على ذلك.

    غنى الله عن الولد والشريك

    وقوله: الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [الإسراء:111] هذا تنزيه له جل وعلا بعد إثبات الكمال، فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به بعض الخلق الأنجاس، الذين لم يعرفوا قدر الله ولم يتحلوا بشيء من العبودية، بل ندوا وشردوا عن الطور الذي خلقوا له، فشبهوا الله جل وعلا بالناقصات، فزعموا أن له ولداً تعالى الله عن قولهم!

    ومن هؤلاء اليهود الذين زعموا أن عزيراً ابن الله، وهو رجل منهم يعرفونه ولكنهم لما أصيبوا بغزو بختنصر الذي قتلهم وسلبهم ملكهم ثم أحرق التوراة وكانوا لا يحفظونها، فجاء هذا الرجل وكتبها، فعند ذلك قالوا: ما كتبها إلا لأنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

    وكذلك إخوانهم النصارى فإنهم قالوا: عيسى ابن الله، وكذلك الجهلة من المشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وهؤلاء كلهم جهلة ظلمة، وهم من شرار خلق الله جل وعلا، ولهذا يكون مصيرهم إلى جهنم.

    ولهذا يقول: (الذي لم يتخذ ولداً)، أي: لغناه وكماله، فله الحمد المطلق وله الغنى المطلق، وهو الذي لا يشبهه شيء.

    قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك) وهذا من تمام ملكه وغناه، فهو غني في ذاته ولذا: (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا)، وهو الذي لا مثيل له ولا نظير، فإن الولد يكون مشابهاً لوالده، والوالد لا يطلب الولد إلا لنقصه وحاجته؛ لأنه يموت فيريد من الولد أن يرثه وأن يقوم مقامه، أما رب العالمين جل وتقدس فإنه الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل الخلق في السماوات والأرض عبيد له.

    وأما الملك فهو الذي أوجده وهو الذي يملكه الملك التام، أما ملك العباد فهو عارية مؤقتة، ثم هي هينة مقدرة لا تعدو قدرهم، ثم يسلبون ذلك ويزول من أيديهم، ويخرجون من هذه الدنيا كما دخلوا فيها قد سلبوا كل شيء، فليس ما عندهم من الملك ملكاً في الحقيقة، فالملك الحقيقي يعود إليه، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء:111].

    وإذا لم يكن له شريك في الملك تعالى وتقدس، فهو الذي لا نظير له في حقه الذي يستحقه، وسواء كان الحق على عباده أو كان حقاً عاماً مطلقاً، فليس له في ذلك مشابه، فهو كامل في كمالاته.

    ولاية الله لعباده ولاية إحسان لا تعزز

    قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ هنا قيد نفي اتخاذ الولي حال كونه من الذل، لأن الله جل وعلا له العز المطلق، فليس بحاجة إلى أن يكون له أولياء يتعزز بهم من الذل وينتصر بهم.

    أما قوله جل وعلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فهذه ولاية إحسان، وليست ولاية تعزز من الذل، فهذه قد نفاها هنا، وهو إنما تولى أولياءه لما أحبوه وامتثلوا أمره، فتولاهم إكراماً لهم وجزاءً، فالمنة له سبحانه عليهم، وإنما كان المن عليه لو كانت الولاية منه ولاية افتقار وحاجة، فالله لا يحتاج تعالى وتقدس.

    ولهذا السبب تسمى هذه الآية آية العز، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يعلمها أهل بيته)، وجاء في الأثر أنها ما قرئت في بيت فيدخله سارق في تلك الليلة، فهي آية العز الذي يظهر الله جل وعلا فيها عزته لعباده، وإلا فالله جل وعلا لا يتعزز بكون العباد يضيفون ذلك إليه!

    قوله: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111]، معنى التكبير: أن يكبر بلسانه معتقداً بقلبه أنه تعالى أكبر من كل شيء وأعظم، وهو الكبير المتعالي الذي يكون بائناً من خلقه، لا يماثله شيء، وكل شيء تحت قهره وبقبضته، بفعل القلب وفعل الجوارح وبالقول، ليكون القول مطابقاً للفعل.

    وجه بيان الصفات في الآية

    ففي هذه الآية من جهة الصفات أنواع:

    النوع الأول: إثبات الكمالات لله جل وعلا، حيث إن الحمد يدل على إثبات كل كمال، سواء تعلق بذاته كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، أو تعلق بمشيئته كالرزق والفضل والإكرام والنزول والاستواء والمجيء وغير ذلك، فله الكمال المطلق الذي يصدر عنه أو يتصف به، وهو محمود على كل ما يتصف به وعلى كل ما يفعله.

    النوع الثاني: الغنى، فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه.

    النوع الثالث: أنه بائن من خلقه، وأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأنه يجب على عباده عبادته، والثناء عليه بما علمهم أن يثنوا عليه به.

    1.   

    شرح أول سورة التغابن: (يسبح لله...)

    وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]، هذه الآية قريبة من التي قبلها. و( يسبح ) ، جاء الفعل بصيغة المضارع، ليدل على أن التسبيح مستمر لله جل وعلا، والتسبيح هنا حقيقي على ظاهره بلسان المقال.

    وقوله: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ (ما) تشمل العاقل وغير العاقل، أي: فإنه يسبح لله كل من في السماء من عاقل أو غير عاقل.

    و(السماء) المقصود بها: كل ما فوق الأرض إلى عرش الرحمن؛ لأن السماء مأخوذة من السمو وهو العلو، فما فوق رأسك فهو سماء، وما بين السماوات والأرض داخل في هذا، والسماء المبنية كذلك وما بين السماوات المبنية، وفيها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا مما يسبح له.

    حقيقة تسبيح الجمادات لله سبحانه

    الله جل وعلا يجعل عند غير العاقل إرادة فيسبح حسب ما أراده الله جل وعلا، وليس كما يقول الذين لا يؤمنون إلا بالمشاهدات والمرئيات فيقيسون ما رأوه عليه: إن هذا التسبيح بلسان الحال، بمعنى أن من رآها دلته على وجود الله، فيسبح الله. نعم، هذا موجود في المخلوقات، فإن العاقل إذا نظر إلى الجبال أو إلى الأشجار والنبات والحيوانات دله ذلك على أن لها خالقاً يستحق أن يسبح ويحمد ويعبد، وهو الله وحده، ولكن قوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [التغابن:1]، ظاهره أنه تسبيح حقيقي بلسان يسمع حسب تسبيحه؛ ولهذا جاء في الآية الأخرى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44]، ومعنى (لاتفقهون) أنكم لا تدركونه وتعلمونه، وهذا يدل على أنه نطق، وكذلك قوله فيما امتن به على عبده داود عليه السلام: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10]، وتسبيح الجبال لا يختص بوقت داود، بل هو مستمر قبل داود وبعده، وكذلك ما جاء من تسبيحها بالعشي والإشراق، فإن تسبيح الله جل وعلا لا يختص بالعشي والإبكار، بل هو دائم في الليل والنهار.

    ثم الأدلة الخاصة على حقيقة التسبيح كثيرة، منها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث)، أي يقول: السلام عليك يا رسول الله! وقد سمع تسبيح الطعام بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الحصى.

    وحنين الجذع يكاد يكون متواتراً، وهو جذع نخلة كان يخطب عليه في هذا المسجد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أمر أن يصنع له منبر من الخشب، فلما صنع المنبر ونُصِب صعد عليه، فأول ما صعد عليه يخطب، سمع لذلك الجذع وهو بجواره حنيناً، كحنين الناقة التي فقدت ولدها، فنزل صلوات الله وسلامه عليه والتزمه، فجعل يهدأ كهدوء الصبي الذي يبكي إذا التزمته أمه، ثم قال: (لو تركته لبقي يحن)، وسبب ذلك أنه فقد ذكر آيات الله وصفاته الذي كان يقال عليه، فحنَّ لذلك.

    وقال تعالى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:20-21]، يعني أنهم -كما جاء تفصيل ذلك- إذا جاءتهم الشهود تشهد عليهم، فإذا بعض الناس إذا أوقفوا على أعمالهم، وقامت الملائكة تشهد عليهم، وجاءت بالصحف التي سجلتها عليهم، فإنهم يقولون: يا رب! لا نقبل شهادة هؤلاء، ولا نقبل إلا شهادة من أنفسنا!

    عند ذلك يختم على أفواههم ويقال لجلودهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم: تكلمي! فتتكلم اليد تقول: تناولت كذا وكذا في وقت كذا في مكان كذا في ساعة كذا، وتقول الرجل: مشيت إلى المكان الفلاني في وقت كذا وكذا.... وتقول العين: أبصرت كذا وتذكر الوقت والساعة والمكان، وتقول الأذن: استمعت إلى كذا، ويقول الجلد: باشرت كذا وهكذا..

    ثم بعد ذلك يخلى بينهم وبين النطق، فيعودون على جلودهم وأسماعهم وأبصارهم باللوم، ويقولون: كنا ننافح عنكم، فلماذا فضحتمونا؟ عند ذلك تقول الجلود والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل: أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، أي: ليس هذا بإرادتنا، ولكنه بإنطاق الله إيانا، فحينئذٍ يقول العبد: سحقاً لكنّ وبعداً، فعنكن كنت أجادل!

    فالمقصود أن هذا نطق يسمعونه ويسمعه الحاضرون عندهم، وبذلك تنقطع حجتهم نهائياً، مع أنهم في فعلهم هذا ازدادوا بعداً من الله جل وعلا، فالتسبيح الذي يذكره الله جل وعلا على ظاهره.

    وقدم السماوات على الأرض؛ لشرف السماء، ولأن السموات كل من فيها مطيع خاضع، أما الأرض فأكثر من فيها من بني آدم ومن الجِنَّة عصاة.

    وقوله: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التغابن:1]، فالملك يدل على عزه وقوته، ويدل على كمال قدرته، وأما الحمد فهو يدل على اتصافه بجميع الصفات الكمالية التي يحمد عليها كما سبق.

    عموم قدرة الله على كل شيء

    وقوله: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]، (كل): كلمة تدل على العموم، فلا يجوز أن يخرج منها شيء، وهي بحسب ما تضاف إليه، فإذا جاءت في مثل هذه الآية فهي عامة مطلقةً لا يجوز أن يخرج منها شيء، فقدرة الله جل وعلا غير محدودة، ولا يجوز أن نقيدها بما يقوله أهل الشك والريب الذين تأثروا بالمنطق وبالكلام الفاسد الذي أورث الشكوك، حتى صاروا يقيدون قول الله جل وعلا في مثل هذه الآية بالأمور التي تدل على الريب، بل ربما دلت على الكفر بالله جل وعلا، ويتبعون في هذا أهل الزندقة، وأهل محاربة الله جل وعلا ومحاربة دينه، الذين يقصدون تشكيك المسلمين في ديانتهم!

    فمثلاً يقولون: خرج من ذلك أمور، منها: أنه لا يقدر أن يخلق مثل نفسه، ومنها أنه لا يقدر أن يفني نفسه، وما أشبه ذلك من الخزعبلات، وهذه تقديرات ووساوس شيطانية لا حقيقة لها في الواقع؛ لأن هذا من المستحيل، فالله هو الفرد الصمد الذي لا نظير له ولا مثل له، ومن المستحيل أن يوجد إله آخر كما سيأتي، فالإنسان يعرف من نفسه أنه لا يمكن أن يكون حياً ميتاً في آن واحد، وكذلك يستحيل أن يجتمع العدم والوجود في آن واحد، وكذلك يستحيل أن يكون الإنسان متحركاً ساكناً في آن واحد، وهكذا الأمور المتضادة، يستحيل اجتماعها وهذا منها.

    فقولهم هذا وساوس، ولكن قد ينطلي على بعض الجهلة؛ فلهذا لا يجوز الالتفات إليه بحال من الأحوال، فضلاً عن أن يؤتى ويقيد به كلام الله، كما ذكر السيوطي عفا الله عنا وعنه في تفسيره في آخر سورة المائدة، عند قوله تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، قال: وخص العقل من ذلك ذاته فليس عليها بقادر! وهذا أخذه عن المتكلمين الذين يوجدون هذه الأمور لتشكيك الذين ليس عندهم المقدرة على المعرفة التي يعرفون بها ربهم.

    ثم إن (كل) إذا أضيفت إلى مخلوق فإنها تكون بحسب الإضافة، كقوله جل وعلا في الريح التي أرسلها على عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]، أي: كل شيء أمرت بتدميره، وإلا فهي لم تدمر الجبال، ولم تدمر التراب، ولم تدمر أشياء كثيرة، وإنما دمرت ما أمرت بتدميره من الآدميين ومساكنهم وحروثهم وأنعامهم. وكذلك قوله في ملكة اليمن: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، أي: أوتيت من الأشياء التي تصلح للملك وتصلح للملوك في وقتها.

    تخصيص المعتزلة لقدرة الله والرد عليهم

    ومن العجيب فعل أهل البدع المعتزلة أنهم في قوله جل وعلا: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، وما أشبه ذلك، يخرجون من ذلك أفعال العباد الاختيارية التي يفعلونها، فيقولون: إن الله لا يقدر عليها -تعالى الله عن قولهم- وهذا نوع من الكفر، ثم إنهم يدخلون فيها كلام الله فيجعلونه مخلوقاً، وهذا من الأدلة الواضحة على أن أصحاب البدع يتبعون أهواءهم، ولا يتبعون الأدلة، فأخرجوا من العموم بعض المخلوقات التي هي أفعال العباد، وأدخلوا فيه ما هو وصف لله جل وعلا، وهو كلامه تعالى وتقدس؛ لأن الكلام صفة.

    وسيأتي أن ما يضاف إلى الله لا يخلو إما أن يكون صفة وإما أن يكون مخلوقاً، فهو إما من إضافة مخلوق إلى خالقه أو من إضافة صفة إلى موصوف، فإن كان معنىً لا يقوم بنفسه كالقول والعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والإرادة فهو صفة، وإن كان شيئاً قائماً بنفسه؛ كناقة الله وبيت الله ورسول الله وعبد الله وما أشبه ذلك، فهو من إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة تدل على التشريف والإكرام.

    فقوله: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120] على عمومه، فلا يخرج عن قدرة الله شيء.

    1.   

    شرح أول سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل...)

    وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] تبارك: فعل ماض، لا يأتي منه المضارع، وهو مختص بالله جل وعلا، ولا يجوز أن يقال للمخلوق: تبارك بكذا وبكذا، كما يصدر من بعض العوام: تباركوا بالنواصي والأماكن! فهذا لا يجوز، وهو نوع من الشرك.

    والتبارك مأخوذ من البركة، والبركة تدل على النماء والزيادة، فمعنى ذلك أن كمالاته جل وعلا بأفعاله ومشيئته تزداد، فيستحق بها حمداً على حمد، وليس معنى ذلك أنه قبل زيادتها ووجودها كان ناقصاً تعالى وتقدس؛ لأن الكمال أن يأتي الشيء الذي فيه الكمال متعلقاً بمشيئته، كقوله جل وعلا: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، ففعله كله كمال، وهو لا يفعل إلا إذا أراد، وهو جل وعلا لم يمتنع من الفعل في وقت من الأوقات، لا في الأزل ولا في المستقبل؛ لأن له الكمال المطلق.

    وكذلك يدل قوله: (تبارك) على الإحسان والكرم الذي يصدر منه بأفعاله، ويدل على أن أسماءه وصفاته مباركة، وبها تنال البركة لمن ذكرها أو عبد ربه بها.

    وقوله: الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ .

    الذي: نعت لله جل وعلا.

    ونزَّل: بصيغة المبالغة يدل على أن النزول يكون وقتاً بعد وقت، وليس جملة واحدةً.

    والفرقان: هو كلامه الذي يفرق بين الحق والباطل، والضلال والهدى، والغي والرشد، والفرقان هو القرآن، فهو الذي به الاهتداء وبه التفرقة بين الحق والباطل.

    وهذا يدلنا على أن من وصل إليه القرآن فقد قامت عليه الحجة؛ لأنه وصله الفرقان، ولا يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن وهو لا يفهم منه شيء، فيجب أن يستشعر أن ربه يخاطبه به، فيتفهمه ويتدبره، وهو بلسان عربي مبين، فمن كان يعرف العربية فلابد أن يعرف المعنى الذي يخاطب به، ولا يلزم أن يعرف المعاني كلها، بل يكفي أن يعرف المدلول العام الذي يظهر من الخطاب، أما المعاني التي يشتمل عليها فذلك بعيد، بل كثير من العلماء لا يدرك كثيراً منه، فمعاني خطاب الله جل وعلا لا تنتهي، والعلم يتفاوت عند الناس بتفاوت فهومهم في كلام الله جل وعلا.

    مقام العبودية من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم

    وقوله: عَلَى عَبْدِهِ ، قد يقال: لماذا لم يقل: (على رسوله) حيث إن كلمة الرسول قد يكون مدلولها عند بعض الناس أبلغ من مدلول العبد؛ لأن كل الخلق عباد له، أما الرسول فهو الذي يصطفيه الله جل وعلا لرسالته، فلماذا عبر بالعبد؟

    والجواب: أنه لابد أن يكون التعبير مقصوداً لله جل وعلا؛ لأنه علام الغيوب، فكل حرف من كتاب الله جل وعلا له معان، وله مدلولات يجب أن نتفهمها، ولا يقال إن لفظة (العبد) ولفظة (الرسول) ولفظة (النبي) سواء، ولذلك إذا عبر الله جل وعلا بلفظة، فلابد أن يكون تحتها معنى مناسب للمقام، وهو هنا: أن أشرف المقامات التي يقومها المخلوق لله جل وعلا هي أن يكون عبداً محققاً للعبودية، فإذا تتبعنا القرآن وجدنا ربنا جل وعلا ذكر رسوله بلفظ العبودية في المقامات التي يثنى عليه بها، كمقام الدعوة إلى الله جل وعلا: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وهو من أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم التي بها يحيا الناس، ويخرجون من الظلمات إلى النور، فالحياة الحقيقية ليست بأن يدرك الأكل والشرب والتلذذ، بل بأن يعرف كيف يعبد ربه.

    وكذلك ذكره بالعبودية في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، فذكره بلفظ العبودية مضافاً إليه (بعبده)، وكذلك في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وذكره هنا في هذه الآية في مقام الإنزال والوحي: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وكما قال في آية أخرى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1].

    فهذه المقامات الأربعة هي أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره جل وعلا فيها بلفظ العبودية مضافاً إليه؛ مما يدل على أن العبودية أشرف ما يتحلى به العارف المتقي القريب من الله، هذا أمر.

    وهنا أمر آخر: وهو أن يبين الله جل وعلا أن الرسول وإن كان كريماً على الله جل وعلا، فهو لا يخرج عن عبوديته، وليس له شيء من الألوهية ولا من الربوبية، فهذا أيضاً مقصود.

    إثبات الحكمة في أفعال الله

    وقوله: (( ِليَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )): المقصود الفرقان، وهذا التعليل لإنزال الفرقان بأنه ليكون للعالمين نذيراً، يدل على أن أفعال الله جل وعلا لها مقاصد وغايات معللة؛ فلا يفعل شيئاً إلا لحكمة، وهذا ظاهر جداً في كثير من النصوص، ومن الصفات التي يجب أن تثبت، أن الله يفعل لغاية محمودة ولحكمة مقصودة يقصدها ربنا جل وعلا.

    عدم تكليف الملائكة

    و(العالمين): المقصود بهم هنا الجن والإنس فقط، أما قول من قال: إن الملائكة داخلون في ذلك، وكذلك السموات والأرض، فهذا كلام تشم منه رائحة الغلو، ولا دليل عليه؛ لأن الملائكة هم رسل، وهم كما قال الله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فكيف يكون نذيراً لهم؟! ثم الملائكة في السماء، فكيف ينذرهم؟!

    فالنذارة إنما تكون لمن قال الله جل وعلا فيهم: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119]، ولم يذكر منهم الملائكة، وإنما ذكر الناس والجن فقط، فيدل ذلك على أنهم هم الذين ينذرون.

    والنذارة: هي الإعلام بالمخوف المتوقع حصوله، وهذا يدل على أن من لم يمتثل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه وشيك أن ينزل به العذاب وما أقربه منه!

    فمن العذاب ما هو محسوس مشاهد، ومنه ما هو غير محسوس، ولكنه يشاهده من كان في قلبه حياة، ومن ذلك تمادي الإنسان في المعاصي، وكلما ازداد عمراً زاد كثرة فعل في المعاصي، فهذا عذاب وعقاب؛ لأنه كلما زاد عمره زادت كثرة أفعاله، فكثرت سيئاته، فصار تعذيبه أعظم.

    ثبوت تكليف الجن ووجودهم ومجازاتهم

    وتدل الآية على أن الجن مكلفون، ومقتضى ذلك أنهم يجزون على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة إساءة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالجن، فيأتون إليه، أو يذهب إليهم ويجتمع بهم ويقرأ عليهم القرآن، ويأمرهم وينهاهم، ثم يذهبون إلى قومهم منذرين، كما قال الله جل وعلا: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:29-30] إلى آخر الآيات، وكذلك قوله جل وعلا: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:2]، إلى آخر السورة، وكذلك قوله جل وعلا: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأنعام:130]، في عدد من الآيات.

    ولا ينكر وجود الجن إلا الزنادقة، والذي ينكرهم يكون كافراً بالله جل وعلا، وإنما بعض الناس ينكر أن يلابس الجني الإنسي، وهذا أيضاً لا دليل على إنكاره، ولا يجوز إنكار ذلك؛ لثبوته بالأدلة وبالواقع.

    كمال صفات الرب جل وعلا

    وقوله: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفرقان:2]، هذا كما سبق أنه من كمال صفاته جل وعلا، فالملك من صفات الأفعال.

    وقوله: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، يعني: أنه تعالى وتقدس له الصفات الكاملة في كل ما يتصف به، سواء كان مما يفعله ويوجده، فله كماله وتمامه، أو كان مما اتصف به في ذاته تعالى وتقدس.

    وهذا يدل أيضاً على أن صفات الرب جل وعلا لا يجوز أن تكون مماثلة لصفات الخلق؛ لأن الصفات تبع للذات يحتذى بها حذوها، أي: أن الموصوف تكون صفته تابعة لذاته التي هذه الصفة تكون وصفاً لها، فالمخلوق إذا وصف بأنه عليم فعلمه يليق به، ولابد أن يكون ناقصاً، ولابد أن يكون جاهلاً قبل العلم، ولا بد أن يموت ويذهب علمه، وكذلك إذا وصف المخلوق بأنه كريم أو بأنه رحيم أو بأنه رءوف، فكما يناسبه.

    ولكن إذا وصف الرب جل وعلا بأنه عليم، وبأنه عالم الغيب، وبأنه رءوف رحيم، وبأنه كريم، فلا يكون وصفه مشابهاً لما اتصف به المخلوق، بل له الكمال المطلق في ذاته وفي أوصافه.

    وقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الفرقان:2]، هذا يدلنا على أن كل الأشياء مخلوقة، ولا يخرج عن خلق الله شيء من المخلوقات، أما صفاته تعالى وتقدس، مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وعلمه؛ فهذه لا تكون قائمة بنفسها منفكة عنه، حتى يقال إنها غير الله فتكون داخلة في قوله: َخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، بل هي صفات له لا تنفك عنه ولا تفارقه، فلا تكون غيره، كما أنها لا تكون هي هو، فلا يجوز أن يقال إن أوصافه تعالى وتقدس دخلت في هذا العموم، كما يقوله أهل الباطل.

    وقوله: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، يدلنا على الدقة في خلق الله جل وعلا، وفي تقديره، وأنه تعالى وتقدس علم الأشياء قبل وجودها، وقدرها قبل وجودها، وأنها توجد على وفق تقديره بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، وهذا يدل على الإيمان بالقدر، وسيأتي.

    تفرد الله بالإلهية وتنزهه عن الولد

    وقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91]، ما: نافية، وفي هذه الآية رد على المشركين والكفرة الذين لم يقدروا الله حق قدره، ولم يعرفوا حقه، فضلاً عن أن يعرفوا قدره في ذاته وفي صفاته.

    مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون:91]، لكمال غناه وكمال عزه ولصمديته؛ لأنه صمد، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وهو الذي تصمد إليه الخلائق كلها، أي: تفتقر إليه، وهو قائم بنفسه.

    فلذلك قال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ؛ لأنه إنما يتخذ الولد الفقير الذي يفنى، والذي يحتاج إلى من يساعده، فالولد يعاون والده، ويساعده ويرثه، والله تعالى وتقدس غني كامل الغنى، كامل الملك، صمد لا يحتاج إلى شيء، مستغنٍ بذاته عن كل ما سواه.

    قوله: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91]، يدل على أن جعل آلهة مع الله كذب وزور، ولهذا يقول جل وعلا في آيات عدة: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا [النجم:23]، أي إنما هي مجرد أسماء وضعتموها على مسميات لا حقيقة لها من هذه التسمية.

    والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب وتحبه، وتنيب إليه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه، ومن مقتضى كون الإله إلهاً أن يكون مالكاً متصرفاً، يملك نفع من يتألهه ويملك ضره. والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755952200