الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فسنتدارس اليوم سيرة راوية الإسلام : أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
هو عبد الرحمن بن صخر، أسلم من العام السابع للهجرة، فمدة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين فقط، لكنه في هذه السنوات الثلاث لازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، فصار أكثر الصحابة رواية للحديث، سيما وقد امتدت به الحياة فعمِّر في الإسلام خمسين سنة، إذ توفي سنة (57هـ)، وكان عمره: (78) عاماً.
وفي طبقات ابن سعد أنه قال للصحابة يوماً عندما أكثروا من الاعتراض عليه: ماذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم البارحة في صلاة العشاء؟ فسكتوا قال: لكني أعلم، قرأ كذا وكذا، وكأنه يقول: أنا أحضر بانتباه، وأما أنتم فقد لا تنتبهون للأمور غاية الانتباه، فهذا الذي أوصلني إلى هذه المرتبة، وبلغ بي إلى ما ترون من كثرة الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا قلّ أن ينتبه له: أن الإمام يقرأ في الصلاة، والناس يتذكرون في اليوم الثاني، الإمام الحازمي في كتابه الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، وهو من أئمة القرن الخامس للهجرة عليه رحمة الله، في موضوع البسملة، وهل هي آية من الفاتحة أم لا؟ يذكر قصة عن نفسه، في اختلاف الصحابة كيف بعضهم نقل البسملة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يجهر بها في الصلاة كما فعل أبو هريرة ، وعدد من الصحابة نقلوا قراءة النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة ولم يذكروا الجهر بالبسملة، والصلاة واحدة، وكلهم حضروا الصلاة، فكيف اختلف النقل؟!
فهو يحكي قصة عن نفسه ليبرر عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، يقول: كنت في بيت المقدس، وكان الناس يجتمعون في الصلاة وراء الإمام ليحصلوا شرف الصلاة في المسجد الأقصى، والأمر الثاني: من حسن قراءة هذا الإمام يأتون من كل مكانٍ ليستمعوا إلى قراءته لما فيها من ترتيل وخشوع، يقول: ففي يومٍ من الأيام بعد انتهاء صلاة الفجر، وعندما سلم الإمام قمت أنا وقلت: يا معشر من حضر! وصلى وراء الإمام، هل جهر الإمام بالبسملة أم لا؟ يقول: فانقسم أهل المسجد إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ قالوا: جهر، وقسمٌ قالوا: لا، وقسمٌ توقف وقال: لا نعلم ذلك، فقول أبي هريرة رضي الله عنه: ماذا قرأ النبي عليه الصلاة والسلام البارحة في صلاة العشاء؟ قالوا: لا ندري، قال: لكني أدري، هذا يبرر كثرة رواياته عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وروى الإمام الحاكم في المستدرك، والترمذي في السنن بسندٍ حسن: أن رجلاً قال لـطلحة بن عبيد الله ، وهو من العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: يا أبا محمد ! أرأيت هذا اليمني يعني أبا هريرة ؛ لأنه كان دوسياً من قبيلة الأزد، والأزد أصلها من اليمن، يقول: أرأيت هذا اليمني -يعني أبا هريرة - أهو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وأنت من كبار الصحابة من العشرة المبشرين بالجنة، نسمع منه ما لم نسمع منكم، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل؟ خبرنا هل هو يعلم أكثر مما تعلمون، أو يفتري على النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال طلحة بن عبيد الله : أما أن يكون سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع فذاك، أي: هذا هو الواقع، إنه كان مسكيناً لا شيء له، ضيفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نحن أهل بيوتاتٍ وغنى، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في صحيح البخاري يتناوب هو وجارٌ له من الأنصار الذهاب للنبي عليه الصلاة والسلام، فيذهب عمر يوماً، ويذهب جاره يوماً، وكل واحدٍ يأتي لصاحبه بما جرى من أخبار، فلا أشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، لأننا لا نأتي النبي عليه الصلاة والسلام إلا طرفي النهار، وهو يده مع يد النبي عليه الصلاة والسلام في سائر الأوقات، ولا نجد أحداً فيه خيرٌ يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، كيف يقول أبو هريرة على النبي عليه الصلاة والسلام ما لم يقل، لا يمكن لأحدٍ فيه خير أن يفتري على النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا مما يبين لنا حرصه رضي الله عنه على حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع الجد والاجتهاد، والأمر كما قال سلفنا: لا يستطاع العلم براحة الجسد، كما في صحيح البخاري عن يحيى بن أبي كثير ، يعني: إذا كان الإنسان جسده مرفهاً منعماً لا يحصل علماً، إنما إذا كان حاله كحال أبي هريرة رضي الله عنه يصرع من الجوع، ويشد الحجر على بطنه، ويمسك كبده بالأرض، فهذا الذي يطلب العلم، أما إنسان يدخل ألوان الطعام في جوفه، فهذا هيهات هيهات أن يضبط شيئاً من العلم، ولذلك كان علماؤنا يقولون:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبلغة وصحبة أستاذٍ وطول زمان
والبلغة: الاقتصار على الضروري، فيما يتعلق بالمأكل والمشرب ومرافق الحياة.
فمن يتوسع في المآكل والمشارب لا يمكن أن يحصل العلم كما هو حال طلبة العلم في هذا الوقت إلا ما رحم ربك، وقليلٌ ما هم، فهذا كان حال أبي هريرة ، فلا بد من شيءٍ من الجهد والعناء.
تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء والجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقةٍ تلقيتها فالعلم كيف يكون
إذا أردت أن تحصل مالاً فلابد أن تبذل مشقة وعناء وتعباً، والعرق يتصبب منك، ولذلك إذا ما سهر الإنسان في الليل وتعب في النهار فإنه لا يحصل هذا العلم، هذا ميراث الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فلا يستطاع براحة الجسد، لا بد له من جد واجتهاد، وهذا حال أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً كان حافظاً عالماً، هذا مما فيه من الخصال التي تبين مكانته.
انظروا إلى عبادته رضي الله عنه وأرضاه، والله جل وعلا أعلم حيث يجعل رسالته: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، وهو الذي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68]، ولا يختار إلا من كان قابلاً للاختيار، فلذلك اصطفى الله جل وعلا أبا هريرة لهذا الأمر وفضله على غيره بما كان يقوم به من جد على العلم، ثم بعد ذلك ما كان عليه من عبادة وحسن معاملة مع الله جل وعلا.
وموضوع التسبيح بخيطٍ فيه عقد أو بسبحة أو بخرز أو بما شاكل هذا، كلمة الفصل أنه لا حرج في ذلك؛ لأن هذا من باب ما يستعان به على ضبط عدد الذكر إذا لم يقصد المسبح استعمال السبحة أو الخيط الذي فيه العقد الرياء، وقد ثبت عن عددٍ من سلفنا من الصحابة ومن بعدهم التسبيح بالخرز والحصى وبخيطٍ يعقد فيه عقد، فهذا عن أبي هريرة ثابت، وفي كتاب الزهد للإمام أحمد قال: كان لـأبي الدرداء نوىً من العجوة في كيسه، وهو نوى التمر، وكان إذا صلى الغداة صلاة الفجر أقعى على فراشه، والإقعاء يفسر بأمرين عند اللغويين وعند علماء الشرع، أما عند اللغويين فالمراد من الإقعاء: أن يجلس على إليتيه وأن ينصب ساقيه، فإذا صلى الغداة أقعى على فراشه فأخذ الكيس فأخرجهن واحدةً واحدةً يسبح بهن، فإذا نفدن أعادهن واحدةً واحدةً، كل ذلك يسبح بهن، حتى تأتيه أم الدرداء فتقول: إن غداءك قد حضر، فربما قال لها: إني صائم، أي: في بعض الأيام، وهذا معنى إقعاء الناس عند أهل اللغة.
وأما الفقهاء فعندهم الإقعاء يختلف عن تفسير اللغويين، فالإقعاء عندهم: أن يجلس على إليتيه، أي: أن يجعل إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا الإقعاء جائز، وهو من السنة كما ثبت هذا في صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، أما الإقعاء الثاني فمنهيٌ عنه في الصلاة: أن يجلس على إليتيه وينصب ساقيه إقعاء كإقعاء الكلب، وأما الجلسة الثانية: أن يضع إليتيه على عقبيه منصوبتين بين السجدتين، فهذا ثابتٌ، ولو فعله الإنسان لا حرج عليه.
ولذلك ثبت في صحيح مسلم عن طاوس قال: قلنا لـابن عباس : في الإقعاء على القدمين، أي: أن يضع إليتيه على عقبيه بين السجدتين، فقال: هي السنة، فقلنا: إنا لنراه جفاءً بالرجل، قال: بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس من الجفاء، فهو واردٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالإقعاء في الصلاة بهذه الشاكلة جائز.
وأما الإقعاء بأن يجلس على إليتيه وينصب ساقيه، فهذا منهيٌ عنه، وورد في أحاديث ضعيفة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا
يقول الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الثاني والعشرين في صفحة خمسمائة وستة: وأما التسبيح بما يجعل في نظامٍ من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، يقول: وإذا حسنت النية فيه فهو حسنٌ غير مكروه، وقلنا: النية أنه يقصد ضبط عدد الذكر، لا رياء، ولا لعباً بهذه السبحة كما يفعل الناس، وأما اتخاذه من غير حاجة، أي: إظهاره للناس مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، فهذا إما رياء أو مظنة الرياء، وهو منهيٌ عنه، وأما إذا اتخذ سبحةً أو خيطاً فيه عقد أو نوع من التمر ليسبح بها، فلا حرج في ذلك إن شاء الله، ونقل هذا عن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، ففي البداية والنهاية والحلية: كان لـأبي هريرة خيطٌ فيه ألفا عقدة، فكان يسبح بهذا الخيط رضي الله عنه. هذا فيما يتعلق بعبادته، وبعمله بعلمه رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الحديث ينبغي أن نقف عنده وقفة؛ لأنه أساء كثيرٌ من الناس فهمه، فالباطني يتعلق به، وهكذا زنادقة الصوفية، وقالوا: المراد من الوعاء الذي ما بثه أبو هريرة وأخذه من النبي عليه الصلاة والسلام هو علم الحقائق وعلم الباطن، فالناس يدركون ظواهر الشريعة، ولكن هناك أمور باطنة ما بثها أبو هريرة ، إنما يتناقلها الخواص في كل زمان، وهذا لا شك في ضلاله، ومن ادعى أنه يوجد في الشريعة باطن يخالف نصوص الشريعة فلا شك في ردته كما يفعل الباطنية الآن، ويؤولون نصوص الشرع ويتلاعبون بها، هذا ليس هو المراد، وإنما المراد من ذلك ما كان أبو هريرة رضي الله عنه يستعيذ بالله منه، وقد أعطى الله لـأبي هريرة سؤله، فقد كان أبو هريرة يستعيذ بالله من رأس الستين، وإمرة الصبيان، ويقصد بذلك خلافة يزيد التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث وتحققت، فانتشرت الفتن في رأس ستين للهجرة، فـأبو هريرة لو أخبر بما سيقع من الفتن في تلك السنة، ومن أحوال يزيد ، وبما يتعلق بهذا لقطع الناس رقبته.
فإذاً هو لا تتعلق به للناس مصلحة، وما كتم علماً عنه، فهم يعلمون فسق يزيد وانحرافه عن شرع الله جل وعلا بما يقوم به من أعمال منكرة، إنما هو لو أراد الآن أن يذكر الأحاديث في بيان أحواله، وما يقع من الفتن عند إمرة الصبيان، وظهور الفتن لأوذي، فلذلك ترك هذا، هذا هو المراد، ولذلك قلنا: توفي سنة سبعٍ وخمسين فأجاب الله دعاءه، والبخاري أورد هذا الحديث أيضاً في كتاب العلم بعنوانٍ آخر في بابٍ آخر فقال: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم لكراهية ألا يفهموا.
ثم نقل أيضاً عن علي أنه قال: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة الكلام: أن الإنسان إذا أراد أن يروي شيئاً، وهذا الشيء لا تتعلق به مصلحة الناس، وليس لهم منه فائدة، وينتج عنه فتنة، فترك روايته أولى، ولذلك اتفق أئمتنا على أن الحديث إذا كان ظاهره يقوي بدعة المبتدعين، وهذا الظاهر غير مراد، فلا ينبغي روايته بين أولئك المبتدعين؛ لئلا يتعلقوا به في تقوية بدعتهم، فنروي لهم ما يعارض بدعتهم، وهذا فعله سلفنا، ففي صحيح مسلم عن جرير رضي الله عنه، يقول: (أيما عبدٍ أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليه)، قال منصور : قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن يروى عني هاهنا في البصرة.
الحديث رواه منصور عن جرير بن عبد الله البجلي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان منصور إذا روى هذا الحديث عن جرير ، عن النبي عليه الصلاة والسلام لا يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، إنما يقول: عن جرير ويقف، وبعد نهاية الحديث ينبه تلاميذه فيقول: الحديث روي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من كلامه، ولكني أكره أن يروى عني هذا الحديث هاهنا بالبصرة؛ لأنها كانت ممتلئة بالخوارج والمعتزلة، وسيتعلقون بهذا الحديث في أن فاعل الكبيرة كافر كما هو مذهب الخوارج، فإذا فعل الإنسان كبيرة فقد كفر عندهم، وهو مخلدٌ في نار جهنم، وعند المعتزلة: مخلدٌ في نار جهنم، ولا نقول عنه: كافر ولا مؤمن.
فإذاً هذه البلدة وهي البصرة ممتلئة بأهل البدع، وأنا لو قلت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما عبدٍ أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم )، فسيقولون: هذا حجة لنا في أن فاعل الكبيرة كافر، والعبد إذا أبق، أي: إذا هرب من سيده فعل كبيرة أم ارتد؟ فعل كبيرة، فأطلق عليه في الحديث لفظ الكفر، ففي ظاهره تقويةٌ لمذهب المبتدعة، فهم يتعلقون بهذا الظاهر، ولا يعرفون معنى الحديث الحق الذي قصده النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن إذاً من الحكمة ألا نروي هذا الحديث لهؤلاء المبتدعة، وإذا روي من قبل أن تعلقوا به نبين المراد، أما نحن فلا نتبرع بروايته لهم؛ لئلا يستدلوا به على خلاف المراد منه.
والعلماء قالوا: الأحاديث التي أطلق فيها لفظ الكفر على من فعل معصيةً من المعاصي محمولة على عدة أمور لنجمع بينها وبين الأحاديث الأخرى: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، قال
أجاب العلماء عن ذلك بأجوبةٍ كثيرة، أولها: قالوا: الحديث وارد مورد الزجر والتغليظ، فليس المراد منه حقيقة الكفر، أو أن هذا كفرٌ دون كفر، وهو الذي يقال له: كفر المعاصي وليس بكفرٍ مخرجٍ من الملة، أو أن هذا محمولٌ على من استحل، أو أنه محمولٌ على أنه فعل ما يشابه الكافرين، وهذا من خصالهم، ومن أوصافهم، والأمر الخامس: أنه سيؤدي به إلى الكفر، لأن المعاصي بريد الكفر، فهو قد يفعل هذه المعصية الآن ولا يستحلها، ولكن بمواظبته عليها يستحلها في المستقبل فيكفر وهو لا يدري، فهذه الأجوبة لا بد منها لنجمع بينها وبين الأحاديث الأخرى؛ لأن المؤمن إذا فعل كبيرةً ولم يستحلها ليس بمخلدٍ في النار، وأمره مفوضٌ إلى الله إذا لم يتب، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فإذا عاقبه ففي نهاية الأمر مآله إلى الجنة مهما كان العقاب، ولا يخلد أحدٌ من الموحدين في نار الجحيم.
وكان يقول كما في المستدرك: حفظت أحاديث ما حدثتكم بها، ولو حدثتكم بحديثٍ منها لرجمتموني بالأحجار، وهذا فيما يتعلق بالفتن التي ستكون على رأس الستين، وهذه الأحاديث بثها كما قلت عن طريق السر ونقلت عنه، ولكن ليس في المجالس علانية، ففي كتاب الحلية وغيره كان يقول: ويلٌ لهم من إمارة الصبيان على رأس الستين، يحكمون بالهوى، ويقتلون بالغضب، ويلٌ لهم من إمرة الصبيان على رأس الستين، يحكمون بالهوى، ولا يتبعون الشرع المطهر، ويقتلون بالغضب، إذا غضب على أحد أفراد الرعية قتله، وسيفه يسبق كلامه، وهذا خلاف هدي الشرع المطهر الذي يدعو إلى الاحتياط في إراقة الدم غاية الاحتياط، و(لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
فإذا تكلم بعد ذلك على مفسدة مما يجد في الدنيا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأمرون بقطع رقبته، هذا حال حكام الجور المنحرفون عن شرع الله جل وعلا، وهذا فيما يتعلق بالأمر الأول من الطرائف التي ينبغي أن نعيها من أحوال أبي هريرة رضي الله عنه.
الأمر الثالث: لما اشتد به الوجع وحضره السياق واحتضر رضي الله عنه وأرضاه، دخل عليه أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وهو من الفقهاء السبعة من أئمة التابعين الكبار، فاحتضنه، أي: احتضن أبو سلمة أبا هريرة وقال: اللهم اشف أبا هريرة ، اكتب له الشفاء والعافية التامة، وأعد إليه صحته، فقال أبو هريرة : اللهم لا ترجعها، أي: لا تعد إليّ نفسي، ولا تعد الصحة إليّ بعد ذلك أبداً، والموت الآن غنيمة باردة في هذا الوقت، ثم قال أبو هريرة لـأبي سلمة : إن استطعت أن تموت فمت. والأثر في المستدرك في الجزء الرابع في صفحة خمسمائة وثماني عشرة بسندٍ صحيحٍ على شرط الشيخين.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول كما في الحلية: إذا رأيتم ستاً فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، أي: إذا كانت روحه في يده فليرسلها وليمت ليستريح، وهذه الست التي ذكرها أبو هريرة رضي الله عنه نقلت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وسند الحديث صحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد، وبوب عليه باباً فقال: باب إمارة السفهاء والصبيان.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالموت ستاً)، وهي الست التي ذكرها أبو هريرة ، (بادروا بالموت ستاً: إمرة السفهاء)، أي: قبل أن يولى عليكم سفهاء لا يخافون رب الأرض والسماء، يحكمون بالهوى، ويقتلون بالغضب، (وكثرة الشرط)، أي: الشرطة، وما أكثرهم بعد الخلافة الراشدة، وكلما امتدت الأيام يزداد عدد الشرطة، وكثرة الشرط، فإذا رأيتموهم فاسألوا الله جل وعلا العافية، والموت على الإيمان، (وبيع الحكم، واستخفافٍ بالدم، وقطيعة الرحم، ونشئا يتخذون القرآن مزامير يقدمون أصغرهم ليغني لهم وإن كان أقلهم فقهاً).
القول الأول: أنه سأل الله الوفاة على الإسلام إن جاءه أجله، أي: إن توفيتني فتوفني مسلماً.
والثاني كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: اشتاق إلى لقاء ربه، وخشي من الاغترار بالدنيا والركون إليها بعد أن أتم الله عليه النعمة، فسأل الله جل وعلا الخروج من الدنيا عاجلاً، توفني مسلماً، أي: عجل موتي على الإسلام.
ومنه ما في القرآن عن مريم الصديقة رضي الله عنها عندما جاءها الولد من طريق الله جل وعلا بواسطة جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يتم هذا عن طريق زواج، وخشيت بعد ذلك من الفتنة في دينها والقدح في عرضها وكلام السفهاء، فسألت ربها الموت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، فالله جل وعلا حكى هذا عنها وأقره وما أنكر ذلك عليها.
وثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في المسند وسنن الترمذي في حديث معاذ الطويل الذي فيه رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام لربه، ثم في النهاية: (وإذا أردت فتنةً بقومٍ فاقبضنا إليك غير مفتونين)، فهذا من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، يعلمنا إياه.
وعلى هذا فـأبو هريرة رضي الله عنه سأل ربه جل وعلا الموت العاجل، وألا يعيد إليه الصحة، ونحن نسأل الله جل وعلا أن يحسن ختامنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه على كل شيءٍ قدير.
وفي كتاب الحلية أيضاً بسندٍ صحيحٍ كما قال الحافظ في الإصابة: أنه لما احتضر -أي: أبو هريرة رضي الله عنه- بكى، والذي يدعونا لعدم سؤال ربنا جل وعلا تعجيل الموت ما بكى من أجله أبو هريرة رضي الله عنه، وإلا لو لم يكن هذا عندنا لتمنينا الموت في كل لحظة، ولكن كيف نتمناه ووجوهنا سوداء! نسأل الله أن يلطف بنا، لما احتضر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي من قلة الزاد، وشدة المفازة، العمل قليل، والله أعلم بحاله، والمفازة طويلة، وإنني مشرفٌ الآن على عقبة لا أعلم بعد ذلك أين سأنتهي منها إلى جنةٍ أو إلى نار؟ فهذا الذي يدعونا لعدم سؤالنا للموت، ونسأل الله إذا جاءنا الموت أن يتوفانا في أحب الأحوال إليه، إنه على كل شيءٍ قدير، وأن يجعل خير ساعاتنا ساعة نلقاه وهو راضٍ عنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه، وأن يرزقنا الشوق إلى لقائه، ولذة النظر إلى وجهه الكريم في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، فهو أرحم الراحمين سبحانه وتعالى.
وفيما يتعلق بكثرة الشرط، ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة تذم الشرطة والشرط، وتحذر منهم، ومن التلبس بتلك الوظيفة، نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا منها، ومن كل عملٍ لا يرضاه عنا إنه على كل شيءٍ قدير.
فمن جملة هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وقالا: صحيحٌ على شرط الشيخين، وأقره الذهبي ، والحديث في البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي هريرة : (إن طالت بك مدةٌ أو حياة، يوشك أن ترى قوماً يغدون في سخط الله، ويروحون في غضب الله، في أيديهم مثل أذناب البقر)، وهي قطعة من جلد يضرب بها الآن الشرطة الناس، وهكذا رجال المخابرات الذين ينحرفون عن شرع رب الأرض والسموات، وقد أدرك هذا في خلافة بني معاوية عندما انحرفت الأمور، وحصل في خلافة يزيد ما حصل، صباحهم في سخط الله، ويروحون في المساء في غضب الله، (في أيديهم مثل أذناب البقر)، هي من جلد تتخذها الشرطة ويضربون بها الناس، وتلسع الجلد أعظم من ضرب الخيزران بكثير، تصنع خصيصاً لتعذيب الناس.
وورد أيضاً في مسند الإمام أحمد والطبراني في معجمه الأوسط والكبير ورجال أحمد ثقات، والحديث رواه الضياء المقدسي في المختارة، وسنده صحيح عن أبي هريرة أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يكون في هذه الأمة في آخر الزمان رجالٌ معهم سياطٌ كأنها أذناب البقر، يغدون في سخط الله، ويروحون في غضبه)، وفي رواية الطبراني : (فإياك أن تكون من بطانتهم).
وورد الحديث أيضاً في المسند، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما، ما وقع نظر النبي عليه الصلاة والسلام عليهما في حياته، إنما سيوجدان بعد ذلك: رجالٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات مائلاتٌ مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت -أي: الجمال- لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، والحديث في صحيح مسلم .
وهذه الأحاديث المتقدمة بما فيها الحديث المتأخر في صحيح مسلم طعن فيها ابن الجوزي ، وأوردها في كتاب الموضوعات، ورد عليه أئمتنا قاطبةً، الحديث في صحيح مسلم ، وابن الجوزي حكم عليه أيضاً بالوضع، والإمام ابن الجوزي متساهلٌ في الوضع، ولذلك إذا نص على حديثٍ أنه موضوعٌ فلا يؤخذ بكلامه إلا إذا أقره الأئمة الحفاظ، ومثله الإمام الحاكم والحفاظ في هذا على طرفي نقيض، هذا متساهلٌ بالضعف والوضع، وهذا متساهل بالتصحيح، فلا يؤخذ بتصحيح هذا، ولا بتضعيف هذا، حتى يقر الأئمة حكم هذين الرجلين: ابن الجوزي والحاكم عليهما رحمة الله.
ولذلك ألف العلماء كتباً كثيرة في تعقب موضوعات ابن الجوزي ، وأول من ألف الشيخ العراقي عليه رحمة الله زين الدين عبد الرحيم بن الحسين صاحب الألفية، ألف جزءاً صغيراً في تعقب ابن الجوزي فيما جاء في الموضوعات من أحاديث موضوعة وهي صحيحة وليست موضوعة، وغاية ما جمعه في ذلك رضي الله عنه وأرضاه تسعة أحاديث فقط، فجاء بعد ذلك الإمام ابن حجر فأضاف على هذه التسعة أحاديث أخرى فوصلت إلى أربعة وعشرين حديثاً، وألف كتاباً فيها سماه: القول المسدد في الذب عن المسند، وأورد الحديث المتقدم فيه، هو في المسند وأيضاً في صحيح مسلم كما هو والكتاب في الدفاع عن ما ادعاه ابن الجوزي على هذه الأحاديث من الوضع، وهي ليست موضوعة، ثم جاء السيوطي بعد ذلك فزاد على هذه أربعة عشر حديثاً حكم ابن الجوزي عليها بالوضع وهي ليست موضوعة، ثم جاء بعد ذلك الإمام المدراسي فزاد ثمانية أحاديث، فصار المجموع ستة وأربعين حديثاً، هذه تعقبت على ابن الجوزي في كتابه الموضوعات، والكتب الثلاثة الآن مطبوعة في كتاب واحد مستقل، يسمى القول المسدد في الذب على المسند، ومعه تكملة السيوطي ، وتكملة الإمام المدراسي عليهم جميعاً رحمة الله.
ثم ألف بعد ذلك الإمام السيوطي كتاباً آخر سماه القول الحسن في الذب عن السنن، فذكر فيه مائةً وبضعةً وعشرين حديثاً، ادعى ابن الجوزي أنها موضوعة وهي في السنن وليست موضوعة، فهذا ينبغي الانتباه له، لذلك يقول السيوطي في ألفيته:
وفي كتاب ولد الجوزي ما ليس من الموضوع حتى وهما
من الضعيف والصحيح والحسن ضمنته كتابي القول الحسن
أي: فيه أحاديث صحيحة وحسنة وضعيفة، لا تصل إلى درجة الوضع.
ومن غريب ما تراه فاعلم فيه حديثٌ من صحيح مسلم
وهو الحديث المتقدم: (صنفان من أهل النار لم أرهما)، فهو في صحيح مسلم ، وحكم ابن الجوزي عليه بالوضع، وابن الجوزي معروفٌ بالتساهل في الحكم على الأحاديث بالوضع كما قال الشيخ العراقي :
شر الضعيف الخبر الموضوع الكذب المختلق المصنوع
وكيف كان لم يجيزوا ذكره لمن علم ما لم يبين أمره
وأكثر الجامع فيه إذ خرج لمطلق الضعف عنى أبا الفرج
أي: أكثر من جمع في الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الموضوعة، ولكنها ليست بموضوعة، ففي بعض الأحيان يكون فيها ضعفٌ يسير أورده في كتابه، بل كما قلت: فيها حسن، وفيها صحيح، فهذا فيما يتعلق في هذا الأمر.
وقد ثبت بسندٍ حسن في ترجمة أبي ذر رضي الله عنه عندما احتضر، ولم يكن معه سوى زوجته، وهو في مكان قفر، واشتد الأمر على زوجته، فقال لها: ما كذبت ولا كذبت، قال النبي صلى الله عليه وسلم لي وأنا في نفرٍ من أصحابه: (يتوفى أحدكم بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابةٌ من المؤمنين)، وكل من كان معي في تلك الجلسة وفي ذلك المجلس توفي في مدينةٍ أو قرية، كلهم ماتوا، وما بقي إلا أنا، سأتوفى بفلاة في هذا المكان المنقطع، وسيمر الآن عصابة من المسلمين يشهدون موتي فلا تقلقي، وسيتحقق كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: انظري في الطريق، فقالت: كيف انظر وقد انقطع الناس، وانتهوا من الحج، وذهب المسافرون إلى بلادهم، وما أحد يمر الآن بهذا المكان، فقال: انظري، فخرجت تنظر في قارعة الطريق فوجدت ركباً يسرعون، فلوحت لهم فأقبلوا إليها، قالوا: ماذا عندك؟ قالت لهم: هل لكم أن تشهدوا وفاة رجلٍ من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقالوا لها: ومن هو؟ فقالت: أبو ذر ، فقالوا: نفديه بأرواحنا وأنفسنا، وبدءوا يسرعون إليه، فلما جاءوا بشرهم أبو ذر رضي الله عنه وقال: إني أبشركم بأن النبي عليه الصلاة والسلام شهد لكم بالإيمان، وقال: (يتوفى رجلٌ منكم -لجماعةٍ كنت معهم- يشهده عصابةٌ من المؤمنين وهو بفلاةٍ من الأرض)، وكل من كان معي مات في قريةٍ أو مدينة إلا أنا، وأنتم الذين الآن تشهدون دفني، ثم قال لهم: والله لو كان عندي كفن لما احتجت إلى كفنٍ منكم، ما عنده ما يكفن فيه رضي الله عنه، ولا عند زوجته، فإذا وليني أحدٌ منكم فليكفني من لم يكن عريفاً، ولا شرطياً، ولا نقيباً، ولا أميراً، فمن ان شيئاً من هذا فليعتزل عني، فلبث قليلاً ثم توفي، وقبل وفاته يقول: فكان كل واحدٍ منهم قد ولي من تلك الأعمال، صار عريفاً، أو صار نقيباً، أو صار أميراً، إلا واحداً هو أصغرهم فقال: أنا ما وليت شيئاً، فقال: أنت الذي تقوم على غسلي وعلى تكفيني، فقام بهذه المهمة رضي الله عنهم جميعاً.
نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بعواقب أمورنا، فلينظر الإنسان ويتأمل طعامه وشرابه إلى أي شيءٍ يصير.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر