الحمد لله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سبحانه وتعالى، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير، فله الحمد في كل زمان ومكان، وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون، وله الحمد في السموات والأرض وهو اللطيف الخبير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نعدها ليوم لقاه، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، وتوفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، السراج المنير، والبشير النذير، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطاهرين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فيا معشر المؤمنين! لا بد من المحافظة على العقول؛ ليعرف الإنسان ما له وما عليه، فيأخذ الذي له، ويعطي الذي عليه، وبذلك يعم الصفاء والهناء في حياة الأمة، وقد تقدم معنا اعتناء الإسلام بهذا العقل المبارك، والمحافظة عليه، وكيف اعتبره الشرع المطهر مناط التكليف، وحرم الاعتداء على العقل بكل وسيلةٍ تحجب نور العقل وتمنعه من التفكير السديد، فحرم المسكرات الحسية، كما حرم المسكرات المعنوية؛ من اتباعٍ للهوى، أو التقليد الأعمى.
وقد تدارسنا فيما مضى نظرة الإسلام في المسكرات الحسية، وكيف تدرج الشرع المطهر في انتزاع هذه العادة القبيحة التي كانوا يتوارثونها كابراً عن كابر، حتى طهر النفوس، وبدأ السؤال يورد للنبي صلى الله عليه وسلم، ويلقى عليه بعد السؤال: يا رسول الله! بين لنا في الخمر بيان شفاء، حتى نزل التحريم النهائي بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، فقالوا قولة رجلٍ واحدٍ: انتهينا، انتهينا.
وتدارسنا بعض الأحكام المتعلقة بالخمر، واستكمالاً لجوانب البحث سأتكلم على مسألتين متعلقتين بالخمر، ثم سأتكلم بعد ذلك على المخدرات التي تعطى حكم الخمر.
وقد أخطأ خطأً كبيراً من ظن أنه يباح تناول الخمر في حال مرضه على أنها داءٌ من الأدوية، فكل هذا وهمٌ وباطل، وقياس ذلك على أكل الميتة حالة الاضطرار قياسٌ فاسدٌ رده العقل والشرع، فالله جل وعلا عندما أخبرنا عن المحرمات قال: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173]، فالشارع فرق بين تناول الخمر في حال الاضطرار وبين تناول الميتة، فتناول الميتة في حال الاضطرار واجب، ومن اضطر إلى أكل ميتةٍ فلم يأكل حتى مات فهو مفرط، ومن اضطر إلى تناول الخمر للعلاج به لأنه مبتلىً بمرضٍ من الأمراض فشربه فهو داءٌ له في الدنيا سيزيده بلاءً إلى بلاء، وله مع ذلك في الآخرة عذاب النار.
فالشرع المطهر فرق بين تناول الخمر في حال الاضطرار وبين تناول الميتة في حال الاضطرار، والقياس بينهما، وإعطاء حكم أحدهما للآخر جمعٌ لما فرق الله جل وعلا فيما بينه بالحكم، فقياس هذا على هذا لا يصح، وذلك لأن دفع الجوع سببه متيقنٌ في العادة المعروفة بأي طعامٍ كان، سواءٌ كان من طعامٍ حلالٍ أو من طعامٍ حرام، إلا أن الإنسان في حال الاختيار إن أكل طعاماً حرمه الله عليه يعذبه الله عذاباً أليماً، وفي حال الاضطرار لا حرج عليه في ذلك كما قال الله جل وعلا؛ وذلك لأن دفع ألم الجوع متيقنٌ بكل طعامٍ يتناوله الإنسان، أما دفع المرض بأي دواءٍ يتناوله الإنسان؛ سواء كان هذا الدواء حلالاً أو محرماً فليس قطعياً في الشفاء، وكم من إنسانٍ يشرب الدواء بعد الدواء ثم لا يكتب الله له الشفاء، فشتان ما بين هذا وهذا، ولا يصح قياس هذا على هذا، فتناول المحرمات من ميتةٍ أو خنزيرٍ أو غير ذلك يباح في حال الاضطرار، ويحرم في حال الاختيار، وشرب الخمر لا يباح لا في حال الاضطرار ولا في حال الاختيار، فهي داءٌ وليست بدواءٍ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ويوجد ما يعوض هذا الدواء إن كان فيها دواء من أدويةٍ مباحةٍ، وأدويةٍ أحلها الله جل وعلا من الشيء الكثير، ومن لم يسعه المباح والحلال فلن تسعه إلا نار جهنم، على أن دفع المرض لا يصح قياسه على دفع ألم الجوع بحالٍ من الأحوال، فالتداوي رخصةٌ وليس بواجب، ومن صبر على ألم المرض وتحمل شدته ولم يتداو بأي دواءٍ كان فهو أفضل له عند الله جل وعلا، وأما من امتنع عن الطعام والشراب حتى مات فمصيره إلى جهنم وبئس المصير.
ثبت في صحيح البخاري : ( أن
ولذلك ثبت في مستدرك الحاكم : أن رجلاً أصيب بداء الصفر، وهو داءٌ يعتري بطن الإنسان حتى يصفر منه وجهه، فوصف له الخمر، فجاء لـعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه وقص عليه القصة، فقال له: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. وهذا الأثر الذي قاله ابن مسعود رواه ابن حبان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها).
وذهب بعضهم لقياس الخمر على أبوال الإبل، وأنه يباح شرب الخمر في حال الاضطرار كما يباح شرب أبوال الإبل في حال الاضطرار، وهذا القول أشد فساداً من القول السابق، فأبوال الإبل في رأي جماهير العلماء أنها طاهرةٌ وليست بنجسة، ذهب إلى ذلك الإمام أحمد والإمام مالك وجمٌ غفيرٌ من الشافعية، والحنفية الذين قالوا بنجاسة أبوال الإبل، قالوا: إن نجاسة ما يؤكل لحمه مخففة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القوم العرنيين الذين جاءوا إلى المدينة واجتووها، أي: أصابهم داء الجوى وهو داءٌ حدث في أجوافهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من أبوال الإبل ومن ألبانها، فهذا دليلٌ على الطهارة، ودليلٌ على الجواز، أما النهي فقد ورد النهي الصريح عنها، فلا يصح قياس هذا على هذا بحالٍ من الأحوال.
فعلى هذا: التداوي بالخمر ليس إلا بلاء ووباء، ولن يزداد الإنسان إلا مرضاً إلى مرض، وإلا شقاءً إلى شقاء، فاتقوا الله جل وعلا في أنفسكم، وإياكم وهذه المسكرات في حال الاختيار أو في حال الاضطرار، فهي بلاءٌ محضٌ لا خير فيه، وقد بالغ الشرع المطهر في التنفير منها والتحذير منها، فبعد أن حكم بأنها داء، أتبع ذلك بالحكم بنجاستها، وأنها نجسةٌ نجاسةً مغلظة كالبول وكالعذرة، كما قال الله جل وعلا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، وكلمة (رجس) تجمع معنى كلمتين: كلمة رجسٍ وكلمة رجز، والرجس هو النتن والشيء النجس.
وفي صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـعبد الله بن مسعود : ( ائتني بأحجار استمسح بهن -أي: بعد أن قضى حاجته- فوجد حجرين وروثة حمارٍ، فأتى بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ الحجرين ورد الروثة وقال: إنها رجسٌ )، أي: نجس، والرجز هو العذاب، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف:134]، أي: العذاب، وكلمة الرجز تجمع النجاسة والعذاب، فالخمر نجسةٌ نجاسةً مغلظة، وهي سببٌ للعذاب في يومٍ تشيب فيه الولدان، ولعل الله جل وعلا يشير إلى نجاستها بما ذكره في قوله عندما وصف نعيم أهل الجنة فقال: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، ومفهوم المخالفة أن شراب الخمر الذي كانوا يشربونه في الدنيا لا طهارة فيه، إنما هو نجس، فخمر الدنيا تختلف عن خمر الآخرة، فخمر الدنيا تغتال العقول، والله يقول في خمر الآخرة: لا فِيهَا غَوْلٌ [الصافات:47]، وخمر الدنيا يعتري لشارب الخمر منها الصداع، والله يقول في خمر الآخرة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، وخمر الدنيا نجسة، والله يقول في خمر الآخرة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، لذلك اجتمعت وسائل التنفير من هذه المعصية، ومن هذه الرذيلة في جميع أساليبها، وفي جميع أشكالها، ليحذرها المسلمون وليبتعدوا عنها.
عباد الله! اتفق العلماء على تحريم هذه الأشياء من خمرٍ وحشيشٍ وأفيون كتحريم الخمر تماماً، واتفقوا على أن ما ورد في الخمر من زجرٍ وتهديد، ومن عذابٍ، هو واردٌ على الحشيش والأفيون والقات، وذلك لأن هذه المخدرات تفسد العقل، وتحجبه عن التفكير، وتصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه العلة هي العلة في تحريم الخمر، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والقمح والشعير، ثم قال: والخمر ما خامر العقل، فكل ما خامر العقل وغلبه وأخرجه عن اعتداله وعن كماله، فهو خمرٌ، سواء كان مائعاً أو جامداً، سواء كان مشروباً أو مطعوماً، فالذي يبحث في واقع الحشيش والأفيون والقات يجد أن المفاسد التي تنتج عنها هي المفاسد التي تنتج عن شرب الخمر، ولذلك اتفق العلماء على أن تحريم هذه الأشياء كتحريم الخمر، إنما اختلفوا في أمرين: في الحد، وفي النجاسة، هل يحد آكل الحشيش والأفيون والقات كما يحد شارب الخمر؟ وهل يحكم على الحشيش والأفيون والقات وغير ذلك من المخدرات بالنجاسة كما هو الحال في الخمر؟ والظاهر من أقوال العلماء والراجح: أنها كالخمر في كل شيء، ذهب إلى ذلك جماهير العلماء، وقالوا: إنها نجسةٌ نجاسةً مغلظة، وإن الحد على متعاطي هذه الأشياء كالحد على شارب الخمر.
ولم يتكلم المسلمون الأوائل والسلف الصالح رضوان الله عليهم على حكم الأفيون والحشيش والقات وذلك لأن هذه المخدرات لم تكن في أزمانهم، إنما وجدت في القرن السادس للهجرة، وعندما خرجت وجد البلاء والمنكرات معها، خرج مقابلها سيف التتار، فعاثوا في الأرض فساداً، وقتلوا وذبحوا المسلمين وأبناء المسلمين، وهذا جزاءً وفاقاً، والله جل وعلا ينتقم من الظالم بمن هو أظلم منه، لعله يرجع إلى الله جل وعلا، وإذا عصى الله من يعرفه سلط الله عليه من لا يعرفه، فالخمر والحشيش والأفيون هذه هي كالخمر تماماً، وتعطى حكم الخمر في كل شيء، وما ينبغي لإنسانٍ أن يتردد في هذا، إنما بحث العلماء أي الأمرين أشد ضرراً على الإنسان وعلى الأمة: الخمر أم هذه المخدرات؟ والذي انتهت إليه أقوالهم: أن شارب الخمر ضرره على الأمة أعظم من ضرره على نفسه؛ وذلك لأنه عندما يشرب الخمر ويفسد عقله يتحرك بهذه الحركات الغريبة، وذلك يدعوه إلى الصيال والاعتداء على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم.
أما آكل الحشيش والأفيون وغير ذلك من المخدرات فهذه تورثه الذل والاستكانة والضعف والاحتقار وعدم الحركة، وفوق ما تقدم تورثه التخنث والدياثة، فلا حمية ولا حياء ولا غيرة تصاحبه، ولا يأنف من أن يقدم أخته أو زوجته لرجلٍ غريب يعاشرها، فضرر الأفيون على من يأكله أعظم من ضرره على الأمة، وضرر شارب الخمر على الأمة أعظم من ضرره على نفسه.
وإليكم هذه القصة من بعض من يشربون الخمر والحشيش والأفيون وغير ذلك من المخدرات، قصةٌ يندى لها الجبين، ويتمنى الإنسان لو كان في بطن الأرض لئلا يسمع هذه القصة، وما أكثر القصص المنكرة التي تطرق أسماعنا ما بين الحين والحين، رجلٌ مسلم في بلاد الإسلام دخل لبيته وإذا برجلٍ ينام مع زوجته، فذهب وأخبر السلطة المسئولة، فجاءوا وضبطوا الحادث كما هو، ثم لما برز هؤلاء للتحقيق تقدمت المرأة وقالت: يا أيها الناس ! أنا لا أريد هذا الرجل -أي: الزوج- وأريد هذا الرجل -الذي يصاحبها ويعاشرها في الحرام- سبحان الله! المسألة إرادة؟ المسألة اختيار؟ ما أعجبك زوجك فباب الخلع مفتوح، خالعيه وتزوجي من شئت، وأما أن تكوني زوجةً له ثم تقاربين الحرام بعد ذلك هذا لا يجوز، ولكن انظروا إلى معدن الرجل فمعدنه أخس من معدنها، بعد أن علم أنه سيفقد زوجته وأنه سيبقى وحيداً بدأ يرجو زوجته، ويوسط للسلطة أن يعيدوها للبيت، وأنه أخطأ في هذا التصرف، وأنه ما كان ينبغي أن يعلن هذا الأمر؛ لأنها زوجته ولأنها.. ولأنها.. والله إن الذي يأكل الحشيش والأفيون هو والقردة والخنازير سواءً بسواء، لا حمية، ولا غيرة، ولا مروءة، ولا شهامة، ولا كرامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يخبرنا: (أن الديوث محرمٌ عليه دخول الجنة)، والأفيون والحشيش والمخدرات تورث الدياثة، فيرى الإنسان المنكر فلا يتغير وجهه، يرى المنكر في أهله ولا يغضب لله، ولا ينصح لله، وكأنه لن يقع شيء.
عباد الله! الله وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث، وقامت الأدلة القاطعة التي لا يختصم فيها اثنان أن الدخان فيه ضررٌ على جسم الإنسان، ففيه كربون الأكسيد الآحادي الذي يقتل الأكسجين في دم الإنسان، وفيه غاز النيكوتين السام الذي يضعف عضلات المعدة لهضم الطعام، والذي يجعل خفقان القلب بشدةٍ زائدة، وهذا ملاحظٌ على شاربي هذا الشراب الخبيث، تراه لو ركض عشرة أمتار لبدأ قلبه يخفق بقوةٍ وكأنه يريد أن يتقطع، وإذا ثبت الضرر فيحرم استعماله، (لا ضرر ولا ضرار)، فهو خبيثةٌ من الخبائث لا يحل تناوله، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].
ثم الرائحة التي توجد من شارب هذا الشراب الخبيث، يتحاشى الإنسان من وصفها على طريق المبالغة، ولكنني أقول: إن شم رائحة الحمام والعذرة أيسر بكثير من شم رائحة هذا التتن النجس، ويا مصيبة الإنسان إذا كان يصلي بجوار رجلٍ يشرب هذا الشراب الخبيث، لا يعلم كيف ستنتهي الصلاة، والبصل والثوم وهما حلالان ولهما من الفوائد للجسم ما الله به عليم، نهي الإنسان إذا أكل بصلاً أو ثوماً أن يقرب المسجد، وإذا شم البصل أو الثوم من أحدٍ من الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد طردوه ونفوه حتى البقيع، فما بالك بهذه الرائحة المنتنة الكريهة، ولا فائدة في استعمالها بوجهٍ من الوجوه، وأما ضرره على المال فحدث ولا حرج.
عباد الله! ذكرت سوريا في ألف وتسعمائة وستين إحصائيةً حول مقدار ما يصرف من الأموال على التتن -النتن- في بلادنا، فذكرت أن حلب ويقارب عدد سكانها عشر سكان سوريا، أن حلب تصرف في اليوم الواحد ربع مليون من الليرات السورية، فحلب تنفق في السنة تسعين مليوناً من الليرات السورية، فسوريا تنفق في السنة تسعمائة مليون من الليرات السورية، وهذا عام ستين وتسعمائة وألف، وأنا لا أتردد أن أقول أنه في هذا الوقت النسبة مضاعفة، فسوريا فقط تنفق تسعمائة مليون مضاعفة من الليرات السورية في السنة الواحدة على الدخان، والسعودية إن لم يكن بمثل هذه النسبة فهي أكثر، وأما البلاد الأخرى فهذه النسبة في عشرة، أموال باهظة تنفق هنا وهناك في سبيل ضرر الجسم، ولا فائدة فيها.
عباد الله! المال سلاح المؤمن، والمال أمانة، ويوم القيامة سيسأل العبد عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، أنفقت مالك في الدخان؟ أنفقت مالك في شرب هذا النتن؟ أعد جواباً يا عبد الله لذاك اليوم العظيم.
ثبت في مسند الإمام أحمد وأبي داود بإسنادٍ صححه الحافظ ابن حجر في الفتح عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكرٍ ومفتر)، فإذا كان الدخان لا يسكر فهو يفتر، فإذا شرب هذا أو شمه يعتري أعضاءه شيءٌ من الفتور والليونة، وهذا يعترف به من يشرب هذا الشراب الخبيث، فإذا أصيب أحدهم بغضبٍ أو خصومة يقدمون له سيجارةً لتهدأ أعصابه، فيصيبه بعد شربها شيءٌ من الفتور، فهم يعترفون بأن فيه شيئاً من الفتور، وهذا هو الذي يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نهى عن كل مسكرٍ ومفتر.
عباد الله! اتقوا الله في نفوسكم، وفي أهليكم، وفي أموالكم، وامنعوا هذه الأشربة الخبيثة من خمرٍ وما شابهه، ومن حشيشٍ وما شاكله، ومن هذا المفتر من التتن والتنباك وغير ذلك وما شاكله، وامنعوا ذلك أيضاً عمن هم تحت أيديكم من أهلٍ وأولاد لتكونوا خير أمةٍ أخرجت للناس، ولنكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول وأستغفر الله.
عباد الله! أشرت في الخطبة إلى أن الحشيش والأفيون عندما خرج في القرن السادس للهجرة خرج معه سيف التتار، فبعدما خرج بخمسين سنةٍ تماماً، أي: سنة خمسٍ وخمسين وستمائة للهجرة، خرج التتار ودخلوا بلاد بغداد، وذبحوا في بغداد فقط ذبحاً بالسكاكين ما يقرب من مليونين من المسلمين، وأما الذين ماتوا بالهدم وبالغرق فلا يعلم عددهم إلا الله، وهتكوا أعراض المسلمين، وقتلوا الخليفة، وعندما أرادوا أن يقتلوا الخليفة المستعصم بالله، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أرادوا أن يقتلوا قال أحد الحاشية من أتباع هولاكو الخبيث الطاغية: والله لو نزلت قطرةٌ من دمه على الأرض فسيغار الله ويغضب ويخذلكم، فأشار هولاكو بأن يقتل بوسيلةٍ لا يسقط منه شيءٌ من الدم، وبالفعل بدءوا يضربونه حتى مات.
ثم بعد ذلك هتكوا الحرمات، ودخلوا بعد ذلك حلب ودمشق وغزة، واجتاحوا البلاد وقتلوا العباد، كل هذا جزاء لما حدث في البلاد من المعاصي، وهذه الأيام التي نعيشها الفتن في بلاد المسلمين على أيدي من يتكلمون بألسنتنا وهم من جلدتنا، وعلى أيدي أناس لا يتكلمون بألسنتنا وليسوا من جلدتنا يصب العذاب والبلاء على المسلمين صباً في جميع أنحاء الدنيا، وما ذاك إلا لمبارزتهم لله جل وعلا بالمعاصي، ولمحاربتهم لله بالمعاصي، وإذا حاربوا الله بفعلهم المعاصي سلط الله عليهم من هو أظلم منهم فيسومهم سوء العذاب، فاتقوا الله في أنفسكم يا معشر المؤمنين، اتقوا الله في أنفسكم يا معشر المؤمنين، واتركوا المعاصي، وأقبلوا على طاعة الله، يمكن الله لكم في الأرض، ولتكونوا خير أمةٍ أخرجت للناس.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر المسلمين، واخذل من خذلهم يا رب العالمين، اللهم من أراد أن يحكم في بلادك بين عبادك بغير ما أنزلت فشرده يا رب العالمين، اللهم اقتله ونكل به واجعله عبرةٍ للمعتبرين، اللهم أصلح أحوالنا، واجعل الجنة دارنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا يا رب العالمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر