أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:45-49].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! السر في القصص التي يقصها الله على نبينا صلى الله عليه وسلم والحكمة فيها: أن يفهم العرب والمشركون أن شركهم وكفرهم فساد في الأرض، وليس بصلاح، وأن عليهم أن يؤمنوا برسول الله، وأن يعبدوا الله تعالى ويوحدوه، ولا يشركوا به سواه.
وهذه القصص لولا أن الله تعالى قصها على رسوله لم يقصها أحد. والمقصوص عليه هذه القصص لن يكون إلا رسولاً لله، ويستحيل أن يكون غير نبي ورسول.
والأمم التي مضت أرسلت فيها الرسل، ووقف أهل النار في وجههم وحاربوهم، وأهلكهم الله في الدنيا، وعذابهم الأبدي الدائم في الدار الآخرة. ففي هذه القصص عبر للمعتبرين.
وها نحن مع قصة ثمود، وقد علمنا أن ثمود قبيلة نزحوا من الجنوب من حضرموت لما أهلك الله عاداً بالريح كما علمتم، واستمرت هذه الريح سبع ليالٍ وثمانية أيام، ونجا الله تعالى هوداً عليه السلام والجماعة المؤمنة معه، فنزحوا من الجنوب إلى الشمال، فبعضهم دخلوا مكة، وبعضهم نزحوا إلى مدائن صالح التي وراءنا في شمال المدينة، وعبدوا الله، ثم مات العلماء وانتشر الشرك والباطل والفساد؛ لفقدان العلم وأهله، فبعث الله فيهم رسوله صالحاً عليه السلام، كما قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [النمل:45]. فثمود هذا اسم القبيلة، فأبوهم الأول ثمود، فهم قبيلة تعرف بقبيلة ثمود، ومدائن صالح موجودة قائمة إلى الآن.
والاستغفار يكون إظهاراً للتوبة وإعلان عنها، فمن قال: أستغفر الله تاب من ذنبه وعدل عنه، ورجع إلى الحق والصواب.
وكان في أهل مكة عند الكعبة رجل عنده عيدان وأقداح في زنبيل، فكان يأتيه الرجل ويقول له: أريد أن أتزوج بفلانة، أو أبني بناء فانظر فيه، فيجيل تلك الأقداح في ذلك الزنبيل أو الخرقة، ثم يستخرج أحدها، فإذا خرج افعل قال: أفعل، وكانت مكتوباً عليها افعل ولا تفعل، وإذا خرج لا تفعل يقول: لا تتزوج أو لا تبني أو لا تسافر.
هذا هو التطير الشائع في بلاد العرب، وقد استمر حتى اليوم، فالمتطيرون موجودون.
وبعضهم يستعملون المسبحة، ويعدون حباتها أيضاً، وبعضهم يضع كوماً من الرمل ويعمل فيه كذا، وهذا موجود إلى الآن عند أهل الجهل والعمى وعدم البصيرة.
وهؤلاء كانوا يفسدون بالذنوب والآثام من الشرك إلى الزنا .. إلى الخمر .. إلى غير ذلك، ولا يصلحون أبداً أدنى شيء.
فعاد أهلكوا بالريح الصرصار، وثمود أهلكوا بصيحة جبريل، فقد صاح فيهم بعد ثلاثة أيام وهم جالسون على ركبهم، لا أكل ولا شرب ولا غير ذلك، وفي أول يوم أصفرت وجوههم، فعرفوا أن المحنة وصلت، وثاني يوم أحمرت وجوههم، وثالث يوم أسودت وجوههم، وفي اليوم الرابع صباحاً أخذوا، وأهلكوا عن آخرهم. قال تعالى: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51].
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [النمل:52]، أي: علامة تدل على وجود الله، وعلى حلمه وحكمته، ورحمته وقدرته، وعلى أن محمداً رسوله ونبيه ومصطفاه، وعلى أن الدار الآخرة والجزاء فيها يتم كما أراد الله عز وجل؛ إذ هذا المظهر وحده يكفي دليلاً على وجود الله وعلمه وقدرته، وصدق رسوله فيما يقولوا. فأعظم آية هي هذه الديار الخالية الخربة، التي ليس فهيا أحد من أهلها. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [النمل:52]. والآية: العلامة الدالة على الشيء. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:52]، أي: يعلمون هذا الحادثة ويسمعون بها، أو يعلمون ويفكرون ويعرفون، وليسوا بجهال ولا ضلال.
قد عرفنا أن ولاية الله لا تتم للعبد ولا يظفر بها ولا يحصل عليها إلا إذا آمن واتقى، وأما مؤمن يدعي الإيمان وهو يفجر ويفسق ويقول الباطل ويرتكب الذنوب والآثام فوالله ما هو بولي لله، وكذلك العبد الذي يتقي الظلم والشر والفساد وهو لا يؤمن والله ما هو بولي لله، بل لابد من الإيمان الصادق الذي يقبل من صاحبه، بحيث لو عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقال: حقاً أنت مؤمن.
ثم تقوى الله عز وجل التي هي: فعل المأمورات الإلهية وترك المنهيات الإلهية، وفي القرآن الكريم من سورة يونس يقول تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وكأن سائلاً يقول: من هم أولياء الله؟ فكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: آمنوا الإيمان الحق، واتقوا الله طول حياهم، فهم يتقونه ليل ونهاراً حتى الموت. وقد علمنا أن تقوى الله هي الخوف منه، ذلك الخوف الذي يحملك على أن تطيعه ولا تعصيه.
ولابد لذلك معاشر المستمعين من معرفة محاب الله ومكارهه، فالذي لا يعرف محاب الله لم يمكنه أن يطيعه فيها، والذي لا يعرف مكارهه لم يمكنه أن يطيعه في تركها، فلذلك لابد من العلم بكل ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال، والصفات والذوات؛ من أجل أن يفعل ذلك المحبوب، ولا بد من معرفة ما يكره الله من سائر المكروهات، سواء كانت عقائد أو أقوالاً أو أفعالاً، أو صفات أو ذوات، وإلا لم تتحقق ولاية الله للعبد، المشترط فيها الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. هؤلاء هم الذين نجوا، وباقي الأمة كلهم هلكوا. فنجا الله المؤمنين المتقين، وعلى رأسهم صالح ومن معه، ونزحوا إلى الشام قرب فلسطين.
أولاً: تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ] ففيها تقرير النبوة المحمدية، وهذه الآيات تدل دلالة قطعية على أن محمداً رسول الله، ويا ويل المكذبين والكافرين! إذ كيف ينزل هذا القرآن على أحد ولا يكون نبياً ولا رسولاً؟ يا ويل اليهود والنصارى المعرضين المستكبرين! فتكفي هذه الآيات في الدلالة على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لما قص هذه القصص التي بينه وبينها أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
[ ثانياً: تقرير حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلا بانتهاء الباطل ] وهذه حقيقة باقية إلى يوم القيامة، وهي: أن الصراع والحرب دائرة دائماً بين الحق والباطل إلى الأبد، ولن ينتهي الصراع بين المؤمنين الصادقين وبين الكافرين والفاسقين، بل الصراع مستمر دائماً، وقد سمعنا الآن فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]. وكان الرسول في مكة والآيات تنزل، والمؤمنون مؤمنون، والكافرون مشركون، وإلى اليوم أيضاً هذا، فالصراع دائم ما دام الحق موجوداً، فمن رفضه فهو عدو للحق، وهو عدو لأصحابه. ولا ينتهي الصراع إلا إذا انتهى الباطل، فالصراع بين صالح وثمود انتهى بذهاب الباطل وهلاك أهله، وبقي صالح والمؤمنون. فلن ينتهي الصراع بين الحق والباطل إلا إذا انتصر الحق وبطل الباطل.
[ ثالثاً: حرمة التشاؤم والتيامن ] والتطير [ كذلك، ولم يجز الشارع إلا التفاؤل لا غير ] ولا يحل لمؤمن ولا لمؤمنة أن يقول: يا شؤمي! لونك كذا .. حياتك كذا، ولا أن يطير طائر، ولا نسمع صوت حمامة أو غراب ويقول كذا. فهذا كله باطل، وليس عندنا إلا الفأل الحسن فقط، فإذا خرجت في الصباح وسمعت من يقول: يا الله! .. يا رحمن! فأبشر، هذا الفأل الحسن. ولهذا نحن مأمورون بأن ننطق دائماً بما فيه خير، وألا ننطق بالعبارات القاسية التي فيها شؤم.
[ رابعاً: العمل بمعاصي الله تعالى هو الفساد في الأرض، والعمل بطاعته هو الإصلاح في الأرض ] والإصلاح في الأرض هو عبادة الله فيها، والفساد في الأرض هو ترك عبادة الله تعالى في الأرض؛ لأن العبادة عبارة عن شريعة والتزام الحلال والحرام، وأن الواجب كذا. فإذا انتظم هذا النظام بين الناس سادوا وكملوا، وإذا فسقوا هبطوا، وإذا تركوا الصلاح نزلوا وفسدوا. فأي قرية أو جماعة أو أسرة يعملون بعبادة الله فهم صالحون، وأيما أسرة أو جماعة يعملون بمعصية الله فهم فاسدون، فالفساد في الأرض والصلاح بعبادة الله وتركها.
[ خامساً: تقرير أن المشركين يؤمنون بالله، ولذا يحلفون به، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لشركهم في عبادة الله تعالى غيره من مخلوقاته ] فقد قال تعالى عنهم: و قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ [النمل:49]. فحلفوا بالله وهم مشركون، وهذه الظاهرة موجودة في العرب كلهم، فقد قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]. ولئن سألهم من خلق السماوات ليقولن الله.
وقد ذكرت لكم غير ما مرة: أن هذه البلشفية والعلمانية والإلحاد نتج عن أصابع بني عمنا اليهود من زمان قريب، وقبل ذلك ما كان يوجد على الأرض من ينكر وجود الله، سواء كان مجوسياً يعبد الشمس أو يعبد النار، أو يعبد فلاناً، بل كانوا كلهم مؤمنون بوجود الله عز وجل، ولكن يعبدون معه ما زينت لهم الشياطين من أصنام أو ناس أو رجال. فهذه الفكرة حديثة عهد، وهي والله من صنع اليهود، وقد وضعوا قاعدة: لا إله والحياة مادة. ثم انهزمت الشيوعية وانكسرت والحمد لله. اللهم زدها انكساراً. ثم جاء العلمانيون يقولون: لا تقل: قال الله، ولا قال رسوله، بل قل العلم فقط.
[ سادساً: تقرير قاعدة: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43] ] وهذه قاعدة ثابتة إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43] من مكر وخدع واختال، فمن أراد أن يؤذي المؤمنين فوالله لن يعود أذاه إلا عليه. والمكر هو: الاختيال والعياذ بالله، وتدبير الشر للإنسان في الخفاء. فصاحب هذا لن يكون إلا هو الذي يهلك، كما هلك قوم صالح.
وأما المكر الحسن فلا بأس به، والله يمكر مكراً حسناً. والمكر السيئ هو: أن تبيت الغش والخديعة لتؤذي إنساناً أو أناساً. هذا هو المكر السيئ. وأما أن تبيت وتعمل خفاء لتصلح الناس فهذا مكر صالح، وليس مكراً سيئاً. والمكر الصالح لا بأس به، فهو ينتفع به. والمكر معناه: التبييت بالليل في الخفاء، وتدبر الأشياء في حالة من الخفاء والسرية، ثم يفعل بعد ذلك.
[ سابعاً: تقرير أن ديار الظالمين مآلها الخراب، فالظلم يذر الديار بلاقع ] فأي أمة أو رجل أو حكومة أو إنسان يظلم فعاقبة الظلم والله الخراب والدمار، وهذه سنة لا تتبدل أبداً، وحيثما كان الظلم. ومن أعظم الظلم وأعلاه الشرك بالله عز وجل، وظلم المؤمنين في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم هذا الظلم يذر الديار بلاقع، أي: خراباً.
[ ثامنا ] وأخيراً: [ تقرير أن الإيمان والتقوى هما سبب النجاة؛ لأن ولاية الله للعبد تتم بهما ] وهذا حقيقة. وقد ختمت القصة بهذا، وهو الإيمان والتقوى يا عباد الله! ويا إماء الله! فحققوا إيمانكم، واعرضوه على كتاب الله، فإن صدقه ووافق عليه فاحمدا الله، وإن رأيتم فيه نقصاً فأكملوه وأتموه، ثم اتقوا الله، وخافوا عذابه وسخطه، ولا تخرجوا عن طاعته لا بالليل ولا بالنهار، ولا تتركوا واجباً أوجبه، ولا تفعلوا محرماً حرمه، ولا حتى نظرة بعين، ولا بالنطق بكلمة سوء ولا غير ذلك، وحافظوا على تقوى الله؛ حتى تحفظ لكم تلك الولاية بين الله وبينكم. ومن كان ولياً لله فوالله لا خوف عليه ولا حزن، فقد قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وهم الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:63-64] بالرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] أيضاً، والملائكة تستقبلهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]. اللهم اجعلنا منهم.
والبارحة ذكرنا أن هناك ثلاثة أشياء صاحبها لا يقبل له عمل، ولا ترفع صلاته فوق رأسه مقدار شبر، الأولى: من أم قوماً وهم له كارهون، فهذا لا ترفع صلاته فوق رأسه مقدار شبر.
ثانياً: المرأة التي تبيت وزوجها غضبان عليها.
والثالثة: الأخوان المتخاصمان حتى يصطلحا.
زادنا الله علماً، ونفعنا بما علمنا. اللهم آمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر