فهذا من فضله سبحانه وتعالى: أن المؤمن إذا أكره على شيء أو نسي الشيء أو أراد الصواب فوقع في الخطأ فلا شيء عليه في ذلك، فالإنسان المعتكف إذا كان صائماً فأكل أو شرب نسياناً، أو أخطأ خطأً يعذر بمثله فلا شيء عليه، فكذلك في الاعتكاف لو أنه نسي فخرج من المعتكف فلا شيء عليه، ويرجع إلى المعتكف ويكمل الاعتكاف، وكذلك لو أكره على الخروج سواء حمل فأخرج، أو قبض عليه وأخرج ظلماً فلا شيء عليه، واعتكافه صحيح، فإذا رجع فليكمل اعتكافه الذي بدأ فيه.
وذكرنا أن الاعتكاف إما أن يكون اعتكافاً منذوراً وهذا قليل، وإما أن يكون اعتكافاً نافلة، فالإنسان الذي انقطع عليه اعتكاف النافلة يرجع ويبدأ من جديد، أو يكمل هذا الاعتكاف الذي بدأه؛ لأنه لا حرج عليه ولا إثم في ذلك.
وإذا خرج من اعتكاف النافلة متعمداً بطل التتابع، فلو رجع يكمل أياماً أخر، وهي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن فاتك التتابع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه.
وإذا كان اعتكافاً منذوراً فينظر في هذا الذي وأخرج من الاعتكاف، إما أنه أخرج بحق أو بباطل، فإذا أخرج بباطل ظلماً وعدواناً فلا شيء عليه، وليرجع وليكمل اعتكافه وهو معذور في ذلك، وإذا أخرج بحق كأن يكون إنساناً ظالماً وعليه ديون لأناس فاختفى في المسجد حتى لا يقبض عليه، ثم أمسك من الاعتكاف وأخرج منه، فهذا يبطل اعتكافه؛ لأنه أخذ أموال الناس فأخرج وهو ظالم، فيفرق بين هذا وذاك.
ولو خرج المعتكف لعذر من الأعذار كأن يخرج يشتري طعاماً للمعتكفين، أو خرجت مجموعة فطبخوا الطعام في مكان آخر، فلا شيء في ذلك، سواء نوى في أول الاعتكاف أو لم ينو؛ لأن هذه من احتياجات المسلم لأن يأكل ويشرب أو يغتسل، فهذه الأشياء لا ينقطع الاعتكاف بها.
ولو أن المعتكِف خرج من المعتكَف ثم ذهب إلى بيته فباشر أهله بالمس، كأن سلم على زوجته فقبلها فلا شيء في ذلك، لكن لو وقع في الجماع فهنا قال الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، فلو أنه جامع أو أنه مس زوجته فنزل منه المني بطل اعتكافه، فإذا كان منذوراً متتابعاً انقطع التتابع، فيعيد من جديد، أو إذا كان الاعتكاف نافلة انقطع، فلينو وليدخل المعتكف من جديد بعد ذلك، ففرق بين النذر وبين النافلة.
والمرأة المعتكفة إذا حاضت أو كانت حاملاً فجاءها المخاض فإنها تخرج من المعتكف إلى بيتها، وهي إما أن يكون اعتكافها نافلة وإما أن يكون نذراً، فإذا كان نافلة بطل الاعتكاف بخروجها؛ لأنها في حالة النفاس أو الحيض، وإذا كانت نذرت الاعتكاف متتابعاً لم ينقطع حتى تنتهي أيام الدورة، ثم ترجع إلى المعتكف وتكمل ما بقي عليها من النذر، وإذا لم يكن نذراً فالأمر واسع.
قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
وفي رواية أخرى: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، وهذه الأشياء كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان ما هو أشد من ذلك فليحذر المسلم أن يدخل المسجد ورائحة فمه نتنة يؤذي بها الملائكة، فيأكل طعاماً له رائحة خبيثة منتنة، ويأكل الثوم والبصل والكراث والأشياء التي لها رائحة يتأذى منها الخلق، أو يشرب السجائر ثم يدخل بيت الله عز وجل، فإذا كان على باب المسجد يرمي السيجارة ثم يدخل بيت الله عز وجل، ورائحة فمه يفر منها الإنسان فكيف بالملائكة؟!
فجاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وجد من إنسان هذه الرائحة أمر بإخراجه من المسجد)، والآن لن نأخذ أحداً ونخرجه من المسجد، ولكن على الإنسان أن يستحي أن يكون في بيت الله ورائحة فمه تؤذي الملائكة، فلا داعي أن يأكل قبل الصلاة ثوماً أو بصلاً أو كراثاً طالما أنه سيأتي إلى بيت الله سبحانه وتعالى.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال للناس: (ثم إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين)، والخبث هنا ليس خلقة ولكن الرائحة هي الخبيثة، وإلا فيجوز أكل الثوم والبصل، قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع) والبقيع خارج المسجد، فيأمر بإخراجه ليغسل فمه، ويبقى خارج المسجد ولا يقعد في المسجد ورائحة فمه فيها الثوم والكراث، قال عمر : فمن أكلهما فليمتهما طبخاً، فالبصل المطبوخ ليس فيه رائحة، وكذلك الثوم المطبوخ.
وكذلك يحرم عليه توسيخ أرض المسجد وسجاده، فالبعض أحياناً يتهاون في ذلك، فيصيب اللبن أو غيره على فراش المسجد، واللبن ريحته قبيحة جداً عندما يمكث ساعتين أو ثلاث على الأرض، فإنه ينتن ويبعث رائحة مؤذية للمصلين، فليحذر الإنسان من أذية المصلين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى: يصان المسجد عما يؤذيه ويؤذي المصلي فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصيره. والحصيرة مفروشة ويدخل عليها برجله لابساً الحذاء فيدوس عليه الكبير والصغير، فيؤذي في بيت الله عز وجل، لاسيما إن كان وقت الصلاة فإن ذلك من عظيم المنكرات.
هذا نقوله لإخواننا الذين يأتون بالصبيان الصغار إلى المسجد بدعوى أنه يعودهم على الصلاة، فيدخل ابنه لابساً الحذاء فيدوس بها على فراش المسجد، والأخوات اللائي يأتين بأولادهن كذلك، وإذا أنكر على إحداهن اشتاطت غضباً، فهذا يحرم، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: هذا من عظيم المنكرات. فتأملوا فيما يقوله الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثاً وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل
والمقصود: بيان أن ابن عمر كان يقول: كنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه يجوز للإنسان المعتكف أن ينام في المسجد ولا شيء عليه، والمهم أنه يكون في وضع لا يؤذي فيه أحداً من الناس، وأيضاً لا يتكشف وهو على هذه الحالة.
فيستحب للمعتكف أن يشتغل بالطاعات من صلاة، وتسبيح وذكر، وقراءة قرآن، ومدارسة علم، فالإنسان يتعلم ويعلم غيره، ويطالع ويكتب ونحو ذلك، وينشغل بكل ما ينشغل به الإنسان في طلب العلم، فيجوز له ذلك، وله أن يقرأ القرآن ويقرئ القرآن غيره.
وأحياناً نجد بعض الناس ينشغل بهاتفه في المسجد، فيشغل الناس والمصلين، فإنما بنيت المساجد لذكر الله، وللصلاة، وللعلم، وغير ذلك لا يصلح في المسجد، وأما أنك تدخل المسجد فتؤذي المصلين بالكلام في الهاتف فهذا لا ينبغي، بل اخرج من المسجد وتحدث براحتك في الشارع، وأما بيت الله عز وجل فليس لك أن ترفع صوتك فيه، إذا كان ليس لك الحق أن ترفع صوتك بالقرآن فمن باب أولى الكلام في الهاتف، والذين يفعلون هذا الشيء قليل جداً، ولكن بفعلهم هذا يؤذون الناس في بيت الله عز وجل بذلك.
إذاً: فالمعتكف يجوز له أن يأمر بالشيء الخفيف في ماله إن احتاج إليه الناس، أو احتاج عياله أن يسألوه عن شيء.
وكذلك إن كان محتاجاً إلى شراء قوته وما لابد منه لم يكره البيع والشراء في المسجد، كأن يكون المعتكفون محتاجين إلى القوت في المسجد، فلا بأس أن يدفعوا الثمن إلى شخص ليشتروا منه وهم في المسجد، فمثل هذا يجوز في مثل هذا الوقت، وأما في غير الاعتكاف فلا يجوز البيع ولا الشراء بداخل المسجد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الضالة، وأن ينشد فيه الشعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة.
فلا بد أن نراعي آداب المسجد، والمحافظة على المسجد، وعلى أهل المسجد، وعلى الذاكرين الله عز وجل فيه، فلو تعود الناس على أن يساوموا التاجر في المسجد لأصبح المسجد سوقاً، وأقبح مكان يبغضه الله عز وجل هي الأسواق، فأبغض البقاع إلى الله الأسواق، وأحب البقاع إلى الله مساجده.
والذي ضاعت منه كذلك يتوجه إلى الغرفة فليسأل، فإذا كانت موجودة أخذها ولا يعلن في المسجد.
ونهى أن ينشد في المسجد شعر من شعر الدنيا لغير هدف تعليم الشريعة والدين، وإلا فكان حسان بن ثابت ينشد في المسجد ويدافع عن دين الله عز وجل، ويؤيده جبريل في ذلك.
ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة، فلو فرضنا أننا قلنا قبل صلاة الجمعة: يا جماعة عندنا درس علم وقعدنا، والتف الناس في حلقة قرآن أو حلقة حديث أو أي حلقة من الحلقات، فبهذه الحلقة ضيقنا على الناس المسجد، وكذلك الموعظة هي موعظة واحدة وهي خطبة الجمعة، فلا يصلح أن نعظ قبل الخطبة لا، فخطبة الجمعة تنفرد وحدها بالموعظة، وهذا فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلذلك نهى عن التحلق قبل صلاة الجمعة؛ حتى لا يضيق المسجد على أهله، فهناك من يريد أن يصلي ركعتين تحية المسجد، وهناك من يريد أن يصلي الضحى، وهناك من يريد أن يذكر الله فيقرأ سورة الكهف وغيرها.
كذلك يكره فضول القول والعمل، كأن تكون قاعداً فارغاً فتقول لأحد المعتكفين: تعال نتكلم مع بعض، لا، فهذا اعتكاف لا بد أن تكون مشغولاً فيه بالله سبحانه، فعود نفسك أن تقعد ذاكراً لله، ومن لم يعتد ذلك يصعب عليه أن يقعد ساكتاً، فعود نفسك أنك تقعد ساكتاً إلا من ذكر الله وما تحتاج إليه، ولا نقول: اسكت عن الكلام، ولكن تكلم فيما تحتاج إليه، وتكلم فيما ينفعنا واترك الفضول والجدل، واترك الأسئلة الكثيرة التي ليس لها معنى ولا قيمة، وانشغل بذكر الله سبحانه وتعالى، وخفف عن نفسك كثرة الكلام، وانشغل بما فيه طاعة لله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
فكثرة الكلام يكرهها الله عز وجل من الإنسان، فعود نفسك على أن تحترم أوقات غيرك، وأن تحترم صمت غيرك وانشغاله بذكر الله عز وجل، فلا تكن أنت مضيعاً على الناس أوقاتهم، فالذي في نفسك تحب تعمله وغيرك ليس بمهم ينام أو ما ينام، فاحرص على أن توفر على الناس أوقاتهم، وعلى أن تريح غيرك، وعلى أن تكون خادماً لغيرك، وليس غيرك الذي هو يخدمك ويقضي لك حاجاتك.
ويكره رفع الصوت في المسجد ولو بالقراءة والذكر، فاقرأ بعينك وبلسانك ولا تسمع إلا أذنك فقط، ولا تتجاوز إلى صاحبك، ولذلك جاء في حديث أبي سعيد عند أبي داود : (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السترة، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه) فكل واحد يناجي ربه، والمناجاة حديث السر، (ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً) ، فرفْع الصوت بالقرآن يؤذي غيرك فلا يعرف كيف يقرأ، فأسمع نفسك فقط ولا تجهر فتسمع غيرك، (ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة).
فخل قراءتك بينك وبين الله عز وجل، وخف على نفسك من الرياء إن كنت تجيد القراءة، وإذا كنت لا تجيد القراءة فلا ترفع صوتك فتؤذي غيرك، فيضطر أن يقعد ليصلح لك أخطاءك ثم تنشغلون بالكلام.
وكذلك في أثناء الاعتكاف يحرم على المعتكف أن يؤذي أحداً بشتم أو سباب، ويستحب إذا سبه إنسان ألا يجيبه، وإذا كان الإنسان صائماً فليقل: إني صائم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر