الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
[الحج:1-7].
هذه الآيات هي مفتتح سورة الحج، والحج رحلة إلى الله تعالى يرحلها العباد مستجيبين لنداء العبودية لله الواحد القهار، قال تعالى:
[البقرة:196]، وإذا كانت الصلاة والزكاة والصيام عبادة فإن الحج يتميز عنها بأنه عبادة يترك من أجلها العبد البلاد والأولاد والأحباب والضيعات والأموال، ويقطع المسافات الشاسعة التي قد تمتد الآف الأميال.
إن الحج رحلة وهجرة إلى الله تبارك وتعالى، وتجرد الحاج من المخيط، ووقوف الألوف في عرفات محرمين بأرديتهم البيض من أعظم ما يذكر العباد بيوم القيامة والخروج من هذه الدنيا، ليكون هناك الحساب والجزاء بين يدي حكم عدل لا يظلم عنده أحد
[الأنبياء:47].
وهذا هو المعنى الذي يربط بين افتتاح سورة الحج بالأمر بتقوى الله تعالى وتذكر زلزلة الساعة العظيمة وبين معنىً من معاني الحج الكبار كان يدركه سلفنا الصالح، أما نحن اليوم فقد صار حج كثير منا نزهة قصيرة، نطارد من خلالها الزمن لنعود إلى ما كنا عليه من لهو وعبث وغفلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كيف كان يدرك سلفنا الصالح رحلة الحياة القصيرة؟ حج بالناس
عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثلاث وعشرين قبيل استشهاده رضي الله عنه بأيام، وكان شغله الشاغل في حجه البحث عن رجل من رعيته من التابعين يريد مقابلته، وصعد
عمر بنفسه على جبل أبي قبيس، وأطل على الحجيج وهم حول بيت الله الحرام، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج من أهل اليمن! أفيكم
أويس من مراد؟ فقام شيخ طويل اللحية من قرن فقال: يا أمير المؤمنين! إنك قد أكثرت السؤال عن
أويس هذا، وما فينا أحد اسمه
أويس إلا ابن أخ لي يقال له
أويس ، فأنا عمه، وهو حقير بين أظهرنا، خامل الذكر، وأقل مالاً، وأوهن أمراً من أن يرفع إليك ذكره يا أمير المؤمنين. فسكت
عمر كأنه لا يريده، ثم قال له: يا شيخ! وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟ أهو معنا بالحرم؟ قال الشيخ: نعم -يا أمير المؤمنين- هو معنا في الحرم، غير أنه في أراك عرفة يرعى إبلاً لنا. وسرعان ما ركب
عمر بن الخطاب و
علي بن أبي طالب رضي الله عنهما على حمارين لهما وخرجا من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة، ثم جعلا يتخللان الشجر ويطلبانه، فإذا هما به في طمرين من صوف أبيض قد صف قدميه يصلي إلى الشجرة، وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده وألقى يديه على صدره، والإبل حوله ترعى، قال
عمر لـ
علي رضي الله عنهما: يا
أبا الحسن إن كان في الدنيا
أويس القرني فهذا هو وهذه صفته. ثم نزلا عن حماريهما وشدا بهما إلى أراكة، ثم أقبلا يريدانه، فلما سمع
أويس حسهما أوجز في صلاته، ثم تشهد وسلم، وتقدما إليه فقالا له: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال
أويس : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال
عمر : من الرجل؟ قال: راعي إبل وأجير للقوم. فقال
عمر : ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا عبد الله وابن أمته. فقال: قد علمنا أن كل من في السموات والأرض عبيد لله، وإنا لنقسم عليك إلا أخبرتنا باسمك الذي سمتك به أمك. قال: يا هذان ما تريدان إليه؟ أنا
أويس بن عبد الله. فقال
عمر رضي الله عنه: الله أكبر! يجب أن توضح عن شقك الأيسر. قال: وما حاجتكما إلى ذلك؟ فقال له
علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفك لنا، وقد وجدنا الصفة كما أخبرنا، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، ونحن نحب أن ننظر إلى ذلك، فأوضح لهما ذلك عن شقه الأيسر، فلما نظر
علي و
عمر إلى اللمعة البيضاء ابتدرا أيهما يقبل قبل صاحبه، وقالا: نشهد أنك
أويس القرني ، ثم بكيا طويلاً، وقالا: يا
أويس! إن رسول الله صلى عليه وسلم أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لنا، فإن رأيت أن تستغفر لنا يرحمك الله؛ فقد خبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر، فبكى
أويس بكاءً طويلا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري. فقال
علي : إنا قد تيقنا أنك هو لا شك في ذلك، فادع الله لنا يرحمك الله بدعوة وأنت محسن. فقال
أويس رحمه الله: ما أخص باستغفارٍ نفسي ولا أحداً من ولد آدم، ولكنه في البر والبحر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في ظلم الليل وضياء النهار، ولكن من أنتما يرحمكما الله؟ فإني قد أخبرتكما وشهرت لكما أمري ولم أحب أن يعلم بمكاني أحد من الناس. فقال
علي: أما هذا فأمير المؤمنين
عمر بن الخطاب وأما أنا فـ
علي بن أبي طالب. فوثب
أويس فرحاً مستبشراً، فعانقهما وسلم عليهما، ورحب بهما وقال: جزاكما الله عن هذه الأمة خيراً. قالا: وأنت جزاك الله عن نفسك خيراً. ثم قال
أويس : ومثلي يستغفر لأمثالكما؟! فقالا: نعم إنا قد احتجنا إلى ذلك منك، فخصنا رحمك الله بدعوة منك حتى نؤمن على دعائك، فرفع
أويس رأسه وقال: اللهم! إن هذين يذكران أنهما يحباني فيك، وقد رأوني فاغفر لهما وأدخلهما في شفاعة نبيهما محمد صلى الله عليه وسلم. فقال له
عمر رضي الله عنه: يا
أويس! مكانك رحمك الله حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي؛ فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غداً. فقال
أويس : يا أمير المؤمنين لا ميعاد بيني وبينك ولا أعرفك بعد اليوم ولا تعرفني، ما أصنع بالنفقة؟! وما أصنع بالكسوة؟! أما ترى علي إزاراً من صوف ورداءً من صوف؟! متى أراني أخلقهما؟! أما ترى نعلي مخصوفتين؟! متى تراني أبليهما؟! ومعي أربعة دراهم أخذتها من رعايتي متى تراني آكلها؟!
وتأملوا في قول
أويس لأمير المؤمنين يا من تعلقتم بالدنيا وظننتم أن السعادة كل السعادة في أن تكون بين أيديكم الأموال والقصور، انظروا إلى موازين أهل الخير وأهل الحق وأهل الله وأهل الدار الآخرة.
قال
أويس ينصح أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب الزاهد العابد رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن بين يديك عقبة لا يقطعها إلا كل مخف مهزول، فأخف يرحمك الله، يا
أبا حفص! إن الدنيا غرارة غدارة زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مد عنقه إلى غد، ومن مد عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غداً من مجاورة الجبار، وجرت من تحت منازله الثمار.
فلما سمع
عمر رضي الله عنه كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت
عمر لم تلده أمه، ليتها عاقراً لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها؟!
فقال
أويس : يا أمير المؤمنين! خذ أنت هاهنا حتى آخذ أنا هاهنا ومضى
أويس يسوق الإبل بين يديه و
عمر و
علي رضي الله عنهما ينظران إليه حتى غاب فلم يرياه، وولى
عمر و
علي نحو مكة رضي الله عنهم جميعاً.
أيها الأخ في الله! حديث فضل
أويس القرني ، وأنه لو أقسم على الله لأبره، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ
عمر : (
إن استطعت أن يستغفر لك فافعل) حديث ثابت في صحيح
مسلم .
أما العبرة من هذه القصة فهي: كيف كانت مواقف الحج عند الأوائل؟
كانت ذكرى ليوم القيامة، كانت ذكرى للرحيل إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الحج رحلة بما فيه من إحرام وتجمع، رحلة تختصر رحلة عمر الإنسان في هذه الحياة.
فهل يعي هذه الدروس أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم في معصية الله؟
هل يعيه أولئك الذين يظلمون الناس في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم؟
هل يعي ذلك أولئك الذين بغوا على عباد الله تبارك وتعالى مشرقاً ومغرباً؟