أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، وقد علمنا أنها تعالج أسمى القضايا وأعظمها:
القضية الأولى: قضية لا إله إلا الله، فتضرب لذلك الأمثلة وتلفت النظر إلى الأدلة الكونية، وفي الكائنات كلها، وحسبنا في ذلك أن يقول الله تعالى بنفسه لموسى عليه السلام: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا [طه:14]، فلا يستحق أن يعبد في الأكوان إلا الله، فهو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المالك، ومن دونه مخلوق مربوب، فكيف يعبد مع الله؟ والله! إنه لا إله إلا الله.
القضية الثانية التي تقررها بالأدلة والبراهين والحجج العقلية والنقلية: النبوة المحمدية، والله! إن محمداً لرسول الله، ومن المستحيل أن يكون غير رسول الله والله أنزل عليه كتابه العظيم القرآن الكريم، وناداه غير ما مرة: إنا أرسلناك للناس، كيف لا يكون رسول الله وهو أمي عاش في مكة أربعين سنة لا يعرف الياء من الباء، وإذا به يطلع على الكون بأنوار عجب، ويأتي بالعلوم والمعارف التي ما كانت تخطر بالبال، فمن يكون إذاً رسول الله؟!
القضية الثالثة: التشريع، ليس من حق كائن أن يشرع إلا الله، لأن العبيد عبيده هو الذي يقنن لهم ويشرع ما يسعدهم وينجيهم من الخزي والدمار والعذاب، وغير الله كيف يُشرِّع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه العليم بالآتي والماضي، بالمستقبل والحاضر، والذي لا علم له بالمستقبل كيف يُشرِّع.
إذاً: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، كما هو الخالق وحده، هو الذي يأمر وحده، يحلل ويحرم، يمنع ويعطي، ليس هناك من يشاركه في ذلك.
وأعظم قاعدة هي عقيدة البعث الآخر والحياة الثانية، وما يتم فيها من الحساب الدقيق والجزاء الكامل، الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، والناس والجن يومئذ إما في عالم السعادة أو في عالم الشقاء، إما في الجنة دار السلام أو في النار دار البوار.
وها أنتم مع هذه السورة من أولها إلى آخرها ما خرجت عن هذه القضايا، تؤكدها وتقررها وتبينها؛ إذ هذا المعتقد إذا سلم حيي العبد وكملت حياته، وإذا انعدم مات، وإن ضعف وداخله الزيادة والنقصان فهو كالمريض.
أقول: اعلموا أن العقيدة الإسلامية الصحيحة هي بمنزلة الروح، هي بمثابة الروح، فصاحبها حي، وعادمها ميت، ولنا على ذلك أدلة وبراهين.
فإن داخلها ضعف أو تبديل أو تغيير فصاحبها مريض، يقوى على أن يفعل واجباً ويعجز عن آخر، يقوى على أن يقول كلمة خير ويعجز عن أخرى لضعفه، كالمريض مرضاً بدنياً، هل يقوى على كل فعل أو ترك؟ لا يقوى.
ومن هنا فمن كانت له هذه العقيدة السليمة فهو من أسعد الناس وأكملهم، في الآداب، الأخلاق، الرحمة، العطف، الإحسان، لا تتصور كماله أبداً، ومن فقدها فهو في عداد الموتى، ومن آمن بلسانه ولم يعرف ربه بقلبه فهو كالمريض يصوم يوماً ويفطر آخر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:54-56].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا نتدارس هذه الآيات.
قول ربنا جل ذكره: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، لو قيل لك: من ربك؟ فأجب: الله. فإن قيل: من هو الله؟ فقل: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54]، هذا هو ربي، رب العالمين.
فالعلم بالله أول ما تعلم، فربنا الله الذي خلق السموات والأرض، هل نحن خلقناهن؟ لا. فكل الدنيا من تحتها إلى رأسها لا خالق لها إلا هو، فبذلك عرفنا أنه الله الذي خلق السموات والأرض، خالق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والكائنات هو ربنا، والله! إنه هو ربنا ولا رب لنا غيره، فهذه الآية تعرفنا به.
فنحن لا نعرف ذات الله لأنها لا تشبه الذوات؛ وكل ما خطر ببالك فالله مخالف لذلك، ليس من المعقول أن يكون الله كمخلوقاته، أيعقل هذا عندنا، هذا المفتاح هل هو كصانعه؟ مستحيل هذا! فلهذا قل: آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله.
ثم هذا الإمام مالك تحفظون كلمته التي لا تنسى في القرن الثاني، سئل من سائل: ما معنى (استوى)؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، أخرجوه من الحلقة. لأنه مريض بالوسواس.
وكل هذا عائد إلى ضعفنا، أتعرفون أن قوانا محدودة أم لا؟! حين أنظر ببصري الحاد فكم كيلو متر أنظر؟ هذه إرادة الله، هذا السمع أسمع به المؤذن من عشرة كيلو، ولماذا لا أسمع أكثر؟ الطاقة محدودة، أرفع صوتي بأعلى صوت ولكنه محدود، أحمل فيه على قدر طاقتي، فكذلكم -والله- عقلي محدود الطاقة، ما يدرك أكثر من طاقته، فمن هنا ما نستطيع أن نعرف ذات الله عز وجل، ولا كيف يستوي على العرش، أخبرنا فقلنا: إي والله إنه لكما أخبر، لكن الكيف لا ندركه، ليس من شأننا.
لمن الخلق؟ لله. هل هناك من ادعى أنه يخلق؟! لا يوجد. لا بعوضة ولا دجاجة ولا نعامة ولا ناقة ولا رجل، فقد استقل الله بالخلق فلا خالق إلا هو.
إذاً: يجب ألا يكون آمر إلا هو، ما دام أن الخلق له، هو الذي يدبر حياتهم، يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويقدم ويؤخر، ويميت ويحيي، لأنه هو الخالق المالك، فليس من حق أي كائن غير الله أن يأمر أو ينهى، فيحلل أو يحرم، أو يقنن أو يشرِّع، الحق حق الله، فهذه الجملة لا تنسى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، البركة: الخير، وتبارك الله: خيره لا يعد ولا يحصى، كل ما تشاهد من خير في الكون هو خير الله عز وجل، وهو رب العالمين، أتدرون معنى العالمين؟ كل ما سوى الله عالم، أي: علامة دالة على وجود الله وعلمه وقدرته وألوهيته وربوبيته، فعالم الإنس كعالم الجن كعالم الحيوان كعالم الملائكة كعالم الأشجار والنباتات والمواد كالذرة والهيدروجين، هذه الكائنات كلها عوالم تشهد أن لا إله إلا الله، حيث تشهد أنها مخلوقة مربوبة، وخالقها وربها الله، إذاً: لا إله إلا الله. تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، ونحن من ذلك العالم.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54]، هل هناك نهار فشل يوماً من الأيام، وقال: تعبت، وهل تعب ليل وقال: لن آتيكم فأنا تعبت!
بل كل يطلبه الآخر طلباً حثيثاً باستمرار ما ينقطع يوماً في الدهر وفي الأعوام وفي آلاف السنين، لو كان من نفسه أو كان يديره غير الله لكان سيمكر وينقطع.
هذه مظاهر ربوبية الله تعالى الدالة أولاً على وجوده، ثانياً: على علمه، ثالثاً: على قدرته، رابعاً: على رحمته، وخلاصتها ألا تتعلق قلوب الناس إلا به، وإذا تعلقت القلوب به رحمها وأسعدها.
والتضرع مأخوذ من ضرع الشاة، فحين يأتي الجدي ليرضع كيف ترون حاله؟ هل يتعنتر؟ يرتعد ويرتعش، وهي تناغيه بصوت خاص، فكذلك ادعه بتلك الصورة وأنت ترتعد ودموعك تسيل، جلدك يقشعر، لو ذكرت أنك أمام الله، وأنك بين يديه، وأنك مفتقر إليه وتسأل حاجتك منه لغلب عليك هذا الحال.
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا [الأعراف:55]، فلهذا قالت العلماء: رفع الصوت بالدعاء لا يستحب أبداً، حتى الذكر، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما كبروا بأعلى أصواتهم: ( أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً عليماً )، فالذكر برفع الصوت مكروه، مخالف لهذه الآية ولآية في آخر هذه السورة.
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، أي: ادع ربك وأنت بعيد عن الناس، مختف في لياليك الظلماء، في فراغك وأوقاتك، حين تكون وحدك، أحسن من أن تدعوه بين الناس وترفع صوتك، هذا -والله- تأديب من الله لنا، ليعلمنا كيف ندعوه الدعاء الذي يستجيبه لنا، ويعطينا معه حاجاتنا وطلبنا، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، الخفية ضد العلانية، فلهذا يستحب للدعاء أن يكون والنفس مرتعدة والجلد مقشعر، والعينان تذرفان الدمع، وهو هكذا بين يدي ربه، إذا حصل هذا فاعلم أن دعوتك قبلت.
هذه أمكم رضي الله عنها عائشة الصديقة تقول: أنا أعرف متى يستجاب دعائي. كيف يا أماه؟ قالت: إذا أخذتني رعدة ورعشة، وسالت الدموع من عيني عرفت أن دعوتي قبلت.
متى يحصل منك هذا؟ حين تكون خالياً بربك، ما أنت أمام الناس، فلهذا ما كان رسولنا يدعو بالناس بعد الصلاة أبداً، وبعض أهل الجهل إذا سلم الإمام يستقبل الناس ويدعو بهم كل صلاة، وهذه بدعة، ما عرفوا هذه الآية: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] متضرعين مختفين عن عيون الناس.
ويستحب أيضاً رفع الأكف والأيدي، فقد رفع الرسول يديه حتى بان بياض إبطيه على المنبر، ( وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! ).
معاشر المستمعين والمستمعات! هذه الآية هي آية آداب الدعاء، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا [الأعراف:55] أولاً، تقول: يا رب يا رب بالبكاء، هذا هو التضرع، وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، بعيداً عن أعين الناس، في ظلامك في تهجدك في سجودك في انفرادك، وذلك أفضل من الدعاء بين الناس.
ثانياً: أن تسأل الله تعالى الأمور التي ربطها الله تعالى بالأسباب وأنت لم تأت السبىب وأنت قادر عليه وتقول أعطني! مثلاً: أنت ما تزوجت وراغب في ألا تتزوج، وتقول في دعائك: اللهم ارزقني ذرية صالحة، فهل يجوز هذا الكلام؟ أنت تستهزئ، ترفض الزواج وتسأل الله أن يرزقك ولداً صالحاً! تزوج أولاً واسأل، وآخر قاعد لاصق بالجدار لا يمد يده إلا لسؤال الناس ويقول: اللهم ارزقني! يجب أن تسعى، تحمل مجدفك أو فأسك أو قلمك، وتطلب وتسأل الله عز وجل فيستجيب لك، أما أن تعطل نفسك وتبقى جالساً وتقول: أعطني فهل يجوز هذا!
ثالثاً: ألا تسأل ما لم تجر سنة الله بإعطائه، كأن تسأل أن يعود عمرك إلى الخامسة والثلاثين وأنت ابن السبعين، يا رب! ردني إلى شبابي، فهل يجوز هذا؟ الله قادر على كل شيء، لكن ما جرت سنة الله بهذا، فهذا اعتداء وظلم، أو تقول: اللهم اجعلني مع أنبيائك، يا رب! أعل شأني وارفع قدري كأنبيائك، تريد أن تساوي الأنبياء، فهذا اعتداء، قل: اللهم اجعلني مع مواكب النبيين والصديقين، أما الدرجات فشتان ما بين درجة النبي ودرجة العبد الصالح، يتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب في السماء.
أولاً: أن تدعو الله وأنت خائف تتضرع بصوت منكسر منخفض دال على ذلتك وانحطاطك.
ثانياً: أن تخفي دعاءك ولا تدعو أمام الناس.
ثالثاً: ألا تدعو الله في شيء جرت سنته ألا يعطيه من ذوات الأسباب، لا بد أن تفعل السبب وتسأل الله عز وجل.
رابعاً: ألا تسأل ما لم تجر به سنن الله عز وجل في الكون، كأن تطلب أن تعود صغيراً مثلاً أو شاباً، أو تطلب أن تكون شيخاً في يوم واحد، هذه كتلك.
أما الطامة الكبرى فهي أن تدعو مع الله غير الله، هذا أمر لا يقال، من دعا مع الله غيره فقد أشرك وكفر، وخرج من ملة الإسلام، إلا أن يتوب، لأنه سوى مخلوقاً بالخالق، فماذا بقي؟ فلهذا قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ [الأعراف:55]، ما قال: ادعوا أولياءكم أو أنصاركم أو أنبياءكم، بل قال: ادْعُوا رَبَّكُمْ [الأعراف:55]، وقد عرفته الآن، فهو الذي تدعوه، ولا يصح دعاء غير الله، سواء كان ملكاً أو نبياً من الأنبياء أو صالحاً في الصالحين.
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، الاعتداء في الدعاء عرفتم صوره، ومن أبشعها أن تدعو مع الله غيره: يا رب ويا سيدي فلان، فهل يصح هذا؟! تقول: يا الله ويا رسول الله، والله! إنه للشرك بالله، وهو من أفظع أنواع الظلم، لأنك سويت مخلوقاً بالخالق، ثم حين تقول: يا رسول الله هل بإمكان الرسول أن يعطيك أو يمنعك أو يدفع عنك المكروه، أو يصل بك إلى ما تريد؟ من يقول: نعم؟ والله! لا أحد، فلماذا إذاً تغضب ربك عليك وأنت تكرر لا إله إلا الله في كل صلاتك؟
ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل ما لم تجر به سنن الله، أن يطلب منازل الأنبياء، أن يطلب شيئاً حرمه الله، كما قدمنا أن يدعو على فلان بالظلم، هذا اعتداء في الدعاء.
فالذين يستوردون المخدرات من الأفيون والكوكايين والحشيش -سواء أكانوا يستعينون بالخارج أو الداخل- والله! إنهم لمفسدون في هذه البلاد، الذي يفتحون دكاكين لبيع أشرطة الأغاني والمزامير والطبول وأصوات العواهر في هذه الديار والله! لقد أفسدوا فيها بعد إصلاحها، والذين يفتحون بنوك الربا ويدعون الناس إليها، ويقبل الناس عليهم يودعون ويأخذون بعدما حرم الله الربا وقطع نسله وأثره والله! لقد أفسدوا في هذه الأرض بعد إصلاحها.
وأيما امرأة تأتي إلى إحدى نسائنا وترغبها في كشف وجهها وهتك حيائها لتخرج كفلانة وفلانة والله! لقد أفسدت في هذه المدينة بعد إصلاحها.
والذي يفتح صالوناً لحلق وجوه الفحول، ويحلق وجوه الرجال والله! لقد أفسد في الأرض بعد أن أصلحها الله.
عرفتم الآية ماذا يقول فيها ربي تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، قرية من قرانا في مصر في الشام في العراق في إفريقيا اصطلح أهلها على الخير والهدى وصلحوا، والله! لا يحل لمؤمن أن يحدث فيها حدثاً، ذنبه أقوى من ذنبه في بلد آخر فيه الفساد والشر.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، لما كانت فاسدة فمن يلام؟ لكن لما أصلحها الله بالوحي الإلهي ورسوله وكتابه، وسادها الطهر، فالذي يحدث فيها حدثاً هو من المفسدين في الأرض بعد إصلاحها، وحسبنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرام من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً -أي: نصره- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، فهل بعد هذا يستسيغ أهل الجهل والمغرقون في الضلال أن يحدثوا أحداثاً جساماً في هذه الديار ولا يخجلون من الله ولا يستحون؟
أما غير المحسنين فلا، فالمسيء في صلاته لا تقبل صلاته، المسيء في وضوئه أو غسله ما يصلح غسله ولا وضوؤه، المسيء في معاملته ما يقبل منه عمل ولا يصلح له حال، المسيء في دعائه يدعو مع الله غير الله، ولا يخاف ولا يرهب، يدعو وهو متكبر لا يبالي استجيب له أو لم يستجب له، كل هذه الصور أصحابها غير محسنين، بل مسيئون.
وهذا وعد الله الصادق: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، بعيدة عن المسيئين، وهي عامة في كل العبادات، ومن أظهرها الدعاء، إذا دعوت الله وأحسنت الدعاء فطبقت تلك القواعد الأربع، فدعوت تضرعاً وخفية وخوفاً وطمعاً، مع عدم اعتداء فيها، إذا أنت وفرت هذه المقتضيات للإجابة فأنت محسن بدعائك، وإن قصرت فما أحسنت، إذاً: لا يستجاب لك.
إذاً: في الآية من سورة محمد صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4]، لا تقصوا أيديهم وأرجلهم وتتركونهم، إذاً: أحسنوا القتل بضربة في الرقبة بالسيف فيسقط ميتاً، فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ [محمد:4] في القتل فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4]، وخذوا الأسرى فاعفوا عنهم أو بادلوهم بغيرهم، والشاهد عندنا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة )، فهذه الشاة لا يجوز أن تضربها بعصا أو بحجر وتأكلها موقوذة، فلا بد من الإحسان، هذا نظام حياتنا، طبخك للشاة، للطعام، للخبز يجب أن تحسنه، والله معك، أما أن تسيء فلا يكون معك، ولا يوفقك لذلك، فهذه الكلمة ما أجلها وما أعظمها: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، بعيدة من المسيئين، فتاجرٌ في تجارته إذا لم يحسنها فلن تتبارك، لا بد من الإحسان في أعمال الدين والدنيا.
ثم إن الذي لا يعرف كيف يتوضأ كيف يحسن؟ الذي لا يعرف الصلاة كيف يحسن صلاته؟ فنعود إلى أنه يجب أن نتعلم، وقد كررنا القول في ولاية الله، فقلنا: ولاية الله لا تتحقق للعبد إلا إذا أحب ما أحب الله وكره ما كره الله، فاسأل عن محاب الله ما هي، ولو أن تسافر خارج بلادك حتى تعرف ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات، لأجل أن تحب ذلك بحب الله، لأنك وليه تحب ما يحب، وتعرف ما يكره الله ويبغض من الاعتقادات الفاسدة والأقوال السيئة والأعمال الطالحة والصفات المذمومة.
فمن يبلغ أمة الإسلام؟ ما الطريق إلى البلاغ؟ هل إذاعة القرآن الكريم؟ لقد بكينا وصرخنا وجاء الله بها، لكن هل أقبلتم عليها؟ يجب أن تبقى مفتوحة في بيتك طول النهار في أربع وعشرين ساعة، لا يسمع في بيتك صوت متكلم إلا من إذاعة القرآن، لا يخرج عن قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن العلم والهداية الإلهية.
وحلق الذكر في بيوت الله وفي بيوت المؤمنين والمؤمنات هي طريق وسبيل تعلم محاب الله وما يكره الله.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
أولاً: وجوب دعاء الله تعالى؛ فإن الدعاء هو العبادة ]، عرفنا وجوب الدعاء من قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ [الأعراف:55]، و(ادعوا) فعل أمر، فإن قلت: لا ندعو فقد عصيت إذاً وكفرت. إذاً: وجوب دعاء الله تعالى، فإن الدعاء هو العبادة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، وورد : ( الدعاء مخ العبادة ) ، فهو لبها وخلاصتها، ودليل ذلك حين ترى من يرفع كفيه يدعو؛ فإنك تعلم أن هذا الفقير المسكين محتاج؛ لأنه رفع كفيه يتضرع.
ثانياً: تعلم أنه مؤمن بالله عارف به، مؤمن بأنه يسمع دعاءه فهو يناديه ويرفع كفه إليه، لو كان هناك غير الله لقال بيديه هكذا أو هكذا، لكن ما هناك إلا رفعهما إلى السماء، فالله فوق عرشه.
كما أنه مؤمن بأن الله يراه وهو باسط يديه، يعلم حاله، يقدر على إعطائه، يسمع صوته وضراعته، وهذه هي العبادة: ( الدعاء هو العبادة )، ( الدعاء مخ العبادة ) ولبها.
[ ثانياً: بيان آداب الدعاء، وهو أن يكون الداعي ضارعاً متذللاً، وأن يخفي دعاءه فلا يجهر به، وأن يكون حال الدعاء خائفاً طامعاً، وألا يعتدي في الدعاء بدعاء غير الله تعالى، أو سؤال ما لم تجر سنة الله بإعطائه ]، كأن يقول: اللهم ردني شاباً وهو في عمر الستين.
[ ثالثاً: حرمة الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله تعالى بالإسلام ]، وهنا مثال قريب: هل المعصية في القاهرة كالمعصية في روما؟ والله ما هما بسواء، هذا بلد إسلامي وذاك بلد كفر. هل معصية في تونس كمعصية في باريس؟ والله ما هما بسواء. هل معصية في المدينة كمعصية في دمشق؟ لا والله.
وخصصنا المملكة بصورة خاصة لأن الله أصلحها بـعبد العزيز وأولاده، والله! لقد أصلحها، كانت القبور تعبد وكانت الأصنام والأوثان والجاهلية لا تتصور، فأصلحها بعبده فأصبحت صالحة، فلا يحل لمؤمن أن يعصي الله هنا بمعصية بعدما أصلحها الله، فالمعصية في دمشق أخف -والله- منها في المدينة، بل معصيته في جدة أخف من المدينة، وهكذا فقيسوا.
[ رابعاً: الترغيب في الإحسان مطلقاً خاصاًوعاماً، حيث إن الله تعالى يحب أهله ].
الأولى: بالأمس قال بعض السامعين: لماذا يقول الشيخ: اجعلوا ورداً بعد الصلاة في: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؟
والجواب: ورد في السنة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. وورد: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. وورد: أستغفر الله، أستغفر الله. كل هذا بعد الصلاة، والأولياء البصراء يأتون بها كلها، ما يكتفون بواحدة، فهذه واردة، ولو كانت غير واردة فهل لا يجوز أن أبحث عن وقت أذكر فيه ربي؟ من يقول هذا الكلام؟ أنت تتحين فرصتك، تقول: هذه نقرأ فيها القرآن، هذه نسبح الله فيها كذا تجعل فيها ورداً.
الثانية: أحياناً يقول بعض الإخوان: ادع الله لنا، لكن ليس هذا لازماً كل يوم ولا كل أسبوع، بل عند الحاجة نرفع أكفنا إلى الله ويستجيب لنا، لكن لا على أنها سنة دائمة، إذ الدعاء ينبغي أن يكون في حال الخفية: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55].
والله تعالى أسأل أن يفتح علينا وعليكم، وأن يرحمنا وإياكم والمسلمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر