إسلام ويب

فقه تربية الأولاد [1]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خير ما يربى عليه الأبناء كتاب ربهم عز وجل، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويتحمل المسئولية في ذلك الآباء، فلو أنهم ساروا على هذا النهج، واختاروا المرأة الصالحة، واعتنوا بتربية أولادهم التربية الروحية اعتناءهم بتربيتهم الجسدية؛ لما فسدت المجتمعات، ولعاش أفراد الأسراة وفق منهج إسلامي قويم.

    1.   

    التربية على ضوء الكتاب والسنة

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

    فحديثنا هو عن فقه تربية الأولاد على ضوء ما ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا على ضوء ما ورد في كتب علم النفس والفلسفة، فخير الهدي -دائماً وأبداً- هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وقال سبحانه وتعالى عن نفسه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فالذي خلقنا وخلق أطفالنا وأولادنا وبناتنا هو الله سبحانه وتعالى؛ فتشريعه خير تشريع، وهدي نبيه خير هدي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    فجدير بنا إذاً أن نتلمس خطى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونتلمس أوامره وآدابه ونطبقها مع أبنائنا حتى يسلم لنا أبناؤنا، لذلك فإن حديثنا عن تربية الأولاد ليس عن تجربة شخصية، فالتجارب الشخصية تختلف من شخص إلى آخر، وليس عن حكاية سُطِّرت فالحكايات ما أكثرها، ولكن من خلال نصوص من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم من أقوال أهل العلم من سلفنا الصالح رحمهم الله الذين هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التابعون، ثم أتباع التابعين، فهؤلاء هم خير القرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

    التضرع إلى الله والدعاء بصلاح الذرية

    أيها الأحبة:

    ابتداءً فليعلم أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى، وهذا شيء مقرر ومسلّم به، قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وقال الله سبحانه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس:100]، وقال سبحانه: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل:93]، فأمر الهداية بالدرجة الأولى موكول إلى الله سبحانه وتعالى، والشقاوة أو السعادة مكتوبة على العبد وهو في بطن أمه، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود وغيره : (إن الملك يأتي فيؤمر بأربع: بكتب أجله ، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد)، كل ذلك مقدر على العبد وهو في بطن أمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً)، فيجب أن يعلم أن المهتدي هو من هداه الله سبحانه وتعالى.

    ويجب علينا أن نتجه إلى ربنا سبحانه وتعالى نسأله إصلاح الذرية، كما هو حال أهل الإيمان، فهم دائماً يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] وقرة الأعين: ما تستقر به العين فلا تنظر إلى غيره.

    مثال ذلك: لو أن عندك زوجة دميمة فإنك كلما رأيت امرأة حسناء اتجه نظرك إليها، بخلاف ما لو كانت زوجتك أحسن النساء ما امتد بصرك إلى غيرها، وكذلك لو كان ولدك أعقل الأولاد وأهدأ الأولاد ما امتد بصرك إلى غيره، ولذلك كان أهل الإيمان يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] أي: ما تستقر به الأعين وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].

    وذكر الله سبحانه وتعالى حال هذا الرجل الذي بلغ أشده وبلغ أربعين سنة فقال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15] فدعا ربه أن يصلح له ذريته.

    وهكذا أيضاً إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، يقول: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، ويطلب زكريا عليه الصلاة والسلام نحواً من هذا فيقول: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:5-6]، ويقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].

    فالصلاح والهدى في الأصل من الله سبحانه وتعالى.

    وهذا يوسف صلى الله عليه وسلم تربى في بيوت الملوك من أهل الكفر، ثم أخذ وألقي به في السجن مع طائفة من المجرمين الخمارين، والسرق واللصوص، ومع ذلك كله حفظه الله سبحانه وتعالى، حفظه وهو غلام وسيم أوتي شطر الحسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتي يوسف صلى الله عليه وسلم شطر الحسن) -أي: نصف جمال الكون- ومع ذلك حفظه الله سبحانه، فلم تمتد إليه يد عابث وتناله بشيء من السوء.

    وهذا الغلام صاحب قصة أصحاب الأخدود أبواه كافران، ولم يذكر عنهما الإيمان، وأرسل كي يتعلم السحر، فمن الذي هداه إلى الراهب كي يتعلم منه الإيمان ويكون من أمره ما كان؟! إنه الله سبحانه وتعالى.

    فجديرٌ بنا أن نتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، ونبتهل إليه كي يصلح لنا الذريات، فهذا شأن أهل الإيمان، فهم دائماً يطلبون من الله سبحانه وتعالى أن يصلح لهم النية والذرية، فإن المؤمن مهما أوتي من براعة وطاعة لله وفنٍ للدعوة إلى الله فأمر الهداية ليس إليه، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام ينادي ولده يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42] فيقول الولد الشقي: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43] ولم تجد دعوة نوح صلى الله عليه وسلم مع ولده.

    فجديرٌ بنا أن نكثر من الدعاء لصلاح الذريات، وبعد ذلك كل ما سيأتي إنما هو من باب الأسباب والمسببات.

    أهمية الأخذ بالأسباب في تربية الأولاد

    لقد جعل الله سبحانه وتعالى للأسباب دوراً في صلاح الأبناء، فمن سلك أسباب الخير فتحها الله له وزاده هدى، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الليل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى [الليل:5] أي: أعطى المال وأنفقه في سبيل الله وفي أوجه الخير وَاتَّقَى [الليل:5] أي: اجتنب محارم الله، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:6-7] أي: سنهيئه لعمل الخير، فهو قدم خيراً ففتح الله له سائر أبواب من الخير.

    وفي المقابل: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:8-9] فهذا الذي سلك هذه الأسباب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:10] أي: سنوفقه ونهيئه لعمل أهل الشقاوة -والعياذ بالله- فإذا سلكت أسباب الهداية والتمستها نور الله لك بصيرتك، وفتح لك أبواباً أخر من أبواب الخير، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

    وإذا أمعنت النظر في كتاب الله اتضح لك هذا المفهوم وضوحاً جلياً، والله يقول في شأن نبيه موسى صلى الله عليه وسلم: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14] فدل على أنه قدم إحساناً ثم آتاه الله الحكم والعلم، وقوله تعالى وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14] فلما قدم إحساناً آتاه الله حكماً وآتاه الله علماً.

    وكذلك قال الله في شأن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فطمع إبراهيم أن تكون كل ذريته أئمة، فقال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، وفي الآية الأخرى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا [الصافات:113] أي: إبراهيم وإسحاق مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113].

    وقال تعالى في شأن بني إسرائيل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فلما قدموا الصبر واليقين جعل الله سبحانه وتعالى منهم هؤلاء.

    وقال سبحانه في شأن لوط عليه السلام وقومه الذين آمنوا به: نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ [القمر:35]

    فلزاماً أن تلتمس الأسباب المؤدية إلى الخير، فإذا التمست هذه الأسباب فتح الله لك أبواب الخير باباً تلو الباب، أما إذا التمست أسباب الشر فكذلك تُهيأ للشر وأعمال أهل الشر، قال الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة:127]، وقال: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]، وقال: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166]، وقال: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44].

    1.   

    الأسباب المعينة على صلاح الأولاد

    استقامة الأباء وصلاح أحوالهم

    أولاً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: أن تستقيم أنت في نفسك وتعمل الصالحات، فلعمل الصالحات منك انعكاسٌ على أولادك، فتطييبك لمطعمك ومشربك له انعكاس على أولادك، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] فصلاح الآباء اتجه أو عاد على الأبناء بالنفع، وتحمل الخضر وموسى عليهما السلام المشقة لبناء الجدار بدون أجر، قال الله سبحانه: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82] هذا كله لصلاح الأب، وأيضاً ورد أن بعض السلف ونسب القول إلى سعيد بن المسيب أنه قال لابنه: (يا بني! لأزيدن في صلاتي من أجلك) يعني: لو كنت أصلي ركعتين فأصلي أربعاً أو ستاً من أجلك؛ لأن الله قال: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]

    وهذا المعنى يتأيد بقوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] فقولك السديد يبقى أثره إلى الأولاد، فإذا تكلمت كلاماً سديداً في مجلس فيه حقوق للأيتام ستضيع فهذا القول السديد يبقى لك، ويخلفك الله سبحانه وتعالى في بنيك بسبب هذا القول السديد، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] فعموم أعمال الصالحات وأعمال البر من الرجل تنعكس إيجابياً على أبنائه، فهو في نظرهم القدوة والأسوة.

    اختيار الأم الصالحة

    ثانياً: من الأسباب التي تعين على صلاح الأولاد: اختيار الأم: فعلى الوالد أن يتخير أم الولد ابتداءً، وهذا مطلب شرعي لنفسك ثم لبنيك من بعدك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان صفات المرأة التي تختار: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) وبعض هذه الصفات لها انعكاس على الأولاد، فالمرأة الجميلة في الغالب أن أولادها يكون في وجوههم مسحة جمال، ولذلك ورد عن معاوية أنه أتى بجارية بيضاء فزوجها لرجل أسمر وقال له: (بيض بها بنيك).

    وكما أن الجمال ينعكس على الأولاد فالذكاء أيضاً ينعكس وكل هذا بإذن الله، والثراء أيضاً، فإذا تزوجت امرأة ثرية فثراؤها يعود على الأبناء كما هو واضح، لكن محل هذا كله إذا كانت المرأة ذات دين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) أما إذا لم تكن ذات دين فهي كما قال تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، وقال: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، فعلى الشخص أن يتخير امرأة صالحة لأبنائه تعلمهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخلاق الأم وطباعها ينعكس على البنين والبنات.

    والرجل إذا اختار المرأة الصالحة وتزوجها فسيبدأ حياته معها بما يرضي الله ثم يكون هذا الزواج في خدمة الأطفال وهذا هو الذي يهمنا.

    إذا اخترتها ودخلت بها فافعل ما قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادماً فليأخذ بناصيته وليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه) ثم إذا جاء بعد ذلك يجامعها يقول ما علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أما إن أحدكم لو أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما ولد لم يضره شيطانٌ أبداً) أي: لم يضره شيطان بشرك أو بمعصية كبيرة لا يتوب منها على ما فسره بعض العلماء، أما صغار المعاصي فلزاماً أن يقع فيها العبد، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدركٌ ذلك لا محالة)، وغير ذلك من الأحاديث.

    تعويذ الأبناء بالأدعية الشرعية

    ثالثاً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: إذا جامع الرجل أهله تعوذ من الشيطان ودعا بصلاح الذرية، كما قالت أم مريم عليها السلام، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] فتبدأ عمليات التعويذ اليومي المستمر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عينٍ لامه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يعوذهما بهذه التعويذات: (إن أباكما إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما السلام).

    وإذا لم تكن تحفظ هذا التعويذ فعوذ بالمعوذات، فأفضل ما تعوذ به المتعوذون: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، و: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] فتبدأ يومياً في مرحلة تعويذ البنين والبنات، حفاظاً عليهم من سهام الأعين والحسد، وسهام إبليس ووسوسته، فكل هذه جنود لا نراها، ولكن لها تأثيرات -بإذن الله- في الصبي، ولا يخفى عليكم أن النبي صلى الله عليه وسلم زار امرأة جعفر بعد قتله فرأى نحافة الأبناء، وقال لها: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة -أي: نحيفة - قالت: يا رسول الله! تسرع إليهم العين، قال: فاسترقي لهم) أي: اطلبي لهم من يرقيهم. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على وجه جارية لـأم سلمة سفعة، والسفعة هي التغير والسواد، فسأل عن ذلك، فقالت: إن بها النظرة يا رسول الله! قال: (فاسترقي لها) فيسن التعويذ بما ورد في سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي سنن ثابتة.

    وأيضاً: يحفظ الأولاد في أول الليل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم واذكروا اسم الله، وأوكئوا القردة، واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله) الحديث، وفي رواية في مسلم (فإن للجن انتشار وخطف) فالشاهد أنه قبيل المغرب يكف الصبيان عن الخروج حتى لا يبطش بهم الجان، ونحن مسلمون نؤمن بالغيب كما قال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، وهذا فارق ما بين أهل الإسلام وبين أهل الجحود والكفران.

    أيضاً: يمنع الصبيان من الخروج في هذا الوقت الذي تنتشر فيه الشياطين كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (فإذا ذهبت ساعة من العشاء فحلوهم).

    مداعبة الأطفال بما يناسب سنهم

    رابعاً: من الأسباب التي تعين على صلاح الأولاد: مداعبتهم وملاطفتهم بما يناسب سنهم: ومع التعويذ تبدأ مسألة الملاطفة مع الأطفال في صغرهم، ولنبينا صلى الله عليه وسلم هديٌ واسع في هذا الجانب، فالولد لا يتحمل التعليم لأول وهلة، إنما تمر عليه فترة يكتشف فيها، ومن ثم يعطى الجرعة المناسبة له من التعليم.

    قد كان النبي صلى الله عليه وسلم لطيفاً رقيقاً مع الأطفال عليه الصلاة والسلام، فقد جاءه رجلٌ من بني تميم فرآه يقبل بعض أبنائه، فقال: يا رسول الله! تقبلون أبناؤكم؟! إن لي عشرة من الولد لم أقبل أحداً منهم قط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أملك لك إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الأطفال، ويداعبهم عليه الصلاة والسلام.

    قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان لي أخٌ يقال له: أبو عمير ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إليه فيقول: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) كان لـأبي عمير طائر يربطه ويلعب معه، وكلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيت ناداه: يا أبا عمير! ، وكناه بهذه الكنية؛ ففيه جواز تكنية الصغير، أي: يجوز لك أن تكني ابنك وهو صغير، وهذه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فرآه حزيناً فقال: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ فقالوا: مات النغير يا رسول الله!)

    فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمازح هذا الطفل ويداعبه؛ إذ سنه وعمره لا يتحمل إلا هذه المداعبة وهذا التلطف، وكناه النبي صلى الله عليه وسلم باسم يحبه، ولذلك يلزمك أن تختار لولدك اسماً طيباً حتى لا تسبب له ألماً بعد ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى عليكم غير اسم عاصية إلى جميلة، فيسن أن تختار للولد اسماً طيباً حتى يشكرك بعد ذلك ولا يتأذى من اسمه أمام الناس، ويسن أيضاً أن تعق عنه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة).

    فالشاهد: أن الرسول كان يتلطلف مع الصبيان.

    قال أنس : (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يقل لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لما تركته). وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً عليه الصلاة والسلام.

    غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم

    خامساً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم: فيسن أن تغرس الثقة في نفوس الأطفال، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سلك هذا المسلك وسلكه من بعده أصحابه رضوان الله عليهم.

    فعليك أن تكتشف وتختبر مدى فهم هؤلاء الأطفال الذين أمامك، وهل يفهمون أو لا يفهمون، وبعد ذلك ترتب على هذا التعامل مهم.

    وقد ورد في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما لطم الجارية وجاء آسفاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أغضب كما يغضب البشر، فكانت لي جارية ترعى غنماً لي، فعدت الذئب على شاة فأخذتها فلطمتها -أي: لطم الجارية على وجهها- فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فسألها: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) فأخذ بعض أهل العلم من هذا: جواز الاختبار لاستكشاف ما عند الشخص، ثم ترتيب العمل بناءً على هذا الذي يصدر منه بعد الاستكشاف.

    وينبغي أن يكرم الولد النبيه ويشجع حتى يستمر في نباهته وإقباله على الخير، فـعبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً ولكنه كان نبيهاً ذكياً، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين. قال عبد الله بن عباس : دخل النبي صلى الله عليه الخلاء فأتيته بماء كي يتوضأ به، فوضعته أمام الخلاء، فخرج فقال: من وضع هذا؟ فقالوا: عبد الله بن عباس ، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم لفهمه.

    وفي هذا: جواز خدمة الصغير للكبير، فـعبد الله بن عباس وضع الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنس كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في أول الإسلام قال أنس : (كنت ساقي القوم يوم نزل تحريم الخمر، وكان شرابهم النبيذ وكنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب فلما نزل قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] قال أبو طلحة : يا أنس ! قم إلى هذه الدلال فاكسرها، أو فاهرقها).

    الشاهد: أنه يسن أو يشرع أن يقوم الصغار بخدمة الكبار، ويتمرنون على ذلك، بل ويتمرنون أيضاً على البيع والشراء، ونحو ذلك.

    وقد ورد في ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت أسماء بنت عميس كما سبق، فرأى عبد الله بن جعفر وكان صغيراً، فقال: (اللهم بارك لـعبد الله في صفقة يمينه) فكان عبد الله تاجراً مع أنه كان صغيراً، وكان يربح أرباحاً طائلة رضي الله عنه ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    فالشاهد: أن الأطفال يستكشفون، ومن وجد منهم فيه نباهة حُمّل من التعليم ما يوازي نباهته وفهمه، ويكرم ويشجع على هذه النباهة، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر يدخل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما مع كبار السن من الصحابة، ويجلسه معهم في المجالس، وفيهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان علي بن أبي طالب وكان لا يتجاوز عمره العشرين سنة وهو يجلس مع هؤلاء الكبار من أهل الشورى، فقال بعض الصحابة لـعمر : ما لك تدخل هذا الصبي وتجلسه معنا ولنا أبناء أكبر منه سناً؟ فقال: إنه من حيث علمتم - أي: أنه ابن عم رسول الله وقد دعا له بالفقه في الدين- ثم استدعاه يوماً فقال له أمامهم: يا ابن عباس! ما تقول في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2]؟ فأما الصحابة ففسروها بالظاهر وقالوا: إذا جاء نصر الله ورأينا الناس يسلمون نحمد الله ونستغفره. فقال عمر: ما تقول أنت يا ابن عباس ! في هذه الآية؟ قال: أما أنا فلا أقول مثل مقالتهم يا أمير المؤمنين، قال: إذاً فما تقول؟ قال: أقول: إن الله نعى إلى النبي أجله في هذه الآية، قال عمر : وأنا كذلك لا أعلم منها إلا الذي تعلم. وكان الأمر كذلك فقد مات الرسول بعد نزول هذه السورة بفترة وجيزة، وهي آخر سورة كاملة نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    فـابن عباس قاس الأمور، وعلم أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ لأنك إذا نظرت ترى أن المجالس تختم بالاستغفار: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، والصلوات تختم بالاستغفار: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

    ونوح لما انتهى من رسالته ختم الرسالة بقوله بعد أن أغرق الله قومه وأهلكهم: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28]، فيطرد أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ فلذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله.

    فكان عمر يكرم عبد الله بن عباس.

    وهكذا فكل من وجدت فيه نباهة ينبغي أن يكرم ويشجع حتى يواصل العطاء، فرب كلمة طيبة يتحول بسببها شخص من الفساد أو الكسل إلى الصلاح والنشاط.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767222259