أما بعد:
العنوان كما سبق أن أشرنا: (مقترحات في اغتنام الوقت).
لاشك أن الحديث عن الوقت، وعن أهميته وفضله، وضرورة اغتنامه، حديث ربما يكثر في مجالسنا، وفي مناسباتنا، وفي منتدياتنا، ونسمع الحديث الكثير ممن يتحدث عن الوقت مستشهداً على ما يقول ببعض النصوص الشرعية، ثم بأقوال السلف، وأعمالهم وأحوالهم في اغتنام أوقاتهم.
وحين يعيش المرء مع ذلك؛ فإنه يرى العجب العجاب من سير القوم، ويطمح فعلاً إلى أن يدرك أهمية الوقت، ويحرص على اغتنامه.
وأظن أن جميع الناس في الجملة يدرك إدراكاً نظرياً ومعرفياً أن الوقت مهم، وأن الوقت قصير، لكن ما هو حجم هذا الإدراك؟ ثم ما مدى تحول هذا الإدراك إلى سلوك؟ أعني هل تحكم هذا الإدراك في سلوكه فصار سلوكه في التعامل مع وقته هو سلوك ذاك الذي يدرك أن الوقت هو الحياة؟ وأن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك؟ وأن الوقت هو عمر الإنسان؟ وكل ما مضى من الوقت إنما هو جزء يختصر من عمر الإنسان؟ هل هؤلاء يدركون هذا الأمر حقيقة الإدراك أم لا؟
أظن أن الكثير من الناس إن أدرك شيئاً من ذلك إدراكاً نظرياً ومعرفياً إلا أن هذا الإدراك لم يتحول إلى سلوك، أو -على الأقل- أن سلوكه لم ينضبط بمثل هذا الإدراك وبمثل هذه النظرة لوقته.
آثرت أن يكون الحديث حول هذا الجانب بالذات؛ لأن الحديث -كما قلت- عن أهمية الوقت، وإيراد الشواهد على ذلك.
ثم أيضاً هو حديث جميل ومفيد، ويؤثر في النفس ولا شك، لكن أشعر أن تحديد خطوات عملية نعيشها في حياتنا اليومية ربما يكون أكثر أثراً، وربما نكون أكثر حاجة إليه.
وآثرت التعبير بالمصطلح النبوي تبركاً وتيمناً بهذا التعبير، ولا شك أن المصطلحات الشرعية التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلما حافظنا عليها فهو أولى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اغتنم خمساً قبل خمس، ومنها: فراغك قبل شغلك).
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الخاسر في وقته إنما هو مغبون كالذي يبيع سلعته بأقل مما تستحق، أو يشتريها بأكثر مما تستحق، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
وذلك أن كثيراً من الناس مغبون، فقد تهيأت له نعمة الصحة، ونعمة الفراغ، لكنه لم يغتنمهما الاغتنام الذي يستحق، فكأنه قد خسر خسارة كبيرة، وهو حين ينفق وقته فيما لا يستحق، أو في أقل مما يستحق، فإنه يكون مغبوناً في وقته.
وفرق بين اغتنام الوقت واستثمار الوقت، وبين الاغتنام الأمثل للوقت، الذي ينبغي أن يكون هو شعارنا؛ ولهذا فإن الذي يشتري السلعة التي تساوي عشرة بثلاثين يعتبر مغبوناً، والذي يشتريها بعشرين يعتبر مغبوناً، والذي يشتريها بخمسة عشر مثلاً يعتبر مغبوناً، كذلك الذي يغتنم جزءاً من وقته، ويضيع الجزء الكبير فهو مغبون، وإن كان الغبن يختلف ويتفاوت بين الناس.
وإدراك هذا المعنى الدقيق في الحديث يجعلنا ننظر إلى قضية اغتنام الوقت نظرة أدق، وأن نحاسب أنفسنا على الوقت الذي يضيع أكثر مما نحاسبها على الوقت الذي نغتنمه.
أحياناً يعتبر الإنسان أنه اغتنم ساعات أو أوقاتاً، ويرى أن هذه خطوة إيجابية، أو يرى أن هذه صورة من صور اغتنامه للوقت، بينما المفروض أن ينظر ما هي الأوقات التي تضيع؛ لأن الأصل أن يغتنم الأوقات كلها، ويحاسب نفسه على الوقت الذي يضيع.
واغتنام الوقت أمر يتفاوت، فليس هو درجة واحدة، والغبن للنفس في هذا يتفاوت.
لو تأملنا واقع الناس لرأينا أن هناك صنفين من الناس في عصرنا يحرصون حرصاً شديداً على اغتنام أوقاتهم:
أولهم: رجال الأعمال والتجارة، فإنهم يدركون أهمية الوقت جيداً، وهم من أحرص الناس على اغتنام الأوقات، ألسنا مثلاً نفتقدهم كثيراً في المناسبات العائلية، وحتى إذا حضر هذه المناسبات فإنه مربوط ببرنامجه، ربما اعتاد كثير من الناس حين يتناولون طعام الغداء سوياً أن يجلسوا بعد صلاة العصر، أنت لو جلست بعد صلاة العصر لفقدت هؤلاء؛ ذلك أن هؤلاء يدركون للوقت قيمة أكثر من غيرهم من الناس، ولا شك أن هذا أمر مدرك ومجرب.
والصنف الثاني: هم الأعداء، فإنهم يهتمون بأوقاتهم كثيراً، وهناك في علم الإدارة ما يسمى: إدارة الوقت، وهو علم يدرسه رجال الأعمال، ويصنف فيه خبراء يقرءون وينظمون دورات لتعليم فن إدارة الوقت، بل ربما نجد أن بعض ما نقوله هنا هو مما سطره أولئك، ومما أخذ منهم، (الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أولى بها).
ومن المؤسف أن يكون أعداؤنا أكثر حرصاً على الوقت منا على كل المستويات، فلو نظرت إلى اليوم الدراسي في العالم الإسلامي، واليوم الدراسي في العالم الغربي، لوجدت أن النسبة تختلف كثيراً، ولو نظرت إلى ساعات العمل الوظيفية، لوجدت أولئك أكثر اغتناماً لأوقاتهم.
بل الكثير من الناس يستغرب حين تطالب منه الانضباط بموعد من المواعيد، ويستغرب حينما يرى إنساناً يهتم بتسجيل المواعيد وضبطها، ذلك أن الأصل في حياتنا هو الفوضى والتسيب.
هؤلاء الأعداء هم حطب جهنم، ولا شك أنهم خسروا الخسارة الكبرى في أوقاتهم حين عمروها بمعصية الله عز وجل، فما بالهم يغتنمون الوقت، ويحرصون على إجراء الدراسات والبحوث عن مضيعات الوقت، ومشتتات الوقت، والوصول إلى نظريات مثلى في إدارة الوقت، ما بالهم يحرصون على ذلك، ونغفل نحن عنه، ونحن نعتبر أن الوقت هو حياتنا، وأن الوقت هو عمرنا.
وحين نتأمل مثلاً في سيرهم، وهم يتحدثون عن القراءة، ربما تجد جزءاً كبيراً من تلك القراءة التي يتحدث عنها أولئك قراءة غير مفيدة، فهو مثلاً يقرأ كثيراً في كتب الروايات، أو كتب القصص، أو في كتب لا تستحق أن يضيع المرء فيها عمره المحدود، لكن هم في الجملة يقرءون ويدركون قيمة الوقت.
بل إن الوجه الآخر والصورة الأخرى من حال أولئك، أنهم يقضون أوقاتاً هائلة لأمور تافهة، من ذلك مثلاً: أن هناك في فرنسا أكاديمية تسمى أكاديمية السخرية، وتجري مسابقة في البشاعة، فالذي يستطيع أن يحول وجهه إلى أبشع صورة يأخذ كأس أبشع وجه، وحصل على هذا الكأس أحدهم مرتين متواليتين، فأراد الآخر أن ينافسه، وجلس يتدرب لمدة سنة، كل يوم يتدرب ثمان ساعات لتحويل وجهه إلى وجه بشع، واستطاع أن يفوز بالكأس في المسابقة الثالثة.
فهذه صورة من صور اغتنام الوقت عند أولئك، ولا شك أن هذا يعتبر أكبر اغتنام للوقت حينما ينفق ثمان ساعات في تحويل وجهه إلى صورة بشعة، وقد خلقه الله عز وجل في أحسن تقويم.
فالذي يقضي ثمان ساعات كل يوم لأجل أن يحول وجهه إلى صورة بشعة وقذرة، أظن أن الهدف الذي عنده أهون بكثير من أهدافنا، فنحن نستهدف رضا الله عز وجل، ونستهدف أن نغتنم أوقاتنا في أمر نلقى فيه إجابة حين نسأل يوم القيامة عن أعمارنا فيما أفنيناها، ونحن نتطلع إلى أن نعمر أوقاتنا بعبادة الله عز وجل، وتحصيل العلم الشرعي، والدعوة إلى الله، ونفع الناس، وتقديم أمور لا يمكن بحال أن تقارن بحال مثل هذا السفيه وغيره.
على كل حال أردت بهذا الاستطراد أنه قبل أن يتحدث الناس عن اغتنام أولئك لأوقاتهم، وعن أنهم فاقوا المسلمين في اغتنام الوقت، لكن هذا لا ينسينا أن أولئك حطب جهنم، وأنهم غفلوا عن الاغتنام الحقيقي والأساس للوقت، وربما نجد صوراً كثيرة من إضاعة الوقت عند هؤلاء، كما سبق أن أشرنا.
فالذي لا يدرك أهمية الوقت لا يمكن أن يغتنمه، فعلى سبيل المثال: من ليس عنده عمل فهو في فراغ أربع وعشرين ساعة فلو أتيت إلى أحد الشباب الفارغين، وقلت له: الآن أمامك يا أخي وقت فراغ لمدة ساعة أو نصف ساعة ينبغي أن تستغله أو تغتنمه، فإنه لا يعرف أهمية هذا الكلام، ويشعر أن هذا الكلام غير معقول؛ لأنه أصلاً لا يدرك أهمية الوقت، فليس عنده مشكلة في أن يجلس للحديث مع زملائه من بعد العصر إلى وقت متأخر من الليل ويعود بعد ذلك وهو لا يشعر أنه خسر شيئاً، أو أضاعه، أو أن هناك أي خسارة تحققت من وراء ذلك.
هذا يجب أن نقنعه بأهمية الوقت قبل أن نتحدث عن كيفية استغلاله.
إذاً: يجب أن نقتنع ابتداءً بأن الوقت مهم، وإذا لم نقتنع أن الوقت بهذا القدر من الأهمية فلا يمكن أن ننجح في جميع الخطوات التي تأتي، وأن نكون شحيحين بالوقت.
ومن الأمور التي تجعلك تدرك أهمية الوقت: أن تدرك أن اليوم لا يمكن أبداً أن يزيد على أربع وعشرين ساعة، ولا الأسبوع على مائة وثمان وستين ساعة، ولا السنة على ثمانية آلاف وسبعمائة وست وستين ساعة، أي أن هناك ساعات محددة لا تزيد ولا تنقص للسنة والشهر واليوم.
ثم أيضاً إذا مضت ساعة فهذا يعني أن هناك ساعة من عمرك انتهت، وأنك ابتعدت عن الدنيا ساعة، واقتربت إلى الآخرة ساعة، وهذه الساعة لا يمكن أن تعود.
وحينما نتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)، فإذا كان أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يغتنموها في ذكر الله عز وجل؛ حتى يكون ذلك رفعة في درجاتهم، فكيف بمن لم يضمن الجنة؟!
ويقول الحسن رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على دراهمكم ودنانيركم.
وهذه لغة لا يفهمها كثير من الناس، فأنت تستطيع أن توفر جزءاً من وقتك بدراهمك ودنانيرك، والدراهم والدنانير تذهب وتعود، لكن الوقت يذهب ولا يعود.
مثلاً: البعض من الناس عندما يريد أن يشتري أي غرض من الأغراض يفضل أن يذهب إلى سوق رئيس، فلو أراد أن يشتري مثلاً فاكهة، يفضل أن يذهب إلى سوق الخضار الرئيس، وهذا يتطلب منه بذل الكثير من الوقت في الذهاب والعودة، بينما يستطيع أن يشتري ذلك من مكان أقرب منه، وربما يزيد مبلغاً يسيراً من المال، لكنه يوفر بذلك الأمر الذي لا يمكن أن يوفره أبداً وهو الوقت.
وقل مثل ذلك في قضايا كثيرة، فالوسائل المعاصرة مثلاً يمكن أن تختصر كثيراً من الأمور فتوفر على الإنسان جزءاً من وقته، فهل نفكر هذا التفكير فنشتري الوقت بالدراهم والدنانير؟
وإذا تأمل الإنسان في الوقت وجد جزءاً كبيراً من الوقت يمضي في النوم، وجزءاً في الراحة، وجزءاً في الطعام، وجزءاً في التنقلات، ووجد أن الوقت الباقي له يسير جداً.
كما قال الأول:
إذا كملت للمرء ستون حجة فلم يحظ من ستين إلا بسدسها
ألم تر أن النصف بالنوم حاصل وتذهب أوقات المقيل بخمسها
فتذهب أوقات الهموم بحصة وأوقات أوجاع تميت بمسنها
فحاصل ما يبقى له سدس عمره
ممكن أن نختلف نحن في النسبة، لكن افترض على أقل الاعتبارات أن الإنسان ينام ثمان ساعات، فإذا كان عمره ستين سنة، ذهبت في النوم عشرون سنة، أي أن ثلث وقته ذهب في النوم، ثم احسب بعد ذلك أوقات الراحة، وأوقات التنقلات وغيرها، ستجد أنه لم يبق له إلا الوقت اليسير، وهذا لا شك يدعوه إلى أن يحرص على اغتنام هذا الوقت اليسير، مع أنه إذا احتسب نومته، واتبع السنة في ذلك فإنه لا شك يؤجر على مثل هذا الوقت.
من الأمور المهمة التي تعين الإنسان على إدراك أهمية الوقت: هو أن يدرك أن الوقت الذي يضيع لا يمكن أن يعوض:
بعض الناس ضاع عليه عصر هذا اليوم، فيقول: إن شاء الله أريد أن أعوض وأستغل عصر غداً، ويتصور أنه عوض هذا الوقت، وهذا الكلام غير صحيح، فإن الوقت الذي ضاع لا يمكن أن يعوض؛ لأن عصر الغد له واجب آخر.
ولهذا لما ثقل عمر بن عبد العزيز عن عمل قيل له: أخره إلى الغد، قال: إذا عجزت عن عمل يوم، فكيف إجمع علي عمل يومين؟!
هؤلاء الذين يدركون الوقت حقيقة، ونحن بحاجة إلى أن نعود إلى سير أولئك ونقرأ فيها؛ لنعرف كيف كانوا يحرصون على اغتنام الأوقات.
عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعتبر أن كل يوم له واجب معين، وله برنامج وأهداف يجب أن يحققها في هذا اليوم، إذا أخرت عمل اليوم فلا يعني أني سأقضيه في الغد، بل سيكون هذا على حساب الواجب الذي أقضيه في الغد.
ولهذا عندما تضيع علي موعداً، فليس صحيحاً أنك ستعوضني في المستقبل.
وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذا في المدارج فله كلام جميل حول الوقت، وحاصل ما قاله: أن الوقت هذا لا يمكن أن يعوض؛ لأن ما يستقبل من الوقت له واجب جديد لا يمكن أن تقضي فيه الواجب الذي قد فوته في هذا الوقت الذي ضيعته بالأمس.
وهذه من أهم القضايا، فأحياناً يشعر الإنسان مثلاً أنه قرأ في هذا الوقت، أو أنه زار أخاً له في الله، أو عمل أي عمل من الأعمال، فيعتبر أنه اغتنم الوقت بشيء مفيد واستفاد من الوقت، وهذا صحيح، لكن يجب أن تضع أولويات للوقت.
وأظن أن سلف الأمة أدركوا هذا المعنى جيداً حينما قالوا: إن من مكائد الشيطان أن يشغل الإنسان بالعمل المفضول عن العمل الفاضل. فمن اشتغل بالعمل المفضول فقد استفاد من الوقت، لكنه ما راعى الأولويات، والسلف لم يعبروا هذا التعبير، لكنهم كانوا يراعون هذا الأمر فعلاً، وكانوا يخصصون الأوقات، هذا للعبادة، وهذا للتعليم، ويرفضون أن يعتدي أحد على مثل هذه الأوقات، وكانوا يرون أن هذه أولويات في تحديد الوقت.
وفي الجملة فتنبيههم العابد إلى أن يحذر من تلبيس الشيطان عليه بإشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل لا شك أنه دليل على اعتبار هذه القاعدة الذي يعبر عنها من يكتب الآن في إدارة الوقت بتحديد الأولويات.
وهنا سؤال: هل صحيح أن أكثر الناس انشغالاً هو أكثر الناس إنتاجاً؟ ربما نتصور ذلك، لكن ليس ذلك متحققاً بالضرورة، فقد ينشغل الإنسان كثيراً لكن طريقته في إدارة وقته وإدارة عمله غير منتجة ولا عملية، فيصبح أقل إنتاجاً.
ولنفترض مدير مؤسسة أو شركة يربط الأعمال كلها به، وتراه مشغولاً، ومكتبه مليء بالأوراق، ويحمل معه إذا ذهب إلى المنزل جزءاً كبيراً من هذه الأوراق، وحين تراه يعمل تشعر أنه مخلص، وأنه إنسان منتج، وتتصور أنه أكثر الناس إنتاجاً، فلا شك أن هذا إنسان جاد مخلص، لكن ليس بالضرورة أن يكون أكثر الناس اغتناماً للوقت، ربما تجد رجلاً آخر يجد وقت فراغ، لكنه نظم وقته بطريقة معينة، وحدد أولوياته، وصار أكثر إنتاجاً.
ولهذا رفعت الجمعية الأمريكية لتقييم المهندسين شعاراً يقولون فيه: اعمل بطريقة أذكى، لا بمشقة أكثر.
وهناك دراسات أجريت على عدد من الناس الذين يصرفون أوقاتهم في جزء من العمل، وتوصلت إلى نتيجة صارت مبدأ مشهوراً يسمونه مبدأ بارفيو يقول فيه: إن الكثير من المديرين يبذلون أربعة أخماس وقتهم في القيام بواجبات ومسئوليات تتصل بخمس ما يحققون من نتاج.
يعني: أن الكثير من هؤلاء يبذل (80%) من الوقت في تحقيق (20%) من النتائج، وبعبارة أخرى: أنهم لا يحسنون تحديد الأولويات في أوقاتهم.
للأسف أن هذه القضية غائبة عنا، فنحن أحوج ما نكون إلى إجراء مثل هذه الدراسات في أوقاتنا، وأظن أننا سنجد مشكلة كبيرة لو أجريت الدراسات عندنا في كيفية قضاء أوقاتنا، ربما تجد بعض طلاب العلم في العالم الإسلامي مشغولاً بأعمال يمكن أن يقوم بها غيره، أو أعمال ربما يعينه غيره عليها فيوفر عليه جزءاً كبيراً من وقته، فيتفرغ هو للاغتنام الحقيقي للوقت، وهذه الأعمال -لا شك- تشغله عن أعمال أهم منها كما سيأتي.
إذاً: لا يكفي أن نشعر أننا استفدنا من الوقت، بل يجب أن نضع لنا أولويات، فأنت مثلاً حينما تشعر أنك تقرأ في كتب التراجم ربما تجد أنك أنهيت قراءة كتاب تاريخ بغداد، أو وفيات الأعيان، أو سير أعلام النبلاء، أو غيره، وتتصور أنك وصلت إلى مستوى جيد في اغتنام الوقت، بينما كان يمكن أن تقرأ بدل هذا الكتاب تفسير البغوي ، أو تفسير ابن كثير ، أو تقرأ جامع الأصول.
وأظنكم توافقونني على أن الذي يصرف جزءاً كبيراً من وقته لقراءة التراجم في هذه المرحلة أن عنده مشكلة في تحديد الأولويات، لأنه أحوج إلى قراءة كتب التفسير والحديث، وقل مثل ذلك في أعمال أخرى.
المقصود أن الاستفادة من الوقت لا تعني أنك وصلت إلى القمة، بل يجب أن تراعي الأولويات.
وهذا أمر مهم، وهو يعينك على القضية الثانية، فإنك لا تستطيع أن تحقق قضية ثانية بدون هذا الأمر، أنت مثلاً مقبل على إجازة، وأمامك وقت هائل في الإجازة، وتريد أن تغتنم وقتك، لكن بعدما تنتهي الإجازة تشعر أن هناك أوقاتاً هائلة ضاعت عليك لم تستطع أن تغتنمها.
ما هو السبب؟ أظن أن من أسباب هذه المشكلة أنك لم تحدد لك أهدافاً، لكن لو حددت أهدافاً فقلت مثلاً: إجازة الربيع أسبوعان، أريد أن أقرأ فيها تفسير ابن كثير مثلاً، أو حددت لك أهدافاً دعوية، وأهدافاً في التحصيل العلمي، وأهدافاً في القراءة، وأهدافاً تراعي فيها ما سيأتي من وسائل وأمور مهمة؛ وتكون أنت تضع هذه الأهداف بصورة غير واقعية -كما سيأتي-، أو أيضاً بصورة غير مراع فيها الأولويات.
المهم أنك تضع لك أهدافاً، هذه الأهداف تعينك على ضبط الأولويات، لأنك حينما تريد أن تضع الأهداف تتساءل عن الأولويات، ولنفترض أنني في الإجازة سأخصص جزءاً من الوقت لأنشطة دعوية وأعمال دعوية، وجزءاً للقراءة، فسنأخذ مثلاً الجزء المخصص للقراءة، فإذا أردت أن أحدد أهدافاً، قلت: أريد أن أقرأ تفسير ابن كثير في هذه الإجازة، مع أني أظن أنه سهل جداً أنه خلال إجازة الصيف، بل ربما مثلاً إجازة الربيع يستطيع الواحد منكم أن ينهي قراءة تفسير ابن كثير أو تفسير البغوي ، أو غيره من الكتب.
المقصود أني قررت أن أقرأ تفسير ابن كثير ، لكن ربما يأتي شخص آخر فيقول: أنا سأقرأ في الإجازة القاموس المحيط، أو لسان العرب، أو أقرأ سير أعلام النبلاء.
فأنت عندما تريد أن ترسم الهدف، ستراعي الأولويات، تفكر: هل الأولى فعلاً أني أقرأ تفسير ابن كثير ؟ أم أقرأ القاموس المحيط؟ أم أقرأ ديوان الحماسة؟ أم جمهرة أشعار العرب؟ أو أي كتاب.
فأنت حينما تريد أن تحدد الأهداف ستضطر إلى تحديد أولويات، لكن عندما لا يكون لديك أهداف ولا أولويات أصلاً، وتأتي إلى المكتبة بعد الفجر، وتجلس فيها إلى الساعة التاسعة، تنظر في الكتب ربما يقع نظرك على كتاب وتمسك به وتقرأ فيه، وتعجب به، وتستمر فيه، فصار عندك هذا الخلل وهو عدم تحديد الأهداف ابتداءً، والذي لابد أن تضطر معه إلى الأولويات، ربما كان خير معين لك على اغتنام وقتك.
خصص الوقت بطريقة مضبوطة، حتى تعمل العمل المناسب في الوقت المناسب، مثلاً: شخص يريد أن يقرأ كتاباً مركزاً فلا يمكن أن يقرأ هذا الكتاب في وقت الظهيرة مثلاً، وجهاز التكييف الذي عنده مزعج، أو لا يعمل بصورة مريحة، فعندما تريد أن تقرأ عليك أن تختار وقتاً مناسباً، عندما تريد زيارة أو عملاً أياً كان فيجب أن تختار الوقت المناسب.
من ذلك مثلاً العبادة: هناك أوقات مناسبة للعبادة، وهناك أوقات تناسب القراءة، ومن الاشتغال بالعمل المفضول عن العمل الفاضل أن تكون قراءتك وتحصيلك في وقت العبادة، فكان أولى أن تصرفه في العبادة، وتصرف في القراءة وقتاً آخر.
أوقات الهدوء أوقات مهمة جداً، فمثلاً بعد الفجر إلى الساعة الثامنة أو التاسعة في الإجازة وقت مهم ووقت هادئ، فليس فيه احتمال أن يتصل عليك أحد بالهاتف، أو يزورك ثقيل، أو يزعجك طفل من الأطفال، أو يطلبك الأهل، غالب الوقت هادئ، ومن ثم فالجو هادئ، فهذا الوقت يعتبر قمة من الأوقات، لا يمكن أن تصرف هذا الوقت في شيء آخر ثانوي.
جانب مهم أيضاً: طبيعة الشخص: مثلاً الإنسان الذي اعتاد أن ينام بعد الفجر وقتاً معيناً، وهذا يعني أنه لا ينام بعد الظهر، فهو أعلم بنفسه فليست مشكلة، لكن أهم شيء أن تضبط الوقت، ولا يطغى النوم، فلك أن تنام بعد الفجر، أو تنام العصر، لكن تخصص الوقت المناسب لك، فتشعر مثلاً أن وقت الظهيرة مع توفر أجهزة الراحة والتكييف ربما كان مناسباً لك.
عندما تريد أن تزور أحداً أو تستقبل أحداً ينبغي أن تختار الوقت المناسب للزيارة، والذي يضبط الوقت فلا يضيعه عليك، فالزيارة بعد المغرب ربما تكون مناسبة باعتبار أنه وقت قصير، لكن الزيارة هذه الأيام بعد العصر خير وسيلة لإضاعة الوقت، والزيارة بعد العشاء في وقت الشتاء هي الأخرى من أفضل الوسائل لإهدار الأوقات.
كذلك هناك ما يمكن أن يشترك فيه أكثر من عمل، مثل السفر، فإذا سافر الإنسان فإنه يستطيع أن يصطحب معه كتاباً، بعض الأعمال لا تنجزها في أوقات السفر، لا أدري مثلاً ربما أتكلم عن حالتي الشخصية، من أفضل الأوقات لي أوقات السفر، وأجد فيها راحة، وفراغ أكثر بكثير من أوقات الإقامة، فقد يعود هذا لظروف خاصة، وقد يعود لطبيعة معينة؛ لكن أنا أعتبر أن وقت السفر يمكن أن تجمع فيه بين أمرين، فأنت مسافر مثلاً فتقرأ في الطريق، لأنه يتيسر لك فيه وقت، المهم أنك تستطيع أن تجمع فيه بين عملين، لو حسب كل واحد منا كم يقضي في السيارة لوجد وقتاً طويلاً، إذا افترضنا أن طريقك إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل يستغرق منك ربع ساعة، فهذا يعني أنك تستغرق في اليوم نصف ساعة ذهاباً وإياباً، مع أن العادة أن العودة تكون أطول قليلاً بسبب الازدحام، فلنفترض أنه نصف ساعة، وهذا يعني أن عندك في الأسبوع ساعتين ونصف ساعة، وعندك في الشهر عشر ساعات، هذه العشر الساعات هي الوقت الذي تقضيه في الطريق ذهاباً وإياباً إلى مقر دراستك أو عملك، فهل هي مغتنمة فعلاً أو ضائعة؟
أنت مثلاً خلال هذه العشر الساعات ربما تقلب المذياع تبحث عن إذاعة في حالة من الحالات، أو يكون لك شأن آخر فهذا لا يضر إلا إذا قضيت الوقت كله هكذا هدراً، مع أنك لو رتبت لك برنامجاً لسماع بعض الأشرطة، واستطعت أن تسمع بمعدل عشر ساعات في الشهر لكان ذلك حسناً، وهذا إذا افترضنا أنك لا تذهب وتأتي إلا في وقت الدوام فقط، أما لو حسبت الأوقات الأخرى التي تذهب فيها وتأتي فستجد وقتاً كثيراً.
وهذا لا يعني أنك يجب أن تغتنم كل هذه الأوقات، لكن العشر ساعات أعطنا منها خمس ساعات على الأقل، وافترض أنك في الخمس الساعات الأخرى غير مهيأ لاغتنامها.
وإذا صرت مجهداً فاغتنم الوقت بالتفكير، فالتفكير من أهم ما يمكن أن يغتنم به الإنسان وقته، فيفكر في وقته، ويفكر في أمور مهمة يستطيع أن يستفيد منها في دينه ودنياه.
الإنسان على مائدة الطعام يستطيع مثلاً أن يستمع إلى نشرة الأخبار إذا كان حريصاً على نشرة الأخبار، فبدلاً من أن يخصص لها وقتاً يستمع إليها أثناء تناول الطعام، المهم أنك تستطيع أن تجمع بين أكثر من عمل.
إذا كنت تريد إنساناً في مقابلة سريعة ووقت سريع فيمكن أن تلتقي به على وجبة الطعام، فلا تضيع عليك ولا عليه وقتاً، وتستطيع أن تستفيد من هذا الوقت مثلاً في قضاء حاجتك وحاجته.
ربما تحتاج إلى إنسان في موعد، تريد أن تتناقش معه في موضوع، أو تستشيره في أمر، فإذا لم تجد وقتاً فيمكن أن تصحبه في السيارة مثلاً، فتذهب به إلى صلاة الجمعة أو إلى أي مكان فتوفر على نفسك وعليه وقتاً.
المقصود أن هناك أوقاتاً يشترك فيها أكثر من عمل، ويمكن أن يجمع فيها الإنسان أكثر من عمل، فينبغي أن نعتني بها.
بحيث تكون مواعيدنا دقيقة، فكثير من المسلمين اعتاد على المواعيد المفتوحة إلى القمة، تقول له مثلاً: متى تأتي؟ فيقول: آتيك بعد العصر مثلاً، بعد المغرب .. بين الصلاتين .. المصطلح الشائع بعد العشاء.. وقت مفتوح.
تريد أن تقابل شخصاً لقضية سهلة أو استشارة في موضوع، تقول له مثلاً: ائتني بعد العشاء، وتجلس معه بعد العشاء ساعات طويلة، والمقصود من هذه الزيارة لقاء وسلام، وتفقد للأحوال، أو ربما أمر كان يتم بدون ذلك.
لكن لماذا لا نجرب أن نضبط أوقاتنا بدءاً وانتهاءً، فمثلاً بدلاً من أن يكون الموعد بعد العصر نجعله الساعة الرابعة أو الرابعة والنصف أو السادسة، ثم نضبط موعداً لنهاية الوقت، وقد كنت أتصور سابقاً حينما أتعامل مع بعض الناس ومع بعض المشايخ الدقيقين جداً في أوقاتهم، أن هذه صورة من صور تعذيب النفس، لكن عندما جربت ذلك وجدت أنه سهل جداً.
بل وجدت أن قمة تعذيب النفس وقمة الإعياء أنه تحدد موعداً لا تعرف متى يكون، وتعيش في قلق لا تدري متى يأتيك صاحبك، وإذا أتاك لا تدري متى يذهب، فشعرت أن الوضع طبيعي جداً، ويستطيع الإنسان أن يضبط أوقاته.
لكن يجب أن تكون واقعياً، فحينما تضع موعداً الإنسان إلى الساعة الخامسة، فعندما تأتي الساعة الخامسة وخمس دقائق وما أتى فليس معنى هذا أن فيه صفة من صفات المنافقين حتى يدعها، وأنه مخلف الوعد، أو تعتبر أن هذه وسيلة تستحق أن تعاقب عليها فلا تنتظره.
أنا شخصياً أضع فرصة لإنسان في الحدود الطبيعية من عشر دقائق إلى ربع ساعة، فيمكن أنه حدث له عذر أو ظرف، كزحام في الطريق، فإذا تجاوز ربع ساعة شعرت أنه تأخر، لكن الربع ساعة يجب أن تخصمها من الوقت المخصص له، فهو الذي فرط فيه، إذا أعطيت إنساناً موعداً من الساعة الخامسة إلى السادسة وأتاك الخامسة والربع فالمفترض أن نلزم أنفسنا بأن ينتهي الموعد الساعة السادسة، ولا يمكن أن أعوضك؛ لأن الربع ساعة التي أضعتها لا يمكن أن تعوض.
فأنا أكون واقعياً على الأقل فلا ألوم الناس، أنا أفترض أنك ربما تخالفني، لكن على الأقل تحدد وقتاً مسموحاً به أو وقتاً يكون فيه مجال للتأخر.
أيضاً نفس الطريقة في انتهاء الوقت، فعندما أريد مثلاً موعداً مع شخص في أي أمر ديني أو دنيوي، أو استشارة في موضوع، أو في منقاشة أي قضية، فإني أنظر كم يكفيني من الوقت، فإذا كانت تكفيني نصف ساعة من الوقت مثلاً، فإني أجعل الوقت يكون ساعة إلا ربعاً، لأن الناس ليسوا آلات بحيث يدخل إلى صاحبه فيبدأ بالموضوع مباشرة، فعلى الأقل ما يسمونه بالتدفئة الاجتماعية، كسؤال عن الأحوال والأخبار، ومن هنا وهناك، ثم بعد ذلك يكون النقاش في مثل هذا الموضع.
وإذا كان صاحبك غير منضبط أو ثقيلاً، وتعرف أنت أنه لا يستأذن بعد انتهاء الوقت، وقد تشعر أن هناك حرجاً أن تقول له: الوقت المخصص قد انتهى، فيمكن أن تضبط الموعد بوقت الصلاة، فإذا واعدته إلى الساعة السادسة فهذا يعني انتهاء الموعد الساعة السابعة إلا ثلث باعتبار وقت الأذان، وهذه وسيلة جيدة لضبط الوقت دون حرج، مع أني أرى أننا يجب أن نكون صرحاء وواضحين في أوقاتنا كما سيأتي بعد قليل.
سبق أن أشرت إلى جزء منها، فعندما أريد أن أضع أهدافاً لي في الإجازة.
مثلاً: إذا افترضنا أن صلاة الفجر في الساعة الرابعة، وصلاة الظهر الساعة الثانية عشرة، فهذا معناه أن الصباح ثمان ساعات، فعندما أقول: سأستغل الثمان الساعات يومياً في القراءة، فهذا كلام غير واقعي، وحتى ست ساعات!
فيجب أن تضع أهدافاً واقعية؛ لأن مشكلة الأهداف غير الواقعية أنك عندما تجربها ولا تحققها لا تعود إلى نقطة التوازن، بل تعود إلى التطرف، وتشعر أنك فاشل، بينما كان الخطأ في أنك كنت مثالياً، وقل مثل ذلك في قضية الموعد كما سبق أن أشرنا.
فالمقصود أن نكون واقعيين في أهدافنا، وأيضاً لا تقودنا الواقعية إلى التسيب، بحيث لا نكون مستجيبين لأهواء النفس ومشكلاتها، ولا نكون أيضاً مثاليين.
هناك مضيعات كثيرة للوقت منها: الهاتف، من خلال طول الحديث في الهاتف، فبعض الناس لا يحلو له الحديث إلا في الهاتف، ويسأل عن الأحوال والأخبار، ويتحدث معك دقائق طويلة وهو إلى الآن ما دخل في الموضوع، ولا تدري ما هو الموضوع الذي يريده، ربما يكون فارغاً، وربما يكون يعيش هماً وأراد أن يفرج همه بالاستئناس بحديث الإخوان، لكنه لا يتصور ما هو الوقت الذي تقضيه، ولا يتصور أنه ربما يكون عندك إنسان، أو أنك تقرأ، أو أنك منشغل بأي أمر من الأمور.
فيجب أن تقدر أوقات الآخرين، وأن يتعلم غيرك أن يقدر أوقات الآخرين، فمن مشكلات الهاتف أنك لا تعرف ما هو منشغل به صاحبك.
البعض من الناس يعتب عليك مطالبتك إياه بالاختصار في الهاتف، لكن لأنه يعرف أن هذه المكالمة ربما تكون هي الوحيدة في السنة، أو في الشهر، أو مكالمة فصلية، يتصور أنه لا مشكلة أن يقضي عشر دقائق معك، ولا يظن أن وقتك سيضيع، لكنه لا يتصور أنه عندما يتصل بك بعد العصر أن هناك عشرة اتصلوا مثله، وإذا كان كل واحد سيأخذ خمس دقائق فهذا يعني أن خمسين دقيقة تماماً قد ضاعت في الحديث مع هؤلاء الذين يعتبرون الخمس الدقائق وقتاً يسيراً في المكالمة الهاتفية.
أضف إلى ذلك أنها ليست في الواقع ساعة، بل هذا الانقطاع يؤثر كثيراً على العمل الذي كنت تعمله فانقطعت عنه ثم عدت إليه.
فيجب أن نتخلص من تضييع الوقت في الهاتف من خلال عدة أمور:
الاختصار في المكالمة في الهاتف، وأن نتعود ألا نجيب على الهاتف، أو أن يعتذر الأهل أو أي شخص بأنك مشغول، وإذا كنت مشغولاً فليس بالضرورة أن تجيب على الهاتف في كل وقت.
ومن مضيعات الوقت أيضاً: الزائر:
أحياناً يأتيك زائر مفاجئ فيضيع عليك وقتك، فافترضوا أنه أتاني زائر وأنا أعد هذا الموضوع وجلس عندي طوال وقت العصر، وتبادلت معه الحديث، فعلى أي حال سآتيكم وبأي صورة، أنا أظن مثلاً أني يمكن أن أكون صريحاً معه، أو ربما أحرج نفسي مع شخص واحد، ولا أحرجها أمام عدد من الطلاب ينتظرونني، ويريدون أن يسمعوا مني، وقد خصصوا هذا الوقت لذلك.
من الأمور التي تعين على التخلص من الزائر أن نحدد أوقاتاً للزيارة، فنعتاد على أن نأخذ موعداً للزيارة ولو بالهاتف قبل الزيارة، فيتصل ويقول: أنا سآتيك الآن فهل الوقت مناسب أو غير مناسب؟ فأنت مثلاً تجد أنك عندما تتصل على إنسان وتقول: أنا سآتيك، فيقول لك: أنا مشغول، لكن لو أتيته لا يمنعك.
أمر آخر وهو أن يكون لدينا جرأة على الاعتذار، وسيأتي بعد قليل الإشارة إلى هذا المعنى.
من مضيعات الوقت الثقلاء والبطالون: وابن الجوزي له معاناة مشهورة مع هؤلاء، أشار إليها في (صيد الخاطر) يقول رحمه الله: أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلقد رأيت الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين:
إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.
وربما أيضاً هذه تكون رسالة لهم أنهم من الناس المضيعين للأوقات.
إذاً: هو يسلك عدة وسائل:
الأمر الأول: يحرص أنه لا يقابل هؤلاء ابتداءً.
الأمر الثاني: إذا قابلهم يقول: أختصر في الكلام، حتى ينتهي ما عندهم ويضطرون لاستئذاني.
فإذا لم يكن هناك فائدة خصص أعمالاً لا تحتاج إلى تفكير، فيبري قلماً، أو يرتب أوراقاً، وهو يتحدث مع زائره.
وأنا أقول بصراحة: يجب أن نكون أمام خيارين:
إما أن نكون جريئين على أن نعتذر، أو أن نكون جريئين على إضاعة أوقاتنا، ونختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
بل الناس ربما يتأففون من الجرأة على الاعتذار، والقضية قضية عادة، فإذا اعتاد الناس فيما يستقبل يصبح الأمر سهلاً وديدناً لهم.
ثم قبل هذا يقول الله عز وجل: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28].
فيمكن أن يأتيني زائر فأعتذر له عن المقابلة، ويمكن أن أجيبه من خلال سماعة الباب وأقول له: أعتذر عن مقابلتك فأنا مشغول، ويجب أن تستعد وتتهيأ نفوسنا لقبول هذا، فإن الله عز وجل قد قال ذلك في كتابه، بل قال: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع).
والقضية تحتاج إلى موقف أو موقفين، فربما تخسر شخصاً أو شخصين، لكن أنا أظن أن خسارة بعض البطالين والثقلاء أفضل بكثير من خسارة وقتي، بل أنا أعتبر خسارة البطال مكسباً؛ لأنه عندما يجد في نفسه شيئاً وتخسره ربما أنت تربح؛ لأن هذا لن يأتي إليك مرة أخرى، فتكون قد وفرت جزءاً من وقتك.
وبصراحة يجب أن تكون أوقاتنا ثمينة، وهذا يدعونا إلى أن نكون جريئين في الاعتذار.
ربما تأتيك أوقات تشعر أنك تضطر إلى المجاملة فيها، فعندما تكون في البيت ويأتيك شخص عزيز عليك فقد يكون غير لائق أن تقول له: ارجعوا هو أزكى لكم، لكن من الأولويات أن تصرف ما أنت منشغل فيه إلى صاحبك، ويسهل تعويض ذلك؛ لأن هذا في الواقع ليس إضاعة للوقت، لكن حينما يكون الأصل عندنا هو الاستقبال، فأظن أن هذا ليس من المحافظة على الوقت.
دخلوا على أحد السلف فقالوا: لعلنا أشغلناك! قال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة من أجلكم.
لنفترض أنك بعد العصر تريد أن تقرأ، وعندك ثلاث أو أربع مكالمات هاتفية، فمن أهم الأشياء أن تجمع، فاجعل المكالمات الهاتفية في وقت واحد، فبعد صلاة العصر مباشرة تتصل، وذلك في وقت تتأكد أنك تجد أصحابك؛ لأن الاتصال دون أن تجد صاحبك إضاعة للوقت مرة ثانية.
المهم أنك تجمع الاتصالات في وقت واحد، وتجمع الزيارات في وقت واحد، فتريد أن تذهب إلى مكتبة لتشتري كتاباً، وتريد أن تذهب إلى عيادة الأسنان في الموعد الذي حدده لك الطبيب، وتريد أن تذهب إلى أحد أقاربك، فبدلاً من أن تذهب في هذا الوقت ثم تعود، ثم تذهب في الوقت الآخر، اجمع هذه الأعمال في وقت واحد، فتوفر على نفسك عناء كبيراً.
المقصود أن جمع الأشياء المتشابهة في وقت واحد من أفضل الأشياء التي تعينك على توفير الوقت واغتنامه.
لكن لو تصورنا أنك قسمت هذه المكالمات الهاتفية الأربع على وقت العصر لضاع عليك الوقت كله.
هذه من أهم الأشياء، فالكلام الذي نقوله كله جميل، لكن هل تستطيع أن تحزم أو لا تستطيع؟ هذه أهم قضية، ولهذا فالمحك في اغتنام الأوقات هو الإنسان الذي يستطيع أن يعزم على نفسه؛ مثلاً: عندما تريد أن تقرأ يأتي في بالك أن تزور فلاناً، وأن تتصل على فلان، وهناك أعمال صعبة على النفس، وأعمال محببة إلى النفس، فربما يكون من المعايير عندك تقدم هذا.
المهم أنك يجب أن تكون حازماً مع نفسك، هذا وقت تريد أن تقرأ فيه فاقرأ فيه، وقت تريد أن تسافر فيه فسافر فيه، المهم على حسب ما حددت يجب أن تكون حازماً مع نفسك، ولا تستسلم لمضيعات الوقت، كالراحة، والكسل، ونحوها.
والتسويف جزء من عدم الحزم، لكن الحزم معنىً أشمل من ذلك.
ولهذا كان السلف يحذرون من التسويف، قيل لرجل من عبد القيس: أوصنا. قال: احذروا سوف.
وقال أحدهم: سوف من جند إبليس.
لأنك ربما تقول: سوف أفعل كذا فتدركك المنية ولم تفعل هذا الأمر، أو يأتيك مرض، أو يصل الهرم وأنت لم تستطع أن تفعل شيئاً، وكم من الأمور قلنا سوف نعملها ولم نعملها.
والحسن البصري يقول: إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت اليوم.
وقال أحدهم:
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسل إلى غد إن يوم العاجزين غد
ولما قيل لـعمر بن عبد العزيز وقد أعياه الإرهاق من كثرة العمل: أخر هذا العمل قال: لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين.
وهذه يمكن أن يكون له علاقة قوية بموضوع الحزم، لأن أوقات الراحة تضيع علينا جزءاً كبيراً من الوقت، انظروا مثلاً إلى صباح الجمعة كيف نغتنمه؟ ينام الإنسان يوم الجمعة من الساعة الرابعة إلى الساعة التاسعة، هذا الذي ينام مبكراً ويستيقظ مبكراً، فيكون قد نام خمس ساعات، ومن الساعة التاسعة يضيع وقته هنا وهناك، ويشعر عموماً أن الوقت من فجر الجمعة إلى الصلاة وقت ضائع، ولهذا يقال: إن صباح الجمعة وقت ضائع.
يا أخي! ليس هذا منطقاً صحيحاً، إذا كنت مضطراً أن تنام هذه الخمس الساعات حتى تستمع إلى الخطبة استماعاً جيداً، فتأخر في ليلة الجمعة؛ لأنك ستنام، واغتنم جزءاً من الوقت.
المهم أننا ننام جزءاً من الخميس أو وقت الجمعة أو الإجازات؟ أوقات الراحة هذه التي تستهلك تعتبر فيروساً كبيراً للوقت لا نشعر به فعلاً، فيجب أن نضبطها، فيكون الإنسان حازماً مع نفسه، فاضبط نفسك أن تستيقظ الساعة السابعة أو الساعة الثامنة مثلاً، المهم أنك تستيقظ؛ لأجل أن تقرأ مثلاً، أو لأجل أن تعمل شيئاً.
إذا كنت لا تحترم وقتك فيجب أن تحترم أوقات الآخرين، وهذا من خلال عدة أمور:
الأمر الأول: أن تحترم مواعيدك، إذا أعطيت إنساناً موعداً يجب أن تحترم هذا الموعد فلا تضيعه، أو على الأقل إذا لم تستطع أن تعتذر في وقت مناسب؛ لأنه قد يكون مثلاً قد امتنع من مصالح مهمة له لأجل هذا الموعد الذي أعطيته، فتكون قد أضعت عليه الوقت، فلن يستطيع أن يصرف هذا الوقت لأمر آخر كان يمكن أن يصرفه فيه.
من احترام أوقات الآخرين: عدم الإحراج، فبعض الناس أحياناً يلح عليك إلحاحاً عجيباً أن تأتي منزله في وليمة، وهي وليمة لا تقدم ولا تؤخر، فتعتذر ولكن لا فائدة، حتى تضطر إلى الاستجابة لإلحاحه.
يا أخي! الناس ليسوا مثلك فارغين، فمن احترامك لأوقات الآخرين ألا تلح عليهم وألا تحرجهم بأي طلب أياً كان، يجب ألا تفترض أن أوقات الآخرين مثلك، فمن حقك أن تطلب، لكن ينبغي ألا تلح، والإلحاح ليس بالضرورة دليلاً على الحرص وجانباً إيجابياً، فربما كان جانباً سلبياً.
ومن ذلك افتراض الاختلاف حول تحديد الأولويات: فأحياناً شخص يطلب منك عملاً أياً كان هذا العمل، ثم تعتذر فيقول لك: يا أخي! هذا عمل مهم، وهذا عمل مفيد، وهذا ضروري، والناس محتاجون، إلى آخره.
يا أخي! أولاً: أنت لا تعرف وقتي كله حتى تحكم، ولو كان أمامك وقتي كله، ثم أتيت إلى هذا العمل الذي ترى أنت أني يجب أن ألغي جزءاً من وقتي لأصرفه له، ربما ترى أن من حقك ذلك، لكن حتى مع هذا قد أرى أنا أن أولوياتي تختلف عن أولوياتك.
فمن احترامك لوقتي أن تحترم نظرتي؛ لأن الوقت عمري أنا ووقتي أنا، وأنا المسئول عنه، ولست أنت المسئول عن وقتي، ولن تحاسب عليه، وأنا الذي سأسأل يوم القيامة عن هذا العمر فيم أضعته، وفيم أنفقته؟
ومن الأسئلة لا شك السؤال عن الأولويات، فعندما يصرف الإنسان وقته في شيء مفيد فليس معنى هذا أنه اغتنم وقته -كما قلنا قبل قليل- بل هناك أولويات، ولا يستطيع الإنسان ولو عمر عمراً طويلاً أن يأتي على كل الأمور التي يريد.
إذاً: من احترامك لأوقات الآخرين أن تفترض أنهم ربما يختلفون معك في تحديد الأولويات، وأن القضية المهمة عندك ليس بالضرورة أن تكون مهمة عند الناس، أو ربما أن يكون عند الناس ما هو أهم مما عندك.
هذا إذا كنا افترضنا أنك عارف بكل أوقات الناس وفيما يقضونه، فكيف إذا كنت لا تعرف أوقات الناس أصلاً، ولا بما هم مشغولون به.
بعض الناس -من حسن أدبه!- حينما يطلب منك موعداً فتعتذر وتقول له إني منشغل، أن يلح، فتعتذر، فيقول: إذاً ما هو برنامج اليوم؟ وماذا عندك؟
يا أخي! افترض أنه ليس عندي برنامج لكن هذا وقتي وأنا أحر، إذا اعتذرت فافترض أسوأ الاحتمالات، وهو أن ليس عندي رغبة، فيجب أن تحترم أوقات الآخرين، وافترض أني مشغول.
أحياناً بعض الناس عندما تعتذر منه يقول لك: صباح الجمعة، أو مغرب الخميس.
يا أخي! كأن الأوقات لا يعرفها إلا أنت، أنا أظن أن الناس المزحومين في الأوقات أكثر منك معرفة كيف يجدون الأوقات المناسبة حينما يريدون ذلك.
أقول: إن من الاحترام لأوقات الآخرين أن تفترض أنهم ربما يختلفون معك حول أولوياتك، وافترض أنك ما عذرته، وأنك ترى أن هذه قضيتك هي القضية التي يجب أن تتفرغ الأمة الإسلامية كلها لأجلها، فافترض هذا.
ومع هذا فهو المسئول عن وقته، وهو الذي سيحاسب عن وقته، فلا يجوز أبداً أن تفترض أن الناس تابعون لك فيما تريد.
وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى شيء من هذا المعنى، وهو من يضيع وقته مع الناس، فقال: من ذلك -يعني من الإيثار المذموم- أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله، فتكون قد آثرته بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار، فيكون مثلك كمثل مسافر سائر في الطريق لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن، وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره!
وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضاً، مثل أن يؤثر بوقته، ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله، فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا أيضاً إيثار غير محمود.
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع، واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لا تخفى، بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم، وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحداً، فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله، وأنت لا تعلم.
فأحياناً ينشغل رب الأسرة بأعمال يمكن أن يقوم بها ابنه، أو قريب له، أو شخص آخر ربما ينوب عنه في القيام بمثل هذا العمل، فيوفر عليه وقتاً يمكن أن يغتنمه في شيء آخر لا يستطيع أن يقوم هذا الابن به.
المسئول في دائرة أو مؤسسة قد يشغل نفسه بأعمال روتينية كان يمكن أن يشتغل بها غيره، فمن الوسائل مثلاً أن يفوض جزءاً من صلاحيته لمسئول دونه، فأنا لا أظن أن من الوضع الطبيعي أن مسئولاً كبيراً في دائرة أو في مؤسسة يوقع كل ورقة، وينشغل بتوقيع ورقة تتعلق بإجازة موظف، أو نحو ذلك، فإن هذا من إهدار الأوقات، وهذا المسئول يجب أن يخصص وقتاً للتخطيط، ووقتاً للتفكير، ووقتاً لتطوير العمل، فالتفويض من الوسائل التي تعين على اغتنام الوقت.
وهذه قضية تعود إلى الأولويات، فهناك معايير خاطئة في تخصيص الوقت، فأمامك الآن وقت بعد العصر، وعندك عشر مشاغل، فبأي شيء تبدأ؟ هناك معايير خاطئة مسيطرة على النفس تتحكم في تخصيص الأوقات، منها:
طلبات الآخرين:
فالشيء الذي يلح عليه الناس ويطلبونه تنهيه قبل، وهذا ليس بالضرورة أنه الشيء الملح، فمثلاً مسئول يحرص على إنجاز معاملة حريص عليها صاحبها، لكن هذا يشغله عن التخطيط لعمله الذي هو أمر مهم، وقل مثل ذلك في أي قضية من القضايا، فطلبات الآخرين ليست معياراً سليماً في تخصيص الوقت.
قرب الموعد النهائي:
من المعايير المسيطرة علينا كثيراً هو أن الشيء الذي يقترب الموعد النهائي فيه نعتبر له أولوية، وربما كان هذا على حساب الأمور التي ليس لها موعد نهائي، فمثلاً القراءة ليس لها موعد نهائي، والتخطيط للأعمال ليس له موعد نهائي، فهناك أعمال ليس لها موعد نهائي.
ولهذا إذا كان هذا المقياس عندك فستهمل أعمالاً كثيرة ربما كانت أولى، وربما رأيت في حالة من الحالات أنك تفرط في أمر مثلاً، وأن غيره أولى منه وعلى حسابه.
من المعايير الخاطئة: درجة الاستمتاع:
فهناك أعمال ممتعة بالنسبة لك أكثر من غيرها، فأحياناً الزيارة والذهاب والإياب أكثر متعة من القراءة، وهذا معيار خاطئ أن تخصص وقتك للزيارة على حساب القراءة.
والقراءة نفسها درجات، فهناك قراءة ممتعة أكثر، فالسير والتراجم والأدب أكثر متعة، فحينما تخصص وقتك لهذه القراءة أظن أن هذا معيار خاطئ.
من المعايير الخاطئة: درجة المألوفية:
فالإنسان يحب العمل الذي يألفه، ولا يحب العمل الذي لم يعتده، وربما يكون عملاً ما اعتدت عليه ولا ألفته أفضل بكثير من عمل ألفته واعتدت عليه.
من المعايير الخاطئة: الأعراف الاجتماعية:
فمثلاً أنا لست مقتنعاً أبداً أنه عندما يكون هناك مناسبة بعد العشاء -خاصة أيام الشتاء- أن يقول: عندنا مناسبة بعد العشاء، فواحد يأتي بعد العشاء، والثاني يأتي الساعة الثامنة، والثالث يأتي الساعة الثامنة والنصف، والرابع يأتي الساعة التاسعة، ويجلسون ساعة أو ساعتين ينتظرون إنساناً حتى يشرف ضيافتهم، ومن ثم ينتهي الوقت.
يا أخي! من الممكن أن نحدد وقتاً محدداً، نقول مثلاً: الساعة الثامنة، أو الساعة التاسعة، أو التاسعة والنصف، وانتهينا، وبعد الظهر مثلاً وقت ضائع عندما يكون هناك مناسبة.
هذه القضايا الاجتماعية لابد أن تضبط، والأعراف الاجتماعية لا يجوز أن تسيطر علينا فتكون مدعاة لإضاعة أوقاتنا، فالمناسبات العادية التي بعد صلاة العشاء كم يضيع فيها من الوقت؟! فلو حددت لما وجدنا حرجاً، فلنجعلها ساعة كاملة أو ساعتين، فليست هناك مشكلة، لكن نحدد لها بداية ونهاية بحيث نغير أعرافنا الاجتماعية.
لا يسوغ أبداً أن تكون أعرافنا الاجتماعية حاكمة لنا في تخصيص أوقاتنا، ونحاول أن نعود الناس لا أن نتعود على ما يفعله الناس.
وهذه -كما قلت- لا تعدو أن تكون مقترحات ووسائل لاغتنام الوقت، فحديثنا ليس حديثاً عن الوقت جملة، إنما هو عن بعض الوسائل التي تعيننا على اغتنام الوقت.
وهذا تنبيه يقول: هناك بحث جيد في الوقت وكم نستغل منه وكم نضيع، نشر في مجلة البيان قبل أعداد بعنوان: فن إدارة الوقت، والبحث اطلعت عليه وجيد، وطيب القراءة فيه.
الجواب: أولاً: ليس صحيحاً أن القراءة والحفظ هي وحدها الاستفادة من الوقت، بل مثل هذه المراكز يمكن أن نقول إن فيها بعض الأخطاء، فهذا طبيعي، وهذا جهد بشر، لكن أعتقد أن العبارة فيها نوع من التجاوز أن فيها الغث والسمين، باعتبار أنها مضيعة للوقت.
يا أخي! اجعل هذه في مقابل النوادي الرياضية، أو في مقابل الشباب الذين يضيعون أوقاتهم في الشوارع أو هنا وهناك، فأنا أعتبر أنها فرصة كبيرة لاغتنام أوقات الشباب وحمايتهم، خاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه المغريات والملهيات.
وأنت حينما تأتي لمثل هذه المراكز أو الأنشطة أو غيرها، قد لا تستفيد استفادة مباشرة، وقد تكون لو تفرغت استفدت أكثر من وقتك، لكن -يا أخي- عندما تعين غيرك على الاستفادة من وقته فتحضر فهذه استفادة كبرى، وهذا توظيف للوقت في الدعوة إلى الله عز وجل.
فمعيار الاستفادة من الوقت ليس في كم تقرأ وكم تحفظ، إنما هذا الوقت الذي قضيته حين تسأل عنه يوم القيامة، فهل ترى الإجابة أنها ستكون منجية لك عند الله أم لا؟
أنا أعطيك مثالاً: هذا الوقت الذي قضيناه في إلقاء هذا الدرس، كان يمكن ألا ألقيه عليكم، وأن أغتنمه في حفظ أو قراءة، لكن لا أشعر أني لو جلست أحفظ لاستفدت أكثر، بل أشعر أني حينما ألقي الدرس أستفيد أكثر، من خلال أن القضية ليست في كم تقرأ وكم تحفظ، إنما هذا الوقت الذي قضيته هل قضيته فيما ينفع أم لا؟
ومعيار الفائدة له اعتبارات كثيرة، واعتبارات شرعية، وليس مجرد الفائدة الشخصية التي تراها أنت.
الجواب: هذه من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت كما قلنا، فلا تأسرنا الميول الشخصية، فإذا قال شخص: أنا ليست هوايتي القراءة، أقول له: اجعلها من هوايتك، وعود نفسك، واحرص على ذلك.
الجواب: الإنسان يحتاج إلى الراحة والاستجمام، فمن الطبيعي أن يحتاج الإنسان إلى نوع من الاستجمام والراحة، بل كان السلف يدعون إلى ذلك، وقد ذكروا شيئاً من آداب المحدث، وهذا ربما تجد طائفة منه في (الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع).
فقد كانوا يقولون: أمتعونا فإن الأذن مجة وإن القلب حمض، وكانوا أحياناً تناشدون الشعر، ويتمازحون في أمور يرون أنها وسيلة لإذهاب الملل والسآمة.
الجواب: هناك عدة مشكلات تؤدي إلى عدم الانضباط مع الجدول، فلاحظ هذه المشكلات، وابحث عن أيها تنطبق عليك.
من هذه المشكلات أولاً: أن يكون تخطيطك للجدول غير سليم أصلاً، إما أن يكون مثالياً، كإنسان ساكن مع أهله ومع والده ووالدته، ووالده كبير السن، والناس يزورونه بعد المغرب، ويقول: أنا مخصص بعد المغرب للقراءة، فهذا وضع غير عملي؛ لأنك تحتاج في هذا الوقت أن تبقى مع والدك وتخدمه، وتستقبل الزوار، وهذا اغتنام للوقت لاشك.
فيجب أن تضع وقتاً آخر للقراءة كما قلنا في تخصيص الوقت، أو قد يكون عندك خطأ في رسم الجدول، أو قد تكون مثالياً في الجدول الذي رسمته لنفسك، أو قد تكون كسولاً، وهذه أظن أنها من أكبر الأسباب، فكسول أنك لست حازماً أو تكون غير متدرج، فلا يمكن أن ينتقل الشخص من وضع سيء إلى وضع في القمة، لكن يتدرج الإنسان، ومن ثم يحاسب نفسه، وينظر ماذا عمل في الوقت الماضي؟ وما هي الأخطاء التي وقع فيها؟ ولماذا ضاع عليه هذا الوقت؟ ويستفيد من أخطائه وعيوبه.
هذه فيما أتصور بعض الأسباب التي تؤدي إلى عدم الانضباط في مثل هذه الجداول.
الجواب: هذا غير صحيح، فصل في المسجد الحرام وصل في غيره، فلو دخلت الجنة ستندم على ساعة لم تذكر الله عز وجل فيها.
الجواب: لا شك أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وله منزلة عظيمة، ولعله أن يتهيأ وقت نتحدث فيه عن دور الجهاد في تربية الأمة، والأمة حين تركت الجهاد -كما أخبر صلى الله عليه وسلم- أصيبت بالذل، وما مر بالأمة ذل أشد من هذا الذل الذي تعاني منه، وإذا تيسرت للإنسان فرص، وكانت ظروفه تناسب، فلا شك أن هذا ميدان طيب، وميدان مطلوب، بل ميدان الناس بحاجة إليه.
لكن أيضاً لا يعني هذا أن من يجلس ولا يذهب أنه قد أضاع وقته، بل ربما يتعين بقاء بعض الناس في بلده، أو كان بقاؤه أولى، خاصة في الأمور التي يكون فيها الجهاد نافلة، وليس فرض عين.
الجواب: ليس هذا بصحيح، فالإنسان مطلوب منه أن يقرأ في القرآن، ويقرأ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ في تراجم السلف، ويجمع بين هذه الأمور كلها، أرأيت مثلاً الصلاة أليست أفضل من التسبيح؟ فهل يمكن أن يقول الإنسان: إذاً لن أضيع وقتي بالتسبيح، أريد أن أجعل كل وقتي للصلاة، لا يمكن هذا!
فينبغي للإنسان أن يجمع بين هذه الأمور، ولو وجد الإنسان مللاً في قراءة القرآن فانشغل بغيره ثم عاد، أو وجد مللاً من أي أمر فهذا لا إشكال فيه، بل النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإنسان إذا قام يصلي وغلب عليه النوم، فإنه ينبغي أن ينصرف من صلاته وينام.
فأقول: إن هذا الأمر لا يعني بالضرورة الانشغال بالمفضول، بل هذه صورة من الاستجمام حتى يعود إلى هذا العمل الفاضل بصورة أولى.
الجواب: الإجازة فرصة ثمينة، فمثلاً وقت الصباح ووقت المساء وقت طويل، فيستطيع الأخ أن ينشغل وقت المساء بأعمال دعوية، وأنا أؤكد على هذه القضية، فأنا أرى أن الذي ينبغي الآن هو الأعمال الدعوية، فالناس يحتاجون للدعوة، ولا يسوغ أن نتفرغ لأنفسنا، ونهمل هذه الأمور.
فينبغي أن ننشغل بهذه الأعمال في الفترة المسائية، فكل إنسان يستطيع أن يساهم بأي عمل، وبأي دور، فالأوقات التي تضيع سدىً كوقت الصباح وغيره ينبغي أن نغتنمها في القراءة، وأنا لا أوافق على أن نلغي كل برنامج الإجازة ونتفرغ للقراءة، فيا أخي! هناك أعمال مهمة إذا وازن الإنسان بينها استطاع أن يشعر في النهاية أنه اغتنم الإجازة اغتناماً أمثل، ثم سار بخط متوازن، فعمل قدراً من هذا الواجب.
فيا إخواني! وقت الصباح وقت طويل يقرب من ثمان ساعات، لو استغله الإنسان لكان ذلك خيراً كثيراً، وليتنا نستطيع أن نغتنم هذا الوقت، ويبقى معنا أوقات أخرى يمكن أن نغتنمها في أعمال أخرى.
أسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياكم على اغتنام أوقاتنا، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر