الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف].
تقدم معنا في المجلس الماضي بيان بعض المقدمات المتعلقة بهذه الترجمة، وذكر المصنف رحمه الله: (حد القذف)، وقد بينا أن بعض الأئمة رحمهم الله يرون أن أشد العقوبات بعد الزنا هو حد القذف، وهذا واضح من جهة وجود الرمي بالفاحشة -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- واختلف العلماء رحمهم الله -بعد اتفاقهم على أن القذف من كبائر الذنوب- هل هو من أكبر الكبائر أو هو من الكبائر فقط؟
فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله: إلى أن القذف يعتبر من أكبر الكبائر، واحتجوا على ذلك بأدلة:
منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر من أكبر الكبائر شهادة الزور، قالوا: والقذف شهادة بالزور، وهو قول زور، بل هو من أشد الزور في حقوق عباد الله؛ لأن صاحبه قد ازورّ عن الحق، أي: مال عنه، فقال قولاً خاطئاً في أعراض المسلمين.
وأكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا أكثر من ستين باباً، وأهونها مثل أن يأتي الرجل أمه)، والعياذ بالله! وجاء في اللفظ الآخر: (وإن أربى الربا أن يستطيل العبد في حق أخيه المسلم)، فجعل هذا من أعظم الأمور وأشدها، وهذا يؤكده قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:23]، فجمع الله لهم بين لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، ثم إن الله قطع ألسنتهم وشهادتهم فقال: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4] ، وحكم بعد ذلك بفسقهم، قالوا: فهذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تشدد في أمر القذف، وتبين عظم ما فيه من العقوبة الحسية والعقوبة المعنوية في الدنيا والآخرة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) -قيل: إنها توبق صاحبها، بمعنى: أنها تهلكه- والعياذ بالله (قلنا: ما هي يا رسول الله؟! فذكر منها: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وهذا كله يؤكد أن القذف ليس بكبيرة فقط، بل هو من أكبر الكبائر وأشدها وأعظمها جرماً والعياذ بالله! بل وأعظمها بلاءً على العبد في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قلّ أن يَسْلَم دين لصاحب لسان يستطيل في أعراض المسلمين بقذفهم والطعن فيهم، وتشويه سمعتهم، وإشاعة السوء بين المؤمنين والمؤمنات، ولمزهم وهمزهم والحط من أقدارهم، ولذلك تجده منطمس البصيرة، قليل التوفيق للحق، قاسي القلب، صفيق اللسان، جريئاً على عباد الله عز وجل، يبدأ بقذف الواحد، ثم يسترسل إلى الثاني وإلى الثالث، يبدأ بالقذف بتهمة وشبهة حتى ينتهي به الأمر -والعياذ بالله- إلى القذف بدون شبهة وبدون تهمة، فبأقل عداوة يقذف ويستطيل، وهذا هو شأن أهل النفاق كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا خاصموا فجروا، فهذا اللسان إذا لم يحكم بتقوى الله عز وجل؛ فإنه مهلكة لصاحبه كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟).
ولذلك نؤكد ما سبق بيانه أنه ينبغي على كل من يريد أن يستقيم على طاعة الله أن يعلم أن الاستقامة استقامة قلب وقالب، والله لو زكّى نفسه وزكّاه من في الأرض جميعاً وهو لا يتقي الله في لسانه؛ فإنه سيورد نفسه الموارد، ولن يغنيه عند الله شيئاً ثناء الناس عليه إذا أظلم قلبه وأصبح لسانه سليطاً، فإذا كان بهذه المثابة؛ فليعلم أن العواقب وخيمة، وأن النهاية أليمة، والله الموعد.
وعلى كل حال: فهذا الباب ذكره الأئمة والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة؛ لأنه تضمن جملة من الأحكام والمسائل لخطر عرض المسلم الذي قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بدمه لما خطب خطبة حجة الوداع موصياً للأمة مبيناً لها أمورها المهمة، فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).
فنظراً لاشتمال هذه الجريمة على الكلام في أعراض المؤمنين والمؤمنات بالزور والباطل، ونظراً لاشتمالها على جملةٍ من الأحكام والمسائل ناسب أن يذكرها المصنف رحمه الله، وهذه الجريمة لها عقوبة ولها حد ولذلك ذكرت في باب الحدود.
يقول رحمه الله: (باب حد القذف) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالقذف.
هذه الجملة صدر بها رحمه الله مسائل القذف، وهي حكم الله عز وجل على من قذف المحصن -بدون بينة ولا دليل- أنه يجلد حد القذف.
وقوله رحمه الله: (إذا قذف المكلف) والمكلف: تقدم معنا أنه البالغ العاقل المختار، فلا بد أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً قال لرجل: يا زانٍ، أنت زانٍ، فرماه بالزنا، أو رمى امرأة بالزنا، فقال لها: يا زانية، نظرنا؛ فمن حيث الأصل الصبي لا يقام عليه الحد؛ لأن الله عز وجل أسقط عنه المؤاخذة، فلا يؤاخذ بقوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم)، ولكن إذا كان هذا الصبي مميزاً، وقد بينا ضوابط التمييز من حيث السن ومن حيث المعرفة، فبعض العلماء يقول: المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، لو قلت له: ماذا فعلت؟ أين أبوك؟ ماذا فعل فلان؟ كيف فلان؟ يفهم الخطاب الذي يوجه إليه، ويحسن الجواب، فهذا مميز بأقواله، فجعلوا التمييز ضابطه بالقول، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل التمييز من سبع سنوات، والحقيقة أن هذا يختلف من شخصٍ إلى آخر، فإذا كان الصبي مميزاً يعلم أن هذا الكلام لا يقال، وأن هذا الكلام اتهام بالجريمة، وأن هذا الكلام سوء وشر، بل بعض الصبيان يعلم أن القاذف تقام عليه العقوبة، وقد يحذره والداه من هذا، ويعلم عواقب هذا من حيث الأصل، فإذا تجرأ على هذا الكلام وكان مميزاً؛ فإنه يعزر ويؤدب، ولا يترك هملاً بل يعزر بما يناسب سنه، وهذا له أصل في السنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فعزر في حق الله عز وجل، ولذلك يعزر الصبي ولا يقام عليه الحد، فنظراً لكونه غير مكلف؛ أسقط عنه الحد، ولكن لا تسقط عنه العقوبة لنوع التمييز الموجود فيه؛ لأنه لو لم يردع بها لاعتاد ذلك، واستشرى وقوي على الفساد، وكما يقوى على ترك حق الله عز وجل؛ يقوى على ترك حق المخلوق، وذلك بالتكرار، فينشأ على ذلك والعياذ بالله!
فالأصل أنه ينبغي أن يكون بالغاً.
كذلك أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً سب رجلاً فقذفه، أو سب امرأة فقذفها؛ لم نقم عليه الحد؛ لأن المجنون لا يؤاخذ بقوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق)؛ لأن المجنون لا يملك لسانه فلا وجه لمؤاخذته، فإنه لا يستطيع أن يتحكم في لسانه، ولا يستطيع أن يتحكم في قوله، ومن هنا لا يؤاخذ بما يقول، ولا يقام عليه حد القذف، ويختلف عن الصبي بالتفصيل الموجود في الصبي.
وأما بالنسبة للاختيار، وهو: ألا يكون مكرهاً، فلو أن شخصاً هدد شخصاً وقال له: إن لم تقذف فلاناً، أو إن لم تقذف فلانة وتتهمها بالزنا؛ سأقتلك، وتحققت فيه شروط الإكراه التي تقدمت معنا في طلاق المكره، وبينا الأمور المعتبرة لكي يحكم على الشخص بكونه مكرهاً، فأكره على أن يقذف غيره فقذفه، فإذا تبين إكراهه سقط عنه الحد، ولا يؤاخذ بقوله؛ لأن الله أسقط بالإكراه قول من تلفظ بالكفر، كما في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما تلفظ بالكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان مكرهاً، فأنزل الله سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، قالوا: فإذا قذف مكرهاً وقلبه مطمئن لا يريد قوله، ولا يقصد قوله؛ لا يقام عليه الحد، ويعتبر الإكراه موجباً لاندراء الحد عنه، ومسقطاً للعقوبة.
وقوله: (إذا قذف المكلف محصناً)، المحصن هو: الحر المسلم العفيف العاقل الملتزم، وسنبين إن شاء الله ضوابط الإحصان، وهذه اللفظة تطلق في الشريعة على معان عديدة منها: الإسلام والزواج والنكاح والعفة والحرية، فتطلق على هذه الأمور كما سيأتي.
ولكن لو أنه خاطب اثنين، فقال: أنتما زانيان، أو فلان زنى بفلانة، أو فلان وفلانة زانيان، أو فلان وفلان وفلان زناة، فهل لكل واحد من هؤلاء حد، وله الحق أن يطالب بحده أم أنه إذا طالب به أحدهم أو طالبوا به جميعاً أقيم عليه حد واحد؟
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وأصح القولين -والعلم عند الله-: أن كل واحد منهم له حق، وأن مطالبة الواحد لا تسقط حق الثاني؛ لأنه خاطب الجميع واتهم الجميع بالزنا، وعلى هذا؛ فإنه إذا قذف ثلاثة، فطالب أحدهم بحقه اليوم أقمنا عليه حده، ولو طالبوا الثلاثة مع بعض أقيم لكل واحد منهم حده، هذا هو الأصل؛ لأنه وجه التهمة لكل واحدٍ منهم، ومما يقوي هذا القول: أنه لو كان في الثلاثة من لا يقام عليه الحد لم يسقط الحد عن الجميع، فلو أنه خاطب جماعة وقال: يا زناة، وفيهم واحد زانٍ فعلاً، ثبتت عليه تهمة الزنا، واتهمهم وفيهم هذا الزاني، فلو قلنا: إنه قذف واحد يأخذ حكم الواحد؛ لأسقط وجود الخلل في أحدهم حق الباقين، لكننا نقول: إنه قد خاطب الجميع، وكل واحد منهم له حق، فإذا امتنع البعض عن المطالبة بحقه، فمن حق الآخر أن يطالب بحقه، وإذا طالب أحدهم لم يسقط حق الباقين؛ لأنهم متهمون جميعاً، وكما أقيم لهذا حقه يقام للآخر حقه.
وعلى هذا فإنه يتعدد الحد ويتكرر على أصح قولي العلماء رحمهم الله؛ والنظر يقوي هذا، فإنه إذا قذف ثلاثة، يكون كما لو قذف كل واحد منهم قذفاً مستقلاً، فلو أنه قال لمحمد وعلي وعبد الله: أنتم زناة، فحكمه كما لو انفرد بمحمد فقال له: أنت زانٍ، وحكمه كما لو قال لعلي مباشرة: أنت زانٍ، وكما لو قال لعبد الله: أنت زانٍ، فكما أنه لو قذف كل واحد منهم مستقلاً لا تجمع الحدود في حد واحد؛ كذلك لو قذفهم جميعاً مباشرة؛ لأن الكل وقع عليه اعتداء في عرضه سواءً كان مجتمعاً مع غيره أو منفرداً، وعلى هذا -تعظيماً لحدود الله وحرماته- فإنه يقام عليه الحد لكل واحد منهم يريد أن يطالب بحقه، فيعاقب بالحد، ويكرر عليه، على ظاهر النص أن المقذوف له حق المطالبة بإقامة الحد على من قذفه.
أي: جلد هذا المكلف ثمانين جلدة بشرط أن يكون حراً، وبإجماع العلماء رحمهم الله أن حد القذف ثمانون جلدة، فهم متفقون على ذلك لنص القرآن: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، وقد جعل الله في القذف ثلاث عقوبات:
العقوبة الأولى: أنه يجلد ثمانين جلدة.
العقوبة الثانية: أنه تسقط شهادته، فلو أن هذا القاذف الذي ثبت أنه قذف وأقيم عليه الحد، شهد في اليوم الثاني بأن فلاناً له عند فلان ألف ريال، أو أن فلاناً قتل فلاناً -أي شهادة كانت- ردت شهادته، لقوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، إلا إذا تاب، وتوبته بأن يأتي إلى القاضي ويقول: كذبت في تهمتي لفلان وهو ليس بزانٍ، فتوبته بأن يكذب نفسه.
العقوبة الثالثة: أنه فاسق، ونص الله عز وجل على هذه الأحكام الثلاثة:
الحكم الأول: الجلد، وقد ذكر المصنف رحمه الله -وتقدم معنا- أحكام الجلد، وصفة الجلد، وما يجلد به، وأن جلد القذف بعد جلد الزنا في القوة والشدة.
الحكم الثاني: أنه لا تقبل له شهادة، ولا يشترط أن يشهد في القضاء، بل حتى لو جاءك وقال: أشهد أن فلاناً كاذب، أو يفعل كذا؛ قل له: أنت البعيد مقطوع اللسان، مردود الشهادة، ما لم تكذب نفسك، وانظر إلى تعظيم الله لحرمة المؤمن! ويدل عليه الحديث القدسي: (ما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، فالله عز وجل يؤدب عباده بهذا الحد، ولذلك قطع هذا اللسان الظالم الآثم الذي يرتع في أعراض المسلمين فلا تقبل له شهادة، ثم انظر إلى نص القرآن: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، واختلف العلماء في هذه الآية على قولين:
بعض العلماء يقول: حتى ولو تاب لا تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله وطائفة، والجمهور على أنه لو كذب نفسه فجاء عند القاضي وقال: إنه كاذب، قبلت شهادته، وهذا البعيد لا يكفي أن يقام عليه الحد، بل لا بد أن يأتي عند القاضي ويقول: قد كذبت في تهمتي لفلان، وهذا يرد للناس حقوقهم؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد يبقى الناس في شكوك هل هو صادق أو كاذب؟ ولكن حينما يأتي إلى مجلس القضاء ويقول: إنه كذب في شهادته على فلان، وكذب في قذفه لفلان، وإن فلاناً بريء أو إن فلانة بريئة؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5]، فنص الله عز وجل على استثنائهم بالتوبة، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الاستثناء يشمل العقوبات السابقة، ومما يؤكد هذا أن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، كان يقول لـأبي بكرة : تب أقبل شهادتك، أي: إن تبت قبلت شهادتك، وهذا يدل على أنه لو تاب في الدنيا قبلت شهادته، وأنه لا يبقى على الأصل مردود الشهادة ما دام أنه قد تاب.
الحكم الثالث: أنه يفسق، والفاسق ساقط الخبر، لا يقبل خبره مباشرةً، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، والمراد: تثبتوا، وهذا يدل على أنه لا يقبل خبره مباشرة.
ذكر المصنف رحمه الله عقوبة من قذف أنه يجلد ثمانين جلدة، وبينا أحكام الجلد، وهذا القدر في حد القذف مجمع عليه بنص الله عز وجل في كتابه، وصفة الجلد تقدم أنها دون حد الزنا، فأشد الجلد جلد الزنا، ثم بعده جلد القذف، وهذا لوجود المجانسة بالفحش في الجريمتين.
مذهب جماهير السلف والخلف -ومنهم الأئمة الأربعة- على أن العبد إذا قذف غيره يقام عليه الحد أربعين جلدة، واستدلوا -أولاً- بقوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، حيث شطر الله حد الزنا الذي هو الأصل، فمن باب أولى تشطير حد القذف، وهذا من باب التنبيه بالأعلى على ما هو دونه.
واستدلوا -ثانياً- بأن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين كانوا يجلدون الرقيق في القذف أربعين جلدة، قال أبو بكر بن حزم : أدركت أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً والأئمة يجلدون العبد أو المولى إذا قذف أربعين جلدة، وهذا يدل على أنه سنة ثابتة، وعليها إجماع الصحابة حيث لم ينكر أحد من الصحابة تشطير عقوبة القذف على الرقيق، وعليه فإنه يجلد أربعين جلدة.
قال المصنف رحمه الله: [والمعتق بعضه بحسابه].
للعلماء وجهان في المعتق والمبعض: فبعض العلماء يقول: إذا كان نصفه حراً ونصفه رقيقاً فإنه يجلد بحسابه، وعلى هذا تكون ستين جلدة، الأربعون: تشطير أصل الحرية، مراعاة للحرية، والعشرون: تشطير الرق، فإذا كان مبعضاً فإنه بحسابه على القول الذي اختاره المصنف.
والقول الثاني: إذا كان مبعضاً فإنه على النصف دائماً، وهم متفقون أنه لو كان نصفه حراً ونصفه رقيقاً فإنه يجلد على النصف، ولكن إذا كان ثلثاه أو كان ثلثهُ رقيقاً والآخر حراً فعلى القول الأول: يتشطر بحسابه، وعلى القول الثاني: يتشطر على النصف، سواءً كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأن الحكم واحد عند الذين لا يفصلون، وهو اختيار أصحاب الشافعي وطائفة من العلماء رحمهم الله.
مثلاً: لو قذف صغيراً، في هذه الحالة الصغير لا يتأتى منه الزنا ولا يتضرر بقذفه، لكن يجب أن يعزر، فلو اشتكى هذا الصبي أو بعد بلوغه اشتكى -وكان القذف حال صغره- فإنه يقام عليه التعزير.
والتعزير: عقوبة لا حد لها، وهي تكون -في الأصل- في غير المقدرات شرعاً، والتعزير ستأتينا إن شاء الله ضوابطه: أنه يتبع حالة المجني عليه والجاني والبيئة التي فيها الاثنان، فمثلاً: يختلف التعزير لو كان الصبي يستلزم الرعاية أكثر، فقذف الصغير من القرابة ليس كقذف الصغير الغريب، وقذف الصغير من أبناء أو بنات الصالحين ليس كقذف عامة الناس؛ لأن الله جعل لكل شيء قدراً، فالناس لهم حقوق، ولهم منازل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)، فإذا كان القذف متعلقاً بمن لا يقام الحد بقذفه؛ فإنه لا بد من عقوبة للقاذف، وتكون العقوبة تعزيرية، ينظر القاضي فيها إلى حال المقذوف وحال القاذف، فيعزر كل قاذف بما يناسبه، وهذا أصل في التعزير.
قوله: (وهو) الضمير عائد إلى حد القذف (الجلد ثمانين جلدة) حقٌ للمقذوف، وهذا قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أنه حق للمقذوف، وإذا قلنا: إنه حق للمقذوف؛ فلا يقام إلا بطلب المقذوف، ويبقى على هذا الطلب إلى إقامة الحد.
إذاً: لا بد أول شيء أن يطلب المقذوف من القاضي حقه، فيقول: فلان قذفني، فيؤتى بفلان فيقر أو يأتي بالشهود ويثبتون أنه قذفه، فإذا أقر أو قامت عليه بينة بأنه قذف، وثبت عند القاضي أنه قذف، يقول له القاضي: أنت قذفت أخاك في الإسلام، فإما أن تحضر البينة أو أقيم عليك حد القذف، فإن قال: ليس عندي بينة، يأمر القاضي حينئذ بجلده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فإذا قال: لا بينة لي، أقيم عليه الحد، فإذا استمر المقذوف بالمطالبة مضى الحكم، ولو عفا عنه بعد الحكم وقبل التنفيذ، لا يقام عليه حد القذف، فلو أن القاضي حكم عليه بأنه قاذف، ثم أردنا تنفيذ الحد، فقال صاحب الحق: عفوت -ومن حقه أن يعفو- ففي هذه الحالة يسقط عنه الحد، ولا تجب العقوبة.
أي: في باب القذف، فلا بد أن يكون المقذوف حراً كاملاً، فإذا كان رقيقاً فإن نقص الرق يؤثر، وجماهير السلف والخلف أن قذف العبيد فيه التعزير، وليس فيه الحد، ولهذا أصل؛ لأن أصل الرق الكفر، ومن هنا لم يسوِ الشرع بين المسلم والكافر، وإن كان الرقيق قد يسلم، لكن هذا في الأصل ناقص.
ومن هنا اطردت أحكام الشريعة في التفريق بين المسلم والكافر، فإذا قذف عبداً فإنه لا يقام عليه الحد كاملاً، خلافاً لمن شذ، وقول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أن فيه التعزير، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4]، والإحصان: يطلق بمعنى الحرية، وهذا تقييد للحكم بالعقوبة، ومن هنا فهم جماهير السلف والخلف من الآية أن الإحصان يشمل الحرية، وأنه لا إحصان بدون حرية.
قال المصنف رحمه الله: [المسلم العاقل].
(المسلم) فلو قذف الكافر فإنه يعزر، (العاقل) فلو قذف المجنون فإنه يعزر؛ لأن المجنون -أولاً- لا يستطيع أن يطالب بحقه، وثانياً: لوجود النقص فيه، وظن السلامة في الاعتداء على عرضه ليس كالعاقل؛ لأن المجنون قد يتأتى منه هذا ولا يضمن نفسه ولا يملك نفسه، ومن هنا نقص عن العاقل الذي يلتزم بشريعة الإسلام وهو على دينه واستقامته، فالمجنون لا يؤمن أن يقع منه الزنا وهو لا يدري، ولا يستطيع أن ينفي عن نفسه ذلك؛ لأنه مجنون ليس عنده عقل، ولذلك يعزر قاذفه، ولا يحكم بجلده الحد.
قال المصنف رحمه الله: [العفيف].
فلو قذف زانياً وقال له: يا زان، فقد أصاب قوله الواقع؛ لأنه قد زنى، وحينئذ ليس بقاذف، وبعض العلماء يرى التفريق في هذا بين من أقيم عليه الحد وتاب، وبين من لم يقم عليه، ولكن حتى لو أقيم عليه الحد وتاب، وقيل له: لم قلت له: زان؟ قال: قصدت ما كان منه في السابق، فهذا يعتبر وصفاً وليس بتهمة بالزنا، ومن هنا فرق بين من يصفه بالزنا وكان قد وقع منه زنا وبين الذي هو عفيف لم يقع منه فحش.
قال المصنف رحمه الله: [الملتزم].
الملتزم بشرائع الإسلام، ومن هنا يخرج الحربي فإنه لا حرمة له، واختلف في الذمي، وإن كان شرط الإسلام في الأول قد تضمن مفهومه إخراج الذمي وإخراج الكافر عموماً، وعلى هذا لو قال لحربي: يا زانٍ، أو قذف حربيةً أو قال عن أهل الحرب: إنهم زناة، أو نحو ذلك من عبارات القذف، فإنه لا يقام عليه الحد، ولكن في الذمي خلاف:
فبعض أهل العلم يرى أن الذمي له حرمة المسلم، فقد حرم ماله وعرضه فلا يجوز أن يعتدى عليه؛ لأن له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وبعض العلماء يرى أنه لا يأخذ حكم المسلم، وقاذفه يعزر ويؤدب. القول الأول: أسقط الحد لوجود الشبهة، وهو مذهب قوي، والقول الثاني: راعى الأصل في حرمة الذمي، ولكن هل هي مساوية للمسلمين من كل وجه؟
قال المصنف رحمه الله: [الذي يجامع مثله].
أي: الذي يتأتى منه الجماع، والسبب في هذا أن القذف تهمة، فإذا قال لصبي لا يتأتى منه الجماع: يا زانٍ، علم الناس كذبه، وحينئذ لا يحصل ضرر على الصبي كضرره عليه إذا كان بالغاً، قالوا: إذا قذف من لا يتأتى منه الجماع؛ سقط الحد عنه، وهذا لا ينفي أنه يعزر، بل إنه يعزر، ولكن القضية هل يقام عليه الحد أو لا يقام عليه الحد؟
وهذا إذا كان لا يتأتى من مثله الجماع، أو لا يجامع مثله، كما لو كان صغيراً لا يتأتى منه الجماع. ومن كان مجبوب الذكر هل يكون قذفه قذفاً؟
على وجهين عند العلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من قال: قاذف المجبوب يقام عليه الحد، واحتجوا بعموم الآية الكريمة، ولكن في الحقيقة إذا سقط القول، وظهر الدليل على كذب القاذف، ووجدت الشبهة؛ قوي القول الذي يقول: بإسقاط الحد عن القاذف، وهذا ما كان يرجحه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أنه إذا وجد ما يدل على كذب القاذف، وظهرت الدلالة على كذبه، كما لو قذف صغيراً لا يتأتى منه الجماع، أو المجبوب الذي عرف جبه؛ فإنه توجد شبهة تسقط عنه الحد، وكان بعض العلماء يقول: إن قاذف المجبوب يقام عليه الحد لاحتمال أن يقصد أنه زنى قبل جب ذكره، وقبل قطع عضوه، وهذا لا شك أنه يقوي مذهب من يقول بوقوع الحد، ولكن الشبهة لا تزال قائمة، إلا إذا فصل في تهمته له بالزنا على وجه تندرئ به الشبهة فيجب عليه الحد.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يشترط بلوغه].
فالصبي قد يجامع قبل البلوغ، فإذا تأتى منه أن يجامع؛ تأتى وصفه بالزنا لاحتمال أن يقع منه الزنا، فلا يشترط أن يكون بالغاً.
بعد أن بين رحمه الله أحكام اللفظ، وما يترتب عليه من عقوبة، ومن الذي يُعَاقبْ، ومن الذي له حق المطالبة بالقذف ممن يعتبر قذفه قذفاً مؤثراً موجباً للحد؛ شرع رحمه الله في بيان أحكام اللفظ، وهذا الركن الثالث من أركان القذف؛ لأن القذف يقوم على: قاذف، ومقذوف، ولفظ يقع ويحصل به القذف. واللفظ الذي يحصل به القذف إما أن يكون صريحاً وإما أن يكون غير صريح، وقد تقدم معنا تعريف الصريح والكناية في الطلاق، واللفظ الصريح في القذف هو: الذي لا يحتمل معنى آخر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ الصريح الذي لا يحتمل معنى آخر؛ فإنه حينئذ يعتبر قاذفاً، وإذا ثبت عند القاضي أنه قال هذا القول، إما باعترافه أو بشهادة الشهود بأنه قال هذا اللفظ الصريح؛ فإنه لا يسأل عن نيته، وإنما يعتبره قاذفاً مباشرة -كما تقدم معنا في الطلاق- فلا يسأل عن النية في الصريح.
وأما إذا كان اللفظ لفظ كناية، وهو: اللفظ المحتمل الذي يتردد بين معنيين فأكثر، فحينئذ يحتمل أن يكون مقصوده ما يدل على القذف فهو قاذف، ويحتمل أن يكون مقصوده شيئاً آخر فليس بقاذف، فلما تردد اللفظ بين الاحتمالين رجعنا إليه لكي يفسر لنا؛ لأن المبهم يفسر، والمجمل يبين، ما كان مبهماً يطلب تفسيره، وما كان مجملاً يطلب بيانه، فحينما يأتي بلفظ مشترك أو متردد بين معنيين: يحتمل أنه أراد القذف ويحتمل أنه لم يرده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، فحينئذ عندنا لفظ يحتمل أنه يوجب الحد ويحتمل أنه لا يوجب الحد، فعندنا أمر مشتبه نحتاج أن نعرف هل هو قصد هذا أو لم يقصد؟ فإن قصده أقمنا عليه الحد وارتفعت الكناية؛ كأن يقول له: يا خبيث، فقلنا له: ماذا قصدت بقولك: يا خبيث؟ قال: يا زان، نقول حينئذ: ارتفع الإبهام، وزال الإجمال، وأصبح كما لو قال له مباشرة: يا زان.
إذاً: عندنا ألفاظ صريحة، وعندنا ألفاظ كناية، وهذا من دقة أحكام الشريعة الإسلامية، ولن تجد على وجه الأرض أتم ولا أكمل ولا أوسع من هذه الشريعة التي فصلت في كل شيء، حتى أنها قضت بين الناس في ألفاظهم وعباراتهم، وبينت الألفاظ التي هي جناية يعاقب صاحبها، وبينت الألفاظ التي هي مثوبة يجازى صاحبها ويحسن إليه، وكل هذا من كمال شريعتنا، والعلماء والأئمة رحمهم الله فصلوا في هذا، ومن هنا يجب عند بيان أحكام القذف أن نفصل في هذا الركن الذي هو ركن اللفظ؛ لأنه ينبني عليه المؤاخذة والعقوبة.
قال رحمه الله: (وصريح القذف: يا زان) بدأ بالصريح، قلنا: عندنا صريح وعندنا كناية، فهل نبدأ في كتب الفقه ببيان الصريح أو ببيان الكناية؟ قالوا: نبدأ بالصريح؛ لأن الأصل في القذف أنه لا يثبت إلا بالصريح، ومن عادة العلماء في الصريح والكناية أن يبدءوا بالصريح أولاً، فإذا قال لرجل: يا زانٍ، أو لامرأة: يا زانية، فإنه قد قذف، وهذا اللفظ صريح في الدلالة على الزنا والقذف، لكن يشترط أن يكون مطلقاً عارياً عن القيد، فلو أنه قيده، فقال له: يا زاني البصر، أو يا زاني العين، أو يا زاني الرجل، أو يا زاني اليد، فهذا ليس كقوله: يا زانٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الزنا في هذه الأحوال كلها، فقال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها الخطى والمشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني، فلو قال له: يا زاني العين؛ فهذا ليس كقوله: يا زانٍ، بلا قيد، ومن هنا لا بد أن يفرق بين المطلق والمقيد.
لكن لو أنه قال له: يا زاني الفرج، أو قال لها: يا زانية الفرج -والعياذ بالله-، أو يا زاني الذكر، فإنه في هذه الحالة يعتبر من الصريح الواضح الذي لا احتمال فيه، فيستثنى المقيد بالفرج، كما أشار إليه بعض الأئمة ومنهم الإمام النووي رحمه الله وغيره، فلو صرح بالإضافة للفرج، فإنه في هذه الحالة يكون في حكم الصريح.
وهكذا إذا قال: يا لوطي، فهو صريح، ومن حيث الأصل فالقذف هو: التهمة بالفاحشة إما بالزنا أو باللواط، وقد تقدم معنا حكم كلٍ منهما، وإذا قال: يا زانٍ، فهو صريح بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله، لكن إذا قال له: يا لوطي، احتمل، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا قال لشخص: يا لوطي، فإنه يعتبر قاذفاً قذفاً صريحاً، قالوا: لأن هذا اللفظ لا يعبر به إلا عن فاحشة اللواط، والمراد به جريمة قوم لوط، فإذا قال هذا فإننا نعتبره قد صرح بالقذف، هذا القول الأول، واختاره المصنف رحمه الله وطائفة كبيرة من أهل العلم رحمهم الله. ومن أهل العلم من قال: إن كلمة: (يا لوطي) محتملة أن تكون تهمةً بالفاحشة أو تهمةً بعمل قوم لوط دون الفحش، وهو ما كان منهم من عمل السوء من تتبع المردان، والغمز، وفعل الخنا في المجالس، فلو أنه دخل على رجل في مجلسه وهو يتعاطى أمور الرذيلة التي لا يتعاطاها إلا أهل الفحش مع المردان ونحوهم، فقال له: يا لوطي، قالوا: إن هذا ليس بقذف بالفاحشة، فلو سُئل عن هذا وقال: أردت أنه يعمل العمل الفلاني من الغمز بعينه أو الدس بيده ونحو ذلك، أو أن مجلسه مجلس الفساد، فقلت له هذه الكلمة وأقصد بها أنه يعمل عمل قوم لوط في مجالسهم، قالوا: فهذه شبهة تسقط عنه حد القذف.
وفي الحقيقة التفصيل قد يراعيه القاضي في بعض المسائل، لكن من حيث الأصل أنه لو قال له: يا لوطي، فإن هذا اللفظ في الغالب لا ينصرف إلا إلى عمل قوم لوط، واختار المصنف أنه قذف صريح، وهو مذهب الجمهور.
قال رحمه الله: [ونحوه]، أي: ونحو ذلك، مثل أن يقول: يا ابن الزانية -والعياذ بالله- أو قال له: يا ابن الزاني، فهذا أيضاً قذف، ونحو ذلك مما يجري مجراه في الدلالة على التهمة بالفاحشة، ومن ذلك أن يعبر بكلمة الجماع في الرجل والمرأة التي هي غير مزوجة، كأن ينسبها إلى الجماع بلفظ الجماع في كل بيئة بحسبها، فذكر العلماء رحمهم الله أن ألفاظ الجماع وما يدل عليها في كل عرف من القذف الصريح، وهذه الألفاظ تختلف من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع، فإذا عبر بالجماع وما يدل على الجماع وفعل الجماع سواءً لرجل أو امرأة؛ فإنه من صريح القذف.
وكناية قذف، أي: اللفظ المحتمل الذي نسأل من قاله عن نيته، فإذا قصد به ما يدل على الفاحشة، كأن يقول: أردت أنه زنى؛ فهو قاذف، وإذا قال: لم أرد الزنا، فهو ليس بقاذف، فإذا قال لها: يا قحبة، أو قال لرجل: يا ابن القحبة، والعياذ بالله! فإن هذا لفظٌ محتمل، فإنه يحتمل أنها زانية، ويحتمل أنها تتعاطى الأمور الرذيلة التي يتعاطاها أهل الفحش، وليس مراده أنها فعلت الفحش، وفي هذه الحالة يسأل عن قصده، ويحلف بالله إنه ما أراد الزنا، هذا إذا قلنا: إنه كناية، فالكناية ينوّى ليبين، ينوى: يعني نسأله عن نيته، فإذا لم يوافق خصمه وقال: لا، ما أراد هذا، ولم يصدقه؛ نقول له: احلف بالله إنك لم ترد الزنا.
إذاً: هناك أمران:
الأمر الأول: أن يصرف اللفظ عن معناه الدال على الزنا وفعل الفاحشة.
الأمر الثاني: إذا لم يصدقه خصمه، نقول له: احلف بالله عز وجل إنك لم ترد هذا المعنى الموجب للحد.
قال المصنف رحمه الله: [يا فاجرة].
وهكذا إذا قال للمرأة: يا فاجرة، أو قال للرجل: يا فاجر، أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الفاجر، كل هذا -والعياذ بالله- من الألفاظ المستقبحة، ولكن يُسأل عن نيته: هل قصد بالفجور فعل الزنا؟ فإذا قال: قصدت أنه زانٍ، فهذا قذف، وإذا قال: ما قصدت الزنا، وصدّقه خصمه فلا إشكال، فلو قال: ما قصدت فعل الزنا، ولكن قصدت أنه يفعل أفعال أهل الفجور من التساهل أو نحو ذلك، فحينئذٍ يحلف إذا كذّبه خصمه، وفي حكم ذلك أن يقول له: يا ديوث، كما ذكر ذلك العلماء والأئمة، أو إذا قال للمرأة: يا قوادة، أو للرجل: يا قواد، ونحو ذلك من الألفاظ التي بسطها أهل العلم، وفي الحقيقة هذه الألفاظ تخضع للمجتمع، فقد تكون هناك ألفاظ قذف عند العامة وليس لها معنى في اللغة، وذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني- نحو ذلك من الألفاظ التي ليس لها أصل في اللغة، وقال أئمة اللغة: لا نعرف لها أصلاً، لكن جرت العادة بين العامة باستخدام هذا اللفظ ومن هنا يرجع القاضي إلى من عنده معرفة، فإذا وقع هذا الكلام في بيئة، فيسأل أهل تلك البيئة: ماذا يراد بهذه الكلمة؟ وماذا تقصدون من هذه الكلمة؟
فإن كانت في العرف صريحة الدلالة على التهمة بالزنا فلا إشكال، وإن كانت في العرف محتملة تطلق على معنى الزنا وعلى معنىً آخر، فحكمها حكم الكنايات كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله: [يا خبيثة].
وهكذا الوصف بالخبث، والخبث يحتمل فعل الفاحشة -والعياذ بالله- كما قال تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ [الأنبياء:74] ، ويحتمل خبث اللسان، ويحتمل خبث النية، ويحتمل خبث العمل، أي: أنه غشاش، لا يحسن معاملة الناس، ونحو ذلك.
إذا قال: فلان خبيث، أو فلان من أهل الخبث، أو هذه خبيثة، أو فلانة خبيثة، فإنها إذا اشتكته إلى القاضي ورفعت أمره إلى القاضي، سأله القاضي: ماذا تريد بهذه الكلمة؟ فقال: أردت بها أنها زانية أو أنه زانٍ -والعياذ بالله- أقيم عليه الحد، فببيانه يرتفع الإجمال، وبتفسيره يزول الإبهام، وأما إذا قال: لم أرد هذا، إنما أردت بالخبث خبث اللسان، أي: أنها تسب الناس أو أنه يسب الناس، أو أردت خبث العمل أي: أنه ليس أميناً في معاملته أو أنه يضرب الناس، أو أردت خبث النية، أي: أنني أرى فيه الحسد، وأرى فيه احتقار الناس، وأرى فيه العصبية، وأرى فيه الغمط للناس وعدم احترامهم، فإذا فسره بغير الزنا ورضي خصمه فلا إشكال، وإلا حلف له.
قال المصنف رحمه الله: [فضحت زوجك].
وهكذا إذا قال: فضحتِ زوجك، الفضيحة تحتمل فضيحة العار والزنا، وتحتمل الفضيحة التي هي دون ذلك، فيسأل عن قصده كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله: [أو نكست رأسه].
الرجل إذا ابتلي بالبلية في أهله أو في عرضه وجلس في مجلس أذلته، ومن هنا ينكس رأسه، وتنكيس الرأس في المجالس غالباً يكون لسبب، وقد يكون محمدة، وقد يكون مذمة؛ فيكون محمدة إذا كان على سبيل الخشية لله عز وجل والخوف منه، والبعد عن التشبه بأهل الكبر والغرور، ولذلك تجد العلماء والصلحاء إذا جلسوا في المجالس العامة أو جلسوا بين الناس، وأرادت الناس أن تفخر بهم؛ طأطئوا رءوسهم ذلةً لله، والدليل على مدح ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما دخل مكة في يوم الفتح طأطأ رأسه حتى كادت طرف لحيته تمس قربوس سرجه تواضعاً لله عز وجل)، فتنكيس الرأس قد يكون عزةً وكرامة، فهي ذلة في موضع عزة، ومهانة في مقام كرامة، وذلك إذا كان لله وتواضعاً له، إذا كان بين من يمدحه ويثني عليه وخشي على نفسه الفتنة ممن ينظر إليه أو من يهابه، فيطأطئ رأسه ذلة لله عز وجل، واعترافاً بفضله، واعترافاً بإحسانه سبحانه، والله هو المطلع على القلوب والضمائر، فهذا فخر للإنسان وشرف وعزة، خلاف أهل الكبر الذين إذا مدحوا شمخوا بأنوفهم، ورفعوا رءوسهم، وتعالوا وانتفخوا، فهذا من نفخ الشيطان فيهم والعياذ بالله!
فطأطأة الرأس وتنكيس الرأس يكنى بها على أن الرجل أصيب بمصيبة، وأعظم المصيبة بعد الدين أن يصاب في عرضه، ولذلك يطأطئ رأسه، فيقال لها: نكست رأس زوجكِ، نكست رأس أهلكِ، فهذا يكنى به على أنها فعلت الفاحشة، حتى إن قريبها لا يستطيع أن يرفع رأسه في القوم، وهذه العبارات كانت موجودة، لكن قد تستبدل الناس عنها عبارات أخرى، والجنون فنون، وسب الناس -والعياذ بالله- من الجنون، والتهور فيه لا يفعله إلا إنسان انعدم عقله الذي يعقله عن سفاسف الأمور، وعن التسلط على الناس، ولذلك إذا قال لها: نكست رأس زوجكِ، وقال: قصدت أنها امرأة لم تعتني بإكرام زوجها، وقصدت أنها امرأة لم تحافظ على زوجها كما ينبغي، ولم تحافظ على وقته بحيث يتفرغ لأموره وشئونه، حتى إنه انشغل بأشياء ما كان ينبغي أن ينشغل بها، ولو كانت زوجته كاملة لحافظت عليه حتى يرتفع رأسه، وما قصدت الزنا؛ فيكون هذا موجباً لاندراء الحد عنه، أما لو قال: قصدت الزنا، فإنه يقام عليه الحد، وهو قاذف.
قال المصنف رحمه الله: [أو جعلتِ له قروناً]، ونحوه
جعلت له قروناً أو حتى شياطين! لا نتوقف عند لفظ معين، المتون الفقهية فيها كلمات غريبة، قد يكون هذا اللفظ (جعلت له قروناً) قذفاً في القديم، ففي كل زمان نسأل أهل الخبرة، وقد تحاشيت ذكر ألفاظ يجوز أن أذكرها في مجالس العلم، ولكن الإنسان يجل مجالس العلم من ذكرها، ذكر العلماء رحمهم الله ما يقارب خمسين لفظاً، ألفاظ بشعة جداً، تنزعج منها الآذان، وتقلق منها القلوب، ويجوز لنا أن نذكرها لأجل العلم، لكن الحمد لله ما دام أن الكتب موجودة، فمن يريد أن يتوسع في ضبطها وفهمها، فليرجع إليها، لكن الذي يهمنا هنا القاعدة والضابط، فلما كانت هذه الألفاظ التي ذكرها العلماء رحمهم الله لا يستعملها الناس كلها، وما ندري ما يستعملون الآن منها، والألفاظ القديمة المعروف منها أعداد معينة، ونحن والله! ما عندنا خبرة بهذه الألفاظ، فكثير منها نجهلها ولله الحمد، ونسأل الله أن يزيدنا بها جهلاً لا يضر بعلمنا.
فهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله، وتتعجب منهم وهم أئمة فحول كيف أخذوها؟ أخذوها بالتلقي، إذاً: نقول لكل قاضٍ وكل مفتي وكل شيخ يريد معرفة هذه المسائل والأحكام: ارجع إلى الضابط والأساس، فالعبرة بقول أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن هذا عندنا لا يستعمل إلا في الدلالة على الزنا، فإنه قذف، وإذا قالوا: يستعمل في معنيين فأكثر، سئل القاذف عن نيته، لماذا نرجع إلى أهل الخبرة؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو إمام وخليفة راشد وكان يقول: لست بخبٍ ولا الخب يخدعني، وكان يعرف أحوال الناس، مع هذا إذا جاء اللفظ المحتمل سأل عنه، ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر رضي الله عنه وأرضاه بقوله: واقعد فأنت الطاعم الكاسي، فجاء الصحابي يشتكي إلى عمر رضي الله عنه من الحطيئة وعمر يفطن ويعرف، ولكن من باب درء الشبهة، قال: ما أرى بهذا بأساً، واستدعى حسان رضي الله عنه لأنه من أهل الشعر، وما رجع إلى غيره، بل رجع إلى أهل المعرفة والخبرة، فقال له: أترى -يا حسان - في هذا هجاءً؟ قال: ما هجاه، بل سلح عليه، يعني: ألعن من الهجاء فإنه قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنت الطاعم الكاسي
كان الرجل فيه بخل، فلما جاءه الحطيئة ولم يكرمه، قام وقال فيه هذه المقالة، فسأل عمر رضي الله عنه حسان فقال له حسان : ما هجاه، بل سلح عليه -أكرمكم الله- يعني: قضى حاجته عليه، وهذا أشد من الهجاء، وعمر رضي الله عنه يقول: ما أرى بهذا بأساً، يعني: ما ظهر له فيه بأس، لكن لما رجع إلى أهل الخبرة؛ قالوا له: ليس هذا بهجاء، بل ألعن وأسوأ وأشد من الهجاء، إذاً: لا بد لطالب العلم ولأهل العلم أن يرجعوا إلى أهل الخبرة والمعرفة.
قوله: (ونحوه) يعني مثله.
قال المصنف رحمه الله: [وإن فسره بغير القذف قُبل].
وإن فسر هذه الكناية بغير القذف قبل، أي: قبله القاضي، فصرف عنه الحد، ودرأه عنه للشبهة.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادةً عزر].
إذا قذف الجماعة على هذا الوجه الذي ذكره المصنف؛ دل الظاهر على كذبه، وذكرنا أن من الأصول التي يندرأ بها الحد أن تقوم الدلالة على كذب القاذف، كما لو قذف من لا يتأتى منه الجماع، ولا يتأتى منه الزنا، وهذا في حكمه.
أي: عفو من جُنِيَ عليه، وهذه من الأحكام المترتبة، فبعد أن بين رحمه الله ما يثبت به الحد، شرع في بيان من يسقط الحد، وهذا من ترتيب الأفكار.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يُستوفى بدون الطلب].
أي: لا يقام الحد بعد ثبوته، ولا يستوفى إلا إذا طلب ذلك الخصم، وقال للقاضي: أطالبه بحقي، أو أقم عليه حد الله عز وجل، أو أريد أن يقام عليه حد الله، فإذا طلب ذلك فإنه يقام عليه الحد، أما إذا لم يطلب فإنه لا يقام عليه الحد.
مسألة: هل يورث الحد؟
وجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حد القذف يورث، فلو قذف أمه الميتة أو أباه الميت، فمن حقه أن يطالب بإقامة الحد، أو قذف أباه فمات أبوه، وتقدم الورثة بطلبه فإنه يورث، وهذا يختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.
الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فأحكام الله لا تغير ولا تبدل، والعقوبات الشرعية توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فنقول له: حقك عند القاذف الجلد، وأما هذه الأحكام الجاهلية من وضع الغرامات المالية في القذف وتشويه السمعة ونحو ذلك، فهذا لا أصل له في الشرع، لكن بعض المسائل قد يقضى فيه بهذا، الذي نتكلم عنه كحكم وقضاء، لكن لو أن أهل القاذف وأهل المقذوف اتفقوا على الصلح بينهم، وجاء أهل القاذف بشيء يرضون به من صالحوه أو كافئوه على تنازله عن الحق، فهذا غير هذا، وباب الصلح ليس له علاقة بمسألة الحد، الحد الذي يحكم به القاضي حد الله عز وجل، لا يحكم بشيء آخر من العقوبات، فلا يعاقبون بالتعويضات المالية في مسائل القذف، الذي يحكم به القاضي هو شرع الله عز وجل، فإذا ثبت القذف وطالب المقذوف بالحد فإنه يقيم عليه حد الله ثمانين جلدة، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، لكن لو أن أهل المقذوف وأهل القاذف اصطلحوا فيما بينهم قبل أن يأتوا إلى القاضي، أو صدر الحكم من القاضي واتفقوا فيما بينهم على أنه يعفو ويعطى شيئاً، فهذا جائز من باب الصلح وتقدم معنا ذلك في مسائل الحقوق العينية، والحقوق الشخصية، والحقوق المالية، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله في مسألة ثبوت الجناية والجريمة، أما الثلاثة الذين هم مسطح وحسان وحمنة حصل منهم القذف، وعرفوا بين المسلمين بالكلام والخوض في هذا الأمر، والذي حركهم لذلك خفية هو عبد الله بن أبي وتولى كبر القذف، فاختار الله عز وجل له ألا يظهر منه ما يوجب ثبوت الحد عليه بالكلام في الفحش، فأرجئت عقوبته إلى الله عز وجل في الآخرة، وهي أشد وأعظم من عقوبة القذف في الدنيا وهي الجلد، ولذلك أقيم الحد على الثلاثة لأنهم كانوا من أهل الإسلام، أما هذا فإنه منافق كافر بالله عز وجل، لا يشتغل بحد القذف فيه وهو كافر بالله عز وجل، ولذلك أطلع الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الجناية من هؤلاء الثلاثة، وأمر بعقوبتهم، ولكن عبد الله بن أبي وهو الذي تولى كبره أرجأ الله عقوبته، وتولى الله عز وجل عقوبته في الدنيا والآخرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، والخبيث كان يثير هذه الأشياء ويحسن التخلص منها، كان يحسن ألا يكون في الصورة، وألا يكون أمام الناس، ومن هنا قالوا: من ناحية شرعية الله عز وجل على علم بأنه من أهل الكفر والنفاق، وما هو معقول أن يجلد حد القذف وهو على ما هو أخبث منه! فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه قبل منه الظاهر، وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم الظاهر، مع أنه معلوم النفاق، ومن أهل النفاق الذين لا يألون -والعياذ بالله- جهداً في أذية الإسلام والمسلمين، وبقي امتحاناً من الله لنبيه، وسنة لعباده وأوليائه في كل زمان ومكان، فإذا كان نبي الأمة يبتلى بهذا الرأس من رءوس النفاق حتى يتكلم في عرض النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلكل عالم ولكل داعية رأس من رءوس النفاق؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، ولكل مصلح رأس من رءوس النفاق، ولذلك تجد كل عالم من علماء السنة في كل زمان له -والعياذ بالله- من يترصد به، ويؤذيه، ويتظاهر بأنه على الحق والخير، إنها سنة ماضية، ولذلك تعزى المسلمون، وتعزى الأخيار والصالحون بمثل هذا، لو أقيم عليه الحد كان أمره ليس كما لو لم يقم عليه الحد، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، وفضوح الآخرة أعظم من فضوح الدنيا، والله سبحانه وتعالى بالمرصاد: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، ومن كانت عقوبته إلى الآخرة فأمره إلى وبال وخسارة؛ لأن الأمور بالعواقب، ولذلك من أقيم عليه الحد طهر، حتى قال بعض العلماء رحمهم الله -وكان بعض مشايخنا يختاره في التفسير-: إن العقوبة للتطهير، ومثل هذا المنافق لا يطهر، قلبه فيه البلاء، في قلبه وليس في جسده: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، فهذا من أشد البيان على أنهم بلغوا -والعياذ بالله- الغاية في التمرد على الله عز وجل، ومشاقة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.
الجواب: الذي أراه أن الإنسان يمسك لسانه، ويحذر من الوقيعة في الناس، إن رأى ضالاً دعا له بالهداية والصلاح، وإن كان عنده أخطاء ويريد أن يبين أخطاءه، فليبين أخطاءه، ولا مانع من ذلك، أما أن يتهمهم بالعهر والفجور فهذا لا يجوز، إلا إذا كان الغناء فيه فجور، وفيه عهر، وفيه دعوة للفساد؛ حكم عليهم بقولهم، ولكن أن يتخذ ذلك سنة، كلما خرج إنسان أياً كان سواءً مغنياً أو غيره؛ يحكم عليه بذلك، ويتجرأ على عباد الله عز وجل، وقد نبهنا على أنه ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه ما أمكن.
إذا حرص كل من فيه خير على هداية الناس ودلالة الناس على الخير، وإذا رأى عاصياً لم ييأس من نصحه وتوجيهه؛ وفقه الله عز وجل، وعظم خيره، وكثرت بركته على الناس، انظر إلى رجلين، رجل يمر على الفاسق فيسبه ويلعنه ويشتمه، ولربما ينتقل من الغيرة على الحق ومن حدود النصح، إلى نوع من العداوة الدنيوية التي خرجت من الدينية إلى الدنيوية، والرجل الآخر لا نقول: إنه يمدح، ولكن يقول له: يا أخي! اتقِ الله عز وجل، وخفِ الله سبحانه وتعالى فيما تفعله، الله عز وجل يقول لأوليائه وأهل طاعته والملتزمين بكتابه وسنة النبي عليه الصلاة والسلام: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63]، فهل السب والشتم قول بليغ؟ هل السب والشتم يقود إلى الخير؟ (قولاً بليغاً): موعظة حسنة تهز القلوب، حينما تنظر إلى العاصي الذي تسلط عليه عدوك وعدوه وهو الشيطان، وتريد أن تكثر به سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتريد أن تهديه إلى الخير؛ فتح الله عليك، فتقول كلمات مؤثرة وقد يكون ذلك في موقف بسيط جداً، وتلهم فيه الكلمة المؤثرة ما دامت نيتك وطريقتك أنك تحرص على هداية الناس، وأهم شيء النية، انظر إلى أي شخص صالح نيته هداية الناس لا ييأس، ولو يقف أمام أفجر خلق الله يتمنى أن يهديه الله عز وجل؛ تجد أنه يوفق في كلام قد لا يوفق إليه غيره ممن يحضر الكلمات والخطب لحسن نيته ولصلاح طويته، وتجد الشخص ربما يتجرأ على الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الرجل يقول: هلك الناس فهو (أهلَكُهُمْ) وفي لفظ: (أهلَكَهُمْ)) فهو أهلكُهُم لأنه آيسهم من رحمة الله فهو أهلكُهُم؛ لأنهم وإن كانوا هالكين فقد قطع على الله عز وجل بأنهم هالكون، مع أن الأمور بالخواتم، وقيل: فهو أهلكَهُم، أي: أهلكهم ولكن الله لم يهلكهم؛ لأنهم ربما تابوا، وهذا رسول الأمة أصلح خلق الله عز وجل، وأهداهم سبيلاً، وأقواهم طريقاً، يقول الله له حينما لعن عصية التي عصت الله ورسوله ورعل وذكوان، وقنت عليهم شهراً يدعو عليهم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، وجاء في بعض ألفاظ السير: (يا محمد! إنا لم نبعثك صخاباً ولا لعاناً، وإنما بعثناك رحمة للعالمين).
تصور أن شخصاً كان في جاهليته ومعصيته وقف عليه شخص وسبه سباً إلى أن استطال فيه، ثم اهتدى بعد ذلك، كيف يكون وجه هذا من ذاك؟ كيف يلتقيان؟ كيف يكون الأمر؟ لكن لو أنه مر عليه وقال له: اتق الله، لعل الله أن يهديك، أسأل الله أن يهديك، أسأل الله أن يتوب عليك، أسأل الله أن يأخذ بيدك إلى ما فيه الخير، لا شك أنه سيؤثر فيه، في بعض الأحيان تأخذك حمية الدين وتقول قولاً قوياً، لا نلومك، الولاء والبراء مطلوب، لكن بشرط أن يكون دافعك الخوف والخشية من الله عز وجل، رأيت المنكر فارتعدت فرائصك، لو رأيته من أقرب الناس منك كما لو رأيته من أبعد الناس منك؛ لأنها حمية لله، وليست حمية نفس، ولا عصبية، فالولاء والبراء الصادق النابع من نفس مؤمنة استنفدت كل الأسباب لهداية الناس ودلالتهم على الخير؛ خيرٌ وبركة، ولا بد للإسلام من عزة وكرامة، لا نرى فاسقاً فنمسح على رأسه ونقول: الله يهديك، ونذل له! لا يصلح هذا، هكذا سيتجرأ أهل الفساد على فسادهم، ولذلك إذا رأيتم فاسقاً فمر عليه الأول ونصحه، والثاني ونصحه، والثالث ونصحه، ثم مريت عليه، وقلت له: اتق الله،* لا تأمن أن يأخذك الله بأخذه، لا تأمن أن يسلبك عافيته، وأخذته بالقول الرادع فهذا قول بليغ؛ لأنه وقع في موقعه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا
فإذاً: كل شيء له مقامه وله مقاله، ولكن أن يأتي الشخص أمام المغنية أو المطرب ويقول: الله يفعل به كذا والملعونة والكذا، هل هي تسمع كلامه فتتأثر وتتوب؟ إذاً: هذا نوع من إضاعة الوقت، لكن شخص حمية لدينه لم يتمالك نفسه، فقال قولاً شديداً غليظاً عنيفاً في موقعه غيرة على الحق، لا يلام، لكن بشرط ألا يتعدى حدوده، وألا ينسى حق الإسلام إذا كان العاصي مسلماً، لا ينسى حق الإسلام، ولا ينزله منزلة الكافرين، شخص ارتكب ذنباً لا يوصله إلى الكفر لا ينزل منزلة الكافرين، وكأنه خرج من ربقة الإسلام من السب واللعن والشتم، وكأنه يئس من رحمة الله، لا، هذا هو الغلو، وهذا هو التنطع، ينبغي علينا أن نضبط الأمور بضوابط الشرع، وأن يتقي الإنسان ربه، وأن يعلم أن الهدف هداية الناس إلى الخير ودلالتهم على الخير.
بعض الأحيان قد تعبر تعبيرات تؤثر على العاصي، ذات مرة رأيت شاباً قارب البلوغ، وقد لبس القصير إلى أنصاف فخذه، فركب معي، فقلت له: أخي! أسألك سؤالاً: هل ثوبي هذا فيه عيب؟ قال لي: ما فيه عيب، قلت: يا أخي! ما أدري أنا كأني أرى فيه عيباً، فقال: والله! ما فيه عيب يا شيخ! قلت: يا أخي! ما فهمت ما أقول، رأيتك لابساً هذا اللباس فظننت أن اللباس الذي علي لا يليق، فطأطأ رأسه من الخجل وتأثر، لو أني قلت له: فيك كذا، وأنت مثل الكفار، وأنت كذا، فعلاً هذا لباس الكفار، فهم الذين يتعرون ويتبجحون بذلك، ولا نعرف هذا من عاداتنا وأخلاقنا وشمائلنا، لكن لما قلت له ذلك طأطأ رأسه خجلاً، ودمعت عينه وقلت له: والله! -يا أخي- إنك بثوبك عندي أعز منه في هذا اللباس، أين أنت يا أخي؟ أي نقص فيك لتتبع غيرك؟ وأي مهانة فيك حتى تظن الكرامة في غيرك؟ ولباس التقوى والستر خير لك، قال: أعاهد الله ثم أعاهدك ألا ألبس هذا بعد اليوم، فلو أنني قلت له مباشرة: أنت لبست لباس الكفار، أنت كذا، لكان ربما يقول لي: أتقول: إني كافر؟! مع أنه لبس لباساً ليس من لباس المسلمين ولا من عادتهم أنهم يأتون في مجامعهم بهذا العري وهذا التفسخ.
إذاً: القول البليغ أن تنصح الناس، وتوجه الناس وتأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل.
النقطة الأخيرة: ألا تيأس، فمن خبث الشيطان أنه إذا جاء الشخص أمام أي إنسان مخطئ أول عقبة يضعها أمامه، أن يقطع رجاءه من الخير، كأن المخطئ الذي أمامه ليس براجع عن خطئه، وكأن المخطئ الذي أمامه سيموت على هذا الخطأ، ولكن الله عز وجل أحيا الأمل في النفوس وقال عن المنافقين: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63]، فإذاً: لا بد أن يحيا هذا الأمل في النفوس، وهي هداية الخلق إلى الله، ودلالتهم على الحق، لعل الله أن يأخذ بالقلوب إلى الخير.
نسأل الله العظيم أن يتوب علينا في التائبين، وأن يشملنا بعفوه ورحمته، وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.
الجواب: السنة تغيير الشيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيروا هذا الشيب)، وسواءً كان في كبير أو صغير، فإذا ابيضت لحيته وهو في شبابه؛ فإنه يغير هذا الشيب بالحناء أو الكتم، كما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتجنب السواد، هذه هي السنة، ومن قال من السلف -كما هو مذهب الحسن وطائفة من الصحابة-: إنه خاص لمن يريد الزواج أو يريد أن يغش النساء، فهذا قول مرجوح، والظاهر عموم النص، وأن المنع عام، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذه المسألة فيها شبهة كبيرة، وهي من مسائل ضع وتعجل، ولها صور بعضها جائز، كما في قضية بني النضير حينما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، (وقالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، فقال: ضعوا وتعجلوا)، وهذه الصورة المذكورة في السؤال فيها شبهة قوية، ولذلك الأشبه منعها والتورع والابتعاد عنها أي: إذا قال له: بالشرط، يعني: أنا أسددك العشرة الأقساط الباقية نقداً، وتحسب الفائدة المركبة على التأخير وتسقطها وأعطيك نقداً، هذا شبهة الربا فيه قوية، وهو الذي أمنع منه، وأرى عدم جوازه.
وأما إذا كان الإسقاط في أصل المبلغ، مثلاً: شخص استدان منك عشرة آلاف ريال على أساس أن يسددها في محرم، فجاءك ظرف قبل شهر محرم وقلت له: يا فلان! أنا أعطيتك عشرة آلاف ريال وظروفي ميسرة، والآن ضاقت بي الأمور، إن أعطيتني ثمانية آلاف منها؛ سامحتك في الألفين، فهذا جائز وهو إسقاط في أصل المبلغ.
فرق بين مسألتنا إسقاط زيادة مركبة على الأجل وبين الإسقاط بأصل المبلغ الذي هو محض الفضل، ومن حقك أن تتنازل عن المبلغ كاملاً، ومما يفرق بين ما كان الإسقاط فيه متمحضاً لقاء الأجل بالشرط أن يقول مثلاً: والله! لا أسددك إلا لما تسقط عني، أو نفس الشركة تقول: إذا سددت الآن نسقط عنك، هذا كله فيه الشبهة التي ذكرنا، وأما إذا كان إسقاطاً في أصل المبلغ فلا بأس، وأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس واختاره الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فمذهب طائفة من السلف والأئمة رحمهم الله أن الإسقاط في أصل المبلغ لا بأس به، وعليه يحمل حديث: (ضعوا وتعجلوا)، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذا فيه ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا كان وجدانك لهذه القطرات فيه أمارة ودلالة تدل على أنها بعد الصلاة، فصلاتك صحيحة ولا تعيد، مثلاً: تجدها طرية، وبينك وبين الصلاة نصف ساعة، فإن طراوتها خلال نصف ساعة يدل على أنها بعد الصلاة، فلو أنها كانت قبل الصلاة لنشفت، لكن كونها طرية في هذه الحالة فالأغلب أنها بعد الصلاة، فهذه دلالة ظاهرة.
الحالة الثانية: أن يكون هناك دلالة عكس تدل على أنها قبل الصلاة، مثل أن تسلم من الصلاة وتقوم فتجد القطرات يابسة ناشفة، والثوب جديد لبسته بعد وضوئك، فحينئذٍ تعلم أنها أثناء صلاتك أو قبل الصلاة مباشرة بعد الطهارة، فحينئذٍ تعيد.
الحالة الثالثة: إذا لم تجد أي دلالة، ما تدري: هل هي قبل أم بعد؟ فإذا صليت ووجدت أثر البول بعد الصلاة على وجهٍ لا يدل على السبق أو اللحوق، فالقاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، وقولهم: ينسب لأقرب حادث، أي: هناك حادثان: حادث قبل أو أثناء الصلاة يوجب الإعادة وبطلان الصلاة، وحادث بعد الصلاة لا يوجب الإعادة بل يوجب براءة الذمة وصحة الصلاة، فينسب لأقرب حادث، فإذا كان ما بعد الصلاة فصلاتك صحيحة، ولا يحكم ببطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.
الجواب: لا يهذب أخلاق المؤمن شيء مثل كثرة الدعاء؛ لأن الأخلاق منحة من الله عز وجل، ولذلك قال: (يا رسول الله! أهو فيَّ أم شيء جبلني الله عليه؟ فقال: بل شيء جبلك الله عليه، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله).
الأخلاق بالدعاء، ونعمة عظيمة أن يلهم الإنسان كثرة الدعاء، دائماً تقول في مظان الإجابة: اللهم! اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال، وتسأل الله أن يهديك حسن الخلق، الدعاء أمر مهم جداً.
الأمر الثاني من الأمور التي تهذب أخلاق الإنسان وتقومه: كثرة تلاوة القرآن؛ لأن القرآن مع التأثر والاتعاظ يحكم القلب، وسلطانه على القلب قوي جداً، فالقلب إذا ارتدع بالقرآن خاف، وإذا خاف راقب الأعضاء والجوارح فزمها بزمام التقوى، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، فهذا القرآن الذي أقام الناس على مشاهد الآخرة ومشاهد الحساب ومشاهد المسؤولية، فيصبح طبعك مع الناس بدل الشدة اللين، وبدل العنف الشفقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح عندك تروي في الأمور بفضل الله ثم بفضل القرآن، وقلّ أن تجد رجلاً من أهل القرآن إلا وجدته معصوماً بعصمة الله عز وجل في لسانه.
الأمر الثالث مما يعين على سلامة القول وسلامة الخلق وذهاب حدة الطبع: قيام الليل، فالمحافظة على قيام الليل من أعظم الأمور التي تهذب أخلاق العبد، ولذلك قال الله لنبيه: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]، فغالباً ما تجد قائم الليل زكي الأخلاق زكي النفس، اجعل لك حظاً من كتاب الله في جوف الليل الأظلم، خاصة في الثلث الأخير من الليل، وجرب بكاء الأسحار وتلاوة القرآن في الأسحار، فإن لها أثراً بليغاً في تهذيب الأخلاق وتقويمها ودلالتها على التي هي أقوم، وهذا شيء معروف يعرفه من يعرفه، فالأخلاق تهذب بقيام الليل، فتنشرح الصدور وتطمئن، فيذهب القلق، وتذهب الحدة، ويذهب الانزعاج.
الأمر الرابع: التسليم لله عز وجل، إذا كان هذا الأمر طبع فيك وما تستطيع أن تخرجه من نفسك، فهذا شيء لا تملكه، ولذلك موسى عليه السلام من أنبياء الله عز وجل لما أخذ برأس أخيه هارون وبلحيته، وألقى الألواح التي فيها كلام الله عز وجل، فإن هذا من شدة الغيرة على دين الله عز وجل، والشدة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ [الأعراف:150]، بين له عذره، فاستغفر له ولنفسه قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ [الأعراف:151]، فهذا طبع في الإنسان، أبو بكر رضي الله عنه كان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك خادمه ويضربه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا يصنع المحرم!)، وهو صديق الأمة وخير الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه.
يوجد أشياء لا تملكها، فإذا كان الخلق الحسن لا تملكه فأوصيك -وهذا الأمر الخامس- أول شيء بالرجوع إلى الحق، بمجرد ما تنتهي من أذية أحد ترجع إليه وتقول له: يا أخي! أنا أخطأت في حقك، والاعتذار يؤثر في نفسك، ويحرجك أن تعود المرة الثانية، فاعتذر مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى تخجل من نفسك، وأقل ما فيها -وليس بالقليل- أنك تحملت الظلم، فإذا أخطأت فعود نفسك أنك تعتذر مباشرة.
الأمر السادس: أن تبتعد عن الأمور التي تستفزك!
وصية أخيرة: الحدة غالباً ما تأتي أمام الضعفاء، فدائماً إذا ابتليت بضعيف في حق من حقوقك أو في أي شيء فتصور كأنك أمام إنسان عظيم، وهذا مما يعين على الأخلاق الكريمة، خاصة لو أردت أن تعرف حقيقة الرجل فانظر إليه مع الضعفاء، وكان أئمة السلف يضربون في ذلك المثل العظيم، يقول القائل: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله، فكان يعز الفقراء والضعفاء، فالحدة ما تشتد أكثر إلا على الضعفاء، لكن أمام الأقوياء تنزل السكينة، وينزل الهدوء، وينزل التعقل، ابتلاء من الله عز وجل. فالناس بسبب ضعف الإيمان إذا وقفوا أمام الأقوياء استضعفوا، وإذا كانوا أمام الضعفاء استقووا، فإذا وقفت أمام ضعيف تصور أنه قوي، تصور أنه من أقوى الناس، وإذا تصورت ذلك التصور فاعلم أن قوته -إذا كان مظلوماً وتريد أن تحتد عليه- من الله وليست من الناس، فهذا أقوى الأقوياء وهو الضعيف الذي تراه أمامك، من يكون مظلوماً فالله جعل له سلطاناً ونصيراً، فلا تستضعف الناس، ولا تظن أن الناس ضعفاء، فإنهم بربهم أقوياء خاصة أهل الإيمان يقول الله: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] (إن) للتحقيق، وقال: (يدافع) وما قال: يدفع، وزيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، أي: دفاعاً عظيماً، ثم كلمة دفع في لغة العرب لها قوة ولها معنى، أي: أن كل الظلم الذي سيأتيهم والأذية سيدفعها الله عز وجل، ثم قال: (عن الذين آمنوا)، عن فقرائهم وأغنيائهم، عن ضعفائهم وأقويائهم، عن كل شخص يذل أو يهان ما دام أنه من أهل الإيمان، فقد تولى الله أمره والدفاع عنه، وإذا تولى الله الدفاع عنه ما يستطيع أحد أن يقف في وجهه، فالله سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره، فعلى كل إنسان أن يحاول قدر المستطاع أن يأخذ بهذه الأسس التي تعينه على سلامة قلبه والتحكم فيه.
ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر