وبين أن الكلام عن الحياة الآمنة إنما هو ديدن كافة المنابر.
ثم انتقل للحديث عن الانحلال الأمني ومبددي الأمن في المجتمعات، مبيناً أن من مقاصد الشريعة استتباب الأمن في المجتمعات، ثم وضح شمول النظرية الأمنية على نطاق واسع، وواجبات هذه النظرية لتستوي على سوقها، وأنواع الأمن المتفرعة منها، وعن دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نشر بنود هذه النظرية.
أما بعــد:
أيها الناس: في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً.
الأمن والأمان هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها؛ بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر خاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت، فانبثق عنها أمن وإيمان ونماء، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يُعكِّر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
إطراء الحياة الآمنة، هو ديدن كافة المنابر، لما للأمن من وقع في حس الناس، من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم، فضلاً عن كونه هبة الله لعباده، ونعمةً يُغبط عليها كل من وهِبها، ولا غرو في ذلك! فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها }.
إن المزايدة على الأمن والأمان في مجتمعات المسلمين عامة، لهو مدعاةً للسخرية والفوضى، المفرزين للممارسات الشاذة، والإخلال المرفوض بداهة، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة، كلُّ ذلك غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان، بل كل مزايدة في اختلال الأمن والأمان إنما هو من نسيج الأعداء المتربصين بنا، وإن استعملوا في نفاذ اختلاله اللهازم من أبناء أمتنا وأغرارهم، من أجل سلب أمن الأمة المسلمة ومقدراتها بكل ما تعنيه الكلمة.
إن مزعزع الأمن ومخلخله إنما هو بادي الرأي يزعزع أمن نفسه ووالديه وبقية أسرته قبل أن يُزعزع أمن غيره من الناس، كل هذا يبدو واضحاً جلياً في مثل كأس خمر، أو قتل نفس، أو جرعة مخدر، أو هتك عرض، أو إحلال فساد بين الخلق، بمثل ذلك ينسلخ مواقع هذه الأمور عن إنسانيته وإسلاميته، ويتقمص شخصية الإجرام، والفتك، والفاحشة، والإضلال بالمسلمين؛ فيشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار، فيخل بالأمن، ويروِّع المجتمع، ويُبدِّد أمنهم شذر مذر.
إنه متى امتد شذوذ المرء ليشمل الآخرين، ويمس من أهله ومجتمعه؛ فإنه -لا محالة- يعرض نفسه لحتفه، بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة، وإلا فلو فكر مزعزع الأمن ملياً في مصير والده ووالدته، حينما تأخذهما الحسرات كل مأخذ، وهما اللذان ربَّياه صغيراً، يتساءلان في دهشة وذهول: أمِنَ المعقول أن يكون من ولدناه تحت ناظرنا معول هدم لأمن المجتمع وصرحه؟!
أما يفكر مزعزع الأمن في زوجه وأولاده الذين يُخشى عليهم الضياع من بعده، والأسى من فقده؟!
ألا يشعر بأن زوجه أرملة ولو كان حياً؟!
أوما يشعر بأن أولاده أيتام ولو كان له عرق ينبض؟!
ألا يُفكِّر مُزعزع الأمن كيف يحل عليه الضعف محل القوة، والهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء؟! حيث لم يعد يؤنسه جليس، ولا يريحه حديث، فهو قلق متوجس، كثير الإلتفات، فكيف يصل إلى منشوده ومبتغاه بعد أن يسأم الحياة بفعله الشاذ؟! والذي سيجعله قابعاً في غياهب السجون بسبب جرمه، فضلاً عما يُخالج أنفاسه وأحاسيسه؛ من ارتقاب عقوبة كامنة عند كل طرقة باب، لا سيما إن كان في هذه العقوبة حتفه، وتغييبه من هذه الحياة.
ولا غرو في ذلك! فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] وقديماً قيل: القتل أنفى للقتل.
فحفظاً للأمن والأمان غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من شَفِعَ في حدِّ من حدود الله بعدما ما بلغ السلطان، وأكَّد على ذلك بقوله: {وايم الله! لو أن
وإنه حين يدب في الأمة داء التسلل الأمني، فإن أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة، وهم يخدمون بمثل هذا -عن وعي أو عن غباء- الغارة الاستعمارية على ديار المسلمين، من خلال أعمال، تزيد السقم علة، والطين بلة، فيُطاح بالمسلمين، وتوصد أبوابهم أمام الحياة الهانئة الآمنة.
ومثل هذا ظاهر جلي في طرح الدعوات الصارخة لما يُسمى بمبادئ حقوق الإنسان، والتي تجعل من فتح الحريات وعتق الرغبات رفضاً باتاً للفطر السليمة، وسبباً مباشراً تدمر به الأخلاق المستقيمة، ومن ثمَّ يزعمون أن من خالف ذلك فهو ضد الإنسان والإنسانية، وضد الحقوق الشخصية، والرغبات الفردية، وهي في الحقيقة ليست من الإنسانية في شيء، ولا هي من بابتها، فلا تمت لها بخيط رقيق، ولا حبل متين، بل إنما يُنمَّق حول ذلك ويزوق مر العاقبة وإن حلا ظاهره، وصعب المرتقى، وإن سهل ترويجه، ودميم الطرح مهما بدت فينا دماثته.
لقد سفَّهت دعوات حقوق الإنسان أحكام الشريعة؛ فوصفت إقامة الحدود بالسفه والحطة والغلظة، دعا أهلها إلى حفظ حقوق الإنسان فقتلوه من حيث أرادوا حفظ حقه، وأخرجوه من القيود الشرعية حرصاً عليه، فإذا بهم في نهاية المطاف يدركون أنهم إنما كانوا يُنادون بحفظ حقوق الإنسان المجرم، فإلى الله المشتكى.
إن الأمن بهذه الصورة هو المطلب الأول، وهو الذي تتحقق به الصلة بالله جلَّ وعلا، والتي بسببها يعم الأمن أرجاء المجتمعات، ويتحقق وعد الله لها بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور:55] فكان الجواب التالي لذلك: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55].
والشرك -هنا- غير مقصور على مجرد عبادة الأصنام كما يتصوره البعض، فيخرجون معنى هذه الآية عن صور شتَّى في هذه الأزمنة، فكلمة (شيئاً) نكرة في سياق النهي؛ فتعم جميع صور الشرك مهما قلت، ألا تسمعون قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله: أن الفتنة هنا هي الشرك.
الأمن الفكري -يا عباد الله- ينبغي أن يُتوَّج بحفظ عنصرين عظيمين، ألا وهما: عنصر الفكر التعليمي، وعنصر الأمن الإعلامي، إذ يجب على الأمة -من خلال هذين العنصرين- ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب والتي هي بدورها تطمس هوية المسلم، وتفقده توازنه الأمني، والاعتزاز بتمسكه بدينه، إذ إن الأمن على العقول لا يقل أهمية عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين، وللأموال كذلك، فإن للعقول لصوصاً ومختلسين، بل إن لصوص العقول أشد خطراً وأنكى جرحاً من سائر اللصوص، فحماية التعليم بين المسلمين من أن يتسلل لواذاً عن هويته، وحماية التعليم في إيجاد الآلية الفعالة في توفير سُبل العلم النافع الداعي إلى العمل الصالح، والبعد عن التبعية المقيتة، أو التقليل من شأن العلوم النافعة، والتي لها مساس أساسي في حياة الأمم من الحيثية الشرعية الدينية التي يعرف بها المرء ربه، وواجبه المفروض عليه، أو التهوين من شأن علوم الدين، أو استثقالها على النفوس؛ لما من شأن ذلك كله أن تضعف المجتمعات بسببه، أو تندرس معالم الأمن الفكري فيه، إذ بان عصر التحكم المعرفي، والاتصالات العلمية والثقافية التي غلبت على أدوار الأسر والبيئات التي تنشد الصلاح العام.
بالفكر الإعلامي تعرف المجتمعات الجادة من المجتمعات المستهترة .. المجتمعات المثلى من المجتعات الناكبة، فما يكون في الفكر الإعلامي من اعتدال وكمال يكون كمالاً في بيئته الأمن الإعلامي واعتدالها، وقرة عين لمجموع الأمة بأكملها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال فإنه يكون مرضاً للأمة يُوردها موارد الهلكة والتيه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، فإن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
أما بعــد:
فاتقوا الله أيها المسلمون! ثم اعلموا أن من أهم الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنية من كافة جوانبها دون كلفة أو تجنيد وإعداد، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن ذلك عماد الدين، الذي فُضِّلت به أمة الإسلام على سائر الأمم، والذي يُسدُّ من خلاله خوخات كثيرة من مداخل الشر على العباد.
بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتكاتف الجهود، ويلم الشعث، ويرأب الصدع، وتتقى أسباب الهلاك، وتدفع البلايا عن البشر، وبفقد ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس -يعني: بداية حلول الفوضى وانتشار اللامبالاة المولدة للأمن العكسي، وهو الأمن من مكر الله: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
وبالأمر والنهي يصلح المجتمع، ويقوم الفرض الكفائي الذي يسقط التبعة والإثم عن بقية المجتمع، وإلا تحقق فينا قول الباري جلَّ شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
ولم يقل: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة، إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بين المسلمين، إنما هم -في الحقيقة- يقومون بمهام الرسل في أقوامهم وذويهم، فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجة والنجاة، والعكس بالعكس: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].
وإن انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود، ومعرة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً [الأعراف:16] فلمّا لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص الله على نجاة الناهين بقوله: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:16] وسكت عن الساكتين.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة ، قال: [[دخلت على
إذاً: ينبغي لأفراد الناس عموماً وأهل العلم بخاصة أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم وأسرهم ومنتدياتهم على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، حكمة وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن: [[وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ]].
ثم إنه لا يمنع من التمادي في الوعظ والنصح والإصرار عليه عدم قبول الحق منه؛ لأنه فرض فرضه الله علينا جميعاً قُبِلَ أو لم يُقْبَل، فإنَّ هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبه تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرَّج هم المهمومين من المسلمين، ونفَّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم!
اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر