أما بعد:
أيها المسلمون! الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، والأمم باقية ما بقيت أخلاقها، هذه حقيقة مسلمة لا ينازع فيها إلا مريضٌ لم ينقه، أو مغرضٌ لا يفقه، كما أن من المسلم أيضاً أن تدهور الأخلاق ناجمٌ عن نقص الوازع الديني في النفوس، الوازع الديني الزاجر والمنجي، الوازع الديني الذي يمتلك عنان النفس ويسيطر عليها فيكبح جماحها، ويهتن دمعها، ويغسلها بالنقاخ الذي يبرد الفؤاد.
وإن من أعظم الأخلاق المندوبة والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم أن فقدان الرحمة بين الناس فقدان للحياة الهانئة، وإحلالٌ للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء.
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:4-8].
قال أبو رافع : أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحىً عظيمة حتى ماتت: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8].. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص:41] لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارساتٍ شاذة ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبيثة، تقود يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء؛ بل هي أشد قسوةٌ منها قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلةٌ مردة، من قديم الزمان فقال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72] وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [المائدة:13].
لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بأمته؛ حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان: {أقسمت بنت من بناته صلى الله عليه وسلم ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء
فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم -عباد الله- من قصة هذا الرجل؟! أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟! ناهيك عن إيذاء البشر، والإستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟!
أين أنت يا سائق الإبل؟!
أين أنت يا راعي الأسرة؟!
أين أنت يا راعي المدرسة، وأنت يا راعي الوظيفة؟!
اتقوا الله جميعاً في من استرعاكم.
ولئن كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه أو البشر بطلب النصرة منه؛ فإن ربه حي لا يموت، يراكم ويسمعكم؛ ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون: بتجلي خلق الرحمة في ذات المصطفى صلى الله عليه وسلم عالج محو الجاهلية، وقطع ظلامها بأنوار الرحمة والعطف، فكفكف من نزوات الجاهلية وقسوة قلوبها، وأقام أركان المجتمع على دعائم الرحمة والشفقة وحسن التخلق، وذلك من محاسن الشريعة، وإن كمال العلم في الرحمة، ولين الكلام مفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله أن يعالج أمراض النفوس، وهو مطمئن القلب رخي البال، وإلا انفض الناس من حوله، فعاشوا جهالاً، وماتوا جهالاً، وذلك هو الشقاء وهو سببه وعلته.
لقد رجعت بعض النفوس منداة الجسم بعرق القسوة والغلظة، وإذا تندت الجسوم وجب نزع المبلول، وإلا فهي العلة ناقلة النفوس، ما أشده مضضاً ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطاً، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة؛ فلا تجد إلا قلباً أيراً، وصدراً وحراً، ولسانا ولقاً ينصنص؛ إلا من عصم ربي، وقليل ماهم!
إن من النجاة: الفكر في البلاء والتفكر في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله؛ فيكون علاجاً يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتلجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة.
إن النفس ينبغي أن ترغب بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن، وأن تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصر جديد، ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه أن يحمل في نفسه معنى الناس لا معنى نفسه؛ لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة، إن الناس أحرار متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة والتواد والتعاطف تحت ظل الإسلام الوارف، قال صلوات الله وسلامه عليه: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى } رواه مسلم .
وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم في مقابل استبعاد كل تلك المعاني الحيوية التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج في الحياة بعضها ببعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استقصى زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح.
وتكون يقظة التاجر في غفلة الشاري، فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم؛ فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة في النفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء والقسوة والجزع.
كان رضي الله عنه يتعهد امرأة عمياء في المدينة يقضي لها حاجاتها سراً إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها فقال: [[بلى لأحلبنها لكم، وإني أرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه ]]، ولقد تجلت الرحمة في أعلى صورها في الخليفة الفاروق رضي الله عنه الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان انقلبت نفسه ظهراً على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس غليظ القلب، فلما ولي الخلافة خطب الناس قائلاً لهم: [[اعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد؛ فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف ]] فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.
فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعموا أن المرء المسلم مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولاً في أهله، وثانياً في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عوناً لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته، واعملوا بمثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط } رواه أبو داود ، وحذار من الوقوع فيما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا } رواه أبو داود .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه .. إنه هو الغفور الرحيم.
فيستحب لكم -أيها المسلمون- صيام هذا اليوم، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل خير في اتباع ماجاء به، وكل شر في ابتداع ما جاء به.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقال صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح: (من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً ).
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .. إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين .. إنك حميدٌ مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ما سألناك من الخير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا.
عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر