أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة المرسلات المكية, ذات الخمسين آية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:16-28].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ [المرسلات:16-17]؟ بلى وربنا. فهو لما استعرض عليهم ما استعرض من آلائه ونعمه في الآيات الماضية وأصروا على التكذيب والشرك والكفر -والعياذ بالله- أعلمهم بأنه سينزل بهم ما أنزل بمن سبقهم. فقال: أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ [المرسلات:16]؟ وهم عاد وثمود, وقوم لوط وأصحاب الأيكة، وغيرهم من الأمم, وقد أهلكهم الله بكفرهم وفجورهم, وعدم طاعتهم لله ولرسوله. والاستفهام هنا تقريري، أي: إي والله، وبلى والله.
ثم قال تعالى: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ [المرسلات:17] أيضاً. وقد حدث هذا، فقد أهلك الله من كفار قريش سبعين صنديداً في غزوة بدر، وأهلك بعضهم بمرض خطير, فهلكوا عن آخرهم. وما زال وعيد الله كما هو, فقد قال: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ [المرسلات:17]. وقد أتبعهم, وما زال يتبع.
والمجرمون يا عباد الله! ليسوا البيض ولا السود, ولا العرب ولا العجم، بل هم أولئك الذين أجرموا على أنفسهم، ولطخوا أنفسهم بالعفن والنتن وبأوضار الذنوب والآثام. فهؤلاء أجرموا على أنفسهم، فقد كانت النفوس مشرقة طيبة طاهرة نقية يوم نفخها الملك في الجسم في رحم الأم، ولما أعرضوا عن ذكر الله وعبادته وطاعته وأقبلوا على معصيته تحولت نفوسهم إلى خبث وعفن ونتن، وسخط الله عليها, ولم يرض عنها. هؤلاء هم المجرمون. ونحن نبرأ إلى الله من صنيعهم. ونسأل الله ألا نجرم يوماً من الأيام, وألا نترك واجباً أوجبه علينا، ولا نفعل محرماً حرمه علينا، إذ الإجرام هو هذا, فهو ترك الواجبات وفعل المحرمات. فهذا يعتبر إجراماً على النفس, والعياذ بالله، فتتعفن النفس, فيكرهها الله عز وجل ويبغضها, ويدخلها جهنم، وقد ينزل بها عذابه في الدنيا قبل الآخرة، كما قال تعالى: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات:18].
ثم قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المرسلات:21], أي: فجعلنا ذلك الماء الهين المهين الساقط الهابط نطفة المني في قرار مكين, وهو الرحم. ولو تجتمع الدنيا كلها على صنع رحم والله ما تستطيع.
والرحم هو مكان قرار ثابت، فالطفل المولود فيه يكون في قرار مكين. ولا أحد يفعل هذا سوى الرب تعالى. إذاً: فليؤمنوا بالله, ولا يكفروا به, ولا يعرضوا عن ذكر الله, فهو الذي خلقنا في ذلك القرار المصون, ولذلك فهو الذي يجب أن يُحب من أجله, ويُكره من أجله، وهو الذي يجب أن يُعبد, ولا يعبد سواه. وهذا هو الله, فهو الذي قال: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ [المرسلات:20]؟ فلنقل: بلى يا ربنا! لقد خلقتنا من ماء، ثم جعلته في قرار مكين. وقد عرفتم أن القرار المكين هو الرحم، فهو لا يدخله شيء جديد ولا غيره, بل هو مكان محفوظ؛ حتى يكتمل خلق الولد إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [المرسلات:22], أي: إلى مدة معينة، خمسة أشهر .. ستة .. سبعة .. ثمانية .. تسعة. فهو يبقى في الرحم إلى قدر قدره الله, وهو معلوم عند الله في كتاب المقادير، سواء كان ذكراً أو أنثى.
قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:24]! الذين يكذبون بآيات الله الدالة على وجوده وعلمه, وقدرته ورحمته وحكمته، فلهم العذاب الأليم. فقولوا: آمنا بالله، ولا نعبد إلا الله، ولا نرفع أكفنا سائلين ضارعين إلا إلى الله، ولا نقسم ونحلف إلا بالله، ولا نحب إلا في الله، ولا نكره إلا في الله.
وهنا لطيفة فقهية, وهي: جاء في السنة أن قلامة الظفر يجب أن تدفن، والشعر المحلوق يجب أن ندفنه، والدم الخارج من الحجامة يجب أن يدفن، وهكذا, سواء من حي أو من ميت، فيجب أن تدفن هذه العظام وهذه الأجزاء؛ لأنها من أصل الإنسان الذي يدفن في الأرض. وهذا لقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]؟ ولهذا إذا قلم أظافر الميت يدفنونها معه، وهكذا. فكل أجزائنا يجب أن تدفن في الأرض؛ لأن الأصل هو هذا. فقد قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]؟ فلنقل: بلى يا ربنا! قد جعلتها كذلك، فلا نعصيك ولا نخرج عن طاعتك يا رب العالمين!
وهذه مظاهر وجوده الدالة عليه، ومظاهر علمه وحكمته، ومظاهر رحمته، فلنظهر حبنا له وطاعتنا له.
ثم قال تعالى: وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [المرسلات:27], أي: ماءً عذباً. فهذا الماء العذب الذي نشربه هو الذي سقانا إياه, وهو الذي أنزله من السماء, وأجراه في الأرض فوقها وتحتها. إذاً: فلنقل: الحمد لله. فمن شرب منا أو أكل يجب أن يقول: الحمد لله بعد أكله وبعد شربه، وعند تناول الشرب والأكل يقول: باسم الله، وباسمه تعالى آكل وأشرب. فهو الذي أعطانا، وهو الذي من علينا بهذا العطاء, وأذن لنا فيه.
والهابطون اللاصقون بالأرض من بهائم البشر كالخنازير لا يذكرون الله ولا يعرفونه, ولا يسألون عنه, وهم يطيرون في السماء ويغوصون في الماء, ويأكلون أكل البهائم والحيوانات. وهكذا كل الكفار والمشركون, والعياذ بالله.
[ من هداية ] هذه [ الآيات] التي تدارسناها الآن بفضل الله:
[ أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء ] وأنه لا بد من الحياة الثانية، ولا بد من الحساب فيها على العمل في هذه الدنيا، ولا بد بعد الحساب من جزاء، إما نعيم مقيم في دار السلام الجنة دار الأبرار، وإما عذاب أليم وجحيم في دار البوار, والعياذ بالله تعالى. فلا بد من هذا.
[ ثانياً: الاستدلال على البعث والجزاء بالقدرة والعلم؛ إذ هما أساس البعث والجزاء ] فمن هداية الآيات: الاستدلال بقدرة الله عز وجل على خلق هذه المخلوقات على أنه قادر على أن يرحمنا أو يعذبنا، إذ لا رب لنا غيره ولا إله سواه. وهذه المظاهر الظاهرة تدل على وجوده وعلمه، وقدرته وحكمته، وتوجب طاعته وعبادته, وبذلك يسلم العابدون وينجون, ويهلك الكافرون ويخسرون.
[ ثالثاً: بيان إنعام الله تعالى على عباده ] وقدرة الله [ في خلقهم ورزقهم, وتدبير حياتهم أحياءً وأمواتاً ] وفي إكرامهم والإنعام عليهم, وفي سقيهم وفي إطعامهم. فهذا كله إفضال الله وإنعامه، فالحمد لله.
[ رابعاً: بيان أن الناس أكثرهم لا يشكرون ] وهذه حقيقة. فأكثر الناس لا يشكرون، وهذا هو الواقع. فنسبة المسلمين إلى الكافرين اليوم واحد إلى المليون، وهكذا هم طول الدهر من آدم عليه السلام، فالمكذبون الكافرون عددهم أكثر من المؤمنين الموحدين في كل زمان ومكان.
[ خامساً ] وأخيراً: [ الوعيد الشديد للمكذبين الكافرين ] وقد دل عليه قوله تعالى: وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:28]! فقولوا: آمنا بالله، وقولوا: والله ما نكذب بآيات الله, ولا بما أخبر به الله؛ حتى ننجو من هذا الوعيد والعذاب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر