أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ * إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:38-49].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ها نحن ما زلنا في الدار الآخرة هذا السياق الكريم، فقد عرض علينا العرض في ساحة القضاء يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، وما يقوله أهل النار ويرددونه.
وهنا قال لهم تعالى: إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ [الصافات:38]، أي: وعزة الله وجلاله إنكم يا أهل الكفر والفسق والفجور! ويا أهل الشرك والباطل! لذائقوا العذاب المؤلم الموجع، فهم يلقون في أتون الجحيم، ويعيشون ملايين السنين، وطعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم، ويوضع أحدهم في صندوق ويلقى في ساحة لا يطلع عليه أحد، ولا يأكل ولا يشرب، ولا يموت ولا يحيا ملايين السنين. ووالله لا عذاب أشد من عذاب النار. نعوذ بالله من النار وعذابها. فهذا حكم الله، إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ [الصافات:38] في جهنم.
فالمخلصون هم الذين لا يعملون عملاً إلا لله، وكل عباداتهم على اختلافها وتنوعها ليس فيها شرك لغير الله أبداً، فهم لا يعبدون إلا الله. وها نحن نشاهد ونسمع من يدعون غير الله، ومن يستغيثون بغير الله، ومن ينادون الأموات، ويطلبون منهم العطاء. وليس هناك شرك أعظم من هذا، ولا كفر أبشع من هذا الكفر. فصاحبه ينسى ربه ويتجاهله لا يلتفت إليه، ويقصد قبراً وينادي صاحب القبر: يا فلان! فيا للعجب! فهذا لا يقبله عاقل من العقلاء، فلا يقبل أحد أن تترك الرحمن الرحيم الذي يسمع نداءك وصوتك في كل مكان، ويستجيب لك ويعطيك ما تطلب، وتغفل عنه وتنادي مخلوقاته، وتدعوهم: يا فلان!
إذاً: اللهم اجعلنا من المخلصين لك، ومن المخلَصين لك الذين استخلصتهم لعبادتك يا رب العالمين!
وللإمام الشافعي رحمه الله بيتان من الشعر قالهما عند تفسير هذه الآية: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:40]، فقد قال:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً
ويقرر الشافعي أن قوله تعالى: (مخلصين) هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد استخلصهم الله من اليهود والنصارى، والبوذيين والمشركين والمجرمين، وأنزل إليهم وحيه، وبعث رسوله، وأصبحوا عباده الصالحين الذين استخلصهم له؛ ليعبدوه وحده دون من سواه.
فالإمام الشافعي الهاشمي القرشي يقول:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي
ويقول تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
وأسعد الخلق هو من يناديه الله ويقول له: يا عبدي! والذين ناداهم الله هم المؤمنون الموحدون، وهم هذه الأمة الإسلامية التي لزمت باب الله ولم تفارقه. وأما الذين عبدوا الرجال والنساء، والشهوات والفروج، وأعرضوا عن الله فليسوا من هذه الأمة بحال من الأحوال.
وقوله: فَوَاكِهُ [الصافات:42]، أكل الجنة كله هكذا، وليس من أجل ألا يموتوا، ولا من أجل أن يدفعوا الجوع أو العطش، بل كل أكلها للتفكه، سواء كان من لحوم أو من أي طعام، فهو من أجل التفكه، لا لحاجتنا إليه.
وقوله: وَهُمْ مُكْرَمُونَ [الصافات:42]. الذي أكرمهم هو الله، ولما يزيل الحجاب عن وجهه الكريم ويسلم عليهم ويشاهدون ربهم هذا أكبر إكرام، وليس فوقه إكرام، فالرحمن عز وجل يزيل الحجاب عن وجهه الكريم ويسلم عليهم، وليس هناك إكرام أعظم من هذا الإكرام.
وقوله: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الصافات:44]، أي: يتكلمون ويذكرون الله، ويسعدون بمقابلة بعضهم البعض، ولا وحشة ولا غربة كما هي في الدنيا.
وقوله: يُطَافُ عَلَيْهِمْ [الصافات:45]، أي: يدورون عليهم بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الصافات:45]. وكأس المعين أي: من ماء يسيل دائماً، وليس من خزان كما يقولون ولا من قربة.
هذا نعيم أهل الجنة. اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
[ معنى الآيات:
قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الصافات:38-39]، هذا يقال لأهل النار، وهم موقوفون ] في ساحة فصل القضاء [ يتساءلون. ومن جملة ما يقال لهم عندئذ هذا القول، فيخبرون بأنهم ذائقو العذاب الأليم الموجع، وأنهم ما يجزون إلا بما كانوا يعملون، فلا يظلمون بالجزاء، بل هو جزاء عادل؛ السيئة بمثلها. وهنا استثنى تعالى جزاء ] عباده [ المؤمنين الذين استخلصهم لعبادته، فعبدوه ووحدوه، فإنهم يجزون بأكثر من أعمالهم فضلاً منه عليهم وإحساناً إليهم، فالحسنة بعشر أمثالها، وبأكثر ] من عشرة [ إلى سبعمائة وأكثر، فقال: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:40]. وبين تعالى بعض جزائهم فقال: أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [الصافات:41]، أي: يأكلونه بكرة وعشياً.
وقوله: فَوَاكِهُ [الصافات:42]، فيه إشارة إلى أنهم لا يأكلون ولا يشربون لحفظ أجسادهم من الموت والفناء، وإنما يأكلون ما يأكلون ويشربون ما يشربون تلذذاً بذلك، لا لدفع غائلة الجوع كما في الدنيا. وَهُمْ مُكْرَمُونَ [الصافات:42]، أي: في الجنة، حيث لا تلحقهم إهانة أبداً.
وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الصافات:43]، أضاف الجنة إلى النعيم مبالغة في وصفها بالنعيم، حتى جعل الجنة جنة النعيم، فجعل للنعيم جنة.
وأخبر أنهم متكئون فيها عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الصافات:44]، ينظر بعضهم إلى بعض، وهم في جلسات تنعم. وأخبر عنهم أنهم في حال جلوسهم متقابلين يسقون بواسطة خدم من الملائكة خاص، فقال: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الصافات:45]، أي: من خمر تجري بها الأنهار، كأنها عيون الماء. ووصف الخمر بأنها بَيْضَاءَ [الصافات:46]، وأنها لَذَّةٍ [الصافات:46] عظيمة لِلشَّارِبِينَ [الصافات:46] لها، وأنها لا فِيهَا غَوْلٌ [الصافات:47]. وهو ما يغتال أبدانهم كالصداع ووجع البطن، فقال: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47]، أي: لا يسكرون بها، فتذهب بعقولهم.
وقوله ] تعالى: [ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الصافات:48]، يعني: أن لهم نساء هن أزواج لهم. ومعنى قاصرات الطرف أي: على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم؛ وذلك لحسنهم وجمالهم، فلا تنظر الواحدة منهن إلا إلى زوجها.
وقوله ] تعالى: [ عِينٌ [الصافات:48]، أي: واسعات الأعين، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]. هذا وصف لنساء الجنة، وأنهن بيض الأجسام بياضاً كبياض بيض النعام، إذ هو أبيض مشرب بصفرة، وهو من أحسن أنواع الجمال في النساء ] أي: البياض المشرب بصفرة.
قال: [ ومعنى مَكْنُونٌ [الصافات:49]: مستور، لا يناله غبار ولا أي أذى ] أو غير ذلك.
اللهم اجعلنا من أهل الجنة. فهيا بنا نوحد الله، ونقول: لا إله إلا الله، ولا ندعو غير الله، ولا نحلف بغير الله، ولا نتوسل غير الله، ولا ننادي ولا نستغيث بغير الله. ثم نقول: ونشهد أن محمداً رسول الله، فنمشي وراءه، فما أحل هو الحلال، وما حرم هو الحرام، وما بينه هو دين الله، ونقتفي أثره، ونمشي وراءه، ونصوم كما يصوم، ونصلي كما يصلي، ونأكل كما يأكل، ونمشي كما يمشي، ونحب كما يحب، ونكره كما يكره؛ لأنه رسولنا وقائدنا، فيمشي أمامنا، وبذلك نصبح من المخلصين الذين وصفهم الله هنا، وبين ما أعد لهم من نعيم مقيم.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان عدالة الحق تبارك وتعالى في أنه يجزي السيئة بمثلها، ولا يؤاخذ أحداً بغير كسبه في الحياة الدنيا ] فالله هو العدل، ويحكم بالعدل، ولا يجزي كافراً ولا فاسقاً ولا مجرماً بأكثر من ذنبه أبداً، بل السيئة بسيئة فقط، وأما مع أوليائه وصالح عباده المخلصين فالحسنة بعشر إلى سبعمائة إلى أكثر؛ فضلاً منه ورحمة، وأما بالنسبة إلى أعدائه أهل النار فيجزيهم بحسب كفرهم وشرهم وفسادهم.
[ ثانياً: بيان فضل الله تعالى ] على المؤمنين [ إذ يجزي المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى أكثر من سبعمائة ] إلى ألف ألف.
[ ثالثاً: تقرير ] عقيدة [ البعث، وبيان بعض ما يجري فيه من قول وعمل ] وهذا شأن السور المكية في القرآن، فأي سورة مكية فهي تعالج العقيدة؛ لتصحيحها؛ ليصبح صاحبها عبداً صالحاً، يعبد الله وحده، ولا يشرك به سواه، ويطيعه ولا يعصيه، ولا يخرج عن دينه بحال من الأحوال.
والعقيدة هي لا إله إلا الله محمد رسول الله، فأهل لا إله إلا الله يمشون وراء رسول الله، ولا يحاولون أن يتفوقوا عليه أبداً، لا في الأكل ولا في العبادة، ولا في أي عمل، بل هم له تابعون. وكذلك يؤمنون بالبعث والجزاء، وأنه يبعثنا الله من قبورنا أحياء والله العظيم، ثم يحاسبنا ويجزينا، فأهل الإيمان وصالح الأعمال ينزلهم الجنة، وأهل الشرك والذنوب والآثام ينزلهم دار البوار جهنم، والعياذ بالله.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ وصف نعيم أهل الجنة طعاماً وشراباً، وجلوساً واستمتاعاً ] فمن هداية هذه الآيات: وصف الجنة، ووصف طعامها وشرابها ولباسها كما علمتم، وحورها وما هم عليه.
معاشر المستمعين! بالأمس طرح سؤال وأجبت عنه، فاضطرب بعض إخواننا في الفهم، فواعدتهم أن أعيد القول. فقد قال السائل: لنا مسجد وحصل فيه هدم أو كذا، فنحن الآن نبنيه ونصلحه حتى يرتفع، وفي هذا الوقت بالذات ليس عندنا مسجد، فنصبنا إلى جنبه خيمة واسعة تتسع للصلاة، فهل يجوز لنا أن نصلي فيها الجمعة؟
فقلت لهم: يجوز. والخيمة تستركم من الشمس ومن المطر كالسقف، فتصلون فيها إذا كانت واسعة حتى يتم بناء المسجد، وتنتقلون إليه. وهذا واضح، وليس فيه أي غموض أبداً. فنحن عندنا مسجد نبنيه ونصلحه، وسنتوقف الآن عن الصلاة فيه لوجود العمل، فنصبنا خياماً إلى جنبه، ونحن نصلي في هذه الخيام، فتصح الصلاة، وكذلك الجمعة تصلى فيها، وكذلك العيد يصلى فيها، حتى يكتمل البناء، وننتقل إلى المسجد، ونزيل الخيمة. وهذا من إصلاح المؤمنين وصلاح أعمالهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر