تكلمنا أن في صيام النافلة ثواب عظيم جداً, وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام، وصلى والناس نيام)، هذا الحديث الصحيح العظيم عن النبي صلى الله عليه وسلم يجعلنا نتذكر ونعتبر أن الإنسان مخلوق في هذه الدنيا لهدف عظيم وهو عبادة الله عز وجل، ولغاية عظيمة وهي أن يصل إلى جنة الله عز وجل, والحديث المذكور فيه تبشير للمؤمنين وتذكير لهم, ويجعل الإنسان كأنه بعقله وقلبه في جنة الله سبحانه تبارك وتعالى, يريد أن يصل إليها بأي عمل من الأعمال يرضي به ربه سبحانه, ويغتنم الأيام والليالي العظيمة التي في شهر رمضان وغيرها من الليالي والأيام التي يستحب فيها الإكثار من الخير.
وقوله: (وتابع الصيام) بمعنى: صام نوافل كثيرة, وقوله: (وصلى والناس نيام)، أي: قام لله عز وجل مصلياً, وفي شهر رمضان قد تصلي مع الناس وترجع إلى بيتك, فانتهز الليل وصل فيه ركعات ولو خفيفات تصليها وحدك وأنت في جوف الليل لا يراك أحد, حتى تحصل على هذا الثواب وهذا الأجر, ولا تقل: أنا لست حافظاً للقرآن, بل اقرأ ولو بـ(قل هو الله أحد), فهذه سورة عظيمة وهي ثلث القرآن, فاقرأها مع الفاتحة, فهي سبع آيات، وهي المثاني وهي القرآن العظيم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم سورة في كتاب الله عز وجل, أو اقرأ الفاتحة مع (قل يا أيها الكافرون), أو افتح المصحف واقرأ فيه إن شئت وأنت في صلاة الليل, فإذا فعلت ذلك فقد قمت بالليل والناس نيام، وحصلت على مثل هذا الأجر العظيم.
فصلاة الليل صلاة عظيمة سواء صليت في أول الليل, أو في آخره, مع الناس أو والإنسان وحده، فهذا كله خير وحسن.
وقد جاء في الحديث أن هناك منزلة عظيمة في الجنة لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام, وستأتي فيما بعد إن شاء الله الأحاديث التي تتحدث عن صلاة التراويح وصلاة التهجد.
وهناك نذر آخر يكون على وجه كأن فيه معاوضة، فيقول الإنسان: يا رب لو شفيت لي مريضي صمت لك ثلاثة أيام, وهذا النذر من النذر المكروه الذي يستخرج به من البخيل, لكن على كل لو أن الإنسان نذر لزمه أن يصوم النذر الذي نذره, وإذا نذرت المرأة صوماً فإما أن تكون قد نذرت بإذن زوجها وإما أن تكون قد نذرت بغير إذن زوجها, فإذا نذرت بإذن زوجها فيلزمها الوفاء في الوقت الذي نذرت فيه, وإذا كان النذر بغير إذن زوجها فيلزمها الوفاء أيضاً، وتستأذنه في الوقت، فإذا أبى في هذا اليوم تأخرت إلى يوم آخر تؤدي فيه هذا النذر الذي نذرته.
ولو أن المرأة نذرت هذا الشيء، فللزوج أن يمنعها؛ لأنه لم يتزوجها من أجل أن تصوم كل يوم, فإذا منعها فلا شيء عليها, فلو أن الزوج توفي لزمها الوفاء بهذا النذر, ولو كان الزوج حياً لكنه غير موجود بسبب سفر فيلزمها نذرها, وإذا طلقها الزوج رجع النذر مرة ثانية عليها, لكن إذا كان الإنسان لا يطيق النذر الذي نذره ولا يقدر عليه؛ لأنه مصاب بمرض في الكلى، أو مصاب بمرض السكر بحيث لا يقدر معه على الصوم, أو مريض بمرض في الكبد لا يقدر معه على الصوم، والأطباء منعوه من الصوم، فيلزمه كفارة يمين.
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (من نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً أطاقه فليف به).
وهذا الصيام الذي تكلمنا عنه هو صيام النذر الواجب الذي يلزم الوفاء به، ولابد فيه من إذن الزوج قبل النذر, فلو نذرت وأذن لها الزوج أن تصوم لزمها الوفاء, ولو أنها نذرت نذراً طويلاً كنذر صوم الدهر فللزوج أن يمنعها من الوفاء به.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه -وزوجها شاهد: أي: حاضر موجود- ولا تأذن في بيته إلا بإذنه, وما أنفقت من نفقة من غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره)، أي: أن المرأة إذا أرادت أن تنفق من مال زوجها فلابد من إذنه ولو إذناً عاماً, والإذن العام مثل أن يقول: لو فاض عندك أكل فتصدقي به, فإذا أنفقت وتصدقت فهي تؤجر وزوجها أيضاً يؤجر, مع أن الزوج قد لا يذكر هذا الذي قاله، ولكن الله يأجره على ما نواه قبل ذلك.
كان أبو الدرداء رضي الله عنه فقيهاً، ولكن سلمان كان أفقه منه, وإن سلمان نزل ضيفاً عند أبي الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة أي: في ثياب مهنتها وغير متزينة لزوجها، وكان هذا قبل أن يؤمر بالحجاب, فقال لها: ما شأنك, فقالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجة في الدنيا, ولما جاء أبو الدرداء وصنع لـسلمان طعاماً، فقال له سلمان:كل, فقال: إني صائم, فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل, فلما أصر سلمان وهو ضيف إذا بـأبي الدرداء يفطر ويأكل مع سلمان , ثم جاء الليل فذهب أبو الدرداء من أول الليل يصلي، وكان من عباد الصحابة رضي الله عنه، فقال له سلمان: نم ليس هذا وقته, ثم ذهب ليصلي, فقال: نم ليس الآن, فلما كان من آخر الليل قال له سلمان: قم الآن فصل -وكان سلمان يقصد بهذا الشيء أن يقول له: إذا كنت صمت اليوم كله وقمت من أول الليل إلى آخره فمتى ستتفرغ لزوجتك؟
ثم قال: إن لربك عليك حقاً, ولنفسك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, فأعط كل ذي حق حقه، فأنت مخلوق لعبادة الله, وعبادة الله تكون بالصلاة وبالصوم, وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبإعطاء الحقوق لأصحابها, ومن ضمن الحقوق حقك أنت، فجسدك له عليك حق, وزوارك لهم عليك حق, وزوجتك وعيالك لهم عليك حق, فأعط كل ذي حق حقه, وكأن هذا الأمر ضاق منه أبو الدرداء فذهب يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (صدق
كذلك وأنت تأتي أهلك فأنت في عبادة, (قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إن جعلها في حلال كان له أجر) فأنت في الليل أو في النهار لك أجر من الله سبحانه لأنك تعبد الله, تنام حين تنام وأنت على وضوء، وتنام على جنبك الأيمن تذكر الله سبحانه والملك بجوارك، فإذا فزعت من النوم ذكرت الله سبحانه تبارك وتعالى ودعوت الله وأمن الملك على ما تدعو، فأنت في عبادة لله في الليل والنهار، وأنت قائم أو نائم أو في الطريق أو في عملك, حياتك كلها عبادة بفضل الله وبرحمته وبالنية الحسنة منك, لذلك اعبد ربك في كل مكان كما أمرك, وأعط الحقوق لأصحابها فهي عبادة تتعبد بها لله سبحانه وتعالى.
ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان, لأنه يُشك فيه هل هو من شعبان أو من رمضان, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه، والعلة في ذلك: أن رمضان لابد أن يتميز فقبله لا يوجد صيام وبعده يوم العيد لا يوجد صيام, فيوم العيد حاجز بينه وبين ما بعده، ويوم الشك حاجز بينه وبين ما قبله, ولكن من كانت له عادة في صيام يوم الإثنين والخميس، أو يوم السبت والأحد والإثنين, أو الثلاثاء والأربعاء والخميس، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً فجاء يوم الشك في هذا اليوم فله أن يصوم هذا اليوم, أو كان عليه يوم من رمضان السابق ونسيه فلم يذكره إلا هذا اليوم فله أن يصومه, أما من غير سبب فليس له أن يصوم هذا اليوم.
وأما الحكمة في كراهية صيام يوم الجمعة فهي أن يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين وفيه أعمال قد يشغلك الصوم عنها إذا لم تكن معتاداً على الصوم, فيوم الجمعة تريد أن تذهب للمسجد مبكراً، ولعلك إن كنت صائماً ترغب أن تنام قليلاً فيضيع عليك التبكير إلى المسجد, والتبكير إلى المسجد فيه أجر عظيم جداً, وحضور صلاة الجمعة, وسماع الخطبة من الإمام تؤجر عليها، فيغفر لك ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة عشرة أيام, وفي ذهابك إلى صلاة الجمعة سواء كان المسجد قريباً أو بعيداً أجر عظيم كما في الحديث عن يوم الجمعة: (من بكر وابتكر, وغسل واغتسل, ومشي فلم يركب, وصلى ما كتب الله له إلا كتب له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها)، وهذا أجر عظيم جداً, فإذا خطوت ألف خطوة كتب لك أجر ألف سنة. وبعد أن تصلي صلاة الجمعة وترجع إلى بيتك وتقرأ سورة الكهف سواء قبلها أو بعدها، وتكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة ويومها, ثم تأتي الساعة التي بعد صلاة العصر قبل المغرب وهي آخر ساعة من الجمعة, فهي ساعة إجابة للدعاء.
إذاً: فيوم الجمعة فيه انشغال بطاعات أخرى فلعلك إن انشغلت بالصوم أن تضيع الكثير من هذه الطاعات, ولذلك كره النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم يوم الجمعة وحده, فإن شئت فصم يوماً قبله معه أو يوماً بعده معه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويكثر من صوم يوم الجمعة، وقلما يفطر فيها؛ لأنه كان يكثر من صوم يوم الخميس، والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر, وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر