قال تعالى:
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:9]، بعض القراء قرأ: (ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقره ويسبحوه بكرة وأصيلاً).
قال
الألوسي رحمه الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، كقوله سبحانه:
يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، كذلك هذه الآية الخطاب بدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) فالخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم دخل فيه المؤمنون بقوله: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إلى آخره، تماماً كقوله عز وجل: ((يا أيها النَّبِيُّ))، ثم قال:
إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، فهذا من باب التغليب، غلب فيه المخاطب على الغيب، ونظيره قوله سبحانه وتعالى:
وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، ثم قال:
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان:22]، وقال عز وجل:
حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس:22].
إذاً: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، والمعنى: له وللمؤمنين، قال
القرطبي : وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: ((يا أيها النَّبِيُّ))، فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له، قال:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فاللفظ والمعنى هنا يقصد به النبي وحده، فلذلك ينص على لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام، أما إذا أراد الخطاب بالمؤمنين قال:
يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ إلى آخره.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بلا شك بالإيمان بالرسالة كقوله تعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)) يعني: يا أيها النبي! أو يا أيها الرسول! ((شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) (لِتُؤْمِنُوا) أي: أنت -أيها النبي- مكلف بهذا الإيمان، وكذلك المؤمنون مكلفون به، فهو مخاطب بالإيمان بالرسالة كالأمة.
وقيل: الخطاب في (أَرْسَلْنَاكَ) للنبي عليه الصلاة والسلام، وفي (لِتُؤْمِنُوا) لأمته صلى الله عليه وآله وسلم.
معنى التعزير في قوله: (وتعزروه)
قوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) التعزير هو: النصرة مع التعظيم، قال تبارك وتعالى:
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [المائدة:12]. والتعزير: ضرب دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة ما، لكن الأول نصره بقمع ما يضره عنه، والثاني: نصره بقمعه عما يبغضه، والتعزير الذي هو النصرة مع التعظيم هو المطلوب في حق النبي وكل الأنبياء، فهي نصره بقمع ما يضره عنه، أما التعزير الذي هو دون الحد فهو: نصره بقمعه عما يضره من المعاصي التي يرتكبها وسيعزر من أجلها، فمن قمعته عما يضره فقد نصرته، وفي الحديث: (
انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم)، فهذه نصرة المؤمن.قال
ابن كثير : ( وَتُعَزِّرُوهُ )، قال
ابن عباس وغير واحد: تعظموه.وقال
القرطبي : ( وَتُعَزِّرُوهُ ) أي: تعظموه وتفخموه.والتعزير: التعظيم والتوقير، وقال
قتادة : تنصروه وتمنعوه ومنه التعزير في الحد؛ لأنه مانع. قال
القطامي : ألا بترت ميٌ بغير سفاهةتعاتب والمولود ينفعه العذروقال
ابن عباس و
عكرمة : ( وَتُعَزِّرُوهُ ) تقاتلون معه بالسيف، وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه، وقال
الألوسي : وتعزروه أي: تنصروه، كما روي عن
جابر بن عبد الله مرفوعاً، وأخرجه جماعة عن
قتادة.والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ)، إما أن المقصود تعزروا الله سبحانه وتعالى، أو تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تنصروه مع تعظيمه، وهذا هو الأقرب.
معنى التوقير في قوله: (وتوقروه)
قوله تعالى: (وَتُوَقِّرُوهُ)، هذا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فلا جدال أنها في حق الله سبحانه وتعالى.
والوقار: هو السكون والحلم، قال تعالى:
مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، الرجاء هنا بمعنى: الخوف، أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم للعقوبة؟ وعن
مجاهد و
الضحاك قالا: ما لكم لا تبالون لله عظمة؟
وقيل: الوقار، الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى:
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] أي: اثبتن، ومعناه: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى، وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؟!
وقال
ابن كثير : (ويوقروه) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام.
وقال
القرطبي: (وتوقروه) أي تتوجوه، وقيل: تعظموه، والتوقير التعظيم، (( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ))، الهاء هنا عائدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا وقف تام، ثم تبتدئ: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: تسبحوا الله بكرة وأصيلاً أي: عشياً.
قول آخر: إن الضمائر كلها لله تبارك وتعالى، فيكون معنى: (( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ )) أي: تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك، واختار هذا القول
القشيري .
وبعض المفسرين قال: ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) يعني: تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية.
وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في (تعزروه) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى، كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: ( وَتُسَبِّحُوهُ ) لله عز وجل.
فعلى أي الأحوال هناك خلاف بين المفسرين في هذه الضمائر إلى من تعود، وفي هذين الفعلين بالذات: ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) فمن قائل: إنها للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن قائل: إنها لله عز وجل.
معنى التسبيح في قوله: (وتسبحوه)
العبادة التي أمر الله بها في كل الأوقات
من فضائل الذكر
القلب لا يحصل التأثير فيه إلا بالمداومة على الذكر، فعمل قليل تداوم عليه أفضل من عمل كثير لا تداوم عليه؛ لأن هذا هو الذي يعالج أمراض القلوب، وقد ثبت للتسبيح فضائل جمة، منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (
من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) فهذا يدل على أنه يستحب أن تقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحان الله العظيم وبحمده- في الرواية الأخرى- مائة مرة، في أذكار الصباح وأذكار المساء.
ويستحب أنك تزيد على المائة مرة، فالزيادة هنا مرغب فيها، بدليل قوله: (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (
من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، ولا شك أن هذا فضل عظيم جداً، لكننا لانهماكنا في الدنيا نغفل عن هذه الفضائل العظيمة التي سوف ننفصل عنها بالموت، ولو أن رجلاً بشر بقصر في الدنيا، أو شقة أو حتى غرفة، كم تكون سعادته وحرصه على ذلك! لكن انظر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (
من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة)، فكم نغفل عن هذا! لا شك أن السكوت فقط هو نوع من الخسران؛ لأنه لا يوجد فيه طاعة؛ ولذلك الخسارة عند التاجر درجات، فلو أنه اتجر في المال وربح مثلاً 30% فهذا مكسب؛ لكن لو كان ينفق 50% فإنه يعتبر خسر 20%، ولو أنه قصر وبسبب تقصيره وصل الربح مثلاً إلى 20% فهذه يعتبرها خسارة مع أنه ربح، وأعمال الخير نفسها تتفاضل، فالإنسان المفروض أنه لا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وينظر دائماً إلى الأعلى ثواباً.
وهناك أشياء ثوابها عظيم جداً، والجهد الذي يبذل فيها قليل جداً، ومنها: ترك السلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (
وأبخل الناس من بخل بالسلام)، فالسلام فيه الثواب العظيم، لكنه ثقيل على بعض الناس، فهذا بخيل جداً على نفسه بالسلام، وعلى إخوانه بالإحسان إليهم بالسلام.
كذلك العاجز الذي يعجز عن الدعاء، مهما كانت مطالبك وطموحاتك فإنك تحصل عليها بالدعاء، المهم أن يكون في الدعاء صدق وإخلاص لله عز وجل.
الإنسان رأس ماله هو الوقت، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العصر:
وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
(
وَالْعَصْرِ) هذا قسم بالعصر الذي هو الدهر أو الزمن أو الوقت، يحلف الله به لأنه من آياته العظمى، فالدهر لا يذم لذاته أبداً؛ لأن الدهر والزمن مجرد ظرف، فمن الناس من يستثمره بالأعمال الصالحة، ومنهم من يكون بعكس ذلك، فالعصر أو الدهر أو الزمن ليس له ذنب إنما هو ظرف لأفعال العباد، كما يقول الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا
فأقسم الله بالعصر ليلفت نظر الناس إلى شرف الزمن والوقت.
قوله: (إِنَّ الإِنسَانَ) يعني: كل الإنسان، (لَفِي خُسْرٍ)، ثم استثنى: (
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
قال بعض السلف: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج، لم يكن في الزمن الماضي ثلاجات يوضع فيها الثلج، لكن كانت تصنع قوالب للثلج، فالناس في يوم من الأيام لم يشتروا منه الثلج، وهذا الثلج إذا لم يبعه سينصهر ويصير ماء كأي ماء، فقارب وقت العصر بعدما انفض السوق أو كاد وما أحد اشترى منه، فظل يجول في الطرقات وهو يحمل الثلج ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله! يعني: اشتروا مني الثلج قبل أن يذوب، فهذا رأس مالي، وهذه أعظم الخسارة، فالخسارة في المال هي خسارة الربح،
فلو أن تاجراً باع بالجهد العظيم الذي بذله في التجارة، وعاد إليه فقط رأس المال، فهذا نوع من الخسارة؛ لأنه كان يمكن أن يكسب ربحاً؛ لكن هذا لا له ولا عليه، لأنه بتعبير آخر: خسر جهده.
فلو أن شخصاً خسر فوصلت خسارته إلى رأس المال، فهذه خسارة، وأعظم منها: شخص خسر كل رأس ماله، فرأس مال الإنسان هو الوقت والزمن والعمر، فهذا هو رأس المال.
فهذا الوقت يمر ويجري، فهو دوماً في نقصان؛ لأن كل لحظة لا يمكن أن تسترجعها ولو فعلت ما فعلت لا تستطيع أن تعيد مثلاً ساعة من الآن، هل تستطيع أن تأتي بالشمس من جديد وتعيد اليوم الذي مضى؟! لا يمكن أن يعود أبداً مستحيل!
كذلك العمر يمضي، فأنت عمرك يمضي، والساعة تمر.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فالدقات هي عبارة عن إنذار ينذرك: احترز وانتبه واستكمل هذا الوقت، وقد عبر العلامة الشيخ
محمد القاضي حسين رحمه الله تعالى عن هذا المعنى في بيتين من الشعر، حينما أتاه صبي صغير بالساعة القديمة (البندول)، وهي غير الساعة الرقمية، فلما أعطاه إياها، قال له: ما فيها؟ وصوت البندول معروف، فأنشد شيئاً من الشعر قال:
وغلام قرب الساعة من أذنيه يسمع منها الصرخات
قال ما بداخلها قلت كوزة تقرض أيام حياتي
العالم الذي قال: تعلمت تفسير هذه السورة من بائع ثلج، كان يحمل الثلج على كتفه ويجري في الأسواق والشوارع ويقول: ارحموا من يذوب رأسه ماله، فكم تكون الشفقة على شخص كل رأس ماله هو هذا الثلج، وإذا ذاب الثلج ذهب كل رأس ماله وتبخر؟!
فيريد هذا العالم أن يقول: إن السورة تشير إلى أن رأس مال الإنسان هو الوقت، والوقت دوماً في نقصان مثل الثلج الذي ينصهر رويداً رويداً.
فالوقت في نقصان وذهاب، فحتى تجبر هذا النقصان لا بد أن تستدرك بأن تستثمر الوقت في طاعة الله سبحانه وتعالى، فما بالك بمن يستثمره في المباح؟! ثم ما بالك بمن يستثمره في المعاصي؟! فلا شك أنه يكون حاله أو خسارته أعظم!
والذكر من الأمور السهلة جداً جداً على الإنسان، وإذا أراد الله له به الخير يسره عليه، فالذكر يحتاج أولاً إلى المجاهدة، ثم بعد ذلك يحاول أن يغلب عليه ذكر الله سبحانه وتعالى، فكم يندم الإنسان بعد ذلك إذا مات ولم يستثمر هذه الأوقات، قال صلى الله عليه وسلم: (
من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (
من قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فإن قالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه، وإن قالها في مجلس لغو كانت كفارة له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (
من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).
بعض الإخوة أتاني الليلة بكتاب كنا قد تكلمنا عنه بصورة عابرة في درس الوداع في مسجد البكري، واسمه: البحث عن الصواب في شرعية النقاب، وقد كنت رددت رداً سريعاً عابراً على الكتاب، ثم أتاني أحد الإخوة وقال: إنه يوزع بالمجان، وأنا كنت حريصاً على أن أعرف من مؤلف هذا الكتاب؟
وسألت أحد الإخوة: صف لي أين يصلي هذا المؤلف، فذكر لي بعض علاماته، وقال أخ آخر في المسجد: إن مؤلف الكتاب توفي رحمه الله منذ شهر، وبعدما انصرفت عن الإخوة قعدت أحاول أتذكر أنه قبل شهر جاء خبر وفاة رجل فاضل جداً اسمه الأستاذ:
فهمي رحمه الله تعالى.
فمكثت أتحرى وأتذكر، فكل القرائن كانت تدل على أنه هو، فكنت أتمنى ألا يكون هو، حتى اتصلت بأحد الإخوة القريبين جداً من الأستاذ
فهمي ، ففعلاً أخبرني أنه هو الذي توفي منذ شهر، وهو فعلاً مؤلف هذا الكتاب!
فالحقيقة استصعبت جداً عليه أن يؤلف هذا الكتاب، خاصة أن النبرة حادة وشديدة في الكتاب، ومستوى الكتاب ضعيف جداً من الناحية العلمية، لكن في الحقيقة كما نصحت الإخوة من قبل مراراً: أن الإنسان قبل أن ينتقد أحداً ينبغي أن يعرف قدر هذا الشخص أولاً، فإذا كان الأصل فيه الخير والصلاح، ثم زل زلة فالإنسان لا يأتي يقيمه بالزلة هذه فقط، وعليه أن يزن الأمور، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (
إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).
ويقول الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وهذا الرجل أنا أعرفه منذ سنة (1978م)، وهو من الناس الذين من عرفهم أحبهم في الله تبارك وتعالى، وله ارتباط كامل بالدعوة منذ عهد بعيد من أيام نشاط الإخوان المسلمين، وقد كان عابداً ناسكاً، وكان في سنة 1970م يندر جداً أن يعتكف أحد في المسجد، لأن ظاهرة الاعتكاف انتشرت من آخر السبعينات، لكن أنا أعرفه منذ سنة سبعين إلى آخر عمره وهو لا يضيع الاعتكاف على الإطلاق، وأخبرني الأخ القريب منه أنه داوم عليه حتى آخر سنة، فطول عمره ما قصر في سنة الاعتكاف أبداً، وكان الأستاذ
فهمي رحمه الله تعالى من أشد الناس محافظة على صلاة الجماعة، لا يكاد يعلم له نظير في ذلك، وكان يحافظ على صلاة الفجر والعشاء وجماعة مع شدة مرضه رحمه الله تعالى، وأخ يحكي لي أنه رآه قبل أن يموت وهو يمشي في الطريق يترنح من الإعياء والمرض الذي كان فيه، بل إنه أخبرني أن أهله أشاروا عليه -وقد نزل لصلاة المغرب- فقالوا له: أنت معذور، فصل في البيت؛ من شدة المرض الذي ألم به، فأبى أن يضيع صلاة الجماعة في المسجد مع شدة المرض، فنزل وصلى بالناس صلاة المغرب، ثم شرع في صلاة السنة البعدية للمغرب ففاضت روحه وهو ساجد رحمه الله تعالى!
فهو في الحقيقة كان رجلاً عاقلاً حكيماً، وتكفي هذه العلامة من علامات حسن الخاتمة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبله في الصالحين.
أما بالنسبة لكتابه فأعتقد أنها قد تكون زلة والله أعلم، وهو كان يريد الخير بلا شك، فهو إن شاء الله رجل من الصالحين وعابد وناسك، وأنا لا أعرف عنه زلة على الإطلاق إلا ما فوجئت به في هذا الكتيب، ولا يعني هذا أن أسكت عن الرد عليه؛ لكن أقول: الرد كله كامل موجود في كتاب تعرفونه جميعاً في مسألة النقاب، فهو رد كامل، والمشكلة: أن عامة من ينتقدون لا يقرءون الكتب التي ينتقدونها، والمفروض أن الإنسان قبل أن ينتقد كتاباً يقرؤه أولاً، فيعطي المؤلف حقه وقدره مع شيء من الرد إذا وجد خطأ، فإذا لم يقرأ الكتاب أولاً فهذا تقصير. وجميع الشبهات التي أوردها المؤلف رحمه الله الرد عليها موجود، فأنا أحيل الإخوة الذين ألحوا علي بالرد عليها، وأقول: إذا كنا سنرد على كل شيء فسنضيع الوقت في الردود، ولكننا نضطر للرد عندما يكون الأمر شائعاً كالذي حصل من
مصطفى محمود ، وكأنه -سامحه الله- لا يريد أن ينتهي، فهو ما بين الفترة والأخرى يورد مقالة تولد مقالة ثانية، والظاهر أنه يتشبث بـ
الطهطاوي وبالشيخ
محمد عبده ، ولا أحد يكفر
مصطفى محمود ولكنا اضطررنا للرد عليه، لأن مثل هذا لا يسكت عليه، ومستواه العلمي ضعيف جداً جداً.
والحقيقة أن الكتاب المذكور فيه أشياء تصدم بها صدمة شديدة، ويعز علي أن أنتقد الأستاذ
فهمي ؛ لأنه أستاذي وقدوتي، ورجل أنا أعرف عنه كل خير، وقد صدمت لما عرفت أنه هو المؤلف وتأكدت من ذلك، ولكن هي زلة، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ويعفو عنه، وأحسبه كان يريد وجه الله سبحانه وتعالى؛ لأنه في عامة أعماله رجل صالح جداً، فلعله بذل جهده في هذه المسألة حسبما يستطيع، فالأمل في رحمة الله خاصة مع هذه القرينة الطيبة جداً، فإن شاء الله أن الله توفاه وهو تائب، ونتمنى أن يرزقنا الله سبحانه وتعالى هذه الخاتمة بالأعمال الصالحة.
معظم الشبهات التي كتبها المؤلف مردود عليها، أما ما عدا ذلك من الكلام الشديد الصعب فالحقيقة أنا سأتجاوز عنه، ولن أرد عليه ؛ لأنه أفضى إلى ما قدم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (
اذكروا محاسن موتاكم، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، فندعو الإخوة جميعاً إلى أن يجتهدوا في الدعاء أن يغفر الله سبحانه وتعالى له، ويرحمه ويجزيه خيراً على نيته، وإن شاء الله أن يكون قد أراد الخير، ونيته حسنة.
أما من الناحية العملية فالرد موجود وسنكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته.
ومن أراد أن يحسن إلى المؤلف فعليه أن يكف عن طباعة هذا الكتاب، فمن أراد بالفعل أن يحسن إلى الأستاذ
فهمي رحمه الله تعالى فليكف عن طبع هذا الكتاب، وإلا فسنضطر إلى الرد عليه لو انتشر الكتاب وذاع بطريقة أكثر، فمن أراد أن يحسن إليه فليكف عن طباعة هذا الكتاب؛ لأنه ضعيف في الحقيقة من الناحية العلمية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الأستاذ
فهمي رحمه الله تعالى بواسع رحمته، وأن يتجاوز عنه، وأن يتقبله في الصالحين.