((فَانطَلَقَا))، على ساحل البحر يطلبان سفينة، ((حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا))، أي: شيئاً عظيماً من إتلاف السفينة: قتل الجماعة من غير نفع، وكفران نعمة الحمل بغير نول، فكيف تتسبب في إهلاكهم وإغراق أهلها، بغير ذنب، وهل هذا جزاء أنهم حملونا بغير أجرة؟!
((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، ذكره الخضر بما تقدم من الشرط،
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70] يعني: هذا الصنيع وأنا أتعمده، وسبق أن اشترطت عليك أن لا تعترض على شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، وهو من الأمور الذي اتفقت معك على أن لا تنكر علي فيها؛ لأنك لم تحط بها خبراً؛ إذ لها سر لا تعلمه أنت، ((قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ))، أي: قال موسى: لا تؤاخذني بما نسيت من الشرط، فإن المؤاخذة به تفضي إلى العسر، وسيكون هذا أمراً عسيراً علي، والمراد: التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان: ((وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا))، أي: لا تحمل علي من أمري في تحصيل الأمر منك عسراً؛ لأنه يلجئني إلى تركه، فلا تعسر علي متابعتك بل يسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة.
((فانطلقا)) بعد أن نزلا من السفينة إلى الساحل، ((حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))، يعني: نفساً ستقتل، بل هل نفس زكية طاهرة من موجبات القتل؛ لأنه لم يقتل غيره، فكيف تقتله؟ ((لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)) أي: شيئاً منكراً، أو أنكر من الأول، فالأول كان خرقاً يمكن تداركه بالسد، أما القتل فلا سبيل إلى تداركه.
((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) تأكيد في التذكار، ونكتة زيادة (لك) كما قال
الزمخشري : زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. أي: كما لو أتى إنساناً ما نهيته عنه فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في عتابك، قال: وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر). يعني من قرأ قراءة سريعة دون تأمل لا يلتفت لمثل هذا المعنى، لكن من تأمل القرآن وبلاغته أدرك هذا في المرة الأولى.
قال موسى: ((قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))، أي: وجدت من جهتي عذراً؛ إذ أعذرت إلي مرة بعد مرة فخالفتك ثلاث مرات بمقتضى الاستعجال.
((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ)) اختلف في تسميتها، قال الحافظ
ابن حجر في الفتح: الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين، ولا يوثق بشيء منه، يعني: لا يهمنا اسم القرية، والمقصود أخذ العبرة.
((اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)) أي: امتنعوا من أن يطعموا الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم، وقرئ: (فأبوا أن يُضِيْفُوهما) من الإضافة، يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيَّفه: أنزله ليطعمه في منزله على وجه الإكرام.
((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ))، أي: ينهدم. تقول: انقض الطائر إذا أسرع سقوطه، يقول هنا: والإرادة مستعارة للمداناة والمشاركة لما فيهما من الميل، استعارة تصريحية أو مكنية أو تخيلية، أو هي مجاز مرسل بعلاقة السبب، إذ الإرادة سبب لقرب الوقوع. وقد أكثر
الزمخشري من الشواهد على مثل هذا المجاز.
((فأقامه))، أي: عمره وأصلحه، ((قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا))، أي: لو طلبت على عملك جعلاً حتى تنتفع به، ففيه لوم على ترك الأجرة مع مسيس الحاجة إليها، أي: هؤلاء الناس ضيعوا حقنا في الضيافة، فكيف تصلح لهم هذا الجدار وتقيمه وتضيع الأجر ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)) هذا إشارة إلى الفراق الموعود، بقوله: ((إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني))، أو إشارة إلى الاعتراض الثالث، أو هذا الوقت الحاضر فراق بيني وبينك.
((سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) يعني: عاقبة أو مآل مالم تصبر على ظاهره؛ لأن التأويل يطلق أحياناً على العاقبة والمآل.
وتأويل هذا الذي لم يستطع عليه صبراً هو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبديل الأحسن، واستخراج الكنز لليتيمين.
قال
أبو السعود : وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعة موسى عليه السلام الصبر، دون أن يقول: بتأويل ما فعلت، أو: بتأويل ما رأيت ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتابه.
ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى، وما كان أنكره ظاهراً، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على باطنه.
إثبات إرادة حقيقية للجدار
قوله: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)).
يقول
الشنقيطي رحمه الله : هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون بالمجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات إيرادات وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق، كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها الله سبحانه وتعالى ونحن لا نعلمها، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن والسنة.
يقول: فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:
وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك؛ لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، فقوله تعالى:
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ)[الأحزاب:72]، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه.
ومن الأحاديث على ذلك: ما ثبت في صحيح
مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
إني لأعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وما ثبت في صحيح
البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعاً لفراقه)، وكان هذا بمحضر من جميع الصحابة الذين حضروا في صلاة الجمعة، فكلهم رأى هذا الموقف في اليوم الذي اتخذ له فيه المنبر فمر على الجذع ولم يستند إليه كما كان يستند أثناء الخطبة عليه، فصعد المنبر فإذا الجذع يبكي كبكاء الصبي ويحن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نزل عليه الصلاة والسلام من على المنبر وضم الجذع إليه وأخذ يمسح عليه ويهدئه حتى سكت وله خنين كخنين الطفل إذا كان يبكي وينضم إلى صدر أمه، وكأنما نفسه ستطير، فالجذع وهو جماد حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجزع من فراقه. إذاً: فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق إرادة في مثل هذه الجمادات.
قال: فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله:
وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال، وهذا زعم باطل؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأمثال هذا كثيرة جداً، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها؛ لأن العقل لا يحيل مثل هذا.
((يريد أن ينقض فأقامه)) جدار خلق الله فيه إرادة بحيث يريد أن ينقض، ولا إشكال في ذلك، ولا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها، لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، وهذا واضح جداً كما ترى، مع أن من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء، كما في قول الشاعر:
يريد الرمح صدر
أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل
وكقول راعي
نمير :
في مهمه قلقت به هامتها قلق النفوس إذا أردن نضولا
يعني: إذا قاربنه، وقول آخر:
إن دهراً يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان
يعني: لزمان يقع الإحسان فيه.
وقد بينا في رسالتنا المسماة: (منع جواز المجاز في المنزل للتعجب والإعجاز) أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز، أن ذلك لا يتعين بشيء منها، وبينا أدلة ذلك، والعلم عند الله تعالى.
يذكر
القاسمي رحمه الله تعالى بعض الفوائد من هذه القصة، يقول: تنبيهات فيما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام والنقائض والفوائد السامية.
فوائد مرتبة حسب سير القصة
الأول: قال
السيوطي في الإكليل: في هذه الآية أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر، واستخدام الرحلة في طلب العلم، واستزادة العالم من العلم، واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل وشدة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازاً وتأدباً عن نسبتهما إلى الله تعالى، وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة، واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه، وتقديم المشيئة في الأمر، واشتراط المسموع على السامع، وأنه يلزم الوفاء بالشروط، وأن النسيان غير مؤاخذ به، وأن للثناء اعتباراً في التكرار ونحوه، وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة، وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام، وجواز أخذ الأجر على الأعمال، وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة لكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها شيئاً لا يكفيه، وأن الغصب حرام، وأنه يجوز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية ما فيه كمال المودع واليتيم، وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف، وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه، وأن أعظم ثقة التأمين على الأولاد هي تقوى الله سبحانه وتعالى:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، ليست الأموال ولا الضياع ولا الثروات وإنما تقوى الله سبحانه وتعالى، وأنه تجب عمارة ما يخاف منه الخراب، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب، وأنه يجوز دفن المال في الأرض.
وقال
البيضاوي : الفائدة من هذه القصة أن لا يعجب المرأ بعلمه، ولا يبادر إلى إنكار مالم يستحمله، فلعل به سراً لا يعرفه، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمتعلم، ويراعي الأدب في المقال، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يحقق إصراره ثم يهاجر عنه. انتهى.
ومن فوائد الآية كما في فتح الباري: استخدام الحرص على لقاء العلماء، وتجشم المشاق في ذلك، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحر، وطواعية الخادم لمخدومه، وعذر الناسي، وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه، ومحل ذلك إذا كان ذلك على غير سخط من المقدور.
ومنها : أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب، وفيها جواز طلب القوت وطلب الضيافة، وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالمرة الثانية، وفيها: حسن الأدب مع الله، وألا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وإن كان الكل بتقديره وخلقه.
عدم نسبة الشر إلى الله
فوائد بلاغية ولغوية
من فوائد هذه القصة: إطلاق لفظ القرية على المدينة: لقوله: ((أَهْلَ قَرْيَةٍ))، ثم قال بعد ذلك: ((لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ)) فدل على أن المدينة يطلق عليها قرية، وورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم يقل: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، إلا بعد أن جاوز الموضع الذي حدده الله تعالى له، فلعل الحكمة أن يتيقظ موسى عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة الله في التيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة.
وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزة هذا الموعد بوناً بيناً والله تعالى أعلم.
يعني: أن موسى لم يشعر بالتعب إلا بعد أن جاوز المكان الذي حدده الله له، وهو الصخرة أو مجمع البحرين، وكأن الله ينبهه: أنك ما دمت مسافراً في طلب العلم فأنا أُذهب عنك النصب والمشقة وأيسر عليك الأمر، فلما جاوز ذلك الموضع حصل له النصب
لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62].
وإن كان موسى عليه السلام متيقظاً لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا قص عليهم القصة، وما أورد الله تعالى قصص أنبيائه إلا ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلاً وآجلاً، والله أعلم.
ثم قال
الناصر رحمه الله في الانتصاف: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الحمية للحق.
أي أن موسى ما أنكر إلا غيرة على الحق على ظاهر شريعته، ثم إنه حين خرق السفينة قال:
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71]، فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل أحد: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد، فتلك حالة غرق.
فالشاهد: أن موسى عليه السلام ما قال: نفسي نفسي! وإنما كان همه الناس من حوله
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71] ولم يقل: (لتغرقنا)، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة عليهم، صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه.
ثم قال عليه الرحمة على قول
الزمخشري : (فإن قلت: (فأردت أن أعيبها)، كان من المفروض من حيث سياق المعنى أن يقول: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً فأردت أن أعيبها) فلماذا قدم فعل الغصب رغم أن النتيجة حقها أن تؤخر عن السبب؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأن خوف الغصب ليس السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم).
قال
الناصر : كأنه جعل السبب في إعابتها كونها للمساكين، ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب بذكر عادة الملك في غصب السفن، وهذا هو حدّ الترتيب في التعليل، أن يركب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد، فلا يحتاج إلى جعله مقدماً والنية تأخيره، والله أعلم.
ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآية والمخالفة بينها في الأسلوب عجباً؛ ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: ((فأردت أن أعيبها)) وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه فقال: ((فأردنا أن يبدلهما ربهما))، وقال: ((فخشينا أن يرهقهما)) ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى؛ لأن المراد: ثم عبت، فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور (فأردنا) (فخشينا) فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: أمرنا بكذا، وإنما يعنون أمر الملك.
ويدل على ذلك قوله في الثالثة: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما)) فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطيف الخبير!
فإذا الثالثة قال
الخفاجي في إعادة (أهل)، يعني قوله: ((استطعما أهلها))، بعدما قال: ((أتيا أهل قرية)) مع أن السياق كان يقتضي أن يقال: (حتى إذا أتيا أهل قرية فاستطعماهم فأبوا أن يضيفوهما)، ونظم
الصلاح الصفدي سائلاً الإمام
السبكي عن هذا المعنى، فقال:
رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاصه بإيجاز ألفاظ ونصح معان
ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر في طول الزمان عناني
وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد نرى (استطعماهم) مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان
يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل (استطعماها) أو (استطعماهم) فلابد له من وجه. وقد أجابوا بأجوبة مطولة نظماً ونثراً، والذي تحرر فيه: أنه ذكر الأهل أولاً ولم يحذف إيجازاً سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله:
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]؛ لأن الإتيان ينسب للمكان كما تقول: أتيت عرفة، ولمن في المكان تقول: أتيت بغداد، فلولم يذكر كان فيه التباس مخل، فليس ما هنا نظير تلك الآية، لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها. يعني لم يقل كما قال في سورة يوسف:
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]؛ لأنه ظاهر جداً أن المقصود أهل القرية.
وأما الأهل الثاني (استطعما أهلها) فأعيد لأنه غير الأول، وليست كل معرفة أعيدت عيناً كما بينوا؛ لأن المراد به بعضهم إذ سؤالهم فرداً فرداً مستبعد، فلولم يذكر فهم غير المراد، وأما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر، وأما لو قال (استطعماها)؛ فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب.
خصوصية الخضر في أفعاله
ومن فوائد هذه القصة ما قاله
القاسمي رحمه الله تعالى: قال الإمام
السبكي رحمه الله تعالى: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافراً مخصوص به -هذا من خصائص الخضر- لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن خلاف الظاهر الموافق للحكمة، فلا إشكال فيه). يعني: الأمر من حيث ما يظهر لنا لا شك أنه يستنكر كما فعل موسى عليه السلام لما أنكرها، أما الخضر فقد خصه الله سبحانه وتعالى أن يعمل بالباطن لا بالظاهر في هذه الأمور، فلا إشكال في هذه القصص.
قال: وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لاسيما بين أبوين مؤمنين، ولو فرضنا أن الله سبحانه وتعالى أطلع بعض أوليائه كما أطلع الخضر عليه السلام لم يجز له فعل ذلك، وما فعله الخضر كان بعلم الله وبأمر الله، قال تعالى:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي .
وما ورد عن
ابن عباس رضي الله عنهما : لما كتب إليه
نجدة الحروري الخارجي : كيف قتل الخضر الغلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان، فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل؛ فإنما قصد به
ابن عباس المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعاً لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام، وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز؛ لأنه لا تقتضيه الشريعة، وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ كيف والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي، وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعاً مستقلاً به وهو نبي، وليس في شريعة موسى أيضاً؛ ولذلك أنكره.
وقال الحافظ
ابن حجر في الفتح: وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الشرين بأخفهما فصحيح، لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفساً كثيرة قبل أن يتعاطى شيئاً من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك بإطلاع الله تعالى عليه.
إذاً: هذا الحكم مخصوص بالخضر عليه السلام.
وقال
ابن بطال : قول الخضر: وأما الغلام فكان كافراً؛ فهو باعتبار ما يئول إليه أمره لو عاش حتى يبلغ، واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله، ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده.
يقول
القاسمي : مفاد الآية: أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب، ولذا قال بغير نهي:
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]؛ لأنه لم يفعل ما يستوجب ذلك، لا لكونه صغيراً لم يبلغ الحلم؛ لأن الآية لا تفيده، وقد يكون كبيراً.
يعني: أن كلمة الغلام يجوز أن تطلق على من كان كبيراً، وليس كما يتبادر إلى أذهاننا أنها تطلق على صغير السن، فمن حيث اللغة قد يطلق الغلام على الكبير، قال: فقد قال اللغويون: الغلام: الطار الشارب أو من حين يولد إلى أن يتم، والكهل أيضاً قد يطلق عليه غلاماً، ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم : (
أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل من قومه الجنة)إلى آخر الحديث، (فوصف النبي عليه السلام بوصف الغلام، وعند
البخاري : (
وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً فذبحه)، قال موسى : (
أقتلت نفساً لم تعمل بالحنث) ولكن لا نص فيه على أنه كان صغيراً، فتأمل.
ترجيح أن المذكور هو موسى بني إسرائيل
يقول
القاسمي : أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة، وذهب
نوف البكالي -تابعي صدوق ابن امرأة
كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس موسى بن عمران كما في
البخاري .
ووقع في رواية
أبو إسحاق ، عن
سعيد بن جبير عند
النسائي قال: (
كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب فقال بعضهم: يـ
ابن عباس ! إن
نوفاً يزعم عن
كعب الأحبار : أن موسى الذي طلب العلم إنما هو
موسى بن منفى -أي: ابن إسرافيل بن يوسف عليه السلام- فقال
ابن عباس : أسمعت ذلك منه يا
سعيد ؟ قال: نعم. قال: كذب
نوف)، كذب هنا: بمعنى أخطأ.
وفي رواية
البخاري : (
كذب عدو الله)، وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من مقالته، وقد ذكرنا القصة حينما سئل موسى عليه السلام: هل هناك أحد أعلم منك؟ فقال: لا، أو: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا. أو حدثته نفسه بهذه فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه.
وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه؛ لئلا يحكم على ما لا علم له به، وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة فيكون المراد بفتاه
يوشع ، وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقاً في خدمته.
ترجيح أن صاحب موسى هو الخضر
نسب الخضر ودحض شبهة خلوده في الأرض
الأدلة على موت الخضر
الخضر في اعتقاد أهل السنة
تنبيه أخير يتعلق بقصة الخضر: أورد فضيلة الشيخ
عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة): قصة الخضر كما ثبت في الأحاديث التي تلوناها، ثم ذكر بعض الفوائد، فقال حفظه الله تعالى:
إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب نبيه موسى الذي قال جواباً عن سؤال: لا أعلم على الأرض أعلم مني، أنه كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فأراه الله جل وعلا أن هناك عبداً لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى، وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضر.
ثانيا: أن الخضر بعد أن تم اللقاء بينه وبين موسى أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله تعالى لا شيء، وأنهما لن ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء النهر.
ثالثا: أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعل، ولذلك فإن الخضر عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار لم يستنكر موسى شيئاً من ذلك؛ لأن هذا كله سائغ في الشريعة، فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز، فلو وكلت رجلاً على عمل لك ثم جاءت الوحوش أو قطاع طريق ليستولوا على المال كله، ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويترك بعضه لما كان ملوماً شرعاً، ولا يلام ممن وكله بل يستحسن فعله؛ لأنه حافظ له على قدر من المال، وما فعله الخضر بالنسبة للسفينة لا يعدو ذلك، فإنما أفسد السفينة فساداً جزئياً لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها، وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة؛ لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل من أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما، كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحياناً إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة، فما فعله الخضر بالنسبة للسفينة موافق للشرع الإلهي تماماً في كل دين وملة، وليس مخالفاً للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ عن أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده.
وأما قتل الغلام فهو كذلك سائغ في الشريعة، إذا كان هذا الغلام سيكون ظالماً لوالديه مجبراً لهما على الكفر، وكان هذا مما علمه الله مستقبلاً، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضاً سائغاً، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي -والشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا هو أصغر من الغلام، وكما قلنا: كلمة غلام تحتمل أيضاً أن تطلق على الكبير- يقول: والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعبدين من عباده صالحين، أراد الله جل وعلا أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين:
الألم الأول: أنه ولدهما، وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء.
والثاني: أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان، وهذا عذاب آخر.
فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذاباً واحداً فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما، ولاشك أن صبرهما على فقده فيه خير لهما، فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقاً للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد وعليها سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك لما قيل لـ
ابن عباس على الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ قال: إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل.
وهذا تعليق على شيء لا يقع، لأن الخضر كان يوحى إليه.
وأما مسألة بناء الجدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القرى والضيافة الواجبة؛ فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية والنصرانية واليهودية، ففي القرآن الكريم:
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] ، وجاء في الإنجيل: (أحسنوا إلى من أساء إليكم، وباركوا لاعنيكم)، وقال تعالى فيما أوحاه لموسى:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] ، وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة، ثم إن إحسانه هذا لغلامين لم يتأت منهما إساءة، وكان أبوهما رجلاً صالحاً، وهم في قرية ظالمة بخيلة، ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم، ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم.
فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر؟ وأي حقيقة أطلع عليها الخضر تخالف أوامر شريعة كان عليها موسى، بل ما فعله الخضر موافق تماماً لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئاً يخالف ما كان عليه الأنبياء صلوات الله عليهم، فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها، وباختصار لم يفعل الخضر شيئاً مخالفاً لشريعة موسى، فافهم هذا جيداً وتمسك به.
رابعاً: وجود الخضر عليه السلام على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمراً سائغاً وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولاً إلى بني إسرائيل فقط ولم يكن رسولاً للعالمين، حتى المسيح عليه السلام إنما كان كما ينقل عنه في التوراة: (لم أبعث لخراف بيت إسرائيل الضالة).
إذاً: التبشير بالنصرانية الذي سمي تبشيراً بعد المسيح عليه السلام والذي اخترعه
بولس من محدثات النصرانية، لكن المسيح أرسل إلى بني إسرائيل فقط، وكتبهم تدل على ذلك، فنشر النصرانية بهذه الطريقة مما أحدث في النصرانية بعد رفع المسيح عليه السلام.
ولما سلم موسى عليه السلام على الخضر قال الخضر: (
وأنى بأرضك السلام، قال له موسى: أنا موسى، قال الخضر: موسى بني إسرائيل، يعني: موسى الذي أرسل خاصة إلى بني إسرائيل؟ قال : نعم)، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز شرعاً أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته، وهذا مهم جداً في إبطال ضلالات الصوفية، فهم يريدون أن يقولوا: نحن عندنا العلم اللدني، ولنا طريقة غير طريقتكم، فهم يجوزون أن يكون هناك طريق إلى الجنة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم غير طريقه، ويقولون: أنتم لكم طريقة العلم الظاهر، ونحن عندنا العلم اللدني، ويستدلون بقوله: ((وعلمناه من لدنه علماً))، فمن سوغ هذا يعتبر كافراً خارجاً من ملة الإسلام، أي أن من يعتقد أن هناك طريقة للنجاة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم يخالف بها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كافر خارج من ملة الإسلام.
وقد يقول قائل: كيف وجدت معاً شريعة موسى وشريعة الخضر؟
نقول: هذا كان في زمانهم سائغاً، وكان قبل بعثة محمد عليه السلام، ويمكن أن يرسل نبي للهنود الحمر في أمريكا، ونبي أرسل لمنطقة في آسيا، وفي جنوب أفريقيا؛ لأن الله قال:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، فهذا كان سائغاً، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فلم يعد هذا محتملاً، لأنه عليه الصلاة والسلام رسول للعالمين، فلا يسع الخضر أو غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه، ولذلك فلا وجود بتاتاً للخضر أو أمثاله بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
خامساً: لاشك أن ما فعله الخضر عن وحي حقيقي من الله، وليس عن مجرد خيال أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ، يعني: أنه لم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي، ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا وحي بعده.
أي: قد يأتي دجال من ضلال الصوفية ويقول: (ما فعلته عن أمري)، وإذا رأيت شيخك يفعل كذا وكذا فلا تعترض عليه، بحجة الالتزام بقصة موسى والخضر؟
نقول: هل هناك وحي بعد محمد عليه السلام؟ لا. فقد انقطع الوحي بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى شيئاً من ذلك فقد كفر؛ لأنه خالف قوله تعالى:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]، وقال عليه الصلاة والسلام: (
وختم بي النبيون فلا نبي بعدي).
ثم يقول الشيخ
عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله: من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر عليه السلام، والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة، ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئاً مختلفاً تماماً، فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه ولي وليس بنبي، وأنه موجود يتصل بهم، ويأخذون منه من العلم اللدني، وأشياء تخالف ما عليه شريعة محمد؛ وهذا فيه فتح باب عظيم لإفساد دين الإسلام.
وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما كان الخضر -وهو ولي فقط في زعمهم- أعلم من موسى، فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام عالم بالشريعة الظاهرة فقط والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة، وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق، ويأخذ لهم الع
من خرافات الصوفية في الخضر
من خرافات الصوفية في الخضر: ما يقوله
الحكيم الترمذي ، وهو
محمد بن علي بن الحسن الترمذي المسمى بـ
الحكيم ؛ يقول في كتابه (ختم الولاية): وللخضر عليه السلام قصة عجيبة في شأنهم، وقد كان عاين شأنهم في البدء فأحب أن يدركهم فأعطي الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يحشر مع هذه الأمة وفي زمرتهم.. إلى قوله: وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل و
ذي القرنين ، وكان على مقدمة جنده، حيث طلب
ذو القرنين عين الحياة فأتته وأصابها الخضر في قصة طويلة.
إذاً: خرافات طويلة لا أول لها ولا آخر ولا زمام ولا خطام، خرافات بدون إسناد وبدون دليل.
أيضاً من العلم الذي ينطقون به، علم البث، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف. إلى آخر هذا الكلام، فالتقف الصوفية هذه القصة عن
الحكيم الترمذي وأضافوا إليها من الخرافات والزيادات ما شاءوا.
يقول رجل اسمه
السرهندي : إنه رأى الخضر وإلياس عليهما السلام حضرا عنده في حلقة الدرس، وأما الخضر فقال له: إنهما من عالم الأرواح وإنهما يتشكلان بما شاءا من الصور، وإنه -أي
السرهندي هذا- سأل الخضر هل تصلون على المذهب الشافعي؟ فقال الخضر: لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لأن قطب الزمان
الشافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي.
ويعلق
السرهندي يقول: إن كمالات الولاية مختصة بالمذهب الشافعي، وإن كمالات النبوة فهي من اختصاص المذهب الحنفي، ولذلك عندما ينزل عيسى فإنه يصلي ويعمل بالمذهب الحنفي... إلى آخر هذه الخرافات.
ذكر أيضاً الخلاف كثيراً في أنه شافعي أو حنفي، إلى أن قال الشيخ: وهؤلاء لاشك أنهم كانوا كذلك حمقى مجانين ذهبت عقولهم ولم ترجع لهم أبداً.
والعجيب أن مثل هذه الخرافات تظل تسري وتجري، فقد زعم
الحصفكي الحنفي في مقدمة كتابه الدر المختار: أن الخضر أودع أوراق المذهب الحنفي في نهر جيحون إلى وقت نزول عيسى عليه السلام، أي: وضعه في زجاجة وقفل عليها وألقاها في نهر جيحون، وعندما ينزل عيسى تؤخذ إليه الصحائف ويتعلم منها المذهب الحنفي حتى يحكم به في آخر الزمان، أي: أن الدين سوف يتحول إلى هذه الخرافات وهذه الأساطير التي ليس عليها أثارة من علم.
أيضاً كل ميدان من ميادين الصوفية يدخلون فيه الخضر، فهو صاحب الكشف، ونقيب الأولياء، وآخر العهود، ومرسل الأنام، ومعلم الأفكار.
يقول
أحمد بن إدريس : اجتمعت بالنبي عليه الصلاة والسلام اجتماعاً صورياً ومعه الخضر عليه السلام، فأمر النبي عليه السلام الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية، فلقنني إياها بحضرته صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم للخضر عليه السلام: يا خضر! لقنه ما كان جامعاً لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار.
من ضمن أذكار الشاذلية: اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، وفيها: أن محمداً عليه والسلام هو أصل هذا الوجود، وهو أول مخلوق في هذا الوجود، ومنه انشقت كل الأنوار، وظهرت كل الموجودات.
وهذا مصطلح معروف اسمه: الحقيقة المحمدية. وهو مصطلح خبيث للصوفية يقصدون به كلاماً في غاية الخطورة.
إذاً خلاصة هذا الكلام: أن خضر الصوفية بما يزعمونه وينسبون إليه ليس هو الخضر الذي نؤمن به، والذي ذكره الله في القرآن، والذي قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصته، فذاك عبد موحد مؤمن على علم من علم الله بالوحي، عاش ومات لوقته وزمانه، وفعل ما فعل موافقاً للحق والشريعة، أما الخضر الصوفي فهو مصدر للخرافة والجهل والشرك، ولذلك أخبر شيخ الإسلام
ابن تيمية : بأن الخضر المزعوم لا حقيقة له، شأنه في ذلك شأن الغوث والقطب الصوفي، ومنتظر الرافضة.
يقول
شيخ الإسلام : ثلاثة أشياء ما لها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة -
المهدي المزعوم عند الشيعة- وغوث الجهال.
فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس، أنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، ولكن دعوى النصيرية فيه باطل، وأما
محمد بن الحسن المنتظر والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود.
وكذلك يزعم بعضهم أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم، ونحو هذا فهو باطل، فـ
أبو بكر و
عمر وهما أفضل أولياء الله على الإطلاق لم يكونا يعرفان جميع الأولياء ولا يمدانهم، فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء وهو الغرة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله لا يحصيه إلا الله عز وجل.
وقال الله تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه وقال له الخضر: (وأنى بأرضك السلام، فقال له: أنا موسى! قال له: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم)، وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه.
ومن قال: إنه نقيب الأولياء، أو إنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل، والصواب الذي عليه المحققون: أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، إلى آخره.
قال عليه الصلاة والسلام: (
كيف تهلك أمة أنا أولها، وعيسى في آخرها)، فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قط ولا خلفاؤه الراشدون.
وقول القائل: إنه نقيب الأولياء، فيقال له: من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام وليس فيهم الخضر؟ وغاية ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب، وبعضها مبني على ظن الرجال مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك.
وروي عن الإمام
أحمد رحمه الله تعالى أنه قال وقد ذكر له الخضر: من أحالك على غائب فما أنصفك، وقال
أحمد : وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان.
وهذا الجواب هو خلاصة قضية الخضر وما شابهها: من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان.