إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد [3]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا أحد أعلم بالله من الله، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فما وصف الله عز وجل به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وجب قبوله والإيمان به من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تأويل، وما نفاه الله عز وجل عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب نفيه. وذكر المؤلف هنا مجموعة من الصفات الذاتية والخبرية والفعلية لله عز وجل على منهج السلف الصالح.

    1.   

    بعض صفات الله عز وجل التي جاءت في القرآن

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

    فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:

    [ فمما جاء من آيات الصفات قول الله عز وجل: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] ، وقوله سبحانه وتعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] ، وقوله تعالى إخباراً عن عيسى عليه السلام أنه قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] ، وقوله سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] ، وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ [البقرة:210] ، وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] ، وقوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ، وقوله تعالى في الكفار: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح:6] ، وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد:28] ، وقوله تعالى: كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ [التوبة:46] ].

    سبب ذكر المؤلف بعض أنواع الصفات دون غيرها

    في هذا المقطع ذكر المؤلف رحمه الله عدداً من الآيات التي ذكر الله تعالى فيها شيئاً من صفاته.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى بعد أن فرغ من المقدمة التي بين فيها سبيل أهل السنة والجماعة في صفات الله عز وجل، وفي آيات الصفات وأحاديثها؛ قال رحمه الله تعالى: (فمما جاء من آيات الصفات قول الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27].. ) إلى آخر ما ذكر.

    إن الملاحظ فيما ذكره من آيات الصفات وفيما ذكره من أحاديثها أنه أتى بالآيات المتضمنة للصفات التي وقع فيها مخالفة لأهل السنة والجماعة ولطريق السلف الصالح، فإنه لم يذكر الصفات التي يثبتها مثبتة الصفات.

    مذاهب الناس في آيات الصفات

    والناس من حيث إثبات الصفات ينقسمون في الجملة إلى قسمين: قسم ينفي الصفات، وهؤلاء هم المعطلة، وقسم يثبت الصفات بالجملة، وهؤلاء أقسام:

    منهم -وهم أفضل الأمة وخيرها وأوسطها وأتبعها لطريق النبي صلى الله عليه وسلم- الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

    القسم الثاني: هم الذين يثبتون بعض الصفات، وينفون بعضها، وهؤلاء يطلق عليهم مثبتة الصفات؛ لأنهم يثبتونها بالجملة وإن كانوا يخالفون أهل السنة والجماعة في إثبات كثير من الصفات، حيث لا يثبتونها، ويخالفونهم أيضاً فيما يثبتون حيث إنهم لا يثبتونها على الوجه الذي أثبته الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمة الصالح، ومن هؤلاء الأشاعرة، الماتريدية، والكلابية.

    وهناك طائفة غلت في إثبات الصفات وهم الممثلة الذين يثبتون الصفات ويقولون: هي مثل صفات المخلوقين، فهؤلاء مثبتة الصفات، لكنهم غلوا في الإثبات.

    والمؤلف رحمه الله ذكر آيات وأحاديث الصفات التي خالف فيها مثبتة الصفات، يعني: التي خالف فيها الأشاعرة والماتريدية والكلابية وأشباههم، فبحثه ليس مع الذين نفوا الصفات بالكلية؛ لأن البحث مع أولئك ينحو منحى آخر، يحتاج إلى أن يناقشوا في أصل النفي، أما هؤلاء فمعهم شيء من الحق وهو فيما أثبتوه من الصفات، ولكنهم أخطئوا فيما أولوه من الصفات، فنحتاج إلى أن نقول لهم: إنه يلزمكم فيما أثبتم من الصفات نظير ما نفيتم، ونظير ما فررتم منه فيما نفيتم، فإما أن تثبتوا الجميع وإما أن تنفوا الجميع.

    ومقصودي من هذا الكلام: أن نعرف لماذا ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآيات وهذه الأحاديث المتضمنة للصفات الخبرية والصفات الفعلية، ولم يذكر شيئاً من الصفات المعنوية الذاتية : كصفة السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والحياة، والكلام؛ وذلك لأن المؤلف رحمه الله أراد إثبات ما نفاه وتأخر عن إثباته مثبتة الصفات، كالأشاعرة والكلابية والماتريدية.

    صفة الوجه

    فأولاً: مما ذكر من الصفات: صفة الوجه، وصفة الوجه صفة ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، دليل ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله في قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] حيث أثبت الله عز وجل لنفسه وجهاً، وأضافه إليه، والأصل فيما أضيف إلى الله عز وجل وكان لا يقوم بنفسه أن يكون صفة له عز وجل؛ لأن المضاف إلى الله عز وجل نوعان: إما إضافة أعيان تقوم بنفسها وتستقل، وإما إضافة ما لا يقوم بنفسه ولا يستقل .

    مثال الأول: إضافة الناقة إلى الله عز وجل كما في قوله تعالى: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، فالناقة عين مستقلة قائمة بذاتها، وإضافتها إلى الله عز وجل هي إضافة تشريف وتكريم.

    ومثله أيضاً قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] (بعبده) هذه الإضافة إضافة تشريف، ومثله أيضاً قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة:114] فالإضافة هنا إضافة تشريف، والملاحظ في جميع هذه الإضافات أنها إضافة أعيان مستقلة قائمة، أما إذا كان المضاف لا يستقل ولا يقوم بنفسه، فإنها تكون إضافة صفات، ومنه قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، فالوجه لا يقوم بنفسه مستقلاً، بل لابد أن يكون قائماً بعين، وكذلك اليد، وكذلك سائر الأمور المعنوية التي أضافها الله عز وجل لنفسه.

    والوجه يسميه العلماء صفة خبرية، وفي تصنيف الصفات يصنفونه من جملة الصفات الخبرية.

    أقسام الصفات

    والعلماء يجعلون الصفات أقساماً، وهذا التقسيم ليس من كلام السلف، أي أنك إذا طلبت في كلام الصحابة والتابعين(صفة خبرية، وصفة ذاتية، صفة فعلية) فلن تجد، لكنه اصطلاح حادث دعت الحاجة إليه؛ فلهذا قبله أهل العلم واستعملوه.

    فالصفات الخبرية: هي التي لا يستقل العقل بإثباتها، أي: هي الصفات التي لا يمكن أن يتوصل إليها إثباتاً من طريق العقل، بل لابد من السمع، ولابد من نقل، ولابد من نص، ولابد من وحي في إثباتها، فلو أن أحداً قال لك: أثبت لله وجهاً، ما تمكنت من ذلك بالعقل، لأن العقل لا يستقل في معرفة الغيبيات؛ ولذلك سمى العلماء هذا النوع من الصفات: (الصفات السمعية)، أو (الصفات الخبرية)، ومعنى السمعية: أنها جاءت بالسمع -الكتاب والسنة- ومعنى(الخبرية) أنها جاء بها الخبر في كلام الله أو في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

    النوع الثاني من أنواع الصفات: الصفات الذاتية، وهي الصفات التي يتصف الله عز وجل بها أزلاً وأبداً: أزلاً: في القدم، وأبداً: في المستقبل، فهو لا ينفك عنها سبحانه وتعالى، مثاله: صفة الحياة، فإنه جل وعلا متصف بها أزلاً وأبداً، والدليل قول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهذه الصفة من صفاته الذاتية.

    مثاله أيضاً: القومية، والسمع، والبصر، والكلام، والقدرة، والعلم.. كل هذه من الصفات تسمى الصفات الذاتية.

    القسم الثالث: الصفات الفعلية، وهي التي تتعلق بمشيئة الله عز وجل، أي: الصفات التي يتصف بها متى شاء، كرضاه، وغضبه، ونزوله جل وعلا إلى السماء الدنيا، واستوائه على العرش وما أشبهها من الصفات، فهذه الصفات تسمى صفات فعلية، وإنما تسمى صفات فعلية؛ لأنها متعلقة بالمشيئة، ويسميها بعض العلماء: الصفات الاختيارية؛ لأنها متعلقة بالاختيار والمشيئة.

    والذي بحثه المؤلف رحمه الله من هذه الأنواع، أو ذكر له أمثلة من الآيات التي ذكرها، هو الصفات الفعلية والصفات الخبرية؛ لأنها هي التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم.

    1.   

    ذكر بعض الصفات الخبرية لله جل وعلا

    موقف أهل التأويل والتعطيل من صفة الوجه

    والوجه صفة خبرية ثبتت بالخبر، وأثبتها أهل السنة والجماعة، أما أهل التعطيل وأهل التأويل فإنهم نفوا هذه الصفة، وقالوا: لا نثبت لله وجهاً، وأن المراد بالوجه هنا هو الأجر والثواب، وقالوا في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي: يبقى ما قصد به الله، وهذا صرف للفظ عن ظاهره بغير مرجح أو من دون مرجح، فهو من التحريف الباطل الذي يسميه أهله تأويلاً.

    إذاً: الصفة التي ذكرها المؤلف رحمه الله في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، هي صفة الوجه، وهذه الآية من أقوى الآيات التي يثبت بها أهل السنة والجماعة صفة الوجه لله عز وجل؛ وذلك لأن الله عز وجل وصف وجهه بصفتين: ذو الجلال، وذو الإكرام، ومثل هذا لا يسوغ أن يوصف به الأجر والثواب، لأن الأجر لا يوصف بأنه ذو جلال وذو إكرام، إنما الذي يوصف بهذا الوصف هو الله جل وعلا؛ ولذلك ذكر المؤلف هذه الآية لكونها من أصرح الآيات في إثبات صفة الوجه لله عز وجل.

    صفة اليدين

    ثم ذكر رحمه الله قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وهذا فيه إثبات اليدين لله عز وجل.

    واليدان صفة للرب جل وعلا دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها سلف الأمة، وهما يدان اثنتان كما دل عليه قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقد جاء ذكر هذه الصفة في القرآن بعدة صيغ، وعلى عدة أوجه، فجاءت مفردة، وجاءت مثناة، وجاءت مجموعة، جاءت مفردة في قوله تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] وجاءت مثناة في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وجاءت مجموعة في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71].

    أما الآية التي في سورة الذاريات وهي: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47] فالأيد هنا ليست جمع يد، وإنما الأيد هنا القوة من (أيد) إذا قوي.

    ثم قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً [يس:71] فيه جمع اليد، فهل يوجد تعارض بين الإفراد والجمع والتثنية؟

    الجواب: لا تعارض، والدليل على أنه لا تعارض قول الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، فلا يمكن أن يكون في كلام الله عز وجل تعارض أو تضارب، والتعارض والتضارب الذي يرد في النصوص إنما هو من قبل الناظر لا من قبل النص، فالنص ليس فيه تعارض، بل هو محكم كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وكما قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] (حكيم) أي: محكِم، فقد أحكم الله جل وعلا هذا الكتاب، وهو محمود عليه سبحانه وتعالى لأنه أحكمه وأتقنه، ولذلك قال: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] إذاً: لا تعارض بين الإفراد والتثنية، وبين الإفراد والجمع، فهل نقول: لله يد أم يدان أم أيد؟

    الجواب: إن لله يدين لا أكثر؛ لأن الله جل وعلا ذكر صفة اليد مثناة، والتثنية هي من أسماء الأعداد، وأسماء الأعداد لا يراد بها إلا العدد المذكور، فإذا قال قائل: جاء خمسة، لم يمكن أن نقول: جاء ستة في اللسان العربي، وإذا قال قائل: أعطيته عشرة، لم يمكن أن يقال: لا هو يريد تسعة، أو يريد أحد عشر؛ لأن أسماء الأعداد نصوص لا تقبل الزيادة ولا النقص.

    وهل يتعارض التثنية والجمع؟ الجواب: لا تعارض؛ لأن الإفراد جاء ويراد به الجنس، هذا احتمال، الاحتمال الثاني: أن يراد به مطلق اليد ثم جاءت النصوص مبينة لليد، كما قال الله تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] (يد الله) مفردة أضافها إلى نفسه، ومعلوم من قواعد اللغة أن المفرد المضاف يفيد العموم، فيصدق عليه اليد واليدان والثلاث والعشر، إذاً: الإفراد لا يعارض التثنية ولا يعارض الجمع، ولماذا لا يعارض التثنية ولا الجمع؟

    الجواب: لأن الإفراد يراد به الجنس، أي: إثبات جنس اليد لله سبحانه وتعالى دون تعرض للعدد، ويراد به أيضاً العموم حيث إنه مفرد مضاف، والمفرد المضاف يصدق عليه الواحد وما هو أكثر من الواحد، فتبين أن: الإفراد لا يعارض التثنية، ولا يعارض الجمع.

    وهل الجمع يعارض الإفراد والتثنية؟ الجواب: لا يعارضهما؛ لأن الجمع يأتي للتعظيم، كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] مع أن المنزل هو الله جل وعلا، فالقرآن نزل من عنده جل وعلا، قال سبحانه: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقال: كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] فهو الذي فصل وهو الذي أحكم جل وعلا ، ومع ذلك أخبر عن المنزل بصيغة الجمع، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فالإتيان بصيغة الجمع فائدته التعظيم.

    إذاً: تلخص لنا من هذا أن ما جاء في القرآن في صفة اليد مثنىً لا يعارض الإفراد ولا الجمع، ولا الإفراد يعارض الجمع والتثنية، وكذلك الجمع لا يعارض الإفراد ولا التثنية.

    موقف أهل الكلام من صفة اليد

    وأهل الكلام قالوا: إن قول الله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أي: نعمتاه، فأولوا اليد وحرفوها وقالوا: هي القدرة، والقوة، والنعمة.

    ونقول: هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، (بل يداه مبسوطتان) لا يمكن أن يفهم منها غير اليد التي هي صفة الله عز وجل، وأما النعمة والقدرة، فهذه من لوازم الصفة، لكن لا يمكن أن نفسر الكلام بلوازمه ونترك ما دل عليه في الأصل، أعني أنه لا يجوز أن نترك المعنى الأصلي ونذهب إلى اللوازم، بل نثبت المعنى الأصلي ونثبت ما يلزم على هذا اللفظ من اللوازم الصحيحة، ولا يمكن أن يلزم على كلام الله عز وجل أو على كلام رسوله صلى الله عليه وسلم معنى باطل بوجه من الوجوه.

    إذاً: ثاني ما ذكره المؤلف من الصفات هي صفة اليدين لله عز وجل، واستدل عليها بقوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64].

    صفة النفس

    ثم قال رحمه الله: (وقوله تعالى إخباراً عن عيسى عليه السلام أنه قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116])؛ هذا فيه إثبات أن الله جل وعلا له نفس، وأنه أضاف إليه النفس؛ لأنها صفة من صفاته، فالنفس صفة من صفاته سبحانه وبحمده؛ وذلك لقوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [المائدة:116]، ولماذا قلنا إنها صفة من صفاته ولم نقل إن الإضافة هنا إضافة تشريف، ونحن قد ذكرنا أن الإضافة نوعان: إما إضافة تشريف وخلق، وإضافة صفة؟

    الجواب: الإضافة هنا من إضافة الصفات، ودليل ذلك أن النفس لا تقوم إلا بعين، فلما أضافها إلى نفسه جل وعلا دل ذلك على أنها صفته.

    خلاف العلماء في صفة النفس

    واعلم أن العلماء من أهل السنة والجماعة رحمهم الله اختلفوا في النفس على قولين: فمنهم من قال: إن النفس غير الذات، وهي صفة زائدة على الذات كالسمع والبصر، ومنهم من قال: إن النفس هي الذات، وهذا الثاني هو الذي عليه جمهور أهل العلم من أهل السنة، فالذي أضيف إلى الله في قوله سبحانه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] أي: تعلم الذي عندي ولا أعلم الذي عندك، فالنفس هنا هي ذاته جل وعلا.

    1.   

    ذكر بعض الصفات الفعلية لله عز وجل

    صفة المجيء وموقف المخالفين لأهل السنة من هذه الصفة

    قال: وقوله سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر:22] انتقل المؤلف إلى ذكر الصفات الفعلية الاختيارية لله عز وجل.

    واعلم أن الصفات الاختيارية لله عز وجل ينكرها غير أهل السنة والجماعة ويؤولونها بمجيء الأمر أو بمجيء الرحمة، يئولونها بشيء من مخلوقات الله عز وجل، ولا يقولون: إنها من صفاته، يقولون: لأن إثبات الصفات الفعلية يلزم منه أن تقوم به عز وجل الحوادث، وقيام الحوادث للأعيان يدل على أنها حادثة، هكذا زعموا في إبطال ما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الفعل.

    والصحيح: أننا نثبت هذه الصفة لله عز وجل ولا نقول ما يقول هؤلاء من أن الله حادث، بل هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، وكل من أبطل شيئاً من هذا فقد أبطل ما دلت عليه النصوص من أن الله فعال لما يريد، كما قال جل وعلا في إثبات صفة الفعل: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:15-16] فذكر صفة الفعل بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة فعله سبحانه وبحمده.

    فصفات الفعل يثبتها أهل السنة والجماعة لأن الله أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أجمع سلف الأمة، فلم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من أئمة المسلمين: إن قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] أي: جاء أمره، ولم يقل أحد منهم في قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210]: إن الذي يأتي الأمر، أو إن الذي يأتي الملائكة، وإن الله جل وعلا لا يأتي، فإن هذا تشكيك في القرآن، بل الواجب إثبات صفات الفعل لله جل وعلا، كما أثبتها لنفسه في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، وكما قال الله تعالى:هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] أي: ويأتي الملائكة، كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22] فالمجيء والإتيان فعل له سبحانه وبحمده يفعله متى شاء وكيف شاء.

    صفة الرضا

    قال: (وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]) هذا فيه إثبات صفة الرضا لله عز وجل، والرضا معناه: القبول والمحبة للفعل، وأهل الكلام يؤولون الرضا بالثواب، ويقولون: قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] معناه: أثابهم، فرضاه ثوابه، أو إرادة ثوابه.

    صفة المحبة

    قال: (وقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54])، فيه إثبات صفة المحبة لله عز وجل، والمحبة صفة فعلية اختيارية؛ لأنه يحب من يشاء متى شاء، فهي صفة معلقة بمشيئة الله، فهو يحب من يحب، ويبغض من يبغض جل وعلا.

    صفة الغضب

    قال: (وقوله تعالى في الكفار: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح:6])؛ هذا فيه إثبات صفة الغضب لله عز وجل، وهي صفة فعلية أيضاً.

    صفة السخط

    قال: (وقوله تعالى: اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه [محمد:28]) الشاهد إثبات صفة السخط له سبحانه وتعالى، والسخط والغضب معناهما متقارب، وهما صفتان ثابتتان لله عز وجل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.

    صفة الكراهة

    قال: (وقوله: كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ [التوبة:46])؛ فيه إثبات صفة الكره لله جل وعلا، وهذه الصفات الفعلية لا يلزم عليها أي لازم باطل، بل هي صفات كمال؛ لأن من كمال الله أن يغضب إذا جاء موجب الغضب، وأن يسخط إذا جاء سبب السخط، ويكره إذا جاء موجب وسبب الكره.

    1.   

    بعض صفات الله الفعلية التي جاءت في السنة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) وقوله: (يعجب ربنا من الشاب ليست له صبوة) وقوله: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة)، فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدِّلت رواته نؤمن به، ولا نرده، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيبه له ولا نظير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وكل ما يخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه]

    صفة النزول

    يقول رحمه الله تعالى في ذكر ما جاء في السنة من الصفات: (ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا) )، وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه الخبر عن صفة من صفات الله عز وجل، وهي نزوله سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنزول من الصفات الفعلية؛ لأنه يقع بمشيئته واختياره سبحانه وبحمده، ونزوله هو نزول حقيقي، ولا تقل: كيف ينزل؟ ولا يشكل عليك ماهية ذلك وحقيقته وكنهه، فإنك لم تكلف بذلك، وإنما كلفت بأن تؤمن بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عنه.

    وتأويل النزول بغير ما دل عليه ظاهر النص كمن يقولون: تنزل رحمته، أو ينزل ملك من الملائكة، فإن هذا خطأ كبير وتحريف خطير للنص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له) فهل يسوغ أن يقول هذا القول ملك من الملائكة؟

    الجواب: لا؛ لأنه لا يملك أن يجيب، ولا يملك أن يغفر، ولا يملك أن يعطي السائل سؤاله إلا الله جل وعلا، والرحمة لا يمكن أن تقول هذا أو أن تفعله، فهذا نزول مضاف إلى الله جل وعلا نؤمن به ونتعبد الله به، بأن نتعرض لنفحاته ورحماته في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه الأوقات.

    صفة العجب

    ثم ذكر من أحاديث الصفات ما رواه الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)، وفيه إثبات صفة العَجَب لله جل وعلا، والعجب له سببان: الأول: أن يكون العجب ناشئاً عن جهل، وهذا حاشا أن يكون من وصف الله عز وجل، فهو العليم الخبير جل وعلا، أحاط بكل شيء علماً، وهو بكل شيء عليم.

    الثاني من أسباب العجب: التعظيم لخروج الشيء عن نظائره مع عدم سبق جهل، وهذا هو الذي يوصف به الله جل وعلا، فمعنى يعجب أي: يعظم هذه الحال لخروجها عن نظائرها.

    وقد جاء إثبات العجب لله عز وجل في الكتاب في قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات:12] وقرئ: (بل عجبتُ) وهي قراءة سبعية، والقراءة التي فيها إضافة العجب إلى نفسه هي التي يستدل بها أهل السنة والجماعة على صفة العجب لله عز وجل من القرآن، فقوله صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك) هل هذا عجب ناشئ عن جهل وعدم علم؟

    الجواب: لا، تعالى الله عن ذلك، إنما هو عجب ناشىء عن تعظيم ومحبة لهذه الحال، وقوله: والشاب: هو الناشئ، وهو من بلغ الحلم، واختلفوا في منتهاه فقيل: إلى الثلاثين، وقيل: إلى الأربعين، والمقصود: ثورة الشباب ووقت خفة العقل وسفه الحلم.

    وقوله: (ليست له صبوة)، أي: ليس له ميل إلى الهوى، والصبوة: الميل إلى الهوى، والغالب في الشاب أن يكون ذا صبوة، أي: ذا ميل إلى الهوى، لكن الإنسان إذا أحصن نفسه وعودها على الخير، ورباها على البر، وحبسها عن مشتهياتها في مثل هذا الزمن، كان هذا من دلائل كمال دينه، ورجاحة عقله؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا عن وازع عظيم يمنعه من الميل إلى الهوى.

    ثم حديث: (يعجب ربك) هو من حديث عقبة ، وفي سنده عبد الله بن لهيعة ، رواه عنه قتيبة بن سعيد ، والحديث ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة ؛ لأنه اختلط في آخره، ولكن الصفة لا تبطل بهذا الضعف؛ لأنها قد دلت عليها نصوص أخرى.

    صفة الضحك والرد على من عطلها

    وقوله: ( (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة؛ هذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه إثبات صفة الضحك لله جل وعلا، والضحك صفة كمال لله جل وعلا.

    والذين عطلوا الصفات قالوا: كيف يضحك الله! والضحك خفة، والله يتعالى عن هذا.

    فنقول لهم: هذا جهل منكم؛ لأن الضحك ليس خفة في كل موارده، بل من الضحك ما هو كمال وهو الضحك عند ورود سببه الذي يدعو إليه، ثم إن ضحك الله عز وجل ليس كضحك المخلوقين، وهؤلاء إنما قالوا: الصحك خفة لأنهم مثلوا ضحك الله بضحك المخلوق.

    ونحن نقول: إن ضحك الله جل وعلا ليس كضحك المخلوق؛ لأنه سبحانه كما قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فليس كمثله شيء في شيء من صفاته سبحانه وبحمده، وقد روى الإمام أحمد وغيره من حديث أبي رزين العقيلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ضحك الله جل وعلا من قنوط عباده وقرب غيره، فقال أعرابي: أو يضحك ربنا يا رسول الله؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال الأعرابي: لا عدمنا الخير من رب يضحك)، فاستدل بضحك الله على كمال صفاته وقرب خيره، وأن من يضحك فالخير منه قريب، والبر والإحسان منه متوقع، وهؤلاء يقولون: لا نصف الله بالضحك؛ لأن الضحك خفة، بل خفت عقولهم فردوا ما دلت عليه النصوص، ولو أنهم اتبعوا سبيل السلف الصالح لما قالوا مثل هذا القول.

    إثبات الصفات مع نفي التمثيل والتكييف

    ثم قال رحمه الله في بيان القاعدة العامة بعد ذكر الأمثلة: (فإن هذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به ولا نرده ولا نجحده)، أي: مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نؤمن به ولا نرده، وهذا هو الواجب على كل مؤمن، وهو أن يؤمن بكل ما دلت عليه النصوص، وألا يرد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، فإن من رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقد رد ما يجب قبوله، وعرَّض نفسه للفتنة كما قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وأي فتنة أعظم من رد قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، بل نؤمن به ولا نرده، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره.

    والرد هو التكذيب أو الإعراض، والمقصود به هنا فيما يظهر هو الإعراض.

    والجحد هو التكذيب مع الإيقان بصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    والتأويل هنا هو التحريف.

    فنفى المؤلف رحمه الله تعالى عن طريق أهل السنة والجماعة التكذيب والإعراض والتحريف.

    قال: (ولا نشبهه بصفات المخلوقين) أي: لا نقول: ضحكه كضحكنا، ولا نقول: إن عجبه كعجبنا، ولا نقول: مجيئه كمجيئنا، بل هو عز وجل ليس كمثله شيء، فلا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بصفات المحدثين، أي: الخلق الذين أحدثوا، بل نعلم أن الله سبحانه لا شبيه له، أي: لا مثيل، فنفي الشبيه هنا معناه نفي المثيل، ويوجد في كلام أهل العلم أنهم ينفون الشبيه ويريدون به المثيل لا مجرد ومطلق المشابهة، فإن المشابهة المطلقة ثابتة كما تقدم.

    قال: (ولا نظير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]).

    ثم قال رحمه الله في نفي أن يصور الإنسان صفات الله عز وجل أو أن يكيفها: (وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه) أي: على خلاف الصورة التي جاءت في خلدك ودارت في بالك وتحرك بها خاطرك، فالله جل وعلا على خلاف ذلك، وقوله: ( فإن الله بخلافه) هذه الجملة يمكن أن يراد بها معنى صحيح ويمكن أن يراد بها معنى باطل، لكن مراد المؤلف هنا صحيح، فمراده أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، وأحسن من هذا في التعبير أن يقال: إن الله تعالى أعظم وأجل من أن يكون كذلك.

    1.   

    الكلام على صفتي الاستواء والعلو

    قال المؤلف رحمه الله: [ ومن ذلك قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـحصين : (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة؛ ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي)، وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: أنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء.

    وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا، وذكر الخبر إلى قوله: وفوق ذلك العرش، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك)، فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله ولا تشبيهه ولا تمثيله.

    سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقيل: يا أبا عبد الله : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ثم أمر بالرجل فأخرج].

    صفة الاستواء على العرش

    هذا المقطع عاد به المؤلف رحمه الله إلى ذكر مثال من الأمثلة على صفات الله عز وجل التي جاءت في الكتاب والسنة وأثبتها سلف الأمة، فذكر صفتين: صفة الاستواء، وصفة العلو، والاستواء والعلو صفتان مقترنتان في كلام أهل العلم، وسبب الاقتران بين الاستواء والعلو هو أن الاستواء من أدلة العلو؛ لأنه علو خاص.

    يقول رحمه الله: (من ذلك قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]) أي: من الصفات التي يثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل صفة الاستواء في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقد ذكر الله جل وعلا هذا في آيات عديدة من كتابه، ولم يأت في آية من هذه الآيات أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، أو أن الاستواء بمعنى مخالف لما تكلم به سلف الأمة من أنه العلو والصعود والاستقرار، فإن سلف الأمة تكلموا في معنى الاستواء في هذه الكلمات كما قال ابن القيم :

    ولهم عبارات عليه أربع قد حصلت للفارس الطعان

    وهي استقر وقد علا وكذا ارتفع الذي ما فيه من نكران

    وكذاك قد صعد الذي هو رابع

    فهذه أربعة معان ذكرها العلماء في معنى الاستواء، وهي ثابتة عن السلف الصالح، والذين خالفوا منهج أهل السنة والجماعة قالوا: الاستواء معناه الاستيلاء، واستدلوا على ذلك ببيتٍ مهلهلٍ محدثٍ مصنوعٍ:

    قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق

    وهذا إبطال لما كان عليه سلف الأمة بما لا دليل فيه، وبما يلزم عليه من اللوازم الباطلة مالا يلزم على إثبات الاستواء، فهذه الآية فيها إثبات استواء الله عز وجل على عرشه، وهذا أمر دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة، ولم ينقل عن أحد من الأمة أن الله لم يستو على عرشه، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول: إن الاستواء مذكور في كل كتاب من كتب الرسل، وجاء به كل رسول.

    ولعظيم شأن هذه الصفة ذكرها الله في سبعة مواضع في كتابه، فلا يسوغ مع هذا التعدد والتكرار في ذكر هذه الصفة أن (استوى) بمعنى: استولى، فإن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه.

    صفة العلو

    أما صفة العلو التي ذكر المؤلف أدلتها فهي ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع سلف الأمة، والعقل دال عليها، والفطرة المركوزة في نفوس الناس وفي خلق الله تدل عليها، ولذلك يقول شيخ الإسلام : صفة العلو أجمع عليها الناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم، وفرعون لما دعاه موسى إلى الله جل وعلا قال لهامان: ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر:36-37]، فلم يطلب الله عز وجل في يمين، ولا في شمال، ولا في خلف ولا في أمام، وإنما طلبه في العلو، وهذا دليل على أن الإقرار بالعلو أمر مركوز في الفطر، حتى في فطر البهائم، ولذلك لما كان الجويني من أئمة الأشاعرة يقرر عدم علو الله عز وجل، قاطعة الهمذاني وهو يتكلم على المنبر فقال: دع عنا العرش وذكره وأخبرنا عن شيء في قلوبنا، فما قال داع قط: يا ألله! إلا وجد من قلبه طلب العلو، فجعل الجويني يضرب على رأسه ويقول: حيرني الهمذاني .. حيرني الهمذاني ؛ لأنه مهما حاول المحاولون أن يبطلوا هذا فإن فطرهم تأباه؛ ولذلك فهم عند الضرورة لا يتوجهون لا إلى يمين ولا إلى يسار، بل يذوب هذا التنظير وهذه المناقشة، ويرجعون إلى ما دل عليه الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة من الإقرار بعلو الله جل وعلا، فتجد الذي ينكر علو الرب يشير بإصبعه إلى العلو عند الإشارة إلى الله جل وعلا، وهذا أمر فطر الله القلوب عليه، فلا سبيل إلى إنكاره.

    والمؤلف ذكر من الأدلة على علو الله عز وجل عدة أدلة، فمن الكتاب قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] واقتصر عليه لأنه علو خاص، وإلا فمن الأدلة قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] وقوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وغير ذلك، والأدلة على علو الله عز وجل كثيرة.

    أما الأحاديث فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء تقدس اسمك) وهذا الحديث رواه أبو داود بسند حسن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو حديث مشهور بأنه حديث رقية المريض؛ لأنه يقرأ على المريض.

    والشاهد فيه قوله: (ربنا الذي في السماء ) و(ربَّنا) بالنصب، لأنه منادى، والتقدير: ( يا ربنا ) فحذفت ياء النداء.

    وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) أي: في العلو؛ لأن السماء اسم جنس لما علا، ويمكن أن يقال: (في السماء) أي: السقف المحفوظ، وتكون (في) هنا بمعنى (على)، كما قال تعالى حاكياً عن فرعون: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] والتصليب لا يكون في بطن الجذوع وإنما يكون عليها، فكانت ( في ) هنا بمعنى (على)، وكقوله تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15]، والناس لا يمشون في داخلها ولكن عليها، فـ( في ) تأتي بمعنى على.

    فقول الله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء) معناه: الذي في العلو، وإما أن يكون المراد بالسماء السقف المحفوظ فتكون ( في ) بمعنى: (على)، فيكون المعنى: الذي على السماء، والله تعالى أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718745

    عدد مرات الحفظ

    766214685