إسلام ويب

تفسير سورة المؤمنون [96 - 101]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن تعامل الإسلام ذو منهجية عظيمة، فحيث ينفع الترغيب والإحسان كان ذلك هو المطلوب، وحيث يصر العدو ويعاند يأتي الجهاد كحل مناسب معه. وإن الإنسان البعيد عن الله تزيد غفلته، ولكنه عند مجيء الموت يريد الإمهال ولا يعطاه، فالخطب بعد الموت عظيم، فمن حياة برزخية مخيفة، إلى وقوف للحساب على الكبير واليسير، في يوم ينسى فيه القريب والبعيد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ...)

    قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98].

    لما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة، وقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، وهذا في الآية يقصد فيما بينه وبين شياطين الإنس فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96]، أي: من أساء إليك بإساءة فادفع سوءه بالحسنى؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يهدي هذا الإنسان، ولعله يراجع نفسه ويعلم أنه ظالم فيرجع إلى الحق الذي أنت عليه، وهذا الأمر إنما يكون إلى قدر معين، فإذا ازداد الأمر فقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد أعداء لله سبحانه وتعالى.

    فهو يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا استجابوا فكان بها، فإن لم يستجيبوا وأصروا على الإعراض والكفر وإنكار ما يقوله والاستهزاء به، فقد أمر بأن يجاهدهم صلوات الله وسلامه عليه بالسيف والسنان.

    وقوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96]، يفيد أن هناك أحسن وهناك حسن، فما قال: ادفع بالحسن السيئة، ولكن ادفع بالتي هي أحسن، فهناك حسن وهناك أحسن منه، فادفع بأفضل الأشياء وأحسنها، وادفع سيئات هؤلاء لعلك تؤثر في قلوبهم فيستجيبون لك، قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، أي: بما يكذبون عليك وبما يشركون بالله سبحانه تبارك وتعالى.

    قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98]، والإنسان في وقت غضبه قد يأتيه الشيطان فينفخ فيه ويدفعه لأن يرد الإساءة بالإساءة، فقال الله لنبيه: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ، فإذا ابتلي الإنسان بمن يسيء إليه فليدفع سوءه بالحسنى، وليتعوذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الغضب أن نقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وقد جاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد غضب واشتد غضبه واحمر وجهه، فقال: إني لأعلم كلمة لو قالها هذا ذهب عنه الذي فيه، قالوا: ما هي؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

    فالإنسان الغضبان إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم أذهب الله عنه ثورة غضبه، ولم يجعله يندفع ويتهور في هذا الغضب.

    لذلك ذكر الله رسوله بأمرين:

    الأول: أن يدفع بالتي هي أحسن؛ لأن الشيطان ينزغ في نفس الإنسان المؤمن حينما يرى عدوه يسيء إليه، فدفع الإنسان لابد أن يكون بالتي هي أحسن، فإن لم يجد ذلك فالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وذلك مع الإنس، أما مع شياطين الجن فلا حيلة معهم إلا أن يلجأ العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، وربه هو الذي سيعصمه، وقد أخبر الله أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، فإذا لجأت إلى الله صرف عنك الشيطان.

    قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ ، أي: أتعوذ بك وألجأ إليك، وأستجير بك وأستغيث بك من همزات الشياطين، أي: وسوسة الشياطين.

    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة

    جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ بالله عز وجل من همز الشيطان، ويقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته قبل أن يقرأ فاتحة الكتاب يبدأ بالتعوذ، كما في الحديث عند أبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر)، يعني: في صلاة التهجد أو قيام الليل، (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وهذا هو دعاء الاستفتاح في صلاة الليل، : (ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: الله أكبر كبيراً ثلاثاً، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)، فذكر العلماء أن كلمة (همزه) معناها وسوسة الشيطان ونفخ الشيطان وهو الكبر، فالكبر يدفع الإنسان لأن يصير في نفسه عظيماً، فيؤدي به إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله!

    والنفث بمعنى: السحر، أي: أنه يكيد للإنسان بشيء من السحر، وقال بعضهم: النفث هو الشعر؛ لأن الشيطان ينفث في الإنسان بأن يقول الأشعار التي يكون فيها عدم ذكر الله سبحانه، وفيها اللهو والتعريض بالنساء وغير ذلك.

    وقد يأتي النفث بمعنى: الكبر، أو بمعنى: ما يأمر به الشيطان الإنسان من الزهو والغرور، وأما معنى همز الشيطان فهو الجنون، فيأتي إلى الإنسان فيوسوس إليه حتى يجعله ذاهب العقل مجنوناً، أو يجعله يتيه بنفسه ويفخر بنفسه ويستكبر على الخلق، أو يجعله لا يدري هل فعل الشيء أو لم يفعله؟

    فالله عز وجل أمرنا أن نتعوذ به سبحانه، ونقول: يا رب! يا من تقدر على كل خلقك! أعذنا.

    وهذه الآية فيها قراءات: فقراءة يعقوب : (وأعوذ بك رب أن يحضروني) بالإشباع، وقراءة الجمهور: (أن يحضرون) بالكسرة في آخرها دون الإشباع، والمعنى: أني أتعوذ بك يا رب أن يأتيني الشيطان ويحضرني في حال ذكر الله سبحانه وتعالى، وفي غيره من الأحوال.

    وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره)، وذلك أن الشيطان يأتي للإنسان في يقظته، فيوسوس له أو يدفعه للتهور والغضب، أو يدفعه للغرور والجنون، فأمرنا أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بل قد ينام الإنسان ولا يتركه الشيطان فيأتي له بالكوابيس وبالأحلام التي تفزعه، فأمرنا النبي أن نتعوذ بالله من الشيطان وأن نقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)، ثم قال: (فإنها لن تضره)، أي: نزعة الشيطان ونزغته وهو نائم لن تضره إذا قال هذه الكلمات العظيمة.

    أيضاً جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند الطعام)، فالشيطان لا يترك الإنسان في كل شأن من شئونه، بل يوسوس له ويلهيه عن ربه سبحانه، فيأتيه في عباداته، وكذلك في وقت طعامه، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان).

    إن الشيطان يراك ولا تراه، فهو من حولك، ويأتيك وأنت تدخل بيتك، ويريد أن يدخل معك ليبيت معك بداخل البيت، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم إذا دخلنا البيت أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو نسم فنقول: (اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجت وباسم الله خرجت، وعلى الله توكلت)، وبهذا يقوم الشيطان ولم يدرك المبيت معك، كذلك إذا حضر العشاء وأنت تأكل فالشيطان يريد أن يأكل معك وأنت لا تراه، ولكن يخبرك النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر الصدق الذي أخبره به ربه سبحانه، فيعلمك أن تسمي الله سبحانه عند طعامك؛ حتى لا يأكل معك، وكذلك لعل الإنسان يأكل فيسقط منه شيء من طعامه، فهل يتركه أو يأخذه أم ماذا يفعل؟ طالما أنه لم يتلوث فأمط ما به من أذى وكل طعامك ولا تتركه، ولو تركته فإن الشيطان سيأكل معك منه، فلا تدع للشيطان طعاماً لك، ولا تجعل له مبيتاً عندك في البيت، فعلى الإنسان أن يكون ذا ذكر لله سبحانه وفعل للعبادة والطاعة، وأن يحرص على تطهير بيته من الشياطين بذكر الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت ... ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)

    حال الغافل مع الموت

    قال الله سبحانه وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، ولا زالت الآية في ذكر المشركين الذين: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ [المؤمنون:82-83]، فهم يقولون ذلك في حياتهم، فإذا جاء الموت وعرفوا اليقين الذي كانوا يهربون منه، وعرفوا الحق الذي كانوا يكذبونه، فقد كانوا يقولون: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، فلما رأوا ذلك وعاينوه إذا بهم يقول قائلهم كما قال الله عنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ، أي: نزل الموت بأحدهم، يقول قائلهم مستجيراً بربه: رَبِّ ارْجِعُونِ ، أي: أرجعني إلى هذه الدنيا مرة أخرى لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ .

    قال تعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب : قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي ، بالياء مكان الكسرة.

    وقوله: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ، أي: من الدنيا، قال الله: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، أي: أن جواب الله له: أنه يستحيل أن ترد إلى الدنيا مرة ثانية، فلن يكون هذا إنما هي مرة واحد تكون فيها في الدنيا، فإما أن تفوز وإما أن تخسر الخسران المبين والعياذ بالله.

    وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا هذه الكلمة هي قوله تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ ، فهي كلمة لا ينظر إليها ولا يأبه بها، ولا يرد عليه عند طلبها بجواب يفرح به، وإنما قال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].

    وقوله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، البرزخ: حياة القبر، وهي ليست كحياة الدنيا ولا كحياة الآخرة، بل هو ميت الجسد، ولكن روحه إذا كان من الكافرين فهي في أسفل سافلين تعذب، وإن كان من المؤمنين فإن روحه تنعم عند الله سبحانه وتعالى.

    وهؤلاء عندما يقولون: رَبِّ ارْجِعُونِ ، هم في هذا الوقت في حياة البرزخ، أي: المرحلة التي بين الدنيا وبين الآخرة، وهي مرحلة القبور.

    وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ، قيل: يرجع الضمير في (إنها) على الكلمة وهي قولهم: رَبِّ ارْجِعُونِ ، وقيل: إنها تعود على كلمة الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، فهي كلمة قالها ربنا سبحانه وقوله صدق وحق.

    وعلى القول الأول فالرد على طلبهم هو قوله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ، وكلمة (من ورائهم) تأتي بمعنى: خلف الإنسان، وتأتي بمعنى: الغيب، وهذا الغيب قد يكون أمام الإنسان، فهنا قوله سبحانه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ ، أي: أمامهم، ولكن هذا غيب لا يراه أحد، فعبر بقوله سبحانه، وَمِنْ وَرَائِهِمْ ، أي: كأنهم مستورون عن الناس في الدنيا، والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)

    وقال سبحانه وتعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، النفخ في الصور نفختان: نفخة الموت، ونفخة البعث والإحياء والنشور، فنفخة الموت يموت فيها الجميع، وبعدها يصبح الكل أمواتاً.

    والنفخة الثانية: يوم يبعثون للحساب والجزاء، فإذا بعثوا فكل إنسان يفر من كل أقربائه، كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

    قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ، فعندها لا أحد ينظر إلى نسبه، بل الكل يقول: نفسي نفسي.

    قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا.

    وهناك معنى آخر: وهو أنه لا يقول الإنسان: أنا فلان بن فلان، فهذا إنما كان في الدنيا، فقد كانوا فيها يتساءلون عن أنسابهم، أما في الآخرة فلا يتساءلون عن الأنساب كما كانوا يتساءلون في الدنيا؛ لهول ما يرون، فقد قاموا مفزوعين عندما رأوا أن الملائكة تنزل من السماء وتحيط بهم وهم في فزع عظيم، فعلى ذلك لا أنساب بينهم ولا يتساءلون.

    وعنه أيضاً قال: إن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وصحيح إنه إذا جاء الموت فلا يسأل الناس بعضهم البعض عن الأنساب، ولكن عند القيام من القبور للحساب فهذا أشد وأفزع، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنهم يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)، والسيدة عائشة رضي الله عنها لما سمعت ذلك سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من ذلك)، أي: أن كل إنسان مشغول بنفسه.

    ولقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27]، كيف يكون ذلك وقد قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]؟ وهنا يقول تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50]، فوضح له ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي.

    أما قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27]، فذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا، وهذا صحيح، وقد يقال: إن ذلك في النفخة الثانية حين يبعثون من قبورهم، فلا أحد يسأل أحداً عن شيء ولكن بعد أن يفوز المؤمنون بدخولهم الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أشياء كانت في الدنيا، كما قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:26]، أما حين قاموا من قبورهم يوم الفزع الأكبر فلا أحد يسأل أحداً عن شيء.

    دقة الحساب يوم القيامة

    جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على أخيها أو على زوجها)، وقد كان الناس في الدنيا كل منهم يقول للآخر: أفديك بكل شيء عندي، لكن هذا الكلام يوم القيامة يذهب، فإذا بالمرأة تفرح أن يكون لها على أبيها حق، فتأخذ من حسناته، وكذلك الحال في زوجها.

    ثم قرأ ابن مسعود : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، أي: ينسى كل إنسان أن هذا أبوه أو هذا أخوه أو هذا ابنه، فهو يريد أن يأخذ حسنات من أي إنسان لكي يفلت من العذاب ويدخل الجنة.

    ثم قال ابن مسعود : فيقول الرب سبحانه وتعالى: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول الإنسان: يا رب! قد فنيت الدنيا فمن أين آتيهم به؟ فيقول الرب للملائكة: خذوا من حسناته، فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته -فوزعت هذه الحسنات على هؤلاء- فإن كان هذا الإنسان الذي يؤخذ من حسناته ولياً لله عز وجل في الدنيا ففضلت من حسناته مثقال حبة من خردل، ضاعفها الله تعالى له حتى يدخله بها الجنة، وهذا من فضل الله العظيم سبحانه وتعالى، أي: أنه إذا فضلت وبقيت من حسنات هذا الإنسان أشياء يسيرة فإن الله عز وجل يضاعفها، وتلا ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فيضاعف الله له هذه الحسنة حتى يستحق بها أن يدخل الجنة، قال: (وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة: رب! فنيت حسناته) أي: انتهت حين وزعت على هؤلاء الذين ظلمهم، وبقي آخرون يطالبونه بحقوقهم، (فيقول الله تعالى: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، يعني: خذوا من سيئات هؤلاء المظلومين وأضيفوها على سيئاته حتى يعذب بها بدلاً عن هؤلاء الذين ظلمهم، قال: (وصكوا له صكاً إلى جهنم)، والعياذ بالله.

    ولذلك فينبغي للإنسان المؤمن أن يكون ضنيناً بحسناته أن يضيعها، فلا يقع في غيبة أو نميمة، أو زور وبهتان، ولا يظلم أحداً من الخلق فيظلم نفسه، فإن الحساب يوم القيامة عسير.

    نسأل الله عز وجل أن يجعل حسابنا يسيراً.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756405839