إسلام ويب

شرح كتاب الإبانة - مذاهب ودرجات الجهمية والاختلاف بينهاللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجهمية فرق ضالة منحرفة، كثير من عقائدها مأخوذ عن اليهود والنصارى، وهي تجتمع في النفي والتعطيل لأسماء الله وصفاته وأفعاله وما ينبغي له من الطاعة والعبادة، والجهمية على درجات؛ فأشدهم وأشنعهم الجهمية الغالية النفاة، ثم المعتزلة، الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، ثم الصفاتية الذين لم يثبتوا إلا بعض الصفات ونفوا أكثرها.

    1.   

    حكم أهل السنة والجماعة على الجهمية وتقسيمهم لهم إلى درجات

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

    في الدروس الماضية تكلمنا عن مؤسس فرقة الجهمية وهو الجهم بن صفوان، وذكرنا طرفاً من شيوخه، ويحلو للإنسان أن يسميها سلسلة أهل النار، وتكلمنا في المحاضرة الأخيرة عن طرف من تاريخ الجهمية.

    وقد أطلق أهل السنة وعلماء السنة لقب الجهمية على الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته.

    فمعتقد الجهمية متعلق دائماً بالأسماء والصفات، والجهمية ليسوا جميعاً على درجة واحدة، وليسوا مذهباً واحداً فبينهم اختلافات، فالجهمية فرقة أساسية كبيرة، تفرقت فيما بينها إلى فرق داخلية، وهذا شأن أي فرقة من الفرق؛ ولذلك كثير من أهل العلم لما تعرض لشرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام في افتراق الأمة ذكر من الفرق فرقتين وثلاث فرق وأربع فرق خطأً؛ لأن هؤلاء جميعاً يدخلون تحت مسمى الشيعة مثلاً، فالشيعة فرقة أساسية افترقت فيما بينها إلى ثلاث: غلاة، وإمامية، وزيدية، فهو عد الغلاة فرقة، والزيدية فرقة، والإمامية فرقة، وفي الحقيقة أن هؤلاء جميعاً فرقة واحدة، وكذلك فرق الجهمية الفرعية التي تندرج في نهايتها تحت فرقة واحدة وهي الجهمية ظن بعض أهل العلم أنها كذلك فرق، فجعل فرق الأمة أكثر من مائتي فرقة، وهذا خطأ، ويصطدم مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما الخطأ في فهم من تصور أن الفرع الذي انبثق من الأصل في داخل الفرقة الواحدة يعد فرقة لوحدها؛ ولذلك فالجهمية درجات:

    الجهمية الخالصة الغالية (النفاة)

    الدرجة الأولى من الجهمية: هم الذين يسميهم العلماء: الغلاة أو الجهمية الغالية، وقولنا: الغالية، من الغلو، أي: المغالية في تجهمها، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، يجردون ذات الله عز وجل من كل اسم ومن كل صفة، ويقولون: الله بلا أسماء وبلا صفات.

    وأحياناً يريدون أن يحسنوا وجههم القبيح، فيقولون: لله أسماء لكنها ليست مرادة، ولله صفات ولكنها ليست مرادة، ولهم فلسفات سنتعرف عليها بإذن الله تعالى.

    ولذلك يقول الشيخ هنا: وهم أشر درجات الجهمية، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي، ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، ولا يتكلم، فحقيقة قولهم: أنهم لا يثبتون شيئاً لله.

    إذا أردت أن تنظر إلى حقيقة قولهم فلا بد أن تعلم أنهم ينفون عن الله تعالى الأسماء والصفات مطلقاً.

    قال: ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ -هل تعبدون رباً لا اسم له ولا صفة له- قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فإذا قيل لهم: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هل هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. فإذا قيل لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم- ثم عللوا بأن الله تعالى لا يتكلم ولن يتكلم بقولهم: لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة. يعني: الكلام لا يكون إلا بلسان وفم ولهاة، والله تعالى منزه عن ذلك.

    إذاً: فقد آلة الكلام فلا يتكلم، إذ كيف يتكلم والعقلاء قد علموا أن المتكلم لا بد له من جارحة يتكلم بها، ونقول: هذا في حق المخلوقين، أما في حق الخالق فإن القياس منتفٍ، فالله تعالى يتكلم بحرف وصوت، ويتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، وما زال كلام الله تبارك وتعالى قائماً، ولا زال الله تعالى متصفاً بالكلام لا ينتفي عنه ذلك سبحانه وتعالى، وصفة الله تعالى ليست مخلوقة أياً كانت هذه الصفة، الكلام أو غير الكلام، ولكنهم يقولون: لا بد للمتكلم من جارحة، مع أن الله تعالى في القرآن أخبر أن بعض مخلوقاته يتكلم بغير جارحة، كقوله تعالى عن السماوات والأرض: َقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا -أي: تكلمتا السماوات والأرض- أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].

    إذاً: السماوات والأرض تكلمتا بغير جارحة، أم أن للأرض لساناً وفماً ولهاة، وللسماوات لساناً وفماً ولهاة؟ هل أحد منا يعتقد أن للأرض لساناً أو فماً أو لهاة؟ لا أحد يعتقد ذلك، ومع هذا أثبت الله تعالى أن السماوات والأرض تكلمتا.

    وقال الله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [الرعد:13]، من من الناس يعلم أن الرعد له لسان يسبح به؛ لأن التسبيح لا يكون إلا بجارحة؟ وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى، وكذلك الجبال، هل رأى أحد منا جبلاً له لسان، أو بحراً له لسان؟ إن الله تبارك وتعالى سخر الجبال مع داود يسبحن والطير، هل الطير له لسان يسبح به ويتكلم كما نتكلم؟

    إذاً: لا يلزم دائماً لكل متكلم أن يتكلم بجارحة، وإذا كان هذا في حق بعض المخلوقين فما بالك بالخالق سبحانه وتعالى، فهو قادر على أن يتكلم كيفما شاء وبما شاء.

    قالوا: والجوارح عن الله منتفية. نقول: نعم. الجواح عن الله منتفية. قال الشيخ: وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله تعالى. الجاهل يقول: هؤلاء ما أرادوا إلا تنزيه المولى عز وجل أن يكون شبيهاً بمخلوقاته أو مثيلاً لمخلوقاته، ولكن عند النظر والتدقيق يتبين أن هؤلاء ليسوا معظمين لله عز وجل، وإنما هم معطلون لأسماء الله عز وجل ولصفاته.

    قال: وقد أفصح عن هذا المذهب رجل منهم يسمى ابن الإيادي . أخطأ شيخ الإسلام ابن تيمية ، وربما لا يكون هو الذي أخطأ حينما الناسخ لكتابه هو الذي أخطأ أنه قال: ابن الأباري ، وابن الإيادي وابن الأباري في الرسم شيء واحد، وهو أقرب إلى التصحيف.

    فالذي يقرأ عن تاريخ الفرق سواء كان في كتاب موسوعة الفتاوى لـشيخ الإسلام أو في درء تعارض العقل والنقل، أو في كتاب منهاج السنة لـابن تيمية يجد ابن الأباري ، وفي الحقيقة ليس هناك أحد بهذا الاسم، إنما هو ابن الإيادي، فالصواب: أنه ابن الإيادي .

    قال: وكان ابن الإيادي ينتحل قول الجهمية، فزعم أن البارئ عالم، قادر، سميع، بصير في المجاز لا في الحقيقة.

    يعني: أن الله تبارك وتعالى عالم مجازاً، وكلمة (مجاز) تنفي العلم الحقيقي عن الله عز وجل؛ لأن المجاز ضد الحقيقة، فإذا قلنا: إن الله تعالى عالم مجازاً لا حقيقة؛ لزمنا أن نقول: إن الله تعالى بذاته ليس عالماً، وإنما أودع علمه بعض مخلوقاته؛ ولذلك الجهمية أخذوا كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام من أوله إلى آخره، كلما مروا على اسم أو صفة جعلوه مجازاً لا حقيقة، فالذي كلم موسى عند جبل الطور بأرض فلسطين يقولون: الله تعالى هو الذي تكلم، لكن ليس على الحقيقة وإنما على المجاز. قالوا: خلق الله تعالى كلاماً فوق الجبل وبين الشجر فتكلم هذا الكلام المخلوق فسمعه موسى ورد عليه، كلام كله خبل وضلال وكفر، والمراد منه نفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل، وهو حقيقة مذهب الجهمية.

    قال ابن الإيادي : الله تعالى سميع وحي وعالم وقادر على المجاز لا على الحقيقة، وهذا القول هو قول الغالية النفاة للأسماء والصفات، وهو حقيقة قول القرامطة الباطنية ومن سبقهم من إخوان الصفا ومن الفلاسفة وغيرهم.

    فهؤلاء هم الفرقة الأولى من فرق الجهمية، وهم الغالية، أو النفاة، والنفاة عند الإطلاق يقصد بهم: النافون للأسماء والصفات، والذي يثبت منهم شيئاً من الأسماء والصفات يقول: نثبته على سبيل المجاز لا الحقيقة، وقد علمتم أن المقصد من المجاز هو نفي الحقائق، فيقولون: هو عالم ليس علماً حقيقياً وإنما عالم علماً مجازياً، وهكذا في سائر الأسماء والصفات.

    المعتزلة

    أما الدرجة الثانية من درجات الجهمية: فهم المعتزلة، وهم الذين تبنوا مذهب الجهمية أو شيئاً منه؛ ولذلك ربما تجد في الشخص الواحد متناقضات وأضداداً في عقيدته لا تدري كيف كان ذلك منه! ولكن ربما لانحرافه عن طريق السلف عاقبه الله عز وجل بأن جعل في عقله الأضداد، حتى يحيره في حياته، وقد شاهدنا في هذا الزمان كثيراً من أهل العلم لا نظر له في الكتب ولا يحسن أن يفتح الكتب فضلاً عن أن يفهم ما فيها، قد شاهدناه يقرأ في الباب الواحد كلاماً للمعتزلة، فإذا أعجبه قصه من الكتاب وألصقه في كتاب آخر يريد إخراجه، فإذا قرأ في نفس الباب كلاماً للجهمية أعجبه وضعه تحت الكلام الأول، وللخوارج تحت الكلام الأول، وللمرجئة تحت الكلام الأول، فيجمع في مسألة واحدة بين عدة عقائد، إلا عقيدة أهل السنة والجماعة. وللأسف الشديد بعض هذه الكتب يدرس الآن في بعض معاهد إعداد الدعاة هنا وهناك.

    فالمعتزلة فرقة لا علاقة لهم في الأصل بالجهمية؛ إذ إن المعتزلة فرقة أسسها واصل بن عطاء المعتزل البصري في زمن الإمام الحسن البصري ، وقصة الاعتزال معروفة، وتاريخ واصل معروف، وربما لو تسنى لنا دراسة مذهب المعتزلة لتعرفنا عليه أكثر من ذلك.

    والجهمية كما علمتم من المحاضرتين السابقتين لهم مؤسس ولهم أصول ثابتة يتكئون عليها، ولهم إنكارات ونفي للأسماء والصفات، فهم يعتمدون في أصل دعوتهم على خمسة أسس، فحينئذ مذهب المعتزلة في أصله له أصول يتكئ عليها، وينافح عنها، هذه الأصول -وإن كانت في الظاهر أصول الجهمية- تخالف الجهمية.

    أصول المعتزلة

    أما أصول المعتزلة فهي خمسة:

    الأصل الأول: التوحيد. هذا أصل أصيل يتكئ عليه أهل الاعتزال، والذي يسمع أن كلمة التوحيد أصل من أصول المعتزلة يقول: لماذا تنكرون على المعتزلة؟ أنتم تدعون إلى التوحيد وهم يدعون إلى التوحيد؟ بل حتى صار التوحيد شعاراً من شعارهم، لكن التوحيد عند المعتزلة إنما هو إبطال الصفات؛ بزعمهم أنهم ينزهون الله عز وجل عن أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، فيقولون: الله تعالى ليس له يد، ولا ساق ولا وجه، وليس له نفس، ولا يغضب ولا يسخط ولا يفرح ولا يضحك، قالوا: لأن هذا كله لا يصدر إلا من المخلوق، والخالق منزه عن ذلك، فنحن نوحده في ذاته أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، هذا هو التوحيد عندهم، والتوحيد عندهم فيه كلام كثير.

    لكن على أية حال: إذا علمت أن هذا هو التوحيد عند المعتزلة فاعلم أن هذا عند أهل السنة إنما هو نفي وتعطيل، وقد سمى المعتزلة هذا النفي وهذا التعطيل لصفات الله تعالى توحيداً، ولا مشاحة في الاصطلاح، فكل إنسان يصطلح لنفسه مصطلحاً، ويفعل لنفسه ما يشاء، لكن أهل السنة والجماعة إنما ينظرون إلى معنى هذه المصطلحات، يقولون: نحن نتفق معكم في نفي المماثلة ونفي المشابهة، لكننا نثبت الأسماء والصفات وأنتم تنفونها، وتظنون أن التوحيد لا يكون إلا بالتعطيل، ونحن لا نقول بالتعطيل، وإنما نقول بالتوحيد الذي هو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على المعنى اللائق بالله عز وجل، دون استلزام مشابهته بالمخلوقات؛ لأن المخلوقات فيما بينها مختلفة في هذه الأسماء والصفات، فلو قلنا: للحمامة جناح، ولليمامة جناح، وللعصفور جناح، ولكل طائر جناح، ولجبريل عليه السلام جناح، فهذه كلها أشياء مخلوقة تطير، وتطير بأجنحتها، لكن هل جناح العصفور كجناح جبريل؟ الجواب: لا.

    إذاً: العصفور يتفق مع جبريل في مجرد الاسم، أما الكنه والحقيقة فشتان وهيهات، وكذلك الله تعالى له يدان وله عينان وله نفس، ويضحك ويغضب ويسخط وغير ذلك من صفاته الخبرية التي أخبر بها، وصفاته الذاتية التي أخبر بها سبحانه وتعالى، وأخبر بها رسوله، وكذلك شتان بين ضحك المولى عز وجل وضحك المخلوقات، حتى الحيوانات فيما بينها تضحك وتغضب وتبكي وتحزن، وليس حزنها كحزن بعضها البعض، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.

    فالمعتزلة فضلاً عن أصولهم الخمسة تجهموا، أي: مالوا إلى مذهب الجهمية، فصاروا يضبطون أصولهم الخمسة على مذهب الجهمية ويخالفون الجهمية في بعض المسائل، لكن المعتزلة في نهاية أمرها أشربت مذهب الجهمية، وكثير من الناس يقول: هذا معتزلي جهمي، أو هذا جهمي معتزلي، وفي الحقيقة أن كل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً، وهنا نقول: بين الجهمية والاعتزال عموم وخصوص، فكل معتزلي قد أشرب منهج التجهم، وليس كل جهمي يقبل مذهب الاعتزال.

    قال: الدرجة الثانية: هم تجهم الاعتزال، أو المعتزلة الجهمية.

    قال: وهم الذين يقرون بأسماء الله الحسنى -هناك النفاة لا يقرون بهذا، لكن هؤلاء يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، وكلمة (في الجملة) لها معنى، فقد قلنا بالأمس: إن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء الصفات على سبيل التفصيل والإجمال من باب أولى، فأهل السنة والجماعة إذا أرادوا إثبات الأسماء والصفات أثبتوها تفصيلاً، والذي يثبت تفصيلاً من باب أولى أنه يثبت إجمالاً، وإذا أرادوا أن ينفوا عن الله تعالى صفة النقص نفوها إجمالاً.

    إذاً: نفي النقص عن الله عز وجل عند أهل السنة والجماعة يكون إجمالاً، ودليل ذلك قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

    أما إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فيكون على سبيل التفصيل؛ ولذلك بينها الله تعالى إجمالاً، قال: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ثم أثبت الله تبارك وتعالى في كتابه وأثبت رسوله في سنته عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، فهذا إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته على سبيل التفصيل، خلافاً للمعتزلة الذين يثبتون الكمال إجمالاً، وينفون النقص تفصيلاً، فيقولون: ليس الله تعالى بذات ولا جسم، ولا طويل ولا قصير، ولا أبيض ولا أسود، وغير ذلك.

    مع أن هذا الكلام لا يصلح أن يكون منهجاً للمخلوقين، فلو أردت أن تمدح واحداً أو ملكاً أو شريفاً أو وجيهاً، فلا يصح منك أن تقول له: لست حماراً ولا كلباً ولا خنزيراً ولا غبياً ولا كيت وكيت ... وإنما تأتي بإثبات المدح مباشرة، فإذا كان هذا لا يصح في حق المخلوقين فمن باب أولى أنه منكر في حق المولى عز وجل.

    فهؤلاء المعتزلة الجهمية يقرون بأسماء الله الحسنى إجمالاً، لكن ينفون عنه صفاته، وهم أيضاً لا يقرون بأسماء الله كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيراً منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون، وهم الذين اعتنى العلماء بالرد عليهم.

    ولذلك معظم ردود ابن بطة عليه رحمة الله في هذا الجزء الخاص في الرد على الجهمية إنما يرد في حقيقة الأمر على المعتزلة المتجهمة، والذي يرد على المعتزلة المتجهمة من باب أولى أنه يرد على الصفاتية وهم الدرجة الثالثة؛ لأن بدعتهم متعلقة بالصفات وهي نفس البدعة التي انتحلها المعتزلة وزادوا عليها، فكل معتزلي جهمي أي: في الدرجة الثانية، وكذلك هو صفاتي؛ لأن بدعته متعلقة بالصفات. قال: وهم الذين أحدثوا القول بخلق القرآن، يعني: هؤلاء المعتزلة.

    فالذين قالوا بأن القرآن مخلوق هم المعتزلة، وهم الذين عذبوا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وفي حقيقة الأمر هم المعتزلة الجهمية؛ لأن المعتزلة أشربت منهج الجهمية، وطغى منهج الجهمية على هذه الدرجة داخل الفرقة كلها، فهم الذين أحدثوا القول: بأن القرآن مخلوق، وأن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلاً، ونرد عليهم بأننا نقرأ في كتاب الله عز وجل: قال الله، يقول الله، قال الله، يقول الله، فإذا كان الله يقول فهو إذن يتكلم، وقال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فنحن نقول: إما أن تقولوا بمقتضى كتاب الله تعالى أو تخرجوا من الملة، فيقولون: نحن نؤمن بكتاب الله ونثبت الآية: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، ولكننا نقرؤها هكذا: (وكلم اللهَ موسى)، فالمخاطب هو الله، والمتكلم هو موسى، فانظر إلى تحريف الكلم عن مواضعه، والقراءة المعروفة الصحيحة: وَكَلَّمَ اللَّهُ [النساء:164]، فالله تعالى هو الفاعل وهو المتكلم وهو المخاطب لموسى، وموسى سمع الله عز وجل.

    قالوا: فالحقيقة أن الله لم يتكلم ولا يتكلم، كما أفصح بذلك رأسهم الأول الجعد بن درهم ، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً؛ لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئاً في الحقيقة؛ لأن المحبة صفة، وهم ينفون الصفات، فيقولون: إن الله تعالى لا يحب ولا يبغض في الحقيقة، لا يحبه شيء ولا هو يحب شيئاً، وكذلك لم يتخذ شيئاً خليلاً؛ لأن الخلة تقتضي المحبة، والمحبة منتفية عن الله بزعمهم، فحينئذ لم يتخذ الله تعالى إبراهيم خليلاً، لا إبراهيم ولا غير إبراهيم.

    قال: وكذلك الكلام يمتنع عنده -أي: عند الجعد بن درهم - على الرب تبارك وتعالى للعلة السابقة أن الكلام لا بد أن يكون بجارحة، والله تعالى منزه عن ذلك.

    فالجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون لله تعالى كلام قائم به أو إرادة قائمة به، وادعوا أن المتكلم يكون متكلماً بكلام يكون في غيره، وأن الله تعالى يخلق كلاماً إما في الهواء وإما بين ورق الشجرة التي كلم عندها موسى. فهذا الكلام هو المذكور في القرآن، يقولون: بأنه كلام مخلوق لله، كما قالوا في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، قالوا: الله تعالى لا يجيء؛ لأن المجيء صفة، وهم ينفون الصفات عن الله عز وجل، ويثبتونها مجازاً، كيف ذلك؟ قالوا: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] أي: وجاء أمر ربك والملك صفاً صفاً، فيجعلون المجيء ثابتاً لأمر الله لا لذات الله عز وجل.

    وأهل السنة والجماعة يقولون: وجاء ربك على المعنى اللائق به مجيئاً يختلف عن مجيء المخلوقين، والله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر نزولاً يليق بجلاله، لا كنزول محمد وإبراهيم وإسماعيل وزيد وعمرو، إذ إن نزولهم على سلالم، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو ينزل بالمعنى اللائق الذي يليق بعظمته وجلاله سبحانه وتعالى.

    ونزوله لا يستلزم خلو العرش منه، خلافاً للحوادث، وخلافاً للمخلوقين، فلو أن واحداً نزل من الدور الثاني إلى الأول يلزم من ذلك أن يخلو منه الدور الثاني، أما الله عز وجل ففوق ذلك، إذ ينزل وهو مستو على عرشه، وكيفية نزوله لا يعلمها إلا هو، لكننا نثبت النزول ونثبت المجيء، وفي نفس الوقت نثبت له العلو والفوقية والاستواء على الكرسي سبحانه وتعالى.

    أما قياسه على المخلوقين فهذا تصور وإيهام يحرم على العبد أن يتصور أن الله تعالى يشبه في أفعاله المخلوقين؛ لأن الله تعالى واحد في أفعاله، أي: متفرد في فعله، لا يمكن أن تماثله ولا تشابهه أفعال المخلوقين.

    قال: وقالوا أيضاً: يكون مريداً بإرادة ليس فيه ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي. مثلاً: قول الله تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67] ، فعلى قول هؤلاء المعتزلة الجهمية: الإرادة وصف عدمي، أي: أن الله تعالى لا يريد، إذاً: ما قيمة قوله: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة)؟

    قال: فكان حقيقة قولهم: التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل من كلام الله ومحبته ومشيئته وإرادته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقها الرسل وجاءت في الكتب.

    لأنهم يقرءون القرآن كما نقرأ، فلا شك أنهم يقرءون الأسماء والصفات التي في القرآن والتي في السنة، ولكنهم يثبتونها على سبيل المجاز لا الحقيقة.

    قال: وهذا حال الزنادقة المنافقين، وعلى هذه الطائفة بالذات رد أهل العلم الذين صنفوا في الرد على الجهمية أو الرد على المعتزلة.

    الصفاتية

    إذاً: الدرجة الأولى: النفاة الغالية، والدرجة الثانية هم المعتزلة الجهمية، أي: المعتزلة الذين أشربوا منهج الجهمية، وأصل الرد على هذه الطائفة من بين الطوائف الثلاث.

    أما الدرجة الثالثة فهم الصفاتية، وهم: المثبتون المخالفون للجهمية، وكلمة (المثبتون) عند الإطلاق تعني: أنهم يثبتون الأسماء والصفات في الجملة، والنفاة: هم الذين يعطلون الأسماء والصفات كذلك في الجملة، فهؤلاء هم الصفاتية، والصفاتية تعني: أنهم يثبتون الصفات في الجملة، وهم بذلك مخالفون للجهمية وللمعتزلة الجهمية.

    قال: لكن هذه الدرجة فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من الأسماء والصفات الخبرية أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها.

    يعني: يقولون: نحن نثبت الصفات، فنقول: يد الله فوق أيديهم، لكن المراد باليد: القوة، فهم أثبتوا الصفة لكنهم أولوها، وهذا التأويل باطل.

    وإذا كان بعض الشر أهون من بعض، فهل هؤلاء الصفاتية الذين يثبتون الصفات ويؤولونها على غير ظاهرها المراد منها أقرب إلى الحق أم النفاة الذين لا يثبتون أسماء ولا صفات؟

    وللتقريب نقول: هل الذي يموت كافراً كفراً بواحاً لم يدخل في الإسلام قط يكون كالشيعي أو القدري يوم القيامة مع أن كليهما شر؟ الجواب: بعض الشر أهون من بعض، والذي لا يصدق كلامي هذا يقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية الفرقان بين الحق والباطل، فقد قال: لأن يموت الرجل جهمياً أو قدرياً أو شيعياً أو مرجئاً أو أشعرياً خير له من أن يأتي ربه كافراً كفراً بواحاً لم يدخل الإسلام. هذا قول الإمام ابن تيمية شيخ الصحوة منذ زمانه، وإن شاء الله تعالى يكتب له ذلك إلى يوم القيامة.

    والعجيب أن ابن تيمية رجل واحد في الأمة، وهو الذي يقود الأمة الآن إلى قيام الساعة، أو إلى وقتنا هذا على الأقل، فأي شخص من الناس إذا التزم بحث عن كلام ابن تيمية وابن القيم ، وكأن الله تعالى لم يخلق علماء قبله؛ لأن العلماء قبله كانوا مصنفين ومؤصلين ومقعدين لهذه المسائل التي أخذها ابن تيمية وفهمها فهماً جيداً موافقاً لمنهج السلف، فنشرها هنا وهناك بالقول والعمل، وكان مجاهداً حقاً؛ إذ لا خلاف في شجاعته وجهاده الأعداء المبطلين في الداخل والخارج في ذلك الوقت؛ ولذلك كتب له القبول، وربما يكون سر هذا القبول الإخلاص، فكم من عالم جليل عنده من العلم ما ليس عند غيره ولم يكتب له شيء من ذلك.

    إذاً: هؤلاء يثبتون الصفات لكن يؤولونها, ويحلو لنا أن نقول: إن هؤلاء من طرف خفي هم الأشاعرة، والماتريدية، فهم يثبتون الأسماء ويثبتون الصفات، لكن يقولون: ليس المراد من الصفة ظاهرها وإنما لا بد من التأويل، وابن تيمية عليه رحمة الله يقول: وهؤلاء هم أقرب الناس لأهل السنة. ولا يعني ذلك: أنهم أهل سنة، لا والله بل هم أهل بدعة، بدليل أنهم درجة من درجات الجهمية، لكننا إذا قارناهم بالنسبة للمعتزلة الجهمية لكانوا هم أقرب الناس إلى الحق، لكن لا يعني هذا: أنهم أصابوا الحق، بل هم بعيدون عن الحق، لكنهم بالنسبة لغيرهم من أهل النفي الأصلي الكلي أو الاعتزال التجهمي هم أقرب الناس إلى الحق، ولم يصيبوا الحق بعد، فهم الصفاتية الذين يثبتون الصفات، فبلا شك أن الذي يثبت الصفة ويؤولها خير من الذي لا يثبتها، وكلاهما شر، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، لكن لا يمكن أن يستوي الخيران، فكذلك هنا: كلاهما شر لكن شتان بين المثبت والنافي، والذي نفى نفى بزعمه تنزيهاً لله عز وجل، والذي أول الصفة قال: قال تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، هل الله له يد؟ أستغفر الله، لا. اليد: هي القوة؛ لأننا نثبت لله القوة، والطرف الآخر يقول: ليس الله تعالى بسميع ولا عليم ولا حي ولا قادر ولا قوي، فينفون الاسم والصفة في آن واحد، فكأنهم في نهاية الأمر يذهبون إلى أن الله عدم، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً!

    فالله تعالى ذات، ولا بد لكل ذات من صفات، حتى هذه الورقة التي بين يدي، إذا أردنا أن نصفها نقول: مستطيلة وبيضاء، وفيها كلام مكتوب بالأزرق، ورقة جديدة أو ورقة قديمة، فهذه كلها صفات لهذه الذات، فكل ذات لها صفات، وهذا أمر مستقر في عقول العقلاء أنه لا يمكن أن يكون هناك ذات إلا بصفات، فالعجيب أن الجهمية الغالية ينازعون في أن الله تعالى ذات، والذي يقول منهم: له ذات يقول: له ذات بلا صفات، وإذا أثبتنا الصفات فإنما نثبتها على سبيل المجاز لا الحقيقة، وهو في حقيقة الأمر إلحاد وزندقة؛ لأنه يلزمهم أن يقولوا: إن الله تعالى ليس متصفاً بصفات على الحقيقة، إذاً: هو ذات عدمية، ولا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه ذات عدمية، فلا بد أن يقولوا في نهاية قولهم: إن الله تعالى عدم، خلافاً للمغالين في الإثبات أو في التشبيه أو في التمثيل، الذين يقولون: إن لله تعالى يداً، ولكن الله تعالى خاطبنا بما نعلم، ويزيدون: له يد كأيدينا، وعين كأعيننا، ونفس كأنفسنا، يغضب كغضبنا، يفرح كفرحنا، فينتهون في نهاية أمرهم إلى أن الله تعالى شخص أو رجل، حتى ذكر غير واحد ممن صنف في كتب الاعتقاد كـابن الجوزي وغيره أنهم يقولون: إن الله تعالى رجل كآحاد رجالنا ولكنه أجمل منا، حتى وصفوا الله تعالى بالبياض أخذاً من قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله جميل)، قالوا: الجمال لا يكون إلا في البياض. وهذا ليس بلازم، فالرجل الأسود أو الأسمر يرى الجمال في امرأة سمراء ولا يراه في امرأة بيضاء، والذي هو جميل عندك قبيح عندي، والعكس بالعكس، فالجمال أمر نسبي، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت لربه الجمال المطلق اللائق به سبحانه وتعالى.

    قال: ومن هؤلاء من يقر بالصفات الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث، كما عليه كثير من أهل الكلام، والفقه وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار في الجملة كذلك، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت في النصوص وفي المعقول، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية.

    شخص يقول: نحن ندرس مذهب الأشاعرة والماتريدية في الأزهر، ويقولون لنا: هؤلاء هم أهل السنة. وهذا الكلام نبهنا عليه مراراً، أن الأشاعرة أشاعرة والماتريدية ماتريدية، وهم متأولة ويمكن أن يسموا بالصفاتية، فهؤلاء الذين يثبتون الصفة، لكن يؤولونها على غير المراد منها هم من أهل القبلة، ولكنهم ليسوا من أهل السنة، وهؤلاء هم الدرجة الثالثة.

    1.   

    أصول الجهمية التي خالفوا فيها أهل الإسلام

    ما هي الأصول التي خالف فيها الجهمية أهل السنة والجماعة؟

    في الجملة: قولهم بخلق القرآن، وإنكارهم رؤية المولى عز وجل بالأبصار في الآخرة، وإنكارهم أن يكون لله تعالى وجه ويدان، وأنكروا شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.

    قد يقول قائل: لماذا ندرس الجهمية والمعتزلة والقدرية، هل ما زالوا موجودين؟ الجواب: كل الفرق الضالة موجودة في الأمة بأسماء غير الأسماء المعروفة، وستظل موجودة في الأمة، فهم يسمون في كل عصر ومصر بأسماء تختلف عن أسمائها الواردة في النصوص، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يستحلونها يسمونها بغير اسمها) يأتي الواحد منهم فيقول: الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] لم يقل: (الوسكي) ولم يقل: (الشنبانيا) ويبدأ بذكر عشرات ومئات الأسماء للخمر، ثم يقول: إن الله حرم الخمر ونحن مقرون بذلك، والذي ينكر أن الله حرم الخمر يكفر، لكنه لم يذكر (الشنبانيا) ولا (الوسكي)، ويقول: الربا حرام، لكن ليس في البنوك ربا، إنما هي فوائد، فما حرم الله في القرآن نقول بتحريمه، فالله قصد بتحريم الربا نوعاً معيناً ليس هو ما تتعاطاه البنوك اليوم؛ ولذلك البنوك حلال. فنقول: البنوك قول المبطلين الأفاكين، حتى لا يفهم أحد أني أقول: إن فوائد البنوك حلال أبداً.

    قال: وجحدوا علم الله وقدرته، قالوا: ليس بعالم ولا قادر، ونفوا عن الله تعالى الصفات التي نطق بها القرآن من السمع والبصر والحلم والرضا والغضب والعفو والمغفرة والصفح والمحاسبة والمناقشة -كل هذا نفوه عن الله عز وجل- وأثبتوا لأنفسهم من القدرة والاستطاعة والتمكن ما لم يثبتوه لله تعالى؛ وذلك لأنهم يقولون في هذا الباب بمذهب القدرية الذين يثبتون لأنفسهم القدرة على الفعل، وأن العبد مختار لفعله ولا علاقة لله تعالى بأفعاله البتة، وزعموا أنهم يقدرون على ما لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، ويخلقون ما لا يخلقه الله تعالى من الأعمال والأقوال، وزعموا أنهم يفعلون ويقدرون على ما لا يفعله الله ولا يقدره، ويريدون ويشاءون ما يستحيل أن يكون من تدبير الله ومشيئته، ويزعمون أنهم يريدون لأنفسهم ما لا يريده الله، ولم يشأه لهم خالقهم، فيكون ما يريدون ولا يكون ما يريده ربهم.

    عندما تكلمنا عن القدر الشرعي والقدر الكوني قلنا: إن الله تعالى أراد الخير والشر وخلقهما وأذن في وجودهما، ولا يكون في الكون إلا ما أراده الله عز وجل، لكنه أراد الحق وأراد الطاعة والخير إرادة شرعية دينية وأعان عليها، وأراد الشر إرادة كونية قدرية، بمعنى: أنها لا تكون في الكون إلا بإذن الله خلقاً وإرادة وكسباً من العبد، فالله تعالى أذن في وجود الشر؛ ولذلك هو الذي خلق إبليس وهو رأس الشر، فهو الذي أذن في خلقه ووجوده، مع أن الله تعالى يبغض إبليس ولا يحبه، وكذلك الله تعالى هو الذي خلق الزنا والسرقة وشرب الخمر، ونهى عنه، وقدره في الكون تقديراً، وأذن في وجوده خلقاً، والذي باشر هذا الشر هو هذا الإنسان؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فأثبت للعبد مشيئة وأثبت لنفسه سبحانه وتعالى مشيئة، فالعبد مختار لفعله بعد قيام الحجة عليه؛ ولذلك خلق الله تعالى الجنة والنار.

    قال: وزعموا أن الجنة تفنى وتبيد ويزول نعيمها، وأن النار تزول وينقطع عذابها، هذا آخر ما زعموا من أصول مسائل الاختلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة، ولهم أقوال في غاية الغرابة.

    1.   

    مغالطات الجهمية المعتزلة وبعض عقائدهم

    قال ابن بطة: ومن مغالطات الجهمية المعتزلة -الدرجة الثانية- وتمويههم على الناس قولهم: إن الله تعالى منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود.

    هذا كلام جميل في الجملة في الظاهر، لكن مقصودهم غير ذلك. قال: ومقصودهم بذلك: نفي الأفعال ونفي مباينة الله تعالى للخلق، وعلوه على العرش، فإذا قالوا: إن الله منزه عن الأعراض، لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر؛ لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد. الأعراض كالصحة والسقم والمرض وغير ذلك، فلا شك أن الله تعالى لا يفسد ولا يمرض فهو منزه عن الأعراض، فكل ما يصيبني من أعراض الحياة من غنى وفقر، وصحة وسقم، وطلوع ونزول وغير ذلك من صفات المخلوقين الله تعالى منزه عنها، أي: لا يصيبه آفات كما تصيب المخلوقين، فلا شك أن هذا كلام جميل، ولا ريب أن الله تعالى منزه عن ذلك، لكن مقصودهم بهذا القول: (إن الله منزه عن الأعراض) أنه ليس له علم؛ لأن العلم بالنسبة لي عرض، كنت جاهلاً فتعلمت، كنت عدماً فأحدثت بعد ذلك، كنت عدماً فصرت بعد العدم كائناً حياً، كنت ميتاً ثم صرت حياً.

    قال: ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة، ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها أعراضاً.

    إذاً: قولهم: إن الله منزه عن الأعراض أي: منزه عن صفاته التي وردت في القرآن والسنة. ونقول لهم: كيف يثبت الله تعالى لنفسه الصفة وأنفيها أنا زاعماً التنزيه، هل أنا أعلم بالله من الله؟ إن الله تعالى أعلم بذاته من سائر المخلوقين؛ ولذلك وصف نفسه بصفات، فلا يحل لآحاد الخلق أو للخلق أجمعين أن ينفوا هذه الصفات من باب التنزيه زعماً.

    قال: وكذلك إذا قالوا: (إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات).

    أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك: أنه لا تحصره المخلوقات، ولا شك أن هذا الكلام في ظاهره كلام جميل، أن الله تعالى حقاً لا تحصره المخلوقات ولا تحيط به المخلوقات، هذا كلام حق، لكن قولهم: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أنه ليس مبايناً للخلق، ولا منفصلاً عنه، يعني: أن الله تعالى داخل في مخلوقاته، يعني: لو سألنا: أين الله؟ لبادر جل الناس بقولهم: الله تعالى في كل مكان، أليس هذا الذي حفظناه وتعلمناه من آبائنا وأجدادنا والناس في الشوارع والمساجد؟ أليس هذا الذي تعلمناه؟ أين الله؟ الجواب: في كل مكان، الجواب محفوظ وأسرع من السؤال، وهو أبطل البطلان، وأفسد الفساد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سأل جارية -بنتاً صغيرة- ترعى الأغنام: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله) جارية ترعى الأغنام تعقل عن الله عز وجل علوه واستواءه على عرشه على الحقيقة والمعنى اللائق به تعالى، جارية تفهم ما لا يفهمه معظم الأمة في هذا الزمان، ويبدو أنها لم يكن لها مجالس مع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت مجالسها مع سيدها الذي لطمها على خدها، ثم بعد ذلك أراد أن يكفر عن هذه اللطمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لطمت جاريتي؛ لأنها فعلت كيت وكيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية! أين الله؟ قالت: في السماء، ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) .

    فأثبت لها الإيمان لصحة اعتقادها في علو الله تعالى وفوقيته واستوائه على العرش؛ ولو سألت أحد الناس الآن: أين الله؟ لقال: في كل مكان، والذي يقول: على العرش، هذا كذاب ومفتر، أليس الذي قال: إنه على العرش هو الله سبحانه وتعالى؟ ونبيه عليه الصلاة والسلام هو الذي أثبت له العلو على العرش والفوقية؟ فهل الله تعالى كذاب ومفتر؟! وهل رسوله كذاب ومفتر؟! بل الكذاب والمفتري هو الجاهل الذي قال على الله بغير علم كذباً وزوراً وافتراءً: إن الله تعالى ليس على العرش، بل هو مع خلقه في كل مكان، حتى إنهم أثبتوا أن الله تعالى في الحمامات وفي القاذورات وفي الحش وغير ذلك من الأماكن المستقذرة. قالوا: لا يخلو منه مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!

    أما أهل السنة والجماعة فيقولون: الله تعالى مستو على عرشه، مع خلقه بعلمه وسمعه وإحاطته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، أي: بمقتضى أسمائه وصفاته هو مع خلقه، فمعيته ثابتة له، معية علم وسمع وإحاطة وإرادة ومشيئة وغير ذلك، أما الله تعالى فهو مستو على العرش، مباين لخلقه، أي: الله تعالى فوق السماوات السبع، مختلف عن خلقه، ليس الله تعالى بذاته في المكان الذي فيه خلقه، وإنما الله عز وجل مستو على العرش، استواءً يليق بجلاله وعظمته.

    قال: ومقصودهم بذلك: أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب هو إلى شيء، ولا ترتفع إليه الأيدي في الدعاء، ونحو ذلك من معاني الجهمية. كل هذا كلام قالت به الجهمية المعتزلة.

    قال: وإذا قالوا: إنه ليس بجسم .. بلا شك أن هذا الكلام ظاهره إذا كان المراد أن الله تعالى ليس كمثل مخلوقاته فهذا كلام حق، هل الله تعالى جسم كجسمي؟ الجواب: لا، فقولهم يوحي في الظاهر بتنزيه المولى عز وجل، لكنهم يقصدون أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه، ولا تقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك.

    وقالوا: (ولا تحله الحوادث) والحوادث هي المخلوقات، في الكلام الأول أن أئمة الصوفية كـالحلاج وغيره يزعمون أن الله تعالى في كل شيء، حتى سئل الحلاج : أين الله؟ قال: في كمي هذا؟ وأدخل يده في كمه، وفي رواية: قيل له: أين الله؟ قال: في جبته، والجارية قالت: في السماء، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأيهما أولى بالحق؟

    قال: وإذا قالوا: (لا تحله الحوادث) أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلاً للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الاستحداثات التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، لكنهم لا يقصدون هذا المعنى، وإنما يقصدون أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، وكأن المراد من ذلك: أنهم ينفون أن الله متكلم بأي كلام شاء في أي وقت شاء، فالله تعالى ليس متكلماً على الدوام، وإنما هو فعل اختياري لله، إذا أراد أن يتكلم تكلم، لكن الله تعالى عالم في كل وقت وحين، فصفة العلم وصفة الحياة لله عز وجل ليستا كصفة الكلام، وكلها صفات لله عز وجل.

    أما صفة العلم والحياة مثلاً فهي صفات لازمة لله عز وجل دائماً لا تنفك عنه، وكذلك الكلام، لكن الكلام يختلف عن العلم والحياة بأن الله تعالى يتكلم بفعل اختياري له سبحانه وتعالى إذا شاء أن يتكلم تكلم، لكن هل يصح أن نقول: إذا شاء الله أن يعلم علم؟ لا؛ لأنه عليم في كل وقت وحين، حي في كل وقت وحين، قدير في كل وقت وحين.

    أما الكلام فهو صفة فعل اختياري، إذا أراد أن يتكلم تكلم؛ لأنه قادر على أن يتكلم، وليس كلامه محدثاً، بل الكلام صفة من صفات الله تعالى، كصفة العلم والحياة والقدرة والسمع والبصر وغير ذلك، صفات لازمة لله عز وجل، أزلية ليس لها أول وليس لها آخر.

    فأهل السنة يقولون: الله تعالى أول بصفاته بلا ابتداء، آخر بصفاته بلا انتهاء، أي: فليس لآخره آخرية وليس لأوله أولية، سبحانه وتعالى.

    فمقصودهم من قولهم: (لا تحله الحوادث): أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام، ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء؛ لأن هذه كلها أفعال اختيارية يفعلها العبد، فيقولون: الله تعالى منزه عن هذا كله، وفي نهاية الأمر يريدون تعطيل الله تبارك وتعالى عن هذه الصفات الثابتة، وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلاً، يعني: لما خلقني الله عز وجل في نظر هؤلاء الجهمية لم يكن منه فعل في خلقه أصلاً، بل عين المخلوقات هي الفعل، وهذه مسألة ستجرنا إلى مسألة خلافية بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع عموماً، وهي: هل الاسم هو عين المسمى، أم أن الاسم زائد عن المسمى؟

    يعني: لو قلت: الله، هذا اسم أم صفة؟

    الجواب: هو اسم، إذاً ماذا نعني بهذا الاسم (الله)، هل نعني به وصف الذات، أم أن عين الاسم هو الله؟ لو أنك وقفت هكذا وقلت لك: أنت جميل، فهل وصفك بالجمال وصف زائد عليك أم هو عين ذاتك؟ لا يمكن أبداً أن يكون عين ذاتك، فأنت ذات دخل عليك وصف آخر وهو الجمال، إذاً: عندما أقول لك: أنت جميل وصفت الذات بالجمال، إذاً: الذات شيء والوصف شيء آخر، إذ إن الوصف دخل عليك، ولما أقول لك: أنت رحيم، فهذه الرحمة معنى زائد على الذات، وغير ذلك من الصفات.

    لكني لو قلت لك: ما اسمك؟ قلت: عمرو، فقلت لك: يا عمرو! فعمرو إشارة إلى الذات، إذاً: عمرو عين ذات الشخص الذي وقف قدامي. أقول: أنت عمرو؛ لأن أباك سماك عمراً فأنت عمرو، فعمرو لم يضف معنى زائداً للذات، والذي لا يضيف معنى زائداً يكون هو عين المسمى، والذي يضيف معنى زائداً يكون صفة للمسمى، فإذا قلت: يا عمرو! فليس معنى ذلك أنني أصفك، وإنما أنا أنادي ذاتك، وأعتقد أن هذه الذات تسمى عمرو، وعمرو معبر عن الذات وليس عن صفة في هذا الشخص الذي يقف أمامي.

    لو انتقلنا -ولله المثل الأعلى- إلى الله عز وجل، لقلنا: من أسمائه الغفور، والله تبارك وتعالى إذا سمى نفسه بالغفور فلا بد أن يتصف بالمغفرة، إذا سمى نفسه بالرحيم فلا بد أن يتصف بالرحمة، فكل اسم يدل على صفة، وليس العكس، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، فكل اسم يدل على صفة، وليس كل صفة يشتق منها اسماً، وهذه مسألة محل نزاع كذلك، لكن أعتقد أن هذا هو الراجح، فإذا قلنا: (الله) نادينا اسماً؛ بدليل أني أقول: يا الله! فهل (الله) اسم زائد عن الذات أم هو عين الذات؟ الجواب: هو عين الذات.

    فلو قلت: يا غفور! يا رحيم! يا ودود! يا قوي! يا متين! يا مانع! يا معطي! فهل هذا الاسم هو عين الذات أم وصف زائد؟ الجواب: وصف زائد، وهذا كلام الأشاعرة في الحقيقة، لكن على عادة أهل السنة والجماعة: إذا خاض المبتدعة في شيء ما خاض فيه السلف تعرضوا لهم بالرد، وليس من باب أن هذا الكلام مستحب أو مشروع أو فعله السلف، ولكن من باب الرد على المبتدعة.

    1.   

    تشعب آراء الجهمية وتعدد أقوالهم

    قال ابن بطة رحمه الله: [ومع ذلك فإن الجهمية كغيرهم من الفرق ليسوا على رأي واحد، فقد تعددت أقوالهم وتشعبت آراؤهم].

    دائماً المبتدع لا يمكن أن يستقر على بدعة واحدة إلى نهاية أمره؛ ولذلك يقول ابن الجوزي : وأصل البدع إما من المجوس أو من اليهود أو من النصارى، ودليل ذلك أن أهل البيت الواحد من النصارى إذا كانوا عشرة إذا اجتمعوا على مسألة فقال كل واحد منهم رأيه؛ تفرقوا على أحد عشر رأياً، وشيء غريب أن يكونوا عشرة فيخرجون بأحد عشر رأياً، فهل من الممكن أن يختلف شخص مع نفسه فيقول رأياً ثم يقول نقيض هذا الرأي في المجلس الواحد؟ الجواب: نعم. كاليهود فقد قالوا في عبد الله بن سلام : أنت سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا.. فلما قال لهم: أسلمت، قالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا وحقيرنا وابن حقيرنا، هكذا قالوا بالقول وضده في مجلس واحد.

    وهذا شأن أهل البطلان والزيغ والضلال، لا يثبتون على رأي، بل يختلفون مع بعضهم البعض، وهذا شأن جماعة التفكير في هذا الزمان، يكفرون لأدنى معصية، فإذا قلت لهم: هل أنا أكفر بحلقي للحيتي؟ يقولون: نعم؛ لأنها معصية، فإن قلت أنت لأحدهم: وأنت ألست تلبس ثوباً قد نسجه الكفار؟ قال: نعم. فإن قلت: هذه معصية أم لا؟ قال: نعم. وإن قلت له: وما حكمك إذاً؟ قال: أنا كافر، وهذا كلام لا طعم له ولا لون ولا رائحة؛ ولذلك دائماً تسيطر على أهل البدع والضلال غياهب الجهالة فيكون منطلقهم في المناظرات والمناقشات الجهل، لا يحبون العلم، بل بينهم وبين العلم عداء، ولو تعلموا حقاً لاهتدوا؛ لأن العلم أعظم عاصم من هذه الأهواء والمضلات والفتن؛ ولذلك جعله الله عز وجل فريضة، قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أنس : (طلب العلم فريضة على كل مسلم)؛ لأن المسلم لا نجاة له من هذه الأهواء والفتن إلا بطلب العلم على منهج السلف.

    الجهمية كذلك ليسوا على مذهب واحد، ولا على كلام واحد؛ بل تعددت أهواؤهم وآراؤهم، وقد قسمهم العلامة الملطي حسب آرائهم إلى ثمانية أصناف، إذاً هم من حيث الدرجات ثلاثة ومن حيث الأصناف ثمانية على مذهب الملطي ، لكل صنف منهم عدة آراء، وليس ما ذكره الملطي هو جماع آراء الجهمية، لكن هذه أصول المخالفات؛ والعلماء دائماً عندما يردون على المبتدعة يذكرون أصل الخلاف، لكن عندما يصنفون في الفروع تجد أن لهم أقوالاً لا يمكن أن تتصور أنهم قالوها! فلو نظرت إلى كتاب أبي الحسن الأشعري (مقالات الإسلاميين)، لوجدته كتاباً رائعاً جداً جداً جداً، ويحتاج كل سطر منه أن يشرح في ورقتين أو ثلاث ورقات، وأنا أسأل الله تعالى أن يسخر لهذا الكتاب رجلاً من أهل العلم يشرحه باستفاضة، ويضبطه على منهج أهل السنة والجماعة، فيخرج في أكثر من عشرين أو ثلاثين مجلداً مع أنه مجلد واحد؛ كما أنه لا ينصح أهل العلم قط بقراءة هذا الكتاب إلا رجلاً قد تمكنت من قلبه عقيدة أهل السنة والجماعة، ففي هذا الكتاب العجب من فروع الخلاف بين أهل الأهواء وأهل السنة والجماعة.

    قال: للجهمية آراء كثيرة غير ما ذكرنا، ومن أهمها:

    منهم صنف من المعطلة يقولون: إن الله لا شيء، وما من شيء، ولا في شيء، ولا يقع عليه صفة شيء، ولا معرفة شيء، ولا توهم شيء، ولا يعرفون الله فيما زعموا إلا بالتخمين، فوقعوا عليه اسم الألوهية، ولا يصفونه بصفة يقع عليه الألوهية.

    إن هذا الكلام يحتاج إلى شرح وبسط كثير جداً، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام سمى الله شيئاً، فقد قال في دعائه: (اللهم يا أحسن الأشياء! لا تجعلنا أهون الأشياء عليك) ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ربه شيئاً، لكن ليس كبقية الأشياء، وشيء صفة في الله عز وجل، وهي تأخذ حكم بقية الصفات، فنقول: إن الله شيء لكن ليس كبقية الأشياء، وإنما يقع التوحيد في مجرد الاسم، فأنا شيء والله شيء، لكن شتان ما بين المخلوق والخالق سبحانه وتعالى.

    فهؤلاء المعطلة زعموا أن الله ليس بشيء، أو لا شيء ولا منه شيء، ولا يكون في شيء وغير ذلك، وهذا كلام يحتاج إلى ضبط وتفنيد.

    قال: ومنهم صنف زعموا أن الله شيء وليس كالأشياء، لا يقع عليه صفة ولا معرفة ولا توهم ولا نور ولا سمع ولا بصر. إذاً: قولهم: أولاً: أن الله تعالى شيء ليس كالأشياء يوافقون أهل السنة والجماعة في هذا، أما قولهم بعد ذلك: أنه شيء ليس كالأشياء فهذا يعني عندهم: أنه ليس نوراً ولا سميعاً ولا بصيراً.. فهذا كلام يحتاج كذلك إلى ضبط وتفنيد سيكون في أثناء الشرح بإذن الله تعالى.

    قال: ومنهم صنف زعموا أنه ليس بين الله وبين خلقه حجاب ولا خلل، وأنه لا يتخلص من خلقه ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع فلا يبقى من خلقه شيء، وهو مع الآخر في آخر خلقه ممتزج به ... إلى آخر كلام كثير جداً، ولولا أن الله تعالى حكا في كتابه مقالة الكافرين ما تجرأ الواحد منا أن يتكلم هذا الكلام.

    قال: ومنهم صنف أنكروا أن يكون الله سبحانه في السماء، وأنكروا الكرسي، وأنكروا العرش. وإلى الآن هناك من يدرس وينكر الصراط والميزان والحساب والحشر والنشر وغير ذلك، ويقول: كل هذه معان وليست حقائق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    قال: وينكرون العرش، وأن يكون لله تعالى عرش، والله تعالى فوق السماوات، وقالوا: إن الله في كل مكان حتى في الأمكنة القذرة.

    ومنهم صنف قالوا: لا نقول: إن الله بائن من خلقه ولا غير بائن، وهؤلاء هم المتوقفة أو الواقفة، (بائن) أي: أن الله تعالى مستو على العرش، ومخالف لخلقه، يقولون: نحن لن نقول: بائن، ولن نقول: غير بائن، نحن متوقفون في ذلك.

    يقولون: لا نقول: إن الله بائن من الخلق ولا غير بائن، ولا فوقهم ولا تحتهم، ولا بين أيمانهم ولا عن شمائلهم، ولا نقول: إن الله قوي ولا شديد، ولا حي ولا ميت، ولا يغضب ولا يرضى، ولا يسخط ولا يحب، ولا يعجب ولا يرحم ولا يفرح، ولا يسمع ولا يبصر، ولا يقبض ولا يبسط، ولا يضع ولا يرفع.

    جردوا الله تعالى من كل هذا، فمن يعبدون إذاً؟ شيء عجيب!

    قال: ومنهم صنف زعموا أن العباد لا يرون الله، ولا ينظرون إليه في الجنة، ولا في غيرها، وزعموا أنه ليس بينهم وبين الله خلل ينظرون إليه منها، وأن لا حجاب لله، وأن موسى عليه السلام كفر حين سأل ربه؛ لأنه سأل ما لم يكن. قال: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] انظر إلى هؤلاء الجهمية كفروا الأنبياء، مع أني أعلم من قراءتي لكتب أهل السنة والجماعة أن من أساء الظن بالنبي كفر بالله عز وجل، فما بالك بمن كفر النبي عليه الصلاة والسلام؟!

    قال موسى : رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] فقال الله عز وجل: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، الله تعالى قال: لن تراني، ولم يقل: أنا لا أرى؟ أي: لن تراني في الدنيا يا موسى! ولم ينف الله تعالى أنه يرى في الآخرة، وإنما النفي للرؤية الوقتية في وقتها لموسى، أو نفي الرؤية في الدنيا، قال: لن تراني، أي: ما دمت حياً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنه لا يرى أحد منكم ربه حتى يموت فيبعث) يعني: لا يمكن أن تتم الرؤية لله عز وجل في الدنيا، وإنما تتم في الآخرة؛ ولذلك لما سأل أبو ذر النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت ربك يا رسول الله؟! قال: نور أنى أراه؟) وقالت عائشة : (من زعم أن محمداً رأى ربه -أي: في رحلة المعراج- فقد أعظم على الله الفرية)، لكن النبي رأى ربه مناماً كما في حديث اختصام الملأ الأعلى عند الإمام أحمد بسند صحيح، وفي الآخرة يرى المؤمنون ربهم تبارك وتعالى، ويحجب عنه الكافرون، أما المنافقون فمحل نزاع بين أهل العلم، سنذكره في حينه.

    قالوا: وأن موسى عليه السلام كفر حين سأل ربه؛ لأنه سأل ما لم يكن. ومن المعلوم أن الأنبياء هم أعلم الناس بالله عز وجل، فموسى عليه السلام لما سأل سأل عن شيء قد استقر عنده أنه ممكن، ولكن الله عز وجل أقره على هذا الإمكان، وقال له: إمكانية الرؤية مؤجلة إلى يوم القيامة، أما في الدنيا فلا.

    قال: وقالوا: إن عيسى عليه السلام كفر كذلك حين قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]؛ لأنهم زعموا أنه حين زعم أن لله نفساً فقد كفر -ونحن سنثبت أن لله تعالى نفساً بعد ذلك- ومنهم صنف زعموا أن الجنة والنار لم يخلقهما الله بعد، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت الجنة فرأيت فيها كيت وكيت، وسمعت فيها خشخشة فلان وفلان، (ورأيت قصراً، ووجدت عنده امرأة تتوضأ فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لـعمر بن الخطاب) ، وغير ذلك من الأخبار الكثيرة جداً.

    وثبت في السنة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف بعد أن صف الناس في صلاة الاستسقاء، فتقدم خطوة ثم خطوة ثم ثالثة وهو يمد يده، ثم رجع القهقرى عليه الصلاة والسلام، فقالوا: يا رسول الله! رأيناك فعلت ما لم نعهده عليك، فقال: رأيت الجنة والنار، رأيت الجنة وما فيها من خير، وقد مثل لي منها عنقود، فهممت أن أقطفه، فهذا تقدمي خطوة وثنتين وثلاثاً، ورأيت النار ورأيت لهيبها ففزعت فرجعت خطوة وثنتين وثلاثاً).

    وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (دخلت الجنة فرأيت كذا، واطلعت في النار -أي: نظرت إليها- فوجدت أكثر أهلها النساء، فقامت امرأة جزلة عاقلة قالت: لم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكفرن. قالت: نكفر بالله؟ قال: لا، تكفرن الإحسان وتكفرن العشير، يحسن الرجل إليكن الدهر كله فإذا بدا منه شيء قلتن: ما رأينا منك خيراً قط) وهذا سبب لدخول النار.

    هذه النصوص وغيرها تثبت أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، لا تفنيان ولا تبيدان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت) وغير ذلك من النصوص الكثير جداً التي تثبت أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان، وبعكس هذا قالت هذه الفرقة من الجهمية.

    ومنهم صنف أنكروا الميزان والصراط والكرام الكاتبين، وأنكروا الشفاعة وعذاب القبر ومنكراً ونكيراً -وهؤلاء الجهمية موجودون بكثرة في هذا الزمن- وزعموا أن الروح تموت كما يموت البدن، وأنه ليس عند الله أرواح ترزق، شهداء ولا غير شهداء، وأنكروا الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأنكروا أن يكون ملك الموت يقبض الأرواح.

    وللجهمية آراء كثيرة جداً غير هذا سنتعرف عليها بإذن الله في حينها، ويبقى الدرس القادم في ذكر بعض النقولات عن أهل العلم في أحكام الجهمية: هل هم كفار أم لا؟

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755973531