إسلام ويب

شرح كتاب الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان - صفة صلاة التراويحللشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صلاة التراويح من النوافل التي جاء الحث عليها والندب إليها، وهي من قيام الليل، فعلى المسلم المحافظة عليها؛ لما فيها من الأجر العظيم، والثواب الجزيل. وصلاة التراويح اختلف العلماء في عدد ركعاتها، والراجح أنه لا حد فيها، فلا ينبغي أن ينكر أحد على أحد في هذا، وإن كان الأفضل هو العدد الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أسماء صلاة التراويح

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    فقد تكلمنا عن صلاة التراويح في رمضان، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على قيام رمضان، وكان يحثهم من غير عزيمة، يعني: لم يوجبه، بل كان يخاف صلى الله عليه وسلم أن يواظب عليها مع الناس فيكتب ويفرض عليهم، فلذلك كان يصليها في بيته صلوات الله وسلامه عليه، وخرج فصلى بالصحابة ثلاث ليال، كما ذكرنا في الحديث السابق.

    وهذه الصلاة تسمى بصلاة القيام، وتسمى بصلاة التراويح، وتسمى التهجد، وتسمى قيام الليل، وتسمى الوتر، وهي واحدة.

    1.   

    عدد ركعات صلاة التراويح وذكر الخلاف في ذلك

    وكان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غير رمضان، وكان يواظب عليها سواء في رمضان أو في غير رمضان، ولكن في رمضان كان يحث عليها الناس.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاته المعهودة في رمضان وفي غير رمضان، وما زاد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، صلوات الله وسلامه عليه.

    وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، ولكن أكثر الأحاديث على أنه كان يواظب على إحدى عشرة ركعة في رمضان وفي غير رمضان، بل كان إذا فاتته صلاة الليل صلاها في وقت الضحى شفعاً، يعني: يصليها اثنتي عشرة ركعة في النهار في وقت الضحى، وأخبر أن من فاته قيام الليل فصلاه في وقت الضحى كتب له قيام الليل، وهذا من فضل الله العظيم سبحانه وتعالى.

    فالمستحب في ذلك ما كان أسهل على الناس فيها، سواء صلى ثلاث عشرة ركعة أو صلى إحدى عشرة، أيضاً يجوز أن يصلي أكثر من ذلك، لكن أفضل الفعل هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي إحدى عشرة ركعة ويواظب عليها.

    ولكن لا إنكار على من يزيد على ذلك؛ لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكثر من ذلك، وهذه مسألة هامة جداً، فبسببها يقع إشكال بين المسلمين كثيراً, بين الذين يرى عدم الزيادة على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وبين الذي يقول: الأمر واسع في الأمر، وهذا الصواب، فالصواب في هذا الشيء: أن الأمر واسع، فإذا صليت مع الناس إحدى عشرة ركعة، ورجعت إلى البيت وأحببت أن تصلي ما شئت، فلا يوجد إنكار في ذلك، فصل ما شئت؛ لأنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدد معين لا يجوز تجاوزه.

    ولذلك فجماهير العلماء على أنه يجوز أن تصلي ما شئت في قيام الليل، سواء إحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل من ذلك؛ بحسب ما يتيسر لك.

    وقد ذكر الإمام النووي في المجموع مذاهب العلماء في عدد ركعات التراويح، والغرض منها بيان أن الأمر واسع، فلا يحتاج أننا نبقى في عراك مع بعضنا، فواحد يقول: صل إحدى عشرة، وآخر يقول: صل عشرين، وآخر يقول: إحدى وعشرين، وآخر يقول: ستاً وثلاثين، فلا يحتاج الأمر لهذا الشيء، وإنما أفضل ما يكون أن تصلي إحدى عشرة ركعة كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإذا كان يشق على الناس التطويل في الركعات جاز أن يقلل في القراءة ويزيد من عدد الركعات، وإذا صلى الإنسان في المسجد ورجع إلى بيته ورأى أن هناك وقتاً إلى الفجر، وفيه قوة أنه يقوم من الليل، فيجوز أن يصلي أكثر من ذلك، ولم يثبت المنع في ذلك.

    وأما قول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما زاد رسول صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) فهذا فعل، والفعل لا يفيد التحديد، ولا يفيد أنه لايجوز إلا إحدى عشرة، وأن أكثر من ذلك يكون بدعة، أو أن أكثر من هذا يكون ضلالة، أو يكون حراماً، فإن هذا كله لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أهل العلم على أن الأمر واسع، ومن أجمل الكلام في ذلك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .

    يقول النووي رحمه الله: مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وداود أنها عشرون ركعة، يعني: أن هؤلاء أخذوا بأن عمر بن الخطاب جمع الناس على عشرين ركعة، فعلى ذلك قالوا: نفعل كما فعل عمر رضي الله عنه.

    والبعض يقول: الوارد عن عمر إسناده ضعيف، ولكن هناك روايات أخرى تعضد هذا الأثر، وهذا كان مشهوراً في عهد عمر رضي الله عنه أنه فعل ذلك.

    والراجح: أن الأمر واسع، فمن صلى عشرين أو صلى إحدى عشرة فكل ذلك جائز.

    لكن يا ترى هل الذي سيصلي عشرين الركعة سيقرأ فيها آية ويركع؟ إن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الهدي، فعليك أن تقرأ كما كان يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن قراءته كانت قراءة معتدلة بصلاة طويلة جميلة، وهذا أفضل من أن تصلي وتقرأ في كل ركعة آية وتركع، فهذه الصلاة تجعل الناس يلهثون وراء الإمام وهو يجري في هذه العشرين ركعة.

    لكن إذا صلى المرء ثمانِ ركعات يحسن فيها القيام، ويفهم الناس القرآن، ويختم فيهن كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا أفضل من أنه يصلي ركعات كثيرة، وتكون في النهاية المحصلة أنه قرأ ربعاً أو ربعين في خلال العشرين الركعة.

    يقول النووي : مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وداود -يعني: الظاهري - أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات: ركعتين ركعتين ركعتين ركعتين... وذلك خمس ترويحات.

    وسميت تراويح لأنهم كانوا يتروحون بين كل أربع ركعات، فيصلون أربع ركعات ومن ثم يأخذون راحة، ثم يصلون أربع ركعات ومن ثم يتروحون، يعني: يستريحون بعد الأربع ركعات.

    وجاء عن الأسود بن يزيد أنه كان يقوم بأربعين ركعة، ويوتر بسبع ركعات.

    وقال مالك : التراويح تسع ترويحات، وهي ست وثلاثون ركعة غير الوتر، واحتج مالك على ذلك بأن أهل المدينة يفعلون ذلك.

    وقال نافع وهو مولى عبد الله بن عمر وشيخ مالك في الحديث أدرك التابعين وبقايا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: أدركت الناس في المدينة وهم يقومون رمضان بتسع وثلاثين ركعة، يوترون منها بثلاث.

    وهذا عدد كبير جداً، ولعلهم كانوا يصلون الليل كله، فهل يطيق المسلم ذلك؟ ولو قيل: إنهم كانوا يصلون ركعات كثيرة لكنهم يقرءون في كل ركعة آية أو آيتين، فالجواب: أنهم لم يكونوا يفعلون هذا الشيء، بل كانوا يصلون صلاة طويلة.

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى: لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان عدداً معيناً، يعني: لم يحدد أنه لازم أن يكون كذا، فلم يقل: صل إحدى عشرة ركعة ولا تزد على ذلك، فتكون الزيادة على ذلك ممنوعة، كما قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتين)، فيمنع أن تصلي بعد الفجر، فبعد أن يؤذن المؤذن للفجر الصادق لا يجوز لك أن تصلي أكثر من ركعتين، وهما سنة الفجر، فهذا توقيت وقته النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن في قيام الليل الأمر مفتوح، فلم يقل: لا تصل أكثر من كذا، فيجوز للإنسان أن يصلي ما شاء.

    يقول ابن تيمية رحمه الله: لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان عدداً معيناً، بل كان صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، وكان يستمتع بهذه الصلاة صلى الله عليه وسلم، فكان يقوم من النوم فيصلي ركعتين يطيل فيهما ما شاء الله سبحانه وتعالى، ثم ينام إلى أن يأخذ قسطاً من النوم، ثم يقوم مرة أخرى فيصلي ركعتين ويطيل ما شاء الله له أن يطيل.

    إذاً: فهو يقوم يصلي صلاة رغبة ورهبة، صلاة إقبال على الله وليست صلاة مستعجلة وكأنه يقول: متى ننتهي منها؟ ليس كذلك، بل كان يقول: (أرحنا بها يا بلال !)، وقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فهذه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

    يقول ابن تيمية رحمه الله: فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ويوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة.

    يعني: فكأنه يعوض، فإذا كانت الإحدى عشرة ركعة ستأخذ ساعتين أو ثلاث ساعات، فيصلي العشرين في نفس المقدار، إذاً: فيقلل في عدد الآيات التي في كل ركعة، لكن في النهاية هو نفس الوقت الذي كان سيصلي فيه الإحدى عشرة ركعة.

    يقول ابن تيمية: وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من ركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كانت طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ.

    هذا كلام فقيه عظيم عالم، وقد جمع بين علم العقيدة وعلم الأصول وعلم الفقه وعلم الحديث، فتكلم كلام العلماء الراسخين، فقال: الأمر واسع في ذلك، ولكن أحب ما يكون هو فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه، من غير تبديع لمن زاد على ذلك.

    قال: والأفضل في ذلك يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام -أي: يستطيعون أن يصلوا صلاة طويلة- فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنفسه في رمضان وغيره، وهو الأفضل على رواية؛ لأن الروايات المشهورة إحدى عشرة ركعة.

    وإن كانوا لا يحتملون فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين.

    قال في آخر كلامه: ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ.

    هذا كلام جميل جداً، وكلام طيب يجمع المسلمين ولا يجعل بينهم خلافاً، ولا يجعلهم يشتم بعضهم بعضاً، ويبدع بعضهم بعضاً، فالأمر واسع في ذلك، لكن أفضل ما يكون هو أن يصلي كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة، ويطيل فيها بما لا يشق على الناس، كما يفعل الكثيرون من أئمة المساجد الذين يقتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. هذا مختصر لكلام ابن تيمية رحمه الله.

    1.   

    ذكر بعض الأحاديث الواردة في صفة قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الليل

    ومما جاء في ذلك ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته -تعني: بالليل- فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية)، والخمسون آية ممكن أن تكون ربعين في القرآن، هذا الغالب، ويمكن أن يكون أكثر من ذلك.

    قالت: (قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر).

    هنا ذكرت أنه صلى إحدى عشرة ركعة بالليل، وركعتين، فاحتمل أن تكون الركعتان هم اللتان قبل الفجر، سنة الفجر القبلية، واحتمل أن تكونا من ضمن قيامه، وأنه بعدما انتهى وأوتر صلى الله عليه وسلم كأنه قام بعد ذلك فركع ركعتين بعدها، وسيأتي الكلام على ذلك.

    لكن تقول هنا في الحديث توضح أنها سنة الفجر: (يركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة).

    فقام الليل بهذه الصفة التي السجدة فيها بقدر خمسين آية، وهذا يدل على أنها طويلة، فإذا كان سيسجد السجدات قدر خمسمائة آية فكم سيكون قدر الركوع؟ والقراءة نفسها كم ساعة ستكون؟

    إذاً: فهذه الصلاة الطويلة تحتاج إلى راحة، فكان صلى الله عليه وسلم يرتاح بعد هذه الصلاة، فلما أذن المؤذن للفجر صلى ركعتين سنة الفجر.

    ثم يضطجع إلى أن يجتمع الناس إلى بيت الله عز وجل، وهذا الاضطجاع سنة في مثل هذه الحال.

    فـعائشة رضي الله عنها تحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل قياماً طويلاً، وعند الفجر صلى صلى الله عليه وسلم سنة الفجر، ثم اضطجع قليلاً صلى الله عليه وسلم.

    وأحياناً كان يجد زوجته السيدة عائشة أو أم سلمة أو غيرهما من زوجاته قاعدة فكان يحدثهن، وأحياناً تكون هي أيضاً تنتظر صلاة الفجر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضطجع ولا ينام، ولكن يضطجع ليستريح، وهذا معروف طبياً، فإن الإنسان إذا قام قياماً طويلاً ينسحب الدم من رأسه إلى أطرافه، فلا يصل إلى المخ، فيمكن أن يدوخ، فإذا نام على الأرض يصل الدم إلى المخ؛ لذلك إذا أغمي على إنسان فإنك تضعه على الأرض، فترفع رجليه من أجل أن الدم يصل إلى دماغه، وأما إذا وضعته على كرسي وجعلت تضرب فيه من أجل أن يصحو فلن يصحو؛ لأن الدم لن يصل إلى دماغه، فأول شيء أن تجعله ينام على الأرض، وترفع رجليه إلى الأعلى، فتجعل رجليه أعلى من دماغه؛ من أجل أن الدم يصل إلى الدماغ.

    فالإنسان إذا قام الليل وتعب فإنه ينام ويضطجع.

    إذاً: فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا كان الواحد حاله مثل حالتنا قد نام الليل كله، وقبل الفجر قام وصلى ركعتين فلا يضطجع؛ لأنه قد نام الليل كله، فلا ينم؛ فإن هذا وقت إجابة دعاء، ولذلك البعض يتشدد ويقول: هي سنة، وأما ابن حزم رحمة الله عليه فيقول: تجب هذه الضجعة.

    والصحيح أن هذه ضجعة استراحة، وليست عبادة، لكن ابن حزم يقول: هي واجبة، حتى إنك لو ذهبت للمسجد وكان الإمام في الصلاة فاضطجع، ثم قم وادخل في الصلاة، وهذا الكلام بعيد جداً عن الحقيقة وبعيد عن الواقع، ومن يقبل مثل هذا الشيء؟! إذ كيف أدخل وأجد الإمام في الصلاة فأذهب اضطجع وأقوم؟! فسيقول: فعلها بعض الصحابة، فنقول: وإن فعلها بعض الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم؛ فإنهم فعلوها بسبب الأعياء والتعب؛ لأنهم قاموا الليل كله، ولما وصلوا إلى المسجد وكان الواحد منهم مجهوداً اضطجع، أما إذا جئت والإمام في الصلاة وقد أمرك النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتيم والإمام ساجد فاسجدوا)، ولم يقل: نم واضطجع قليلاً وقم وادخل معه، وإنما قال: (فاسجدوا)، مع أن السجدة ليست محسوبة، ولذا قال: (إذا أتيتيم والإمام ساجد فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة).

    وهذا الحديث معناه: أنك أول ما تدخل المسجد افعل كما يفعل الإمام؛ بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن خالف بعض الصحابة فنقول: هو فهم هذا الشيء رضي الله عنه لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الشيء، هو فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهذا الاضطجاع، وهو صلى الله عليه وسلم أمر من قام الليل أن يضطجع، كما قام النبي صلى الله عليه وسلم وتعب.

    وأما أن يأتي المسجد وهو قد بات نائماً في وقت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء فيه مستجاب ويترك الدعاء من أجل أن يضطجع فلا، ولماذا يفعل هذا الشيء وهو غير تعبان؟

    فهنا الضجعة نحملها على ما فعله النبي، كما أخبرت السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها.

    ونحن نحكي هذا لأن في الاعتكاف تجد بعض الإخوة يعملون حاجات غريبة، ومن ثم يقولون: هي سنة، فنريد أن نقيم السنة، وتجد آخرين يردون عليهم، ويحصل خلاف بينهم، فنقول: ابعدوا عن الخلاف، فالخلاف كله شر.

    وأيام الاعتكاف أيام عبادة لله سبحانه وتعالى، وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تشذ عن الناس بفعل تفعله، ولا تلفت إليك الناس بحيث تقول: الناس ينظرون إلي، والناس يعملون مثل ما أنا أعمل، فيخشى عليك من الرياء بفعلك الذي تفعل.

    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)، ونلاحظ الفرق بين: (كان يفعل كذا)، فهذا دليل على الاستحباب، وبين: (لا تفعلوا كذا)، فهذا دليل على الأمر والنهي، فهنا كان يفعل، والتي تقول هذا هي السيدة عائشة وليس النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالسيدة عائشة رضي الله عنها تقول: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) تعني: لا تسأل عن جمال هذه الصلاة التي يصليها، وعن حسن الصلاة التي يصليها النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء:110]، فلا تجهر بصلاتك فتوقظ النائمين، ولا تخافت بها، فلعل أحداً يريد أن يسمعك وأنت تقرأ، فكان يقرأ قراءة لا يوقظ بها النائمين، فكانت تسمع له، ويعجبها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعجبها جمال صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: (لا تسأل) أي: لا يوجد بعد ذلك حسن؛ فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي يصليها بالليل وهو في بيته عليه الصلاة والسلام أحسن وأجمل صلاة.

    قالت: (ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً) تعني: يوتر بعد ذلك بركعتين ثم بواحدة، قالت: (فقلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟) كأنه كان يصلي أربع ركعات وينام، ثم يقوم، فيصلي أربع ركعات أخرى وينام، ثم يوتر، فهي تسأله وتقول: أنت تقوم من النوم فتصلي الوتر من غير أن تتوضأ؟ فقال: (يا عائشة ! إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) فقلبه صلوات الله وسلامه عليه لا ينام، بل قلبه معلق بالله سبحانه، فيستشعر بكل ما حوله، والعين تنام وتستريح، وأما القلب فلا، فهو يقظ ليلاً ونهاراً، فصلوات الله وسلامه عليه لا يغيب عن ربه سبحانه وتعالى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام يستشعر نفسه أنه أحدث أو لم يحدث، والعادة أنه لم يحدث في النوم فيصلي صلى الله عليه وسلم، فإن أحدث توضأ وصلى صلوات الله وسلامه عليه.

    وفي حديث آخر في صحيح مسلم أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر)، وكأنها هنا أجملت الحديث، وفي الحديث الأول ذكرت أنه كان يصلي أربعاً ثم أربعاً، تعني: يصلي ركعتين، ثم يصلي ركعتين، ثم يستريح، ثم يقوم يصلي ركعتين، ثم يصلي ركعتين، ثم يستريح، ثم يقوم فيصلي ركعتين ويوتر عليه الصلاة والسلام، فهذا تفصيل: أربعاً وأربعاً وثلاثاً.

    وهنا قالت: (ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس) أي: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، فيصلي ثمان ركعات ثم يوتر، وكأنها تقصد أنه يوتر بثلاث، فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة، ثم يصلي ركعتين.

    قالت: (ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح).

    وهذا الحديث محتمل أنه على هذا الظاهر، أي: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات، لكن يحتمل أنه أوتر بواحدة، ويحتمل أنه أوتر بثلاث.

    فإن كان أوتر بواحدة فيكون صلى تسع ركعات، وبعدما صلى التسع ركعات صلى ركعتين وهو جالس عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: نأخذ من هذا أنك إذا أوترت مع الإمام وأحببت أن تصلي في البيت فيجوز لك أن ترجع فتصلي شفعاً شفعاً، فليس لازماً أنك إذا كنت مع الإمام وأوتر وسلم أن تقوم وتأتي بركعة، بل من الممكن أنك أيضاً تسلم مع الإمام في الوتر، وإذا رجعت إلى بيتك وأحببت أن تصلي فصل، لكن صل شفعاً ولا توتر مرة ثانية بعد ذلك.

    وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لبيان الجواز، وصلى ثمان ركعات وأوتر بواحدة صلى الله عليه وسلم، فأصحبت تسعاً، ثم صلى ركعتين وهو جالس عليه الصلاة والسلام؛ وكأنه تعب، فأصبحت إحدى عشرة ركعة.

    قالت: (فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس) تعني: صلى الركعتين وهو جالس وقرأ فيها ما شاء الله عز وجل أن يقرأ، فإذا أراد أن يركع قام وكمل القراءة وهو قائم، وركع عليه الصلاة والسلام من قيام، وهذا في الركعتين اللتين بعد الوتر وليس في الركعتين اللتين بعد أذان الفجر.

    قالت: (ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة)، فإذاً: الثلاث عشرة ركعة فيها ركعتا سنة الفجر القبلية.

    فعلى الحديث الأول يحتمل أنه صلى ركعتين من ضمن ركعات قيام الليل، وعلى هذا فيكون قيام الليل ثلاث عشرة ركعة، وإن كان الغالب من كلامها الاحتمال الثاني، وهو أنها قصدت سنة الفجر.

    وأيضاً جاء في حديث آخر رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه، فقالت: (كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس).

    وفي هذا الحديث فضيلة صلاة النافلة في البيت، فإذا أذن للظهر فمن الممكن إذا كان بيتك قريباً من المسجد أنك تصلي سنة الظهر في البيت، فتصلي أربع ركعات ثم تأتي إلى المسجد.

    قالت: (ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً)، فهنا ذكرت أنه صلى ركعتين سنة العشاء، وكان يصلي تسع ركعات بالوتر، والمجموع إحدى عشرة ركعة بسنة العشاء.

    فكأن الإحدى عشرة ركعة التي كان يصليها أول ركعتين منها هي سنة العشاء، والباقي من قيام الليل، كما في هذا الحديث.

    قالت: (وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين).

    1.   

    جمع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح

    روى الإمام مالك في الموطأ عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وكان القارئ يقرأ بالمئين.

    والمئين: السور التي تعدت المائة آية، وسور القرآن كانوا يقسمونها إلى: السبع الطوال، وهي أول سبع سور في القرآن، تليها المئون، وهي السور التي تجاوزت المائة آية كسورة يونس، وسورة هود، وسورة الكهف، وسورة الإسراء، وغيرها من السور التي تجاوزت المائة آية.

    يليها ما هي أقصر منها وهي: المثاني، وهي أقصر من ذلك، يليها المفصل التي في آخر القرآن، ويقسم المفصل إلى ثلاثة أقسام: طوال المفصل، وأوساط المفصل، وقصار المفصل.

    فكان القارئ يقرأ بالمئين، يعني: بالسور التي عدت مائة آية، ونحن ربما صلينا بسورة الكهف في أربع ركعات، بينما كان القارئ في زمانهم يقرأها في ركعة، فيقرأ في ركعة بالمئين، يقرأ بسورة يونس، أو سورة هود، أو سورة الكهف، أو سورة الإسراء، يقرأها في ركعة واحدة.

    قال: حتى كنا نعتمد على العصي من التعب.

    يعني: يعتمد الواحد على العصا أو العكاز من التعب من طول القيام.

    قال: وما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر.

    هذا في عهد عمر رضي الله عنه، فإذا جاء عن عمر أنه جعل التخفيف بأنه يصلي بهم عشرين ركعة فالمعنى أنهم كانوا يصلون الليل كله، ومعنى هذا أن هذه الصلاة طويلة جداً، فكان يأمر القارئ بأن يقرأ بالعشرين الآية والثلاثين آية كما سيأتي بعد ذلك في قول عمر رضي الله عنه، وأمر أنه يقرأ القارئ بالعشرين آية أو الثلاثين بحسب سرعة القارئ، وهذا هو الذي جعل عدد ركعات الصلاة أطول من أجل أن يعوض القيام الطويل، والله أعلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756002500