أما بعد:
يقول الله عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
في هذه الآية -عباد الله- بيان من الله لما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من متاع، وأنواع الملاذ التي بها يتعلقون، وبها أحياناً يفتنون، وعن طريقها يغنمون وأحياناً يغرمون، فهذه الملاذ تختلف باختلاف أحوال الناس تجاهها، فهي لفئة مأثم ومغرم، ولفئة أخرى نعمة ومغنم.
فإن قلت: كيف يكون ذلك والمتاع هو المتاع، والناس هم الناس؟ أجبت بأن الهدف يختلف من شخص لآخر، ومن فئة لأخرى، فالذين يتعاملون مع ملاذ الحياة على أنها هي المبدأ والنهاية هؤلاء غارمون؛ لأن الدنيا بملاذها لا تستحق أن ينقطع الإنسان لها، وأن يصب فيها كل جهده، وأن يوليها كل عنايته بعيداً عن طاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه، وهل الدنيا إلا وسيلة إلى الآخرة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يعطه الله إلا ما كتب له.
وأما الذين يستعينون بهذا المتاع على الطاعة وينصرفون بها إلى الجنة ورضوان الله، فهؤلاء يحققون السعادة لأنفسهم في الدنيا، ويضمن الله لهم السعادة الحقة يوم القيامة، ومن كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.
وتكون المرأة رحمة إذا كان القصد منها إعفاف الفرج، وكثرة الولد، وكانت مثالاً للطاعة، وخير عون لزوجها على ذلك، بل هي خير المتاع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله) رواه مسلم .
وفي صحيح البخاري : (إن خير هذه الأمة أكثرها نساءً)، وتقول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن أحب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل).
ومن دعاء عباد الرحمن: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وتارة يكون الأولاد فتنة، وقد قيل: إن في النساء فتنتين، وفي الأولاد فتنة واحدة، فأما اللتان في النساء فإحداهما تؤدي إلى قطع الرحم؛ لأن المرأة أحياناً تأمر زوجها بقطع الأمهات والأخوات، أو ذوي القرابات بشكل عام، والثانية يبتلى بسببها بجمع المال من الحلال والحرام، وأما البنون فالفتنة معهم واحدة، وهي جمع المال لأجلهم، وفي الحديث: (إنهم لمجبنة مبخلة).
والناس بين هذا وذاك، فالمال يرفع أقواماً في درجات الجنان، هؤلاء هم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: وذكر منهم رجلاً آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار).
وتارة يستعبد الإنسان ويذله ويتعسه ويشغله، وهؤلاء هم الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار).
فإياكم معاشر المسلمين أن تستعبدكم أموالكم، أو تذلكم تجارتكم، والحق أنه ليس لكم منها إلا ما قدمتم لآخرتكم.
وفي صحيح مسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت).
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في سنن النسائي: (ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت).
ومثل ذلك يقال في الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم.
وكذلك أيضاً يقال بالنسبة للزروع والحرث، فإن كانت عوناً على الطاعة فمغنم، وإن كانت سبباً للمعصية والصد عن الخير فمغرم.
عباد الله! واقع الناس يؤكد ارتباطهم بهذه الزينة ومحبتهم لها، كما قال الله عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
عباد الله! محبة هذه الأشياء لا يلام عليها مادامت محبة طبيعية؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك وأقره، لكن إذا غلا المسلم في محبة هذه الأشياء وبالغ فيها وجعل يقدمها على طاعة الله عز وجل، ويعصي الله عز وجل من أجلها، فقد ذكر العلماء أن هذا يكون نوعاً من الشرك، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما سلف: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة).
فهذا هو المتاع الحقيقي، وهذه هي الزينة الباقية، بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، أنهار من أنواع الأشربة، من العسل واللبن، والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وأما الأزواج: فهناك الأزواج المطهرة من الدنس والأذى، والحيض والنفاس، وسيء الأخلاق.
وفوق هذا وذاك: رضوان الله يحل بهم فلا يسخط عليهم أبداً، وحيثما كانوا في النعيم فلا يتحولون عنه أبداً.
نسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يوفقنا لأسباب مراضيه، وأن يجنبنا أسباب مساخطه.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! انظروا في حياتكم، واستعدوا للقاء ربكم، واحذروا الفتنة فيما حولكم، وحيث قد علمتم زينة الحياة الدنيا وزينة الآخرة، والفرق بينهما كبير، فإن لمتاع الحياة الآخرة وزينتها الباقية ثمناً يسيراً على من يسره الله، وقد بين الله عز وجل هذا الثمن في الآية الثالثة فقال سبحانه: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:16-17].
هذه صفات الذين يرثون زينة الآخرة ومتاعها الباقي الصَّابِرِينَ [البقرة:153] أي: الصابرون على طاعة الله، الصابرون على امتثال أوامره، الصابرون عن معاصي الله، الصابرون على أقدار الله المؤلمة.
ولا شك -عباد الله- أن الطاعات تحتاج إلى الصبر والمصابرة، والمجاهدة للنفس، وترويض النفس عليها حتى تألفها وتحبها وتداوم عليها، وأن المحرمات أحياناً تلتقي مع شهوة النفس وحظوظ الهوى، ولهذا يحتاج المرء الذي يتطلع إلى الجنان أن يكبح جماح النفس، ويلزمها الطريق، وأن يصبر على مرارة الدواء، ولولا الحاجة للصبر على الطاعات، والصبر عن المحرمات، لتساوى الناس في منازلهم.
قال المفسرون: وفائدة التمثل بأنواع الزينة في الحياة الدنيا: أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره، وبالصبر عليها، وأن النار لا منجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها.
وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
وأما قوله تعالى: الصَّادِقِينَ [آل عمران:17] فهم الذين صدقوا بإيمانهم، فليس إيمانهم بالتمني ولا بالتحلي، ولكن شيء وقر في النفوس فانبعثت له الجوارح مصدقة.
وَالْقَانِتِينَ [آل عمران:17]: هم أهل الطاعة والخضوع.
وَالْمُنْفِقِينَ [آل عمران:17]: هم الذين ينفقون من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات.
وقوله: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] هذا دليل على فضيلة الاستغفار بشكل عام، ولكنه في وقت الأسحار له شأن آخر، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟).
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع ! هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.
ونقل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إذا كان في السحر يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي. آخذاً من الحديث السابق.
عباد الله! تزودوا من دنياكم لآخرتكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، وليس بغائب عنكم أن الدنيا ظل زائل، وهي حلوة خضرة، وأن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون؟ وبأي واد ترعون؟ وأي طريق تسلكون؟ فيا ويح من عض أصابع الندامة والروح تبلغ الحلقوم، وهيهات أن يعاد المرء إلى الحياة الدنيا بعد أن خرج منها، وأعطي من المهلة ما هو كاف للامتحان، ومهما كانت ذنوبك وخطاياك فقف بباب ربك سائلاً ومستغفراً في الأسحار وغيرها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم اجعلنا من المؤمنين الصادقين، الصابرين، المنفقين، القانتين، المستغفرين بالأسحار.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين.
اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم اشف برحمتك مرضى المسلمين، اللهم اشفهم فأنت الشافي، اللهم عجل لهم بالشفاء العاجل، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام مضطجعين، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار قلب قلوبنا على دينك، وصرف قلوبنا على طاعتك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر