ثانياً: لأن عقد البيعة لآحاد الناس بغير برهان ولا بيّنة ولا دليل شرعي يُضعف الولاء دائماً لله عز وجل، ولذلك هؤلاء الذين بايعوا أو عندهم انتماء لجماعات دعوية دائماً يعتنون بالجماعة فقط -إلا من رحم الله- ودائماً يعتنون بإمامهم وأميرهم؛ ولذلك لو جاء القول الصريح في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام مخالفاً لهذا الإمام أو لهذا الأمير عملت الجماعة بقول الأمير وضربوا بكلام الله وكلام رسوله عرض الحائط؛ زعماً منهم أن كلام الله وكلام الرسول على رءوسنا، وملء قلوبنا وأعيننا ولكن هذا الكلام لا يناسب الواقع، وإنما هذا حكم شرعي، أما قول الإمام فهو فتوى شرعية وليس حكماً شرعياً، فنحن إذا تركنا كتاب الله إنما نتركه لفتوى شرعية، وهي فتوى الإمام أو المسئول أو الأمير، وإذا عملنا بكتاب الله؛ عملنا به أنه الأصل، وهو أصل الأحكام.
نقول: كل هذا محاورة ومناورة مع كتاب الله عز وجل ولا يصلح ذلك ولا ينتفع بها صاحبها لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأبى الله تعالى إلا أن يفضح الظالمون المارقون عن فهم كتاب الله عز وجل وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فضح الله تعالى كل الجماعات على ملأ من الخلق، بأن صنّفت فيهم التصانيف، وكثير منهم زعم أنه تاب وأثبت أنه تاب منذ (25) عاماً أو يزيد على ذلك.
أبعد هذه الدعوة كلها وبعد هذا الفساد الذي أفسدت في الأرض أنت ومن معك تأتي اليوم بعد ضياع الوقت وتقول: أنا تبت إلى الله؟!
على أية حال هذا أصل من أصول الدين، وهو قبول التوبة ما لم يغرغر العبد، والقول الذي قلته اليوم كنت تسمعه نصيحة خالصة منذ أن نشأت بدعتك، ولكنك صممت أذنك، وصككت على قلبك فلم تسمع كلام الحق أبداً.
والحق دائماً أبلج واضح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل). فالإمارة لا يجوز انعقادها إلا لله تعالى ورسوله، ثم من ولاَّه الله تعالى، إلى يوم القيامة، وهو الخليفة العام الذي يعين الولاية من باطنه، ويعيّن ولاة الأمصار والبلدان من باطنه، فيجب طاعة هؤلاء؛ لأن طاعة الوالي من طاعة الخليفة وطاعة الخليفة من طاعة النبي عليه الصلاة والسلام وهي من طاعة الله عز وجل، وما دون ذلك فخرط القتاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة -حماد بن أسامة- عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن ابن عمر -عبد الله بن عمر العدوي- رضي الله عنهما قال: حضرت أبي حين أصيب].
أي: حين طُعن في صلاة الفجر، والذي طعنه هو أبو لؤلؤة وكان مجوسياً ما سجد لله فضلاً عن أنه أسلم، ولذلك لما سأل عمر بعد إصابته: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة ، قال: الحمد لله أن لم يطعني أحد سجد لله سجدة.
قال ابن عمر: [حضرت أبي حين أُصيب، فأثنوا عليه -أي: سمعت ثناء الناس عليه- وقالوا: جزاك الله خيراً، فقال: راغب وراهب]. أي: أن المرء بين راغب وراهب، بين خائف وراج، بين متمن بانعقاد الخلافة وبين متوقف فيها، فكلمة راغب وراهب محمولة على كل هذه المعاني.
قال: [قالوا: استخلف -أي: يا عمر -، فقال: أتحمّل أمركم حياً وميتاً؟] أي: ما يدريه لو أنه استخلف أيصيب أم يخطئ، أيؤدي الأمانة أم يخونها؟
فقال: [لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي]. إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أراد أحد أن يصنف في مناقبه مصنفات لكانت حمل بعير! إن عمر رضي الله عنه يتمنى أن يخرج من الدنيا كفافاً ليس له من الخير شيء ولا يوجد عليه من الشر شيء! هذا عمر الإمام العادل! هذا فاروق الأمة الذي فرّق الله به بين الحق والباطل! هذا أول من صدع بالحق حول الكعبة على حين تخوف من الناس، فكان إسلامه نصراً لدين الله عز وجل ولنبيه ولأصحابه الكرام! وها هو الذي يتمنى مع كل هذا أن يخرج من الدنيا لا له ولا عليه! عمر رضي الله عنه الذي كان يبكي إذا تعثّرت ناقة في العراق أو بمصر أو بالشام أو في سائر البلدان، وهو الذي أخذ على عاتقه أنه مسئول عنها أمام الله عز وجل! إنه وال على كل شيء! على الإنسان وعلى الطير والحيوانات والحشرات وكل أصناف المخلوقات.
قال: [لوددت أني خرجت منها على الكفاف لا علي -أي: من الإثم- ولا لي -أي: من الثواب-]. ولا شك أن هذا رجل سيأتي يوم القيامة لا يحاسب؛ لأنه لا له ولا عليه.
قال: [فإن أستخلف -أي: بعد ضغطكم علي- فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر ، وإن أترك -أي: الاستخلاف- فقد تركه من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم].
إن عمر بهذا الكلام الجميل يعطي درساً عظيماً جداً، وهو أنه لابد أن يكون للإنسان المسلم سلف في أقواله وأعماله، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، إذا ستخلفني أبو بكر الصديق رضي الله عنه عليكم، فإن استخلفت عليكم أحداً فاعلموا أن لي سلفاً في هذا الاستخلاف، وإن تركتكم بغير استخلاف أو عاجلتني المنية بغير ذلك، فقد عاجلت المنية عليه الصلاة والسلام ولم يستخلف، فأنا في كلا الحالين لي سلف فيما أفعل وفيما أقول؛ ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
قال -أي عبد الله بن عمر- : [فعرفت أنه -أي: عمر - حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف] لأنه ذكر أن أبا بكر استخلف وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الاستخلاف، فإذا تعارض قول أو فعل أبي بكر مع قول أو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فالمقدم هو فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فانظر إلى هذه الفائدة التي استنبطها عبد الله بن عمر، فقد كان فقيهاً محنكاً.
قال: [فعلمت أنه حين ذكر رسول الله -أي: ما كان منه من شأن الاستخلاف- غير مستخلف] لأنه لا يقدم قول أبي بكر وفعله على قول النبي عليه الصلاة والسلام وفعله.
قال: [فعلمت أنه غير مستخلف] إذا كان الأمر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر يقدّم النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الثابت أن عمر بن الخطاب قد استخلف، ولكن ليست خلافة عين، وإنما خلافة انعقدت بعدة أشخاص وكانوا ستة.
الأول: عثمان بن عفان ، الثاني: علي بن أبي طالب ، الثالث: أبو عبيدة بن الجراح ، الرابع: عبد الرحمن بن عوف ، الخامس: سعد بن أبي وقاص ، السادس: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل . ستة.
سلك عمر رضي الله عنه مسلكاً وسطاً بين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الخلافة وبين موقف أبي بكر ، وهذا اجتهاد ثالث.
اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم فترك، واجتهد أبو بكر رضي الله عنه فأثبت، واجتهد عمر اجتهاداً يخالف فعل الاثنين، فاستخلف ستة بأن يختاروا من بينهم واحداً، وأخطأ من زعم أن عمر ولى الخلافة الستة في آن واحد، وإنما جعلهم محل اختيار أحدهم، أي: يختار أهل الحل والعقد من هؤلاء واحداً؛ لأنه لا يجوز عقد الإمارة العامة إلا لواحد.
قال عبد الله: [فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف].
قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـابن راهويه - وابن أبي عمر -محمد بن أبي عمر العدني نزيل مكة- ومحمد بن رافع وعبد بن حميد وألفاظهم متقاربة قال إسحاق وعبد : أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا عبد الرزاق - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري نزيل اليمن- عن الزهري المدني محمد بن شهاب قال: أخبرني سالم عن ابن عمر -و سالم الذي يروي عن ابن عمر هو سالم بن عبد الله بن عمر- قال: دخلت على حفصة]. وحفصة هي حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم. رضي الله عنها وعن أبيها وعن أخيها.
قال: [دخلت على حفصة فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف؟] أي: هل بلغك الخبر والنبأ يا عبد الله! أن أباك سيتركنا بلا خليفة؟
قال: [قلت: ما كان ليفعل]. يعني: صعب أن يتركنا بغير خليفة.
[قالت: إنه فاعل]. يعني: اختلفت حفصة مع أخيها عبد الله، حفصة زعمت أنه سيترك المسلمين بلا خليفة، وعبد الله قال: لا يمكن أن يتركنا بلا خليفة.
[قال: فحلفت أني أكلمه في ذلك]. أمر عظيم. هل هناك أمر أعز وأهم من أمر الخلافة؟
قال: [فحلفت أني أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه]. أي: حتى وافيته في صلاة الصبح.
قال: [فكنت كأنما أحمل بيميني جبلاً] لأنه حلف أن يكلمه في هذا الأمر، وهو أمر عظيم جداً، أمر يعني الأمة كلها.
قال: [حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا أخبره. قال: ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك -يعني: أقسمت من الإيلاء وهو القسم- زعموا أنك غير مستخلف، وإنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيّع].
تصور أنك عندك غنمات أو إبل وأتيت لها براع، هذا الراعي أتاك وترك الإبل والغنم تسرح في البادية، أتضيع أم لا؟ يأكلها الذئب أم لا؟ الجواب: نعم. وكان الحكم على هذا الراعي أنه قد ضيّع الأمانة التي كُلِّف بها، فإذا كانت رعاية الإبل والبقر والغنم أمر مهم لا يجوز التفريط فيه فمن باب أولى رعاية الناس أهم من ذلك.
قال: [فرعاية الناس أشد. قال: فوافقه قولي] أي: استراح له واطمأن له.
قال: [فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي] وهذا يدل على ما كان عند أمير المؤمنين من روية، فلا يقطع بالقول بمجرد القناعة، وإنما يفكر فيه ويعطيه حقه من التدبير والتفكير.
قال: [فوضع رأسه]. أي: فكّر فيه وطأطأ رأسه فترة وبرهة من الزمان.
قال: [ثم رفعه إلي فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه]. هذه المقولة توافق ما كان عند عبد المطلب من عقيدة صحيحة في حماية البيت الحرام. قال: أما البيت فله رب يحميه، إنما إبلي فلا، فأعطني إبلي، إنما البيت له رب يحميه.
فكذلك عمر قال: إن الله تعالى يحفظ دينه وهو سبحانه الحافظ لدينه في كل زمان ومكان من غدر وخيانة وغش الأعداء في الداخل والخارج، فقد كيد لهذا الإسلام وهذا الدين العظيم بأنواع المكائد، وأبطلها الله عز وجل قبل وقوعها أو بعد وقوعها؛ لأنه دينه وهو الذي يحميه ويحفظه ويختصه.
قال: [إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وأنه غير مستخلف].
قال: (حاصله: أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له الترك -هذا جائز وذاك جائز- فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد اقتدى بـأبي بكر. وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف). هذه المسألة محل إجماع؛ وهذا الاستخلاف يلزم الأمة كلها، ولا يجوز لأحد أن يخرج عن هذا الخليفة المستخلف.
قال: (وأجمعوا على انعقادها بعقد أهل الحل والعقد للإنسان إذا لم يستخلف الخليفة). أبو بكر الصديق رضي الله عنه استخلف عليهم عمر ، فوجبت البيعة لـعمر في ذمة كل مسلم في ذلك الوقت، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاستخلاف، ولكن المهاجرين والأنصار -وهم الذين كانوا يمثلون أهل الحل والعقد كمجلس الشورى، وشتان بين الإيمان والكفر- انعقد بالإجماع على إمامة أبي بكر ، فلما صعد المنبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وخطب خطبته العظيمة، وهي أول خطبة بعد نبوة النبي عليه الصلاة والسلام وبعد موته، قام المسجد بالإجماع فبايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه؛ لعلمهم أنه لا يحل لهم أن يخالفوا الإجماع.
فإذا كان الإجماع من أهل الحل والعقد المعتبرين المختارين برضى شعوبهم المسلمة وعلى ألفة من الكتاب والسنة؛ فحينئذ لا يجوز لأحد أن يتخلف عن قرار يصدر عنه، لا في شأن الخلافة ولا في شأن الاجتهاد؛ لأن هذا خروج على الأمة وعلى مقدرات الأمة.
قال: (وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر رضي الله عنه بالستة). جعل الأمر شورى لأهل الحل والعقد أن يختار من بين هؤلاء الستة خليفة.
فإن قيل: هل يجوز لأهل الحل والعقد حينئذ أن يختاروا واحداً غير الستة؟
الجواب: لا يجوز؛ لأن هذا من مسائل الإجماع؛ ولذلك اختاروا منهم، ولو كان يجوز لهم ذلك لاختاروا من غيرهم.
فإن قيل: ولِم لا يجوز أن يختاروا واحداً غير الذي عيّنهم الخليفة؟
الجواب: لأن هذا خروج عن أمر الخليفة، والخليفة ما زال حياً.
والوجه الثاني: أنهم لو اختاروا واحداً من غير الستة لكان لنا أن نفترض أنه ما عيّن ستة وإنما عيّن واحداً؛ لأن الذي يعيّن واحداً قد يعيّن مائة، كأنه قال لهم: لا تخرجوا عن هؤلاء الناس، فخرجوا فقد خالفوا أمير المؤمنين.
قال: (وأجمعوا كذلك على أنه يجب على المسلمين جميعاً أن ينصّبوا من بينهم خليفة). ولم يقل على أهل الحل والعقد، وإنما يجب على المسلمين جميعاً أن يساهموا وأن يبادروا بنصب خليفة والبيعة له.
الجواب: إن الشبهة دخلت على السائل من باب خلط وجوب نصب الخليفة بين معتقد أهل السنة والجماعة وبين حزب التحرير، فحزب التحرير هذا حزب شر على الإسلام والمسلمين، وهو من الشيعة والقدرية؛ لأن هذا الشعب إنما يفخر بثوابت الإسلام وبدعائم الدين، وهذا الحزب ما أُنشئ إلا لإحداث البلبلة والقلقلة في صفوف المسلمين، وحربنا لهذا الحزب -في الشام تارة، وفي أمريكا تارة، وفي مصر تارة- لا يخفى على من كان يعرف جهاده -والحمد لله- ضد هؤلاء، بل ولي مصنّف في حزب التحرير وبيان عوار ما كانوا عليه من ديانة، لكنهم دائماً يطالبون بالخلافة، ولو انعقدت الخلافة من جبريل عليه السلام لقالوا ببطلانها؛ لأنهم يقصدون أن يكون الخليفة من بينهم هم، فلو انعقدت لجميع الأنبياء والملائكة فهي عندهم باطلة، ولهم في الخلافة منهج منحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، فليس هذا بطبيعة الحال ما نعنيه ولا نقصده.
ثم من القائل: إن وجوب نصب الخليفة بدعة؟ هل إذا أتانا الخليفة نقول: لا. الخلافة بدعة؟! أظن أن كل مسلم صادق عالم بأمر دينه يتمنى أن لو يرسل الله تعالى إلينا خليفة، وإنكم لتعلمون أن الأمة في عز وسيادة وريادة طالما كان فيها خليفة، ولعلكم توقنون أن الذل والهوان ما لحق بالأمة إلا بعد موت آخر خليفة عثماني سنة (1929م) على يد الكلب الهالك مصطفى كمال أتاتورك ، فالإسلام ما أُهين إلا بعد موت هذا الخليفة، وكان هذا الخليفة يهدد أوروبا، فلا يمكن للأمة أن ترجع إلى ما كانت عليه من عز في عهد الخليفة العثماني إلا أن يشاء الله تعالى شيئاً آخر.
قال: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة، ووجوبه بالشرع لا بالعقل). أي: إذا أردنا أن نحتج على وجوب نصب الخليفة، فإنما يكون ذلك بنصوص الشرع: قال الله، وقال الرسول، وأجمع الصحابة، أما أن نقول: مستند وجوب الخلافة أتى بالعقل، والعقل يوجب علينا نصب خليفة، والأمور لا يمكن أن تتم إلا بخليفة! فهذه كلها حلول عقلية، ونصب الخليفة دائماً يكون بالشرع لا بالعقل.
قال: (وأما ما حكي عن الأصم أنه قال: لا يجب نصب خليفة، وعن غيره أنه يجب بالعقل لا بالشرع، فباطلان، أما الأصم -الذي قال: لا يجب نصب الخليفة- فمحجوج بإجماع من قبله). والإجماع حجة، وخاصة إجماع الصحابة الذي لا خلاف عليهم.
قال: (وأما الأصم فمحجوج بإجماع من قبله، ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيفة).
يعني: الأصم لما قال: بعدم وجوب نصب الخليفة في كل وقت احتج بالمدة الزمنية اليسيرة بين موت النبي صلى الله عليه وسلم وتنصيب أبي بكر ، ولا شك أن هذه المدة ليس فيها حجة مطلقة للأصم ؛ لأن الصحابة ما تركوا نصب الخليفة إلا من باب التفاهم في تعيين من هو الخليفة؟
ثم هل يمكن أن يؤخذ من بعض اليوم حجة في عدم الوجوب؟ أبداً لا يمكن أن يكون ذلك، بل كانوا في تلك المدة ساعين في النظر في كل من يعقد له.
وأما القائل الآخر -وهو الذي قال: إن الخليفة يجب نصبه بالعقل لا بالشرع- ففاسد كذلك وفساده ظاهر؛ لأن العقل لا يوجب شيئاً، ولا يحسنه ولا يقبحه؛ لأن التحسين والتقبيح والوجوب والإثم.. وغير ذلك كله معروف بالشرع لا بالعقل.
إذاً: خلافة أبي بكر الصديق معلومة بالإشارة، وهذا قول جمهور أهل السنة.
ومنهم من قال: لا. هذه النصوص كلها تُحمل على الخلافة العظمى، فتكون إمامة أبي بكر معلومة في الدين بالنص الظاهر.
وهذه المسألة من مسائل الخلاف عند أهل السنة والجماعة، ولذلك هم لا يبدّعون ولا يفسّقون المخالف؛ لأن هذه من مسائل الخلاف المعتبر عند أهل السنة والجماعة، تماماً كما في التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، فمنهم من كان يفضّل عثمان على علي ، ومنهم من كان يفعل العكس، ويقولون: إمامة عثمان بن عفان جائزة في حضور علي بن أبي طالب وإن كان علي أفضل منه، لكن انعقد الإجماع بعد ذلك على رفع هذا الكلام، وأن عثمان أفضل من علي ، وأولى بالإمامة من علي ، وأن الخلفاء الراشدين الأربعة على ترتيبهم في الخلافة هم على ترتيبهم في الفضل، فـأبو بكر أفضل من عمر ، وعمر أفضل من عثمان ، وعثمان أفضل من علي ، وهذا هو الراجح. وكما قال الأصوليون: الإجماع بعد الخلاف يقطعه. إذا كانت هناك مسألة محل نزاع، ثم عقد الإجماع بعد ذلك على أحد الرأيين، فلا شك أن الخلاف قبل ذلك ينقطع.
ففي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة وهو إجماع أهل السنة وغيرهم.
قال القاضي : وخالف في ذلك بكر ابن أخت عبد الواحد ، فزعم أنه نص على أبي بكر .
وقال ابن الراوندي : نص على العباس .
وقال الشيعة والرافضة: نص على علي. وهذه دعاوى باطلة وتحفيز على الافتراء، ووقاحة في مكابرة الحس؛ وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر ، وعلى تنفيذ عهده إلى عمر ، وعلى تنفيذ عهد عمر بالشورى، ولم يخالف في شيء من هذا أحد، ولم يدع علي ولا العباس ولا أبو بكر وصيتهم في وقت من الأوقات، وقد اتفق علي والعباس على جميع هذا من غير ضرورة مانعة من ذكر وصية لو كانت.
فمن زعم أنه كان لأحد منهم وصية -كما تزعم الشيعة- فقد وصف الأمة إلى اجتماعها على الخطأ، واستمرارها عليه، وكيف يحل لأحد من أهل القبلة أن ينسب الصحابة إلى المواطأة والكذب والاتفاق على الباطل في كل هذه الأحوال، ولو كان شيء لنُقل، وإنه من الأمور الموضوعة.
قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن -وهو ابن أبي الحسن البصري- حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
يعني: أعانك الله عليها.
شيء يفرض عليك فرضاً بخلاف شيء تطلبه أنت طلباً، فالذي تطلبه أنت لا تُعان عليه، والذي يُفرض عليك فرضاً يعينك الله تعالى عليه.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قالا: حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي)]. يعني: من الأشعريين، وهناك فرق بين الأشعريين والأشاعرة، وإن كان أصل النسب واحداً؛ لأن أبا الحسن الأشعري هو منسوب إلى قبيلة الأشعريين أيضاً.
قال: [(دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم. أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل)]. يعني: أمّرنا على أي شيء حتى ولو كان كوماً من تراب.
فإذا كان يفهم من ذلك أن الإمارة إلى هذا الحد، فلماذا ننقم على غيرنا ممن لا دين له ولا علم عنده ولا تقوى ولا صيام ولا صلاة ولا زكاة، وهو حريص على الإمارة؟
لأن سؤال السائل يدل على الرعونة والسفاهة والطيش والتطلّع، وبالتالي فإن هذه الأخلاق القلبية الرذيلة لا تؤهل المرء أبداً لأن يتولى عملاً، ولا يتولاه إلا من كان نقي العلم والعقل والعمل والقلب، هذا يكون أعظم للإمامة والإمارة.
قال العلماء: الحكمة في عدم تولية من سأل الولاية: أنه يوكل إليها، ولا تكون معه إعانة من الله عز وجل.
وأبو حنيفة رحمه الله جلد بسبب رفضه للقضاء سبع مرات.
أما اليوم فانظروا إلى السفهاء والحمقى والمغفلين الذين يدفعون آلافاً، بل ملايين الجنيهات من أجل أن يتولوا منصب القضاء وهم لا يُحسنون أن يقضوا في شعيرة أو في حزمة جرجير، ومع هذا يفتون في الدماء والأموال والأعراض، ويتولون القضاء مع سكرهم وعربدتهم وسلوكهم المنحرف، ومجالسهم كلها مشبوهة، وأعمالهم كلها مبنية على الرشوات، ومع هذا يدفعون الآلاف والملايين لأجل الحصول على كرسي ذي رجلين أو ثلاثة لا أقول أربعة، وإنما كرسي مكسر، يريدون أن يكونوا قضاة، حتى ولو كان العمل حقيراً مرذولاً، وفرق بين كون هذا العمل حقاً لك تسعى للحصول عليه، ولا سبيل إليه إلا بالمال، أو تدفع المال لترد ولا سبيل لرفعه إلا بالمال، أما أن تكون عالماً بأن هذا المكان لست أهلاً له ثم تسعى إليه فهذا جرم عظيم وكبيرة من الكبائر؛ فإنه لا يجوز لأحد قط أن يسعى لولاية إلا إذا رأى عجز الناس عنها، ورأى من نفسه رشداً في ذلك، فإن يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، أي: اجعلني وزير المال، فإنه لا أحد في ولايتك ولا في إمامتك يستطيع أن يقوم بهذه المهمة، وأنا على خبرة بذلك، فأنا أهل لذلك المنصب.
يعني: سألاه أن يكون عاملين. أي: واليين؛ لأن الوالي اسمه عامل. يعني: عامل للسلطان على البلدة الفلانية.
قال: [(والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك)]. يعني: يتسوك بالسواك.
قال: [(فقال: ما تقول يا
كان أبو موسى سيد الأشعريين؛ ولذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم إليه القول من باب أن يكلّم العظيم العظماء، فرد بقوله هذا، واعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يخبراه ولم يطلعاه على ما في أنفسهما.
[قال: (وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت -يعني: قرضه- فقال: لن -أو- لا نستعمل على عملنا من أراده ومن طلبه، ولكن اذهب أنت يا
إذاً: فـأبو موسى الأشعري آحاد، وكذلك معاذ آحاد ، وعلي بن أبي طالب آحاد ، وهذا يدل على أن خبر الواحد تقوم به الحجة في العقائد والأحكام، خلافاً للمعتزلة الذين أنكروا ذلك وقالوا: لا يجوز الاحتجاج بخبر الواحد في العقائد، إنما يحتج بالخبر المتواتر قرآناً أو سنة متواترة.
قال: [(فلما قدم
وسادة يعني: مخدة، وهذا منتهى الإكرام.
يقول: [قال: (وإذا رجل عنده موثق)]. أي: عند أبي موسى شخص مقيد بالسلاسل. [(قال -أي:
أرأيتم؟ معاذاً لا يريد أن يجلس أبداً حتى يقتل، فليس هناك سلام قط مع اليهود.
قال: [(اجلس. نعم. قال: لا أجلس حتى يقتل. قضاء الله ورسوله)].
كأن قضاء الله ألا يجلس معهم حتى يُقتل هذا اليهودي.
قال: [(قال ذلك ثلاث مرات، فأمر به فقُتل، ثم تذاكرا القيام من الليل)]. يعني: كأنه بعد مقتل هذا اليهودي قال أبو موسى لـمعاذ : ماذا تعمل في قيام الليل؟ فلو كان هذا في زماننا فإن العالم كله ينقلب؛ لأن أبا موسى قتل رجلاً يهودياً.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أما من أتانا منهم فنرده إليهم، وأما من ذهب منا إليهم فأبعده الله). أي: نحن لسنا حريصين على من أسلم ويريد أن يرتد، فالذي يريد أن يرتد يرتد، فإن أهم شيء هو الثبات على العقيدة، هل أنا أحامي وأدافع عن أناس، وأضع يدي على قلب من أراد الكفر وأقول له: لا تكفر؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم علّم هذا الدرس لـخباب بن الأرت لما قال له: (ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم واحمر وجهه، ثم اعتدل وكان متكئاً مسنداً ظهره إلى الكعبة، وقال: إن من كان قبلكم كان ينشر بالمناشير من رأسه إلى قدميه حتى يلقى على الأرض فلقتين لا يرده ذلك عن دينه).
وفي هذا الزمان تجد العلمانيين والمشركين كثيرين جداً من كُتَّاب وصحفيين يلحدون في الله عز وجل وينكرون وجوده وينكرون شريعته، ويفعلون ذلك آلاف المرات في مقالاتهم، المقال الواحد فيه عشرة مواطن من مواطن الردة، والغريب بعد ذلك كله تجد بعض المشايخ يختلف مع البعض في إثبات الردة لهؤلاء.
يعني: أنا أرجو الله تعالى في نومتي ما كنت أرجوه في قومتي؛ لأنني بنومتي أتقوى به على الطاعة، وكذلك أرجو في وقت طعامي أرجوه في وقت قيامي؛ لأني آكل لأتقوى به على الصيام، وأنام لأتقوى به على القيام، فإني أرجو الله تعالى بهذا وذاك.
أما قوله: (لا أجلس حتى يُقتل، فأمر به فقتل) ففيه: وجوب قتل المرتد، ولا أصرح من ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه).
مرة التقيت نصرانياً في شارع الهرم، وجلست معه جلسة، ثم قلت له: ما هو حكمكم على النصراني الذي يسلم؟ قال: القتل. قلت له: لماذا؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدّل دينه فاقتلوه).
أنت تحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟ إن الشيعة حين يجدون حديثاً صحيحاً في البخاري ومسلم يقولون: عندكم! معناه: أنه عندنا شيء وعندهم شيء آخر، فهم متأكدون أن هذه مسألة مفاصلة بين الشيعة والسنة، ونحن ننعق بالليل والنهار في التقريب بين الشيعة والسنة!
قال النصراني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من بدّل دينه فاقتلوه). فالذي يسلم عندنا لا ريب أنه يستحق القتل، والكنيسة قررت ذلك.
فإذا كان اليهود والنصارى يحتجون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدّل دينه فاقتلوه)، فالمسلمون يحتجون به من باب أولى؛ لأن الخطاب موجه للأمة: من بدّل دينه يا معشر الأمة! ويا معشر الخلفاء! فاقتلوه.
وقد أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا في الاستتابة. يعني: هل يستتاب من بدّل دينه وارتد قبل القتل أم يُقتل؟
منهم من قال: يُقتل بغير استتابة، ومنهم من قال: يُقتل بعد الاستتابة.
واختلفوا في الاستتابة. فقيل: يوم. وقيل: ثلاث. وقيل: شهر. فإن تاب وإلا قُتل.
وقال القاضي عياض: (وفي هذا الحديث أن لأمراء الأمصار -أي: للولاة الذين عيّنهم الخليفة- إقامة الحدود في القتل وغيره، ولا يلزم أن من ارتكب حداً يستوجب القتل أن يرسل به إلى الخليفة العام في موطنه؛ ليقتل بين يديه.
وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة. أما الكوفيون فقالوا: لا يقيمه إلا فقهاء الأمصار ولا يقيمه عامل السواد).
واختلفوا في القضاء إذا كانت ولايتهم مطلقة ليست مختصة بنوع من الأحكام، فإن القتل هذا في القضاء المدني أو الجنائي على خلاف، فهذا قاض جنائي وهذا قاض مدني.
قال: (واختلفوا في القضاء إذا كانت ولايته مطلقة ليست مختصة بنوع من الأحكام، فقال جمهور العلماء: تقيم القضاة الحدود، والجناية في جميع الأشياء، إلا ما يختص بضبط البيضة من إعداد الجيوش وجباية الخراج).
أي: الأحكام العسكرية المتعلقة بإعداد الجيش ومقابلة العدو.
(وقال أبو حنيفة : لا ولاية في إقامة الحدود؛ لأن إقامة الحدود من حق الخليفة العام). حتى الوالي إذا ارتكب أحد حداً لا يقيم الحد إلا أن يرسله إلى الوالي العام أو الخليفة العام.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر