يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فقد سئل ابن عيينة : من أحوج الناس للعلم؟ قال: العالم. فكانت وجهة نظر ابن عيينة أن خطأ العالم وزلته أقبح وأفحش من خطأ العامي وزلته, فقال: أحوج الناس إلى طلب العلم العالم، وهذا الذي سطره الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: لا يزال العالم عالماً ما جد في الطلب، وهذا كان دأب سلفنا الصالح، إذ ما كان أحدهم يكتفي من العلم بحال من الأحوال, وقد وصل بهم التنافس إلى أن زعم البعض أن البخاري يأخذ دواء عدم النسيان، فلما سئل عن ذلك قال: أنا لا آخذ دواءً إنما هي كثرة المطالعة وشدة النهم.
فطالب العلم لا ينفك عن القراءة أو عن السماع أو عن المدارسة أو عن المذاكرة، إما مع شيخ أو مع قرين أو مع تلميذ، فحياة طالب العلم ودأبه أن يبيت في علم ويقوم في علم، فهو يعلم أن الدنيا بلا علم لا تساوي شيئاً، إذ الإنسان لا يعبد ربه جل في علاه إلا بالعلم بل بإتقان العلم، نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا من طلبة العلم الذين يجدون في الطلب.
وسنتكلم في طيات هذه الوريقات عن هذا البحث المتواضع بحث: أحكام انفرد بها النساء عن الرجال، وسنتناول إن شاء الله لبس الحرير والذهب، كما سنتناول حكم افتراش الحرير وأقوال أهل العلم في حكم بيع سجاد الحرير وغير ذلك مما يمكن أن يتعلق بالنساء.
إذاً: فالأحكام نزلت عامة تعم كل المكلفين، وعلى ذلك جماهير الأصوليين والعلماء والأئمة الأربعة يقولون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فالأصل: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والأحكام على العموم إلا أن تأتي أدلة تثبت الخصوص، ومثال ما يوضح ذلك ما جاء في قول الله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فإنه عمم أولاً ثم لما أراد التخصيص أتى بدليل مستقل يدل على التخصيص فقال تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، فلما أراد التخصيص صرح بقوله: خالصة، فكانت بمثابة الدليل المستقل؛ لأن الأصل الذي دلت عليه الأدلة: أن الأحكام كلها على العموم, فدل ذلك على أن التشريع يكون على العموم مالم تدل الأدلة على التخصيص، وفي حديث سالم ودخوله على امرأة أبي حذيفة قرائن وأدلة دلت على أن هذه حالة خاصة لـسالم ومن تلك القرائن التي تدل على ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا في الحولين) وهذا أسلوب حصر, يفيد أن الرضاع المحرم يكون في الحولين فقط، فالنفي والإثبات يفيد الحصر، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الرضاعة من المجاعة) فهذه دلالات تثبت أن حالة سالم حالة خاصة وهي الإجابة التي أجابها الأئمة الأربعة على الاعتراض بحديث سالم وبذلك تأكد أن الأصل في الأحكام: العموم وليس التخصيص, إلا أن الله قد خص النساء ببعض أحكام لم يشارك الرجال النساء فيها.
وبعد أن بينا تلك القواعد والأحكام حق لنا أن نشرع في تفصيل ما صدرنا به هذا البحث من الوعد بأننا سنتحدث عن مسألتين:
والثانية: افتراش الحرير واتخاذه سجاداً أو فرش البيت منه أو اتخاذه كستائر فهل يجوز ذلك كله أم لا؟
يحرم الذهب على النساء سواء كان أسورة- أو حلقاً- أو خلخالاً، فلا يجوز للمرأة أن تتمتع به أو تتحلى به, وأستدل على ذلك بأدلة كثيرة من السنن -وهو من هو في الحديث- ولما كان يعلم أن الأصل: هو الحل, فقد نبه على الأدلة التي تنقل عن هذا الأصل إلى التحريم, فاستدل بما روى أبو داود وأحمد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب, ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار فليطوقه طوقاً من ذهب) ووجه الدلالة: قوله: حبيبه، فإنها على العموم وإن كان أصل وضع اللفظ للذكر حبيبه، إلا أن الأحكام تكون على العموم، كما استدل أيضاً بما جاء في السنن: (من أن بنت هبيرة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ -خواتيم كبار- فنظر النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الخواتيم فقال لها: يسرك أن يسورك الله بسوار من نار! أو قال بخاتم من نار!) ففيه دلالة واضحة عنده أنها تُحلَق أو تطوق من نار بهذا الخاتم الذي لبسته, واستدل أيضاً بحديث آخر: (عن
الوجه الثاني: أن هذا الدليل يعتريه ما يعتريه من الاحتمالات, إذ هو يحتمل أن تدخل تحت اللفظ النساء، ويحتمل ألا تدخل، والقرينة الفاصلة المحكمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عمم، وهذا الحديث لا يصح أن يخصص عموم قوله: (كل الذهب حلال لنساء أمتي) وأيضاً حديث مسلم كن يتصدقن بالخاتم وبالأسورة، فكن يلبسن ذلك، على عصر النبي ويقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أما الرد على الحديث الثاني الذي استدل به الشيخ وهو حديث بنت هبيرة حيث قال لها لما رأى بيدها السوارين: (أيسرك أن يسورك الله جل في علاه بسوارين من نار) فهذا الحديث محتمل أيضاً، فيحتمل أن يكون من أجل الحلقة من الذهب كما يحتمل أن يكون هذا الزجر لأمر آخر، ومعلوم أنه إذا اعترى الحديث الاحتمالات فلا يقال: نحكم الهوى, فالهوى يرجح لنا الصحيح -أعوذ بالله- بل يتتبع العلم.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
والعلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
ولذا نحكم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فهي التي تفسر لنا ما أبهم، وتفصل لنا ما أُجمل، فقد جاء في المسند بسند صحيح عن أسماء بنت يزيد وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت عليه امرأة ومعها ابنة وفي يدها أساور من ذهب فقال لها: يسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار، قالت: علام يا رسول الله؟ فقال: أديتي زكاة هذا؟)وفي الرواية تقديم وتأخير: إذ في رواية أخرى: (أنه لما رأى الأسورة ما أنكر لبسها، لكنه قال: أديتي زكاة هذا؟ قالت: لا, فقال: تريدين أن يسورك الله بسوارين من نار), ففي الرواية الأولى قال: يسورها بسوار من نار أو خاتم من نار, وفي الحديث الثاني في نفس السياق قال: يسورك بسوار من نار, فأخفيت العلة في الحديث الأول وظهر في الحديث الثاني تفسيرها حيث قال: أديتي زكاة هذا؟ فإذاً: التقدير في الحديث الأول -حديث بنت هبيرة - أن يقال: كأنه صلى الله عليه وسلم يقول لها: أديتي زكاة ذلك؟ قالت: لا , قال: إذاً يلبسك الله خاتماً من نار يوم القيامة, فهذا الحديث ظاهر جدًا في تفسير الحديث الأول؛ إذ أنه في حديث بنت هبيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجرها أشد الزجر؛ لأنها لم تؤد الزكاة ولم يذكر التحلي ولا حرمه لا من قريب ولا من بعيد، وعلى ذلك فإنها ما استوجبت النار من أجل الأسورة لأنها من الذهب بل لأنها لم تؤد الزكاة, كما أن حديث عمرو بن شعيب بنفس اللفظ، فقد قال فيه: (تريدين أن يسورك الله بسوارين من نار، أديتي زكاة هذا؟) ومثل ذلك يقال في حديث أم سلمة وعليه يرد بنفس الرد، ففي حديث أم سلمة : أنها كانت ترتدي هذه السلسة, -وإن قلنا: إنها بلغت النصاب أو لم تبلغ النصاب- فهذا التفصيل الفقهي ليس موضعه الآن، وما يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علل أن هذا العقاب مقيد بالزكاة, فإنها إن أدت الزكاة فلا عقاب وإن لم تؤدها لزم العقاب, وبذلك تبين أن هذه الأحاديث وإن كانت محتملة لكنها بعيدة جداً، وسياق الأحاديث يدل على أن العقاب والزجر ليس من أجل التحليق ولكنه من أجل الزكاة, وبذلك تسلم أدلة عامة أهل العلم بأن المرأة يجوز لها أن ترتدي السلسلة أو الأسورة أو الخاتم ذهباً كان أو غيره.
الوجه الأول: تصريح حديث حذيفة حيث قال: وأن نجلس عليه، وهذا حديث صريح صحيح إذ أنه في مسلم فقد صرح بالنهي عن الجلوس عليه.
الوجه الثاني: أن الافتراش يسمى لبساً، والدليل على ذلك حديث في الصحيح عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه لما ذهب يصلي وصفّ معه الغلام وخلفه العجوز قال: فقمت إلى حصير قد اسود من طول اللبس, فقوله: طول اللبس، فيه دلالة على: أن اللبس يطلق على الافتراش، قال العلماء: وكل شيءٍ لبسه بحسبه، فهذا بالمكوث والآخر بالارتداء وغيره بالنوم وهكذا، أما قول الشافعية -مع أنه من الوجاهة بمكان- فيقال: سلمنا لكم في التفريق لأنه من حيث النظر قوي جداً، لكن القاعدة عندنا: أنه إذا اجتمع حاظر مع مبيح جاءت إباحته من النظر، كما أن هناك قاعدة أخرى تؤكد ذلك وهي: أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإن استخدام المرأة لهذا الحرير فراشاً سيكون وسيلة لاستخدام الرجل أيضاً، لأن الغالب ألا يخلو بيت من رجال، وبما أن الوسيلة ستؤدي إلى محرم فهي حرام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر