-
تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس..)
يقول الله تبارك وتعالى:
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97].
قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) البيت الحرام هو: البيت المحرم (قياماً للناس) يقول
السيوطي : يقوم به أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له، وجبي ثمرات كل شيء إليه. فهذا معنى جَعْلِ الله سبحانه وتعالى البيت الحرام قياماً للناس، أي: يقوم به أمرهم، سواء الأمر الديني أو الأمر الدنيوي، فأما الأمر الديني فبالحج إليه؛ لأنه بالحج إليه يتم الركن الخامس من أركان الإسلام، ويتم أمر دنياهم بالأمن الذي يلقونه داخله، وأنه لا يتعرض أحد لهم.
وكذلك من أمن الدنيا جبي الثمرات من كل مكان إلى هذا البلد الحرام، وفي قراءة: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قيماً للناس) بجعل (قيماً) بلا ألف، مصدر (قام) غير معلٍ، يعني: قام قيماً.
(وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي: وجعل الشهر الحرام أيضاً. والمراد هنا: الأشهر الحرم، فليس المراد شهراً واحداً، ولكن هذا لجنس الأشهر الحرم كلها، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، جعلها الله قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها.
فقوله تعالى: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) يعني: وجعل الشهر الحرام -أيضاً- قياماً للناس، كما جعل البيت الحرام قياماً للناس، وذلك لأن الأشهر الحرم جعلها الله قياماً لهم حين يأمنون من القتال فيها؛ لأنه يحرم فيها القتال، فمن ثم فهي -أيضاً- جعلها الله قياماً للناس.
(وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي: جعل الهدي والقلائد -أيضاً- قياماً للناس، بمعنى أن صاحبهما يأمن من التعرض لها، أو من أن يتعرض له أحد.
(ذَلِكَ) الإشارة إلى الجعل المذكور في قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ) (( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) فإن جعله ذلك بجلب المصالح لكم، دفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن في المستقبل.
-
تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن الله شديد العقاب..)
-
تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث..)
-
قول القاسمي في معنى قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس..)
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) أي: مداراً لقيام أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله، وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء.
(وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) بمعنى الأشهر الحرم، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها؛ لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها.
(وَالْهَدْيَ) الهدي المقصود به: ما يهدى إلى مكة (وَالْقَلائِدَ) جمع قلادة، والقلادة: هي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى، وليس المقصود القلائد نفسها، لكن المقصود ذوات القلائد، وهي البدن؛ لأن البدن تعلق فيها القلائد كي يعلم أن هذه مهداة إلى البيت الحرام، فلا يتعرض لها أحد ولا لصاحبها، فتوضع عليها هذه العلامات حتى تعظم ويعلم أنها مهداة إلى بيت الله سبحانه وتعالى، فتأمن ويأمن صاحبها، فلا يقصدان بسوء.
وخصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر، والمفعول الثاني محذوف يعني: قوله تعالى: (( وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )) أي: جعل الهدي والقلائد قياماً للناس، لكن حذف المفعول ثقة بظهوره من السياق الذي مر، فإنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم، حيث يعلم من يراهم أنهم يقصدون بيت الله الحرام، وفيه قوام لمعيشة الفقراء، بمعنى أن الفقراء -فقراء الحرم- حين يساق هذا الهدي إلى مكة المكرمة فإنه رزق يرسله الله سبحانه وتعالى إليهم، فيكون فيه قيام لأمرهم، وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلدوا أنفسهم عند الإحرام من لحاء شجر الحرم، فلا يتعرض لهم أحد.
قوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: الجعل المذكور:
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة:97-99].
-
تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب...)
يقول تعالى:
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب) هذا حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال.
(وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير.
وهذه الآية نحتاج للاستدلال بها في كثير من المواضع، فالقليل الذي يبارك الله سبحانه وتعالى فيه خير من الكثير الذي يمحق الله بركته؛ لأنه من حرام أو من رشوة أو من ربا أو من سحت، فأغلب الناس يفتنون بالمال الوفير، ولا يبالون من حرام جلبوه أم من حلال، فكثير ما نحتاج -خاصة في هذا الزمان- إلى إشاعة الاستدلال بهذه الآيات (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) يعني: في ترك الخبيث وإن كثر، فاتركوه وأتوا الطيب وإن قلّ (( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )).
-
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...)
ثم قال تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة:101].
يقول
السيوطي : ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم، فسأله أحدهم: (
يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك فلان. وكان يطعن فيه) أخرجه
البخاري و
مسلم وغيرهما، وكانوا يسألونه استهزاء -وهذا لا يكون من المؤمنين الصادقين، وإنما كان من المنافقين وإن لم يصرح به- فيقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ ولما نزلت آية الحج قال أحدهم: (
أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم)، أخرجه
مسلم و
الترمذي ؛ فلذلك أنزل الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ )) أي: إن تظهر لكم (تسؤكم) يعني: بما فيها من المشقة.
(وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) يعني: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم (تبد لكم)، والمعنى: إذا سألتم عن أشياء في زمانه ينزل القرآن بإبدائها، ومتى أبداها ساءتكم، فلا تسألوا عنها. والمقصود النهي عن كثرة السؤال والتنطع في السؤال، فهنا يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا) في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ينزل الوحي تبد لكم، وإن بدت لكم ساءتكم، فالمقصود: لا تسألوا عنها، ثم قال تعالى: (( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )).
وهذه الآية فيها كلام طويل، يقول
القاسمي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا) أي: نبيكم (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ) أي: تظهر (لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)، وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة فتطلبوا بيانها، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها. فهذا وجه في الآية.
وثمة وجه آخر: إن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن الكريم ولذلك فسرها
ابن القيم على أن المراد زمن النزول المتصل به، وليس الوقت المقارن للنزول، وكأن في هذا إذناً لهم في السؤال عن التفصيل المنزل، ومعرفته بعد إنزاله، فبعدما تنزل يمكن أن تسألوا عنها حتى تستبينوا وتستوضحوا ما فيها من الأحكام، ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقاً.
ثم قال
ابن القيم : وثمة قول ثانٍ في قوله تعالى: (( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )) وهو أنه من باب التهديد والتحذير، يعني: إذا ما سألتم عنها في وقت الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوؤكم. وهو الوجه الذي اختاره
السيوطي، بما ففيه ترهيب من السؤال، والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم.
وقال بعضهم: إنه تعالى بين أولاً أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، ثم بيان آخر أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم ولا يسرهم.
(عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) أي: عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن، ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم، فما دام أن الله سبحانه وتعالى لم يوجبها عليكم توسعة عليكم فلا تضيقوا أنتم على أنفسكم، كآية الحج مثلاً، :
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] يقال: اسكتوا؛ فإنكم إذا سألتم: أكل عام يا رسول الله؟ فإن قال: كل عام وجبت، وإذا كان يجب على كل مسلم أن يحج في كل عام إلى بيت الله الحرام لما استطعنا، فهذا أوضح؛ لأنه جاء بفعل يبين ذلك.
(عفا الله عنها) يعني: عن بيان تلك الأشياء؛ لئلا يسوءكم بيانها، فتكون جملة (عفا الله عنها) صفة لكلمة (أشياء)، أو المعنى: عفا الله عن مسائلكم السالفة، فما سألتم عنه فيما سبق عفا الله عنه، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
-
تفسير قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
يقول تعالى:
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:102] يعني: ليس المقصود عين المسألة، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال، وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحريم.
وقوله تعالى: (ثم أصبحوا بها كافرين) أي: أصبحوا بسببها كافرين؛ حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ويفعلوه، وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها، فهلكوا، والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له، فلا تفعلوا مثلهم.
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء...)
التزام الصحابة بأدب النهي عن السؤال
ولقد التزم الصحابة هذا الأدب حتى كانوا ما يكادون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، لكن كانوا يفرحون إذا أتى رجل من أهل البادية فيسأله ويسمعون الجواب فيستفيدون، فقد أخرج الشيخان عن
أنس رضي الله عنه قال: (
كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي قصة اللعان من حديث
ابن عمر (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها).
ولـ
مسلم عن
النواس بن سمعان قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم).
يعني: أنه قدم المدينة وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل؛ لأنه ما دام بصفة الوافد فقد كان له رخصة وسعة في أن يسأل؛ لأنه وافد، بمعنى أنه يقدم مدة يسيرة ثم يغادر بعدها، فحرص على أن يستبقي صفة الوافد لا صفة المقيم؛ لأنه إذا كان من المقيمين جرى عليه الأصل، وهو أنه لا يسأل.
فهو يقول: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: ما يمنعني من اتخاذ المدينة مهاجراً ووطناً للإقامة إلا المسألة، فظل ماكثاً بصفة أنه وافد، وليس مقيماً مهاجراً، يقول: (ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: الحرص على أن أسأله (كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم).
ومراده أنه قدم وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوافد، إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال.
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم، فقوله تعالى هنا: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، المقصود به المهاجرون.
وأخرج
أحمد عن
أبي أمامة قال: (لما نزلت (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )) -إلى آخر الآية- قال: كنا قد انتهينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم، فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم!) وهذه الرشوة ليست على ظاهرها، وليست هي الرشوة المحرمة، وإنما أهدوا له الهدية استعطافاً ثم قالوا: اذهب واسأل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا السؤال.
ولـ
أبي يعلى عن
البراء : (إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -أي: قدوم الأعراب- ليسألوه) فإذ سأل الأعرابي سمع الصحابة أجوبة سؤالات الأعرابي فيستفيدون منها.
وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله عنهم فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك.
وعن
ابن عمر قال: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت
عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن
عمر أنه قال: (أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) يعني: لا تكثروا الافتراضات؛ فإن ما نزل وما علمنا يشغلنا عن الاشتغال بالافتراضات.
وعن
زيد بن ثابت: (أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: هل كان هذا؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون).
وعن
أبي سلمة و
معاذ مرفوعاً : (
لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل.
-
أقسام البحث عما لا يوجد فيه نص
قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين:
أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضاً على من تعين عليه من المجتهدين.
ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وقت الجمع، أو العكس، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث
ابن مسعود مرفوعاً: (
هلك المتنطعون) أخرجه
مسلم؛ لأن هذا فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع، كمسألة ليس لها أصل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في الإجماع، وهي نادرة الوقوع، فيظل الإنسان يفرع فيها، فيفرع على الفروع، ثم يفرع على فروع الفروع، وينفق العمر في هذا، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى، خاصة إذا ترتب لها التحصيل فيما هو متعين عليه، أو فيما هو أكثر وقوعاً.
وأشد من ذلك -في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، فأشد من ذلك قبحاً وسوءاً أن الإنسان يظل ينقر ويخترع ويولد الأسئلة في أمور مغيبة الشرع لم يتعرض لها.
فمثلاً: ورد في القرآن والسنة أن الرجال من أهل الجنة سوف يزوجون الحور العين، فماذا عن النساء، وهل النساء لهن أزواج أيضاً مثل الحور العين؟! فهل هذا مما تعرض له القرآن؟! وهل هذا مما تعرضت له السنة؟! إذاً: لا تسأل عن هذا، ومتى ستفهم مثل هذا، فلو كان هذا مما يفيدنا في ديننا ومما يجب علينا الإيمان به والتعرف عليه لأوحى الله إلى رسوله قولاً قاطعاً في ذلك، لكن إذا لم يتعرض له الوحي فلا تضيع وقتك بالاشتغال فيما لا يعنيك، ففي الحديث: (
من حسن الإسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فالله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، والله حكم عدل ودود غفور رحيم، يكرم عباده بكرمه وفضله، ولذلك لما سأل ذلك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: متى الساعة انتقل عن السؤال عما لا يعني إلى السؤال عما يعني، فقال: (
وما أعددت لها؟) فهذا هو الذي يخصك.
ومن ذلك السؤال عن الروح، والسؤال عن مدة هذه الأمة، وأمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا يوجد باب لهذا، فهذه الأشياء يكره السؤال عنها، وهي داخلة في النهي؛ لأنها أشياء مغيبة لا يدركها الحس، ثم إن الوحي الذي هو النافذة الوحيدة التي من خلالها نستطيع أن نصل إلى الإجابة القاطعة في هذه المسائل لم يبث فيها، ولم يخبرنا بأجوبتها، فدل على أنها مما لا يعنينا ومما لا ينبغي أن نشتغل به، فهذه الأشياء كلها لا تعرف إلا بالنقل الصرف، ولا نقل يوجد.
إذاً: ينبغي أن لا نسأل عن مثل ذلك، ولا نتحرى ولا نتنطع، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث.
وأشد من هذه الصورة -وهي التنطع والتحري فيما هو من الأمور الغيبية التي لا يدركها الحس ولم يتعرض لها النص- ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، ويدخل في هذا السؤال المذموم عن الأشياء التي لو أكثرت السؤال عنها أوقعتك في الشك والحيرة، ومن هنا يأتي بلاء الوسوسة، وما أدراك ما الوسوسة والعذاب الذي يعيشه صاحبها! والتكدير الذي يطبق على حياته كلها! والخلل الذي يطرأ على حياته وعلى دينه وعلى واجباته!
ومثال التنطع في السؤال أن يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن، وذلك كسؤال بني إسرائيل عن البقرة حين قال لهم موسى عليه السلام:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، فلو أخذوا أي بقرة وذبحوها لانتهى الأمر، لكن لما تنطعوا وتشددوا شدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فقالوا: يا موسى!
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] فتنطعوا وتشددوا، ثم قالوا:
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ *
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:69-70]، وفي هذه المرة قالوا: إن شاء الله
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71]، فانظر كيف اقترن التنطع في الأسئلة بسوء الأدب!
حيث قالوا: يا موسى! وهذا من سوء أدبهم مع نبيهم، ثم قالوا: (ادع لنا ربك) وكأنهم يقولون: هو ربك أنت وليس ربنا نحن ثم في ختام سوء أدبهم -لعنهم الله- قالوا: (الآن جئت بالحق) وكأنه قبل ذلك ما جاءهم بالحق.
فمثال التنطع في السؤال أن تسأل سؤالاً فيجيبك المفتي بالإباحة والرخصة والتسهيل، فتظل تفتش وتفتش حتى يفتيك بالمنع والتحريم والتضييق.
يقول بعضهم: ومثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي العالم بالإذن: أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟
فالسائل يسأل عن السلع الموجودة في السوق تشترى هل لابد من أن الإنسان يتحرى من أين أتى بها صاحبها؟ ومن أين اشتراها؟ فيجيبه المفتي بالجواب فيقول: ما ينبغي لك أن تتحرى وحين تشتري لنفسك الأشياء المبنية على البراءة. فيعود السائل إلى سؤاله فيقول: أخشى أن يكون ذلك من نهب أو غصب. وبقدر الله يكون قد وقع في ذلك الوقت شيء من ذلك في الجملة، حيث تحصل حادثة نهب أو غصب في الحي القريب، أو في الشارع القريب، أو في نفس السوق، فيحتاج المفتي إلى أن يقول له: الورع يقضي بأن تمتنع عن شراء هذه السلعة. وكان سهلاً على نفسه من البداية أن يشتري بدون تنطع، وكثيراً ما يحصل هذا نتيجة التنطع في السؤال والتدقيق والتفيهق والتكلف، فينتهي ذلك بالإنسان إلى المنع بعدما كان الشيء مباحاً، فهذا من شؤم هذا التنطع والتعمق في السؤال.
يقول: ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه في الجواز.
وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها -ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف.
أي: لا مانع من أن تسأل سؤال المستفهم الراغب المتعلم؛ لأن طالب العلم كيف له أن يتعلم إذا لم يسأل؟! فنحن نريد أن نضع الكلام في موضعه المناسب واللائق به، فالإنسان لا يغلو في التعامل مع هذه القضية، أقصد قضية كثرة السؤال، فهناك طرفان ووسط: طرف الغلو، وهو أن يغالي الشخص ويتنطع ويتفيهق، ويفرع الفروع، وفروع الفروع، وفروع فروع الفروع.. إلى غير ذلك من صور التنطع التي ذكرناها.
وطرف الغلو الآخر أن يسد باب المسائل حتى ينسد عليه باب العلم، فلا يتعلم كثيراً من الأحكام حتى التي يحتاجها، بل يسد باب المسائل حتى المسائل التي يحتاجها الإنسان في دينه، أو يحتاج إليها طالب علم ليتعلمها، فيفوته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فهذا تكون نتيجته أنه يقل فهمه وعلمه.
وعلى الجانب الآخر من التوسع في تفريع المسائل وتوليدها -لا سيما إذا كانت المسائل نادرة الوقوع- إذا كان السائل يقصد بذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله، وهذا هو الذي كرهه السلف رحمهم الله تعالى، وقد وجدنا في بعض المجالس أن بعض الشباب يأتي إلى عالم جليل من العلماء، وهذا الشاب ربما استطاع أن يحصل شيئاً من العلم في مسألة من المسائل سهر فيها الليالي الطوال ليحصلها، فإذا جلس أمام الشيخ فإنه يبدأ باستدراجه، وهذا يحصل كثيراً جداً، وهذا ليس من الأدب في شيء، فيُظهر له في البداية أنه يسأل سؤال مستفهم، كأنه لا يعلم، فالعالم يفتي فيقول: المسألة حكمها كذا فإذا به يقول له: إن فلاناً يقول فيها كذا. فيظهر من خلال الحوار أنه مطلع اطلاعاً واسعاً جداً على المسألة، وينتقل من المستفهم الراغب في العلم إلى المجادل المناظر الذي يحاول أن يحرج هذا الشيخ ويفحمه، حتى إنه حصل مرة مع فضيلة الشيخ:
أبي بكر الجزائري هنا في الإسكندرية موقف مثل هذا، واستدرجه السائل أولاً بالسؤال، ثم ظل يجادل ويتنطع ويفرع ويحرجه، إلى أن قال الشيخ في غاية التواضع: يا أخي! اعذرني؛ فإني لا أحسن هذه المسألة.
فينبغي للإنسان أن يراقب نيته مراقبة دقيقة في موضوع السؤال، وأن يكون راغباً في العلم لا راغباً في المجادلة أو الإحراج.
يقول: من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها، فإنه هو الذي يحمد وينتفع به، وهو طلب العلم من مضامينه، وتعلم مسائل الفقه، وتعلم الحديث والتفسير، وهكذا، هذا لا حرج فيه إذا كان بهذه الصورة، وهذا الذي سلكه فقهاء الأمصار من التابعين، فمن بعدهم.
يقول الإمام
الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات: الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح. ثم ذكر الآية وبعض الأمثلة التي أوردناها، ثم قال: والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه.