الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذه اللحظات الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ما زلنا نتحدث عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وقلنا: إن من أعظم حقوقه علينا صلى الله عليه وسلم أن نصدق قوله؛ لأنه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وبينت في اللقاء الماضي أن الذي شهد بصدق نبينا صلى الله عليه وسلم هو الله، وشهد الواقع بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من الماضي والحاضر والمستقبل، فما من شيء أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى إلا ووقع كما أخبر به دون زيادة أو نقصان.
وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند من يرد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أن العقل ينكر هذا القول! أو بدعوى أننا نعيش الآن عالماً علمياً متقدماً في جانب التكنولوجيا، فقد لا يصدق الواقع هذا القول! اللهم إلا إذا جاءنا الدليل على صدق كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الشرق أو من الغرب، فحينئذ ترى الناس يعودوا مرة أخرى لتصديق كلام رسول الله!!
النظريات العلمية تثبت صدق النبي عليه الصلاة والسلام
روى
البخاري و
مسلم وغيرهما من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب أو إحداهن بالتراب)والروايتان صحيحتان، وفي لفظ: (
طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، فيأتي من يقول: أي تراب هذا الذي تتكلم عنه في عصر الذرة والإنترنت، وعصر أتوبيس الفضاء ديسكفري، وفي عصر المنظفات تقول: نغسل الإناء بالتراب إذا ولغ فيه الكلب؟!
فينكر العقل هذا الكلام النبوي صلى الله على صاحبه، بدعوى أنه لا يمكن على الإطلاق أن نقول ذلك، بل ربما ترى من أحبابنا وإخواننا من يستحلفنا بالله ألا نردد مثل هذه الكلمات؛ حتى لا نتهم بأننا ما زلنا نعيش في العصور الوسطى، وحتى لا نتهم بالتخلف والجمود والرجعية والتأخر.. إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال لمن يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الأحاديث.
فيخرج علينا عالم إنجليزي -وما زال هذا العالم حياً يرزق، وهو من أعضاء اللجنة التي تمنح الزمالة البريطانية لمن يحصل على هذه الشهادة- ببحث علمي هائل ويقول: لقد اكتشفنا في مجال علم الطفيليات أن الكلب يفرز مع لعابه كماً هائلاً جداً من الجراثيم والميكروبات، تسبب أكثر من خمسين مرضاً.
قال: واكتشفنا في الوقت ذاته أن القطط -التي قال في حقها النبي صلى الله عليه وسلم: (
هن من الطوافين عليكم والطوفات)، ولم يشدد فيهن مثلما شدد في شأن الكلاب- لا تفرز في لعابها أيَّ نوع من أنواع الجراثيم، وما ينتج عن القطط من أنواع الأمراض إنما هو بسبب الجلد أو البراز، وليس من اللعاب.
قال: فلما طهرنا الإناء الذي ولغ فيه الكلب بكل وأحدث ما وصل إليه العلم الحديث من المطهرات والمنظفات، وجدنا أن كل هذه المنظفات لم تقض على كل الجراثيم التي أفرزها الكلب في لعابه في هذا الإناء.
قال: فجربنا ما بلغنا عن محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وغسلنا هذا الإناء بالتراب مرة، قال: ثم نظرنا بعد ذلك في البحث العلمي وقمنا بالتجربة؛ فلم نجد أثراً لميكروب أو لجرثومة واحدة في هذا الإناء الذي طهرناه بالتراب! فمن الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم ذلك؟!
أولم يقل ربنا جل وعلا:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
بل خذ هذا البحث العلمي الآخر، وهو في غاية الروعة والجمال: روى الإمام
البخاري و
أبو داود و
الترمذي وغيرهم بسند صحيح من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه، فإنه يحمل في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً)، وفي لفظ صحيح: (
دواء).
(شفاء ودواء وداء).
فقد اكتشف عالم ألماني يقال له:
بريفلد من جامعة هال بألمانيا: أن الذباب حينما يسقط في السائل على أحد جناحين يفرز نوعاً من أنواع الجراثيم والميكروبات، ووجد أيضاً أن الذباب في الوقت ذاته يحمل على بطنه وعلى الجناح الآخر نوعاً من أنواع الفطريات سموه: (أميوزموسكي)، واكتشفوا أن هذا الفطر يحمل نوعاً من أنواع المواد المضادة للجراثيم والميكروبات التي تفرزها الذبابة حين تلامس السائل بجناحها الأول، بل وستعجب إذا علمت أنهم اكتشفوا أن جرامين اثنين من هذا الفطر يحمي ألفين لتراً من اللبن من الجراثيم!
بل اعجب أنهم قالوا: ولا تفرز الذبابة هذه المواد المضادة التي تقضي على هذه الجراثيم والميكروبات إلا إذا غمست كلها في السائل!!
فمن الذي علم الصادق الذي لا ينطق عن الهوى هذه الحقيقة العلمية التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية، مع أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد أخبر بها قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فلنعلم يقيناً أنه لا ينطق عن الهوى.
صحيح العقل لا يعارض صريح النقل
الذي يؤلم القلب أن الوحي حينما جاءنا ابتداء عن رسول الله أنكرناه بدعوى أن العقل لا يصدق هذا، وبدعوى أن العلم ينكر هذا، وبأننا نعيش عصر الذرة وعصر النووي .. إلى آخره؛ فلما جاءنا البحث العلمي من إنجلترا ومن ألمانيا يصدق ما أخبر به الصادق النبي صلى الله عليه وسلم صدقناه وقبلناه، ولم نعد ننكر هذا، وهذا هو الخطر العظيم.
فأنا أناشد أحبابنا وإخواننا ممن يقدمون العقل على صحيح النقل وصريحه أن يعلموا أن للعقل مجالاً، وأن للعقل دوره الذي يجب عليه أن يبدع فيه بشرط ألا يتخطاه، وألا يتجاوزه وإلا وقع في خطر عظيم.
المهم أن تسأل: هل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟
هل هذا ثابت بالدليل القاطع الصحيح عن رسول الله؟
لا حرج عليك أن تسأل مثل هذا، فإن تبين لك بالأدلة المعلومة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك وقد قال ذلك؛ فلا يجوز على الإطلاق أن ترد قول الحبيب بدعوى أن عقلك لا يدرك مثل هذا الطرح، وبدعوى أنك لا تحسن أن تفهمه، لا يجوز ذلك على الإطلاق، فاسأل أهل العلم من المتخصصين في العلم الشرعي وفي العلم الطبي وفي العلم الجيولوجي إن كنت لم تفهمه:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وأود أيضاً أن أبين لأحبابنا أنه قد يلتبس الأمر على بعض فيقول رجل: يا أخي! أنا لا أقدر أن أشرب السائل الذي وقع فيه الذبابة، فأقول له: لا حرج عليك في ذلك، فأنت بذلك ما كذبت رسول الله، وما أنكرت حديثه، وما رددت قوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض عليه لحم الضب فرده ولم يأكل منه شيئاً، فقالوا: (
أحرام هو يا رسول الله؟! قال: لا، غير أني أجدني أعافه).
فلا حرج عليك على الإطلاق ألا تشرب هذا السائل، لكن الحرج -كما ذكرت- أن ترد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أن العقل لا يصدق هذا.
حقائق علمية قررها القرآن قبل (1400) عام
يا من تقدمون العقول على صريح وصحيح المنقول، أذكركم بقول
ابن القيم رحمه الله:
لا يستقل العقل دون هـداية بالوحـي تأصيلاً ولا تفصيلا
كالطـرف دون النـور ليس بمـدرك حتى يراه بكرة وأصيلا
نور النبـوة مثل نور الشمس لعين البصيرة فاتخذه دليـلا
فإذا النبوة لم ينلك ضياؤهـا فالعقل لا يهديك قط سبيـلا
طرق الهدى محدودة إلا علـى من أم هذا الوحي والتنزيـلا
فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فاعلم بأنك ما أردت وصولا
يا طالبا درك الهدى بالعقـل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلاً
فيجب علينا أن نصدق رسول الله وإن لم تستوعب عقولنا ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ولنعلم يقيناً أنه ما دام يبلغ عن الله، فكل ما يبلغه عن ربه صدق وحق، وأنه علم اليقين الذي لا مجال للشك فيه على الإطلاق، فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم أن نصدقه في كل ما أخبر به عن ربه جل وعلا.
ومن أعظم حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا: ألا نقدم أقوالنا ولا أفهامنا على قول وفعل الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأود أن أبين لإخواني أننا لا نريد بذلك أن نقلل من شأن العقل إطلاقاً، بل إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يباركه ويزكيه ويقويه، بشرط أن يعرف العقل حده، وأن يعرف العقل دوره، وألا يتخطى العقل مجاله، فأنت لا تستطيع أن تقدم فهمك على فهم أستاذك! بل تستحي من ذلك، ولا تجرؤ أن تقدم قولك على قول والدك إن كنت ممن يحترم الوالد، لا يمكن لمرءوس أن يقدم قوله على قول رئيسه؛ فكيف يجرؤ أحدنا أن يقدم قوله على قول درة تاج الجنس البشري كله محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخبر ربنا تبارك وتعالى أنه لا ينطق عن الهوى؟
كيف ندعي حب لله وندعي الحب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقدم أقوالنا على قوله، ونقدم أفهامنا على فهمه، ونقدم أفعالنا على فعله؟!
هذا لا يجوز، تدبر معي قول الله جل وعلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:1] هذا نداء لأهل الإيمان، وإذا سمعت في القرآن الكريم كله قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، فهذا النداء إما خير سيأمرك به وإما شر سينهاك عنه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، ما معنى هذه الآية؟
قال
ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، اعرض قولك وفعلك على القرآن والسنة، هل قولك موافق لقول الله؟ هل قولك موافق لقول الصادق رسول الله؟ هل فعلك موافق لفعل الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن قدمت قولك على قول الله، وقدمت قولك وفعلك على قول وفعل رسول الله؛ فقد خالفت القرآن والسنة!
قال
مجاهد -وهو إمام من أئمة التفسير- في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه، وقد صرنا في هذا الزمان نرى فيه كل أحد يفتي في دين الله! مع أنه في الوقت ذاته لو قلت له: يا فلان! نريد منك أن تجري جراحة لهذا المريض في القلب، يقول: لا، أنا لست طبيباً، بل لو كان طبيباً لقال: أنا طبيب، لكنني لست متخصصاً في جراحة القلب، ولو قيل لآخر: يا فلان! صمم لنا هذا المسجد تصميماً هندسياً وإنشائياً، سيقول لك: لا، أنا لست مهندساً، هذا ليس من تخصصي، لكنك ترى وتسمع كل أحد يتكلم في دين الله بغير دليل وبغير علم.
إن كنت تحفظ دليلاً من القرآن والسنة بفهم الصحابة والسلف الصالح فبين الحق بدليله، فالإسلام ليس فيه كهنوتية، فكل من يحسن أن يتكلم عن الله وعن رسول الله بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم من أصحاب النبي ومن سار على طريقهم فليبين الحق بالدليل من كتاب الله ومن كلام الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أن يتقدم كل أحد ليتكلم في دين الله بغير علم وبغير دليل، فهذا لا يليق في دين الله تبارك وتعالى.
جاء رجل إلى
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسأله في مسألة، فقال
عبد الله بن عمر : والله إني لا أحسن جواب مسألتك، فقال السائل: أنت
ابن عمر وتقول: لا أحسن جواب مسألتك؟! قال: نعم يا أخي! اذهب إلى العلماء فاسألهم، فوالله لا أحسن جواب مسألتك، فانطلق السائل متعجباً، فلما انصرف السائل قبّل
عبد الله بن عمر يد نفسه، ثم قال لنفسه: نِعْم ما قال
أبو عبد الرحمن ، سئل عما لا يدري فقال: لا أدري.
وقال الإمام
القرطبي في كتابه الماتع الجامع لأحكام القرآن الكريم في تفسير قول رب العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ): أي لا تقدموا قولاً على قول الله، ولا قولاً أو فعلاً على قول وفعل رسول الله، فإن من قدم قوله أو فعله على قول وفعل رسول الله، فإنما قدمه على الله؛ لأن الرسول لا يأمر إلا بما أمر به الله عز وجل.
أولم يقل ربنا تبارك وتعالى:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]؟
أولم يقل ربنا تبارك وتعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ*
وَمَا لا تُبْصِرُونَ *
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ*
وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ*
تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الحاقة:38-43]؟
أولم يقل ربنا جل وعلا في شأنه وحقه صلى الله عليه وسلم:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ*
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47]؟
فمن حق سيد النبيين صلى الله عليه وسلم علينا ألا نقدم فهمنا وعقلنا وقولنا وفعلنا على فهمه وقوله وفعله، بل إن سوء الفهم عن الله جل وعلا وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً، يقول الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى: وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
فنسأل الله عز وجل أن يفهمنا وأن يعلمنا، وأن يردنا إلى سنة نبيه المصطفى رداً جميلاً، إنه على كل شيء قدير.
الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام
أدب الصحابة مع رسول الله