إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب طريق الحكم وصفتهللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بينت الشريعة الإسلامية الطريق للقضاة والحكام ليحققوا الواجب المنوط بهم، وهو تحقيق العدالة، وردع الظالم، وإنصاف المظلوم، فبينت كيفية التعامل مع دعاوى الخصوم، واعتبار البينات، وحقيقة الدعوى، وعدالة الشهود، وغير ذلك من الأحكام.

    1.   

    صفة الحكم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    عرض الدعوى

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب طريق الحكم وصفته: إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يبدأ جاز].

    إذا حضر إليه الخصمان قال: أيكما المدعي، يسألهما من المدعي، هذا وجه، أو يسكت حتى يتكلما، فإذا سكت وتكلم أحدهما قبل الآخر قدمه:

    وقدّم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام

    فإذا سبق أحدهما وجاء وتكلم فله ذلك، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، والغالب أن السابق يكون هو المدعي.

    ويجوز للقاضي أن يقول لهم: أيكم المدعي، ويجوز أن يسكت.

    [فمن سبق بالدعوى قدمه].

    من سبق بالدعوى وتكلم قدمه؛ كما قلنا:

    وقدم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام

    حكم إقرار المدعى عليه

    مثلاً: قال أحدهما: لي عند فلان عشرة آلاف ريال بسبب قرض أو بيع دينٍ -وحرر الدعوى- ولم يقضني، قال له للآخر: ماذا تقول؟ قال: نعم، له عليّ في ذمتي عشرة آلاف ريال، قال: اقضه وأد إليه.

    هو هذا الإقرار، فإذا أقر أخذ بإقراره؛ لأنه لا يوجد أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك يقولون: الإقرار: سيد الأدلة، لأنه ليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً، ولما شهد رجل عند شريح رحمه الله وأقر -فيما لا يحكم فيه إلا بالشهود- فأخذه شريح بإقراره قال: رحمك الله! من شهد عليّ؟ وكيف تحكم عليّ بدون شهود؟ قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني أنت شهدت على نفسك، فابن أخت الخالة هو نفس الرجل، فلا أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك قبلها الله في أعظم الأشياء وهو توحيده سبحانه وأقام الحجة بها على عباده.

    وسيأتي في مسائل الإقرار.

    طلب البينة من المدعي إن أنكر المدعى عليه

    [وإن أنكر؛ قال للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت].

    لو قال المدعى عليه: ليس له عندي شيء، قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (ألك بينة؟ قال: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً يحلف خصمك، قال: يا رسول الله! الرجل رجل سوء...)، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـشريك بن سحماء ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك).

    البينة: مأخوذة من البيان وهي الوضوح، وتعريفها في الاصطلاح: ما يُظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، والبينة تشمل الإقرار، والكتاب، والأيمان، والحجج التي اعتبرتها الشريعة.

    وقوله: (ألك بينة؟) هذه المقولة تقال: للبر والفاجر، أي: شخص يدعي نطالبه بالبينة إذا أنكر خصمه، ولو كان من أصدق الناس؛ لأن هذا هو الأصل الذي دلت عليه السنة.

    والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة

    (والمدعي مطالب بالبينة) يعني يقال له: ألك بينة؟ (وحالة العموم فيه بينة) أي: ولو كان من أصدق الناس، ولو كان من أصلح الناس وأعلم الناس فقل له: هل لك بينة؟ كما طُلبت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حكم القاضي إذا رفض المدعى عليه الإجابة إقراراً أو إنكاراً

    فإن أبى المدعى عليه الإجابة على الدعوى إقراراً أو إنكاراً.

    ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا

    فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي

    فيلزمه القاضي بالجواب إن أبى، ويحاول أن يلزمه في ذلك، فإذا رفض الإقرار أو الإنكار كُلّف ولو بالقوة، فإذا أبى فإن القاضي يحكم عليه وهذا ما يسمى بالنكول.

    وقد ثبتت به الآثار وعمل به الأئمة رحمهم الله، وهو أن السكوت يدل على اعتباره؛ لأنه أعطي المجال أن ينكر فلم ينكر، فدل هذا على أنه مقر بما اتهم به فيؤاخذ على ظاهره.

    اعتبار البينة وشهادة الشهود لا علم القاضي

    قال رحمه الله: [فإن أحضرها سمعها وحكم بها]

    أي: البينة، كشهادة شهود، ويجب على القاضي أن يسمع منهم.

    [ ولا يحكم بعلمه ].

    ولا يحكم القاضي بعلمه، ولا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه إلا في مسائل، وهي تزكية الشهود وجرحهم، فلو كان يعلم أن هذا الشاهد لا تقبل شهادته، وجيء به في قضية، وقيل له: فلان يشهد فنظر فيه، فقال: هذا ما نقبل شهادته، فهذا من حقه؛ لأنه يعلم فيه جرحاً؛ ولذلك قال الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] ممن ترضون: يعني يكون مرضياً عنهم، ولذلك لما أتى شخص لدى القاضي إياس رحمه الله بشاهد ولم يقبله إياس ، قال له: لمَ ترد شاهدي رحمك الله؟ قال: يا هذا إن الله تعالى يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ، وأنا لم أرضَ شاهدك، وفي بعض الروايات: وإن هذا ليس ممن أرضاه، فهذا يدل على أن من حق القاضي أن يقضي بعلمه:

    وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلماء.

    فإذا عرفهم بالتزكية قبلهم وزكاهم، وإذا علم أن فيهم حرجاً ردهم.

    وفي سواهم مالك قد شددا في حكمه بغير الشهدا

    وهو مذهب الجمهور، وليس خاصاً بـمالك ، فالشاهد من هذا: أن قضاء القاضي بعلمه لا يجوز، والدليل على عدم عمل القاضي بعلمه، قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي على نحوٍ مما أسمع). وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما حدث اللعان بين عويمر وامرأته، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به على صفة كذا وكذا -كما ذكرنا في اللعان- قال: فقد كذب عليها والولد ولده، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فقد صدق عليها وهي زانية)، فأراد الله عز وجل أن تجيء به على صفة من اتهمت به -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، فدل على أنه علم واطلع على ذلك، وجاء بالقرينة واستقر عنده الدليل واتضح أنها زانية، ومع ذلك لمن يقضِ بعلمه، فدل على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه.

    اليمين حال عدم وجود البينة وعدم الإقرار

    [وإن قال المدعي: ما لي بينة، أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه].

    قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه)، فأعلمه أنه ليس له من الخصم إلا اليمين، هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    [ فإن سأل أحلفه وخلى سبيله ].

    فلا يحلفه القاضي مباشرة، بل يقول له: ليس لك إلا يمينه، فهل أحلّفه؟ فإن قال: حلّفه، حلفه.

    [ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي].

    ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي؛ لأن مجلس الحكم والقضاء ينبغي أن تكون خطوات الحكم فيه مرتبة على ما ذكرنا، من أنه يمكث ثم بعد ذلك يطلب من الخصم البينة فإذا تعذر وجود البينة، أو قال: لا بينة عندي، يقول له القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا سبق وحلف قبل أن يطلب القاضي منه القسم فهذه يمين ريبة ترد ولا تقبل، وهي في غير موضعها؛ لأن موضعها أن يطلبها القاضي.

    [ وإن نكل قضى عليه ]. كما ذكرنا.

    [ فيقول: إن حلفت، وإلا قضيت عليك، فإن لم يحلف قضى عليه ].

    ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا

    فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي

    حكم وجود البينة بعد يمين المنكر

    قال رحمه الله: [وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة، حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق].

    بيّن رحمه الله قوة اليمين واعتبارها في إسقاط الدعوى عن المدعى عليه، ولكن هذا الإسقاط لا يقتضي إسقاطها من كل وجه، بحيث لو وجد الشخص البينة ووجد من يشهد له، فإنه لو أقامها بعد ذلك، سمع منه، لكن ثمة إشكال عند العلماء، وهو إذا قيل له: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، ثم حلف الخصم، ثم جاء المدعي بالبينة فهذا فيه شبهة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وفيها تفصيل تكلم فيه العلماء، ولكن حاصل ما يقال: أنه إذا وجد العذر، كأن يكون ناسياً أن لديه بينة فتذكر، أو كان لا يعلم أن شاهداً حضر ثم تبين أنه حضر الموقف المختلف عليه، ونحو ذلك من الأدلة، أو قال شخص: إني أشهد بما أقر عندي فلان أنك أنت أعطيته.. ونحو ذلك، فهذه بينة يجهلها، فإذا كان نفيه له وجه فيه وله عذرٌ قبل وإلا فلا.

    1.   

    مسائل في حقيقة الدعوى

    حكم الدعوى المجهولة وشرط المدعى عليه

    قال رحمه الله: [ فصلٌ: ولا تصح الدعوى إلا محررة معلومة المدعى به ].

    لا تصح الدعوى مجهولةً، ولا تصح إلا إذا استوفيت الشروط من الوضوح والبيان، وتكون بالجزم، فلا يقول: أشك أو أظن أن لي على فلان كذا، بل لابد أن يقول: لي على فلان كذا.

    محررة: أي: تحقق الدعوة.

    والمدعى فيه له شرطان: تحقق الدعوى مع البيان

    تكون على يقين وعلى بينة دون شك وتردد مع تبيين السبب، مثلاً: يقول المدعي: لي عليه ألف ريال ديناً، أو: لي عليه في بيع، ويصف السبب الموجب لهذا الحق.

    [إلا ما تصححه مجهولاً كالوصية وعبد من عبيده مهراً ونحوه].

    تقدم معنا في كتاب الصداق والوصايا، أنه إذا كان المجهول من جنس ما يقبل به المجهول؛ فإنها تصح، لكن الأصل أن تكون معلومة كما ذكرنا.

    دعوى عقد النكاح

    قال رحمه الله: [وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلابد من ذكر شروطه].

    إذا كانت المرأة ادعت أو ادعى هو عقد النكاح فلابد أن يأتي بشروطه، كل هذا صيانة للقضاء بالفاسد؛ لأنه قد يدعي عقد نكاح فاسد، وقد يدعي بيعاً فاسداً، فإذا كان عقد النكاح وعقد البيع فاسداً فلا يصح للقاضي أن يلزم المشتري بدفع الثمن، ولا يصح أن يلزم البائع بدفع المثمن إلا بعد أن يتبين من أن العقد صحيح، هذا وجه أن نلزمه ببيان الشروط التي توجب زوال الريبة في العقد.

    [وإن ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها].

    لأن هذا كما تقدم له أصل؛ لأنها إذا ادعت ذلك سمعت دعواها، ثم بعد ذلك الرجل إذا نفى أنها امرأته وقام، تقيم الدليل على ثبوت النكاح وإلا لا يقبل منها مطلقاً ما تقوله، وإلا لصُدِّقت كل امرأة تقول: لي على فلان نفقة كذا وكذا، وليس لها شيء إلا إذا أقر وثبت عقد النكاح.

    دعوى الإرث

    قال رحمه الله: [وإن ادعى الإرث ذكر سببه].

    كما لو قالت امرأة -مثلاً-: لي عشرة آلاف ريال نصف ميراث، وأنا أخت فلان الذي توفي، وهذا قائم على أموال فلان فأريد أن يعطيني مالي، فتبين الدعوى بياناً صحيحا وتبين الإرث وسبب الإرث، فإذا قالت -مثلاً-: أنا أخت ولي النصف، توفي أخي وما ترك إلا ابن عم، فالأخت لها النصف وابن العم له الباقي تعصيباً، فبينت سبباً صحيحا ووضحت تقبل دعواها.

    1.   

    عدالة الشهود

    قال رحمه الله: [وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً].

    أي: لا يقبل من الشهود إلا العدول، كما قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، فقال: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ، والفاسق لا يرضى، كذلك قال: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، إذاً: ينبغي أن يكون ممن يرضى، كذلك دلّ دليل آية الحجرات في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، على أن الفاسق لا تقبل شهادته؛ لأنه قال: (فَتَبَيَّنُوا): أي فتثبتوا ولا تعجلوا .. فلو كان خبر الفاسق مقبولاً، لحكم به مباشرة، ولما أمرنا بالتريث، فدل على أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرةً، والفسق سواءً كان في الأقوال أو كان في الأفعال، يوجب رد الشهادة إلا في أحوال مخصوصة، التي هي شهادة أمثل الفساق، إذا لم يوجد إلا هم، وسيأتينا إن شاء الله في باب من تقبل شهادته ومن ترد.

    والعدالة قسمان: عدالة ظاهرة وعدالة باطنة، فإذا كان مسلماً، فهذه عدالة ظاهرة كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، أي: عدولاً، لكن العدالة الباطنة أن يعرف حاله؛ ولذلك لا تقبل شهادة الشاهد حتى يزكى، فإذا زكي قبلت شهادته، هذا إذا كان القاضي لا يعرفه، ولذلك جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وشهد عنده فقال له عمر : إني لا أعرفك، اذهب وائتني بمن يزكيك، فجاء برجل فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: فَبِم تعرفه؟ قال: بالخير، فقال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على صدق الرجل وأمانته؟ قال: لا، قال: اذهب؛ فإنك لا تعرفه.

    فالتزكية -أيضاً- لا تقبل إلا ممن هو أهل.

    إذاً: لا تقبل العدالة إلا ظاهراً وباطنا، هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فعندهم أي مسلم يشهد تقبل شهادته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاتنا، وذبح ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا...) وغيره من العمومات، ولكن هذا القول ضعيف.

    يقول شيخ الإسلام -في رد جميل-: من قال: إنهم يقولون إن الأصل في المسلم العدالة فهذا القول ضعيف؛ لأن الله تعالى يقول: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، والأصل فيه: الظلم والجهل حتى يزكى بالإسلام، ثم تأتي العدالة تزكية زائدة على التزكية الأصلية؛ ولذلك الوصف بالعدالة ليس وصفاً مطلقاً للإنسان، وإنما هو وصف يحتاج إلى تزكية، فلا تقبل إلا ظاهراً وباطنا، وهذا مذهب الجمهور، وأيضاً الإمام الماوردي ناقش استدلالهم وبين أن هذا الوصف زائد، وهو الذي قصده الشرع لقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] فخصص، والشهداء مسلمون، ولكنه قال: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، وهذا يدل على أنه وصفٌ زائد.

    السؤال عمن جهلت عدالته

    قال رحمه الله: [ومن جهلت عدالته سئل عنه].

    ينبغي أن يكون للقاضي رجالاً مخصوصين يعتمد عليهم بعد الله عز وجل، فيكتب إليهم سراً باسم الشاهد ونسبه وموضعه وعمله، ثم يأمرهم أن يسألوا في عمله ويتحروا عنه حتى يعرفوا صدقه من كذبه، كل هذا صيانة للقضاء الإسلامي، وهو موجود في كتب العلماء واعتنى به الأئمة على خلاف مذاهبهم، كالإمام الخصاف من الحنفية في كتابه شرح أدب القضاء، نبه عليه وبين أصوله، وكذلك المالكية تكلم عليه الإمام ابن فرحون في التبصرة، وكذلك تكلم عليه الإمام الماوردي، وهو من أنفس الكلام في أدب القاضي في الحاوي الكبير، وتكلم عليه الإمام النووي من الشافعية في الروضة، وكذلك من الحنابلة تكلم عليه الإمام ابن قدامة في المغني وابن مفلح في المبدع.

    وهذه المهمة كانت مهمة أعوان القضاة، يُرسل إليهم سراً ليسألوا عن الرجل ويتحروا هل تقبل شهادته أو لا؛ فإن تعذر وجود العدول أو كثر الفسق قبل أمثل الفساق كما ذكرنا، وهذا قرره الأئمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام ابن فرحون وغيرهم.

    [ وإن علم عدالته عمل بها ].

    كما ذكرنا أنه يحكم على ما يعلمه في الشهود عدالة وجرحاً.

    [ وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به وأنظر له ثلاثة إن طلبه ].

    كما لو قال شخص: عندي بينة قال: أحضر بينتك، فجاء شاهدان وشهدا أن فلاناً أعطى فلاناً ديناً عشرة آلاف ريال، فقال الخصم المشهود عليه: هذان الشاهدان عدوان لي، وأنا أجرح شهادتهما بالعداوة، يقول له القاضي: أثبت لي هذه العداوة، يقول له: أنظرني.. فيعطيه القاضي مهلة ثلاثة أيام ليذهب ويبحث ويأتي بشهود أنه حصلت خصومة بينه وبين الشهود الذين شهدوا عليه، فيمهله لرد الشهادة التي عليه.

    وكذا لو قال للقاضي: الشاهد الأول شريك لفلان في الشركة.. شريك لفلان في هذه الأرض وله مصلحة، فقال: أثبت ذلك، فيقول: أمهلني حتى أحضر شهوداً على ذلك.. وسيأتينا إن شاء الله تفصيل في القوادح وما يطعن في شهادة الشاهد، والمقصود هنا أن المشهود عليه له الحق أن يدافع عن نفسه؛ ولذلك أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى أن يمهل الخصم ويعذر إليه هذا الإعذار حتى يمكنه من دفع الشهادة عنه.

    [وللمدعي ملازمته].

    وللمدعي ملازمة الخصم، خلال مدة المهلة.

    [فإن لم يأت ببينة حكم عليه].

    حكم عليه؛ لأن الأصل أن البينة ماضية ويحكم بها إن زُكِّيت وعُدّلت وثبتت شهادتها وصحت، فلا تعطّل، وإلا عطلت الأحكام.

    [وإن جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم].

    وإن جهل القاضي حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم، فلو ادعى شخص أن فلانة زنت أو قذفها بالزنا والعياذ بالله، فقال له القاضي: أحضر الشهود، فقال: أمهلني، فإنه يمهله ثلاثة أيام، وهكذا من طعن في شهود خصمه وطلب الإمهال يمهله القاضي ثلاثة أيام حتى يأتي ببينة على جرحه لهم. وكذلك تزكية الشهود.

    [ويكفي فيها عدلان يشهدان بعدالته].

    يكفي في التزكية عدلان يشهدان بعدالة الشاهد، أو عدلان يشهدان بالجرح.

    عدالة المترجم والمزكي والجارح والمعرف والرسول وعددهم

    [ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح والتعريف والرسالة إلا قول عدلين].

    هذه الشهادة على أنها شهادة كما ذكر رحمه الله.

    [ ولا يقبل في الترجمة ]، في ترجمة كلام الشهود -مثلاً- لو كانوا على لغة لا يعرفها القاضي، فإنه يأتي بمترجمين، ويشترط فيهم التعدد.

    ومسألة تعدد المترجمين، اختلف فيها على قولين بناءً على المسألة المشهورة: هل الترجمة شهادة أو خبر؟

    فإن قلنا: خبر، كفى فيها الواحد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة، وبناءً على ذلك لا يشترط فيها التعدد، واحتجوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـزيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود، واكتفى به صلى الله عليه وسلم في ذلك.

    [والتزكية والجرح].

    التزكية والجرح، أي: كون الشاهد مجروحاً أو كونه عدلاً؛ لابد أن يكونا بشهادة شاهدين على عدالته أو جرحه، وإذا كانت خبراً كما هو الظاهر يكفي فيها تعديل الواحد.

    [والتعريف]

    والتعريف: مثل أن تأتي امرأة وتدعي أن فلان ابن فلان زوجها… فهذه المرأة كيف يعرف القاضي أنها فلانة؟ يأتي أحد المحارم ويشهد أن الحاضرة في مجلس القضاء فلانة بنت فلان.

    [والرسالة إلا قول عدلين].

    والرسالة كذلك، فإذا كتب القاضي -وسيأتي الحديث عنها- فلابد أن تكون بشهادة عدلين.

    1.   

    المحاكمة غيابياً (الحكم على غائب)

    [ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق].

    هذه مسألة خلافية: هل يحكم القاضي على الغائب أو لا يحكم عليه، فمن قال: بأنه يحكم عليه؟ يحتج بحديث هند رضي الله عنها وأرضاها، أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ مسيك، أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وهو غائب.

    وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحديث: هل هو فتوى أو قضاء، فإذا قلنا: إنه قضاء فهو حجة على جواز حكم القاضي على الغائب، والذين يقولون بعدم جوازه يقولون: هذه فتوى، فالنبي صلى الله عليه وسلم تارةً يكون مفتيا وتارة يكون قاضيا وتارة يتصرف بالرسالة، وهذا ما يعرف بشخصيات الرسول، ومن أنفس الكتب التي كتبت في ذلك كتاب الإمام القرافي رحمه الله: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام وبيان تصرفات القاضي والإمام، وقد ذكر فيه هذا الحديث وخلاف العلماء فيه.

    [وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة].

    إلا بعد طلب الخصم، لكي يجيب عنها ويقف معه ويخاصمه؛ لأنه يمكن حضوره، وحينئذٍ لا يحكم عليه -وهو في نفس المدينة حاضر- إلا إذا امتنع من الحضور وأصر وتخفى، فهذه مسألة مستثناة ولها ضوابطها عند العلماء، وقد أفتى غير واحد من أهل العلم بجواز القضاء عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756505799