إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من كمال شريعة الإسلام أنها جعلت للإنسان حرمة عظيمة، فحرمت دمه وماله وعرضه، فلا يجوز الاعتداء على شيء من ذلك أبداً، وقد رتبت الشريعة على من اعتدى على شيء من ذلك عقوبات وأحكاماً معلومة، ومن ذلك ما يتعلق بالجناية على النفس والبدن، فمن جنى على غيره جناية متعلقة بنفسه أو ببدنه فإن الواجب عليه هو القصاص أو الدية، بحسب نوع الجناية من عمد أو خطأ أو شبه عمد وما يترتب على كل ذلك من أحكام، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولن تصلح الأحوال إلا به، ولا يلتفت بعد ذلك إلى شبه الحاقدين والناقمين على الإسلام وأهله، فإنها شبه متهافتة معلومة البطلان والفساد.

    1.   

    تعريف الجنايات لغة واصطلاحاً

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنايات].

    الجنايات: جمع جناية، وأصلها: الاعتداء على النفس أو العرض أو المال أو البدن. وبعض العلماء يقول: الاعتداء على النفس والبدن والمال. وهذا في الأصل، فكل اعتداء على نفس، مثل القتل، أو الاعتداء على البدن؛ مثل قطع الأعضاء وبترها، والتشويه للخلقة بالوسم والكي ونحو ذلك، والاعتداء على المال بسرقته أو غصبه، والاعتداء على العرض بالقذف أو الزنا -والعياذ بالله- كل هذا يعتبر جناية في أصل اللغة، والعرب تسميه جناية؛ لما فيه من الإضرار والأذية وتعدي الحد، ومن فعل ذلك فقد جنى عاقبته؛ لأنه يجر على نفسه الشر، فمن جنى جناية، واعتدى على غيره، فإنه يجني من وراء ذلك العاقبة التي لا تحمد في دينه ودنياه.

    ولكن العلماء في اصطلاح الفقه خصوا الجنايات: بالاعتداء على النفس والبدن، وأفردوا الاعتداء على المال والاعتداء على العرض بكتاب الحدود، فإذا قالوا: كتاب الجنايات؛ فمرادهم: الاعتداء على النفس والبدن.. الاعتداء على النفس: بقتلها، وإزهاقها، والاعتداء على البدن-الذي هو أجزاء البدن- إما بقطع يد أو رجل، وإما أن يعمي بصر أو يضر بسمعه، أو نحو ذلك.

    فالأول للكل-الذي هو النفس-، والثاني: للأجزاء والأطراف والأعضاء.

    1.   

    مقدمة مهمة تتعلق بالجنايات والقصاص

    وبناء على ذلك إذا قال العلماء: (كتاب الجنايات) فإنهم يبحثون في مسائل القتل، ومسائل الأذية والضرر المتعلقة بالبدن، بإتلاف أجزاء البدن أو تشويهها أو نحو ذلك.

    أنواع الجنايات

    ثم هذه الجناية وهذا الاعتداء تارة يكون عمداً وقصداً، فيعتدي على النفس فيزهقها عمداً وعدواناً، وتارة يكون خطأً؛ مثل ما إذا دهس بسيارته شخصاً فقتله، وهو لا يقصد قتله.

    وأيضاً الاعتداء على الأطراف تارة يكون عمداً وقصداً؛ مثل ما يقع في المشاجرة والنزاع، فيقدم على قطع يده، أو ضربه في مكان يشل حركته، أو يعمي بصره، أو نحو ذلك من الأضرار.

    هذا بالنسبة للجناية على النفس وعلى البدن، وهذا ما يسميه العلماء بـ(الجنايات)، ويخصونه بكتاب الجنايات.

    وأما الاعتداء على الأموال، والاعتداء على الأعراض؛ فقد اصطلحوا على تسميته بأسماء تخصه، ووضعوه في كتب مستقلة؛ فمثلاً: الاعتداء على الأموال سموه: غصباً، وسموه: سرقة. فسموه غصباً إذا كان الاعتداء على المال علانية وجهراً، وسرقة: إذا كان خفية، واختلاساً: إذا كان على طريقة لم يشعر بها الإنسان، ولم تتحقق فيها صفات السرقة. وهذا قد تقدم معنا في باب الغصب، وذكرنا أن الفرق بين الغصب والسرقة: أن السرقة تكون خفية، والغصب يكون علانية.

    الجناية على النفس

    فلما قال المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات) معناه: أنه سيبحث في هذا الموضع الاعتداء على النفس، والاعتداء على البدن. وأما الاعتداء على الأموال فقد تقدمت مسائل الغصب في باب الغصب، وستأتي مسائل السرقة في كتاب الحدود.

    إذاً: سيكون حديثنا عن مباحث الاعتداء على الأنفس في القتل بنوعيه: قتل العمد، وقتل الخطأ ، ثم قتل الخطأ بأقسامه: شبه العمد، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: عمد الخطأ، يعني خطأ العمد، وأيضاً الخطأ المحض، وهو ما يسميه بعض الفقهاء: ما جرى مجرى الخطأ.

    وعلى هذا فبعض العلماء -كما سيأتينا- يقسم القتل إلى: عمد، وخطأ. والجمهور على تقسيمه إلى: عمد، وشبه عمد، وخطأ.

    وهناك قول ثالث: أنه عمد، وخطأ، وشبه عمد، وجار مجرى الخطأ. وسيأتي-بإذن الله- بيان هذه الأقسام في موضعها.

    هذا بالنسبة للاعتداء على النفس؛ فإما أن يقتل النفس عمداً وعدواناً-نسأل الله السلامة والعافية- وهي نفس محرمة، وإما أن يقتلها خطأً، وفي كلتا الحالتين هي جناية على النفس.

    الجناية على البدن

    وأما بالنسبة للجناية على البدن: فهي الجناية على الأطراف، فيعتدى عليه إما عمداً وعدواناً، كما يقع في المشاجرات، فيقطع يده، أو يفقأ عينه، أو يقطع أذنه، فيؤذيه في سمعه، أو بصره، أو يشل حركته، أو يضربه ضربة تشل حركته، أو تتسبب في إعاقته، فهذه جنايات العمد على البدن والأطراف.

    وهناك جنايات خطأ على الأطراف؛ كشخص دهس شخصاً بسيارته فقطع رجله، أو كسر يده، أو ازدحم الناس وأثناء الازدحام لم يشعر أحدهم فدفع الآخر دفعة سقط بها فانكسرت يده، أو دفعه دفعة فسقط من على درج فانكسرت رجله، أو تسبب في إتلاف سمعه، كما لو رمى بشيء فدخل في أذنه فأذهب سمعه، أو فقأ عينه.. ونحو ذلك، فهذه كلها جنايات على سبيل الخطأ، لكنها على الأعضاء والبدن.

    وكل هذه الجنايات يتكلم عنها الفقهاء والعلماء في كتاب الجنايات.

    القصاص في الجناية

    ثم هذا الكتاب -كتاب الجنايات- لما كان أخطر وأشد ما فيه ما هو مثار الخصومة، والجدل بين الناس، ويحتاج القضاة والمفتون إلى معرفة أحكامه، والفصل بين الناس فيما شجر من مسائله؛ يركز العلماء كثيراً على القصاص؛ لأن الله عز وجل شرعه للعدل بين الناس، وبين الخلق، فأمر بالقصاص من الجاني، كما أمر بالقصاص في النفس وما دون النفس، ففي النفس من قتل يقتل، وما دون النفس؛ من قطع يداً قطعت يده، ومن كسر سناً كُسرت سنه، ومن فقأ عيناً فُقأت عينه، كما بين الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه.

    فهذا القصاص يحتاج أولاً أن تبحث عن الأسباب التي توجبه.. متى يحكم بوجوب القصاص، ومتى لا يحكم به؟ فتارة تقول: هذا القتل يوجب القصاص، أو هذا القطع لليد يوجب القصاص، فالأول جناية على النفس، والثاني جناية على الأطراف.

    وتارة تقول: هذا القتل لا يوجب قصاصاً، وإنما يوجب دفع الدية، وهو قتل الخطأ، وتارة تقول: هذا الاعتداء على هذه اليد لا يوجب قصاصاً بقطع يد المعتدي، ولكن يوجب دفع نصف الدية، أو هذه الجناية فيها مثلاً خمس من الإبل، أو فيها مثلاً عشر الدية، أو نحو ذلك.

    إذاً هناك ما يوجب القصاص، وهناك ما لا يوجب القصاص، وهذا ما يبحثه العلماء في بيان ضوابط قتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ. وقد امتاز الفقه الإسلامي بوضوح قواعده، واشتمالها على العدل والإنصاف، فالشريعة ليس فيها خلط للأمور، وليس فيها ما يوجد اللبس على الإنسان؛ لأن الله تعالى وصفها بالتمام، والكمال، وما بني على أصل صحيح فإن ثماره وعواقبه تكون صحيحة، فالشريعة مبنية على العدل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]، سبحانه وتعالى، فقد وضعت الشريعة القواعد والأصول التي يبنى عليها الحكم بثبوت القصاص، والحكم بعدم ثبوته، ومن هنا يبحث العلماء أول شيء: ضوابط الأنواع الثلاثة التي ذكرناها: قتل العمد، وقتل الخطأ، وقتل شبه العمد.

    متى يحكم بالقصاص في الجناية على النفس

    ثم بعد أن تعرف أن هذا عمد يوجب القصاص، وأن هذا شبه عمد أو خطأ لا يوجب القصاص، وأن شبه العمد يوجب الدية المغلظة، والخطأ يوجب الدية من حيث هي، فحينئذ تنتقل إلى مسألة ثانية- بعد أن تميز أنواع الجنايات ما بين عمد وخطأ اللذان هما الرأس في الجنايات- تنتقل إلى الشروط التي ينبغي توفرها للحكم في القصاص في العمد، متى يحكم باستيفاء القصاص؟ وهذا يستلزم -مثلاً- أن نقول: إذا كان ضربه في مقتل، والحال دال على أنه قاصد للقتل، أو اعترف بأنه قصد قتله؛ فإن هذا عمد، كأن يكون ضربه بالسكين في بطنه؛ فالسكين تقتل غالباً، وهو قصد قتله، فنقول: هذا عمد.

    لكن يرد السؤال: هل الذي ضَرَبَ مكلف أم لا؟ لكي يؤاخذ، فهل هو مجنون أو عاقل، أو صبي أو بالغ؟ وحينئذ نبحث في صفات هذا القاتل، فقد أثبتنا أن القتل عمد، فإذا كان عمداً فلابد من وجود شروط وعلامات وأمارات لكي يحكم بوجوب القصاص من هذا الجاني، وقد يكون في الجاني شيء يمنع من استيفاء القصاص منه، بحيث تكون العقوبة متعدية، فلو عاقبناه لم يتحقق العدل؛ كما لو قتلت امرأة وكانت حاملاً، فإننا ننتظر حتى تضع حملها؛ لأن الجنين لا ذنب له.

    فهناك أمارات وعلامات لا بد من وجودها حتى نحكم بوجوب القصاص من الجاني.

    فإذاً: أول شيء نثبته أن الجناية عمد توجب القصاص، فلابد من إثبات ما يوجب القصاص، وإثبات أهلية الجاني، والمجني عليه، فلو كان المجني عليه شخصاً يستحق القتل، وقتله وهو قاصد لقتله بما يقتل غالباً، ولكنه قصد إقامة حد من حدود الله عليه؛ كأن يكون ثيباً محصناً، ودخل عليه ووجده على الزنا، والشهود موجودون؛ فقتله، فحينئذ لا يحكم بالقصاص، لكن يعزر هذا الشخص؛ لأنه ليس هو الذي يقيم حد القتل على من زنى محصناً، وإنما نرد ذلك إلى الوالي، وحينئذ نقول: لا يقتص منه؛ لأن الدم الذي أريق ليس بمعصوم، وليس له حرمة؛ لأن الشرع أزهق هذه الروح. ومن هنا فلابد أن يكون الجاني توفرت فيه شروط، ولا بد أن يكون المجني أيضاً توفرت فيه شروط.

    فإذا تمت الشروط لاستيفاء القصاص، فيأتي السؤال: صاحب الحق إما أن يقول: أريد أن أقتص، وأولياء المقتول الذين جعل الله لهم سلطاناً على القاتل، إما أن يقولوا: نريد القصاص، وإما أن يقولوا: لا نريد القصاص، فإن أرادوا القصاص فلا إشكال، وإن لم يريدوا القصاص فما هي ضوابط العفو؟ ومن الذي له حق العفو؟ ومتى يكون عفوه معتبراً؟ ومتى لا يكون معتبراً؟

    إذاً: نحتاج إلى مبحث ثالث، أو باب ثالث في العفو عن القصاص.. ومن هنا رتب المصنف-رحمه الله- الأبواب؛ فجعل القصاص هو الأصل، والفصل الذي يتبعه في مسألة الصفات المعتبرة لقتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ، وأتبع ذلك بشروط استيفاء القصاص، ثم بعد ذلك بين مسألة العفو عن القصاص.

    القصاص في الجناية على البدن

    ويبقى عندنا الجناية على الأطراف، وهي الجناية التي تكون فيما دون النفس، وذلك كما ذكرنا مثل: فقأ العين، وكسر السن، وبتر الساق، وكسر الساق، ونحو ذلك.

    فهذه الجنايات التي دون النفس أيضاً منها ما يوجب القصاص، فمثلاً: لو قطع يداً تقطع يده، ولو قطع رجلاً تقطع رجله، فيمكننا إذاً أن نستوفي، ويمكننا أن نحكم بالقصاص، وليس هناك ظلم إذا ثبت ما يوجب القصاص على الجاني، وتوفرت الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص منه، فيقطع منه مثل ما قطع، لكن في بعض الأحيان لا يمكن تحقق العدل في الجناية، مثل الكسر الذي يهشم العظام، فلا يؤمن فيه الحيف، بحيث لو أن شخصاً اعتدى على شخص، فهشم له عظماً على وجه لا نستطيع أن نفعل به مثل ما فعل، فإننا لا نأمن الحيف، فربما نأتي نقتص من الجاني فنزيد ونحيف، فإذا لم يؤمن الحيف فإنه حينئذ يمنع من القصاص.

    ومثل ذلك: أن يكون الجاني شيخاً كبيراً حُطمة، أو كان فيه مرض أو عاهة؛ بحيث لو أننا أجرينا هذا القصاص لأزهقت نفسه، فإنه حينئذ لو أردنا أن نقتص منه فإن معنى ذلك: أننا نعاقبه بأضعاف عقوبته.

    فكما أن الجناية على النفس لا بد من توفر الشروط المعتبرة للقصاص فيها، فكذلك أيضاً الجناية على الأعضاء والبدن لا بد من تحقق الشروط المعتبرة للحكم باستيفائه.

    وبناءً على ذلك قسم المصنف رحمه الله هذا الباب إلى هذه الأقسام، وقد بحث المصنف في الجنايات أن الأصل أنها تحتاج إلى إثبات، ولا تقبل دعوى كل إنسان بجناية إلا بإثبات، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس أموال أناس ودماءهم -كما قال صلى الله عليه وسلم- فهذا يحتاج منا أن نعرف: متى؟ وكيف؟ وما هي الوسائل المعتبرة لإثبات الجناية والجريمة؟

    فالتسلسل المنطقي يستلزم أن تعرف أول شيء نوعية الجناية، والحكم عليها؛ هل هي عمد أو خطأ أو شبه عمد؟ سواء كانت في النفس أو في البدن، فإن كانت الجناية على النفس فنبحث كيف يحكم بها؟ وكيف تثبت؟ ثم بعد ذلك ينظر في الجاني والمجني عليه، وشروط الاستيفاء منهما، ثم بعد ذلك ينظر في عفو الولي، أو طلبه للقصاص. وبعد ذلك يشرع طالب العلم في دراسة الجناية على البدن والأعضاء على حدة.

    فالمصنف-رحمه الله- جعل الثلاثة الأبواب الأولي في الجناية على النفس، وجعل الباب الأخير وما يتبعه منفصلاً في الجناية فيما دون النفس. وقد تحدثنا عن هذه المنهجية حتى يكون طالب العلم على دراية قبل الدخول في التفصيل؛ فإن أكثر ما يعين طالب العلم على الفهم والضبط للمسائل: أن يكون عنده تصور مبدئي لمنهج العلماء رحمهم الله في التقسيم، ومن هنا نجد الأئمة رحمهم الله حينما يؤلفون الكتب في المسائل الفقهية أو نحوها، يذكرون الطريقة التي يتناولون بها المسائل التي يريدون بحثها وبيان أحكامها، وهذا يعطي طالب العلم ملكة وتهيؤاً وتصوراً مبدئياً يساعده على الفهم أكثر، والربط بين الأفكار.

    حرمة الاعتداء على المسلم

    يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات)

    جمعها المصنف-رحمه الله- بتعدد أنواعها واختلافها-كما ذكرنا- فالجناية على النفس أنواع، والجناية على البدن، والأعضاء أنواع، فقال: كتاب الجنايات؛ مراعاة للأنواع واختلافها.

    أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالجناية على النفس والبدن.

    والأصل في شرع الله عز وجل: أن الله عز وجل حرم على المسلم أن يعتدي على أخيه المسلم، في نفسه، وفي بدنه، وماله، وعرضه؛ فلا يعتدي على حق أخيه المسلم، وقد بينت نصوص الكتاب والسنة حصول المسئولية على كل من يعتدي.

    فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى نهانا عن الاعتداء، ولكن الإنسان لا يعتدي على حق أخيه المسلم في نفس أو بدن أو مال أو عرض إلا وهناك ما يدفعه من نفس أمارة بالسوء، أو قرين سوء يحرضه، أو مجتمع يهيئ له ذلك، ويستخف بهذه الأمور العظيمة، أو يحبذ الجرم والجريمة، كما يقع في قرناء السوء-نسأل الله السلامة والعافية- والبيئات الفاسدة، فهذه الأمور هي التي تبعث على الجريمة.

    ومن هنا افترقت الشريعة الإسلامية عن النظرات البشرية الضيقة في النظريات؛ فتجد النظريات تتخبط في الظلمات، فقسم يرى أن الجريمة والجناية تكون من الإنسان نفسه، فجعل الإنسان مجرماً في الأصل، وهناك من يقول: إن الإنسان ليس فيه أبداً ما يدعو للجريمة، وإنما يرغم عليها ويدفع إليها لا شعورياً، أو يدفع إليها من خلال الاعتياد، والإغراء، ويبرأ الإنسان كلاً. وجاءت الشريعة بالعدل، والوسط، وبينت أن الله عز وجل هدى الإنسان السبيل؛ إما أن يكون شاكراً، وإما أن يكون كفوراً، وأنه إذا اعتدى أحد على أحد فإنه يتحمل المسئولية، وجعلت المسئولية على صورتين: مسئولية الدنيا، ومسئولية الآخرة؛ فحملته تبعة هذا الاعتداء، فإن كان الاعتداء على البدن أو على النفس اعتداء عمدٍ وعدوان؛ تحمل المسئولية في الدنيا؛ لأنه آثم شرعاً، ويحكم بفسقه إذا اعتدى على أخيه المسلم، وأيضاً يتحمل التبعة والمسئولية بالحكم بإثمه وفسقه شرعاً، ويتحمل المسئولية بالمؤاخذة؛ فيعاقب بعقوبته، أو إذا كانت الجناية توجب الضمان دفع الدية والأرش -أرش الجناية- على حسب التفصيل الذي سنذكره -إن شاء الله- في كتاب الديات.

    السبب في مؤاخذة المخطئ في الجنايات بالدية والكفارة

    لكن السؤال: إذا كانت الشريعة وسطاً، وقد بينت أن الإنسان مسئول، فلماذا تحمله في حال الخطأ؟ ولماذا توجب عليه تحمل المسئولية في حال الخطأ؟ فمثلاً: لو قتل خطأً؛ كأن رأى طائراً فأطلق النار عليه، فمر شخص فأصابه الرصاص، أو صاد في موضع؛ فمر طفل أو مر أحد فأصابه الرصاص فمات، فلماذا نقول: هو لم يقصد القتل، ولم يرد القتل، وما جاء من أجل أن يقتل، ولا يعرف المقتول، أو مثلاً ركب سيارته فدهس بها شخصاً. قالوا: لأنه ما من قاتل، وما من جان -ولو كان مخطئاً- إلا وهو مقصر، ولو أنه تعاطى أسباب الاحتياط، وحافظ وصان نفسه لما وقع في هذا الخطأ، ولذلك غالباً لا يقع إضرار بغيره؛ سواء في أنفس الناس أو في أبدانهم؛ إلا وهناك شيء من التقصير.

    وهذا هو الذي ركب العلماء منه مسألة الكفارة؛ فإنه يعتق رقبة، فإن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكيناً، مع أنه قتل خطأ، قالوا: لأنه لا يفعل ذلك غالباً، إلا بسبب تقصير جاء ليصيد؛ فلا بد أن يضع في حسبانه أن يمر شخص، ولو احتاط لذلك فإن احتياطه ناقص؛ بدليل وجود الخطأ.

    والمرأة التي تترك طفلها، وتتساهل في هذا الطفل، فلا تشعر إلا وقد سقط في البئر، أو سقط في خزان ماء، أو وقع على النار فأحرقته، وأزهقت نفسه، فإنها قد قصرت في حفظه، وقصرت في رعايته، أو وضعت طفلاً على سطح لا حاجز له، أو وضعته في مكان لا يؤمن سقوطه منه؛ فإن هذا كله من الأسباب الموجبة للمسئولية.

    فحملت الشريعة الجاني -متعمداً ومخطئاً- حملته تبعة القصد بالأذية والإضرار، ومن هنا جعلت الشريعة الاعتداء على النفس الواحدة كالاعتداء على الأنفس كلها قال تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، فهو بهذه الجناية كأنه جنى على الناس كلهم، فحملته الشريعة المسئولية؛ لأن هذا الاستخفاف بقصد الجريمة يهيئ له أن يقتل كل نفس.

    وأيضاً الاستهتار في حفظ الأنفس تضيع به الأنفس، فالأم التي تركت طفلها في مكان لا يؤمن أن يتعرض فيه لما يوجب هلاكه وحتفه، وكان الطفل قاصراً، غير مالك لنفسه وزمام نفسه؛ فإنها لا يؤمن منها أن تفعل ذلك بغيره، وأن يفعل غيرها مثل ما فعلت، ولكن إذا أوخذت أحجمت، وإذا علمت أنها تؤاخذ حافظت.

    ومن هنا حققت الشريعة سبيل الوقاية من الجناية والجريمة، وأغلقت باب الاستخفاف بالجرائم والجنايات، وهذا من أروع ما وجد في الشريعة الإسلامية، ولذلك من نظر إلى نصوص الكتاب والسنة وجد أنها لم تعالج باب الجنايات وأضرار الجنايات من خلال التشريعات والأحكام فحسب، وإنما وضعت جميع ما يمكن وضعه من الأسباب والموانع التي تحول بين الناس وبين الاعتداء.

    ولذلك إذا نظرت في نصوص الكتاب والسنة وجدتها جلية واضحة في زجر الناس عن الإقدام على الأذية والإضرار، وزجر الناس عن تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والإضرار بالأعضاء؛ فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسلم السوق حاملاً لرمحه إلا أن يمسك بنصله، والنصل: هو رأس الرمح؛ فإذا جاء يمشي بين الناس وهو غير ممسك برأس الرمح، فيفقأ عيناً، أو يجرح بدناً، أو يبقر بطناً، فيقول: والله ما قصدت، وما أدري، أو الزحام دفعني إلى هذا الشيء، فنقول: لا؛ إن الدخول إلى هذا الموضع على هذه الصفة إهمال، وتساهل في أرواح الناس، فإذا علم أنه مسئول، وأن الشريعة أوجبت عليه حفظ هذا السلاح عن الأذية والإضرار؛ فحينئذ قل أن يقع في هذا الخطأ، ولهذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدهم المسجد أن يمسك بنصله، فيجعل رأس الرمح في يده، فلا يلمس أحداً، ولا يضر بأحد.

    ولو أن شخصاً أراد أن يمزح مع آخر؛ فحمل السلاح عليه، وهدده بالسلاح، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حمل علينا السلاح فليس منا)، فالشريعة وضعت الحواجز والموانع أمام كل شر، وهذا ما يسمى بالعلاج الوقائي، فإن الجريمة تعالج بالوقاية من الوقوع فيها؛ لأنها مثل المرض والداء والبلاء، فتحتاج إلى علاج وقائي، وأيضاً علاج الزجر والعقوبة.

    ومن هنا الذي يبحثه الفقهاء إنما هو المسئولية في الدنيا، وهي مسئولية الإنسان أن يحفظ، ولذلك لو أن ولداً -والعياذ بالله- قتل، أو آذى، أو أضر عمداً وعدواناً وعُرف بالجريمة حتى قتل، وعلم القاضي أن والده تساهل معه؛ عاقب والده.

    فالشريعة جاءت بالعلاج الناجع، ووضع الأسباب والموانع دون الوقوع في هذه الجنايات.

    إذا ثبت هذا بحصول مسئولية الدنيا، فهناك أيضاً مسئولية الآخرة؛ وهي مسئولية العبد أمام الله سبحانه وتعالى عما أزهق من نفس وأتلف من بدن وأضر، ولذلك يسُأل أمام الله عز وجل ويحاسب، فإن تاب في الدنيا عفى الله عنه، واختار بعض العلماء أن الله عز وجل يُرضي المقتول إذا تاب القاتل، كما اختاره ابن القيم رحمه الله وغيره، إذا هو تاب توبة نصوحاً وأناب إلى الله.

    فإذاً: فقد جعلت الشريعة مسئولية الدنيا ومسئولية الآخرة، والذي يبحثه الفقهاء رحمهم الله هنا إنما هو في مسئولية الدنيا، من حيث القصاص؛ لأنه حكم قضائي.

    ثم دراسة طالب العلم لفقه الجنايات تحتاج منه أول شيء: أن يعرف مسائل الجنايات، وتصورها، والإلمام بمقصود العلماء منها، ثم بعد أن يفهم المسائل ويتصورها، يبحث عن الأدلة التي دلت على الأحكام، فإذا يسر الله عز وجل لطالب العلم، واستطاع أن يدرس كتاب الجنايات، ويفهم ما ذكره العلماء وبينوه، ثم اطلع على أدلتهم في ذلك، حينئذ يكون قد فهم مسلك الشريعة الإسلامية في باب الجنايات.

    1.   

    الكلام في الشبهات التي تثار حول الشريعة الإسلامية

    وقد نشأت في زماننا مسألة يحتاج طلاب العلم، وبخاصة المتخصصين في الفقه، أن يكونوا على إلمام بها؛ وهي مسألة الشبهات التي تثار ضد الشريعة الإسلامية؛ وهي أحقر من أن تؤثر في شرع الله عز وجل، الذي يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، والذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأحكم الحاكمين، العدل الملك الحق المبين، سبحانه وتعالى.

    وهذه الشبهات قطعاً لا يخفى أنها كثرت في الأزمنة المتأخرة، وكثر التلبيس والخلط، فيتصدى لهذه الشبهات أولو العلم، الراسخون في العلم، الذين بينوا زيغها، وكشفوا عوارها، وأنها ليست واردة على الشريعة أصلاً؛ لأن الشبهة إذا جاءت فإنها تأتي من أحد شخصين: إما عدو حاقد على الإسلام والمسلمين، وإما رجل جاهل قذف الشيطان-شيطان الإنس أو الجن أو هما معاً- في قلبه شيئاً فران على القلب وأصبح الحق ملتبساً عليه، وهذا لا يؤثر إلا على ضعاف النفوس، والرعاع-نسأل الله السلامة والعافية- الجهلة الذين لا يحسنون فهم الشريعة الإسلامية.

    أما النوع الأول: فهو أخبث النوعين وأخطرهما، وينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى بين وقال: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. فالله يقول: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): و(ما) مصدرية، أي: ودوا عنتكم، والعنت: هو الإحراج، والتضييق، فالمسلم يتألم ويتأثر حينما يجد أحداً يتطاول وهو أحقر من أن يتطاول على شرع الله عز وجل، وأحقر من أن يتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كانت هذه الشهبات أثرت، وتؤثر في ضعاف النفوس، وتحدث بلبلة في أفكار المسلمين، وجب صدها؛ لأنه لا يجوز السكوت على الباطل، ولا يجوز السكوت عن الحق، فيجب على طالب العلم أن تكون عنده ملكة، وأن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأمور. وهناك أشياء نحب أن ننبه عليها في فقه الشبهات:

    أولاً: أنه لا يجوز أن يتصدى للشبهة إلا عالم متمكن من فهم الشبهات ومداخلها؛ حتى يحسن أو يحكم إغلاق هذه الثغرات وسدها وصدها، وكذلك يستطيع بأسلوبه وبيانه أن يبين للناس أنها ليست واردة أصلاً، وأنها ليست بحقيقة، وإنما هي تلبيس وباطل يراد به أذية أهل الحق، ونحو ذلك، وهذا لا يستطاع إلا من العلماء الراسخين بتوفيق من الله عز وجل.

    الأمر الثاني: ينبغي ألا يشغل طالب العلم وقته بهذه الشبهات؛ لأن الأعداء -وهذا أمر مهم جداً- يريدون في بعض الأحيان أن يشغلوا أهل الإسلام عن الإسلام، فإذا ما وصلت الشبهة -على الأقل- شغلت طلاب العلم والمتمكنين بدراستها وفهمها، فيجلس فترة يدرس الشبهات، والرد عليها، وفهمها، وعندما ينتهي من هذه الشبهة يأتونه بشبهة جديدة، ثم ينتهي من هذه الشبهة التي بعدها وإذا به بعد فترة لا يستطيع أن يعلم الناس الفقه، ولا أن يتفرغ للتعليم ولا للتوجيه، وهذا ما يريده أعداء الإسلام.

    ومن هنا تجد أحياناً من قد يشتغل بالشبهات لا علم عنده، فيأتي الدخل إما أناس يتصدرون لا علم عندهم، أو أناس يتصدون للشبهات ويضيعون أوقاتهم، وحينئذ يحقق أعداء الإسلام ما يريدون، فإن تصدى من لا علم ولا فقه عنده كما يقولون: إن الأحمق يضر الإنسان وهو يظن أنه ينفعه- أتى بأشياء يتكلف فيها برد هذه الشبهات، فيجعل الحق باطلاً.

    لقد جاءوا بشبهة الجهاد حتى أصبح يقول: ليس في الإسلام جهاد، وإنما شرع فقط في حدود ضيقة جداً، فلا يشرع إلا لدفع العدو، والنصوص واضحة فيه.. لماذا في هذا؟ لأن الأعداء يريدون أن يتصدى من لا علم عنده، وهذا هو الذي تعاني منه الأمة؛ أنه قد تقع شبهات فيتحمس لردها من عنده إسلام وليس عنده فقه إسلامي، حتى تكثر الردود من أناس بضاعتهم مزجاة، أو ليس عندهم ذاك العلم، فتكثر الردود بوسيلة معينة، أو بطريقة معينة؛ فيسهل على الأعداء إيراد الشبهات على ما أجابوه، وحتى الشخص الذي يقرأ هذه الأجوبة لا تحصل عنده القناعة، فيزداد-والعياذ بالله- انطماساً في بصيرته، ومن هنا وجب رد الأمر إلى أهل العلم.

    إذاً: الاشتغال بالشبهات أكثر من اللازم ليس بلازم؛ بل إنه مضيعة للوقت، ومن هنا ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة وهي: أن من أخطر ما يخافه أعداء الإسلام على المسلمين اشتغال المسلمين بالإسلام؛ فلو أن المسلمين وطلبة العلم خاصة اشتغلوا بضبط العلم، وأحسنوه وأتقنوه؛ لما وجد أعداء الإسلام إليه سبيلاً.

    وهذه القضية لها أصل في الكتاب وفي السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعثه الله عز وجل جاء اليهود والنصارى أهل الكتاب بالشبهات، وأوردوا شبهات على شرع الله عز وجل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت نصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في الوقوف مع الشبهات عند حدود معينة، لم تعق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العناية بالأساس، وهو تعليم الأمة وتوجيهها؛ لأنك إذا علمت الأمة فإنها لا تقف أمام هذه الشبهة المعاصرة الوقتية فقط وإنما تقف أمام كل شبهة، لأنك أعطيتها حصانة دائمة تامة كاملة؛ من شرع تام دائم كامل. ومن هنا وجب العناية بالأصل والأساس.

    وليس معنى هذا أن الرد على الشبهات ليس له قيمة، بل إن له قيمة؛ وقد بينا أنه من شرع الله، وأنه من الحق، وأنه يجب رد الباطل، لكن المقصود هو الاشتغال به أكثر من اللازم، وسواء كان هذا في الفقه أو في الأمور الأخرى.

    ولذلك بين الله عز وجل أن الكفار وما يعبدون من دون الله حصب جهنم هم لها واردون، قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]، قال ابن الزبرى -عليه لعنة الله-: يامحمد! تقول: إنا وما عبدنا في نار جهنم؛ فنحن عبدنا اللات والعزى، واليهود عبدوا عزيراً؛ فهم وعزير في النار، والنصارى عبدوا المسيح؛ فهم والمسيح في النار. فهذه شبهة، وشبهة ليست بالسهلة، فهي في ظاهرها قوية، قال تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:57-58]، فما اشتغل بالشبهة؛ لأن الآية: إِنَّكُمْ وَمَا: قيل: إن (ما) في الأصل لمن لا يعقل، فهي لآلهتهم المعبودة، وكل من رضي أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده؛ لأن عيسى عليه السلام لا يرضى أن يعبد من دون الله، وقد بين الله عز وجل هذا في خصومة الآخرة حينما بين أنه يسأل ابن مريم عليه السلام عن هذا.

    إذاً: لم يشتغل القرآن بالشبهات أكثر من اللازم، إنما اشتغل بتكوين المسلم على منهج الله، وشرع الله. فطالب العلم والمسلم إذا علم فقه الجنايات، وضبط فقه الجنايات، وألم بالأصل والأساس؛ لم تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، ولذلك يقولون: ما يؤذي الحسود والحقود شيء مثل الإعراض عنه.

    اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

    كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

    ولذلك يقول الله تعالى : قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119].

    الشبهات المثارة حول أحكام الجنايات والقصاص

    فهؤلاء الذين يوردون الشبهات على الجنايات، وعلى من يطبق شرع الله عز وجل في القصاص، إنهم أناس يريدون شغل وقت المسلمين، وأيضاً الشبهات الأخر المراد بها: إزعاج المسلم حتى لا يتفرغ لقراءته، ولذلك كان بعض أئمة السلف رحمهم الله لما حدثت البدع والأهواء، يعرضون عن أهل البدع، وكان أيوب بن تميمة السختياني رحمه الله لما يأتي القدري ويقول له: اسمع مني كلمة واحدة-عنده شبه- فيقول: اسمع مني كلمه، فيضع إصبعه في أذنه ويقول: ولا نصف كلمة. رحمه الله برحمته الواسعة.

    أما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني

    فانظر إلى المسلمين حينما كانوا على فطرتهم، وحينما كان الشخص في باديته بعيداً عن الخوض، تجده أقوى تمسكاً بدين الله؛ لأنه لم يلتفت إلى شيء غير الحق، ولا يمكن أن يقبل شيئاً بمجرد أن يتكلم به شخص، ومعلوم أن كثرة الاحتكاك بالشبهات وكثرة سماعها قد تميت القلب، وقد تحدث عند الإنسان إلفاً للمنكر، ولذلك ما يضر الأعداء شيء مثل الاشتغال بالعلم والأساس، والفقه بالكتاب والسنة، وضبط المسائل الشرعية.

    ومع هذا نعود ونكرر: أن عدم الاشتغال بالشبهات وردها ليس المراد به قفل بابها، وإنما عدم المبالغة فيه، فيؤتى لطالب العلم ويقال له: لا بد أن تدافع، وأول شيء أن تعتني بتربية الأمة، وتأصيل المنهج العلمي الصحيح، وتحصن بالأساسيات.

    ومن هنا إذا تعلم الناس شرع الله؛ الذي هو الأساس، وبُينت لهم الحِكم والأحكام والأسرار والمقاصد والفوائد والعوائد التي يجنيها من طبق شرع الله عز وجل؛ فإنهم يتمسكون بهذا الدين، ولا يقبلون كلمة تضاده أو تخالفه، ولكنهم إذا درسوا شبهة أو شبهات، وأفنوا فيها أوقاتهم وأعمارهم؛ فلا يستطيعون أن يقفوا أمام غيرها، ولربما أورثت الشبهة في القلب ظلمة، نسأل الله السلامة والعافية.

    ومن هنا نعود ونكرر: أننا نحتاج إلى من يتخصص في رد الشبهات، ولكن لا نريد أمراً زائداً يشغل المسلم عن هذا الأساس.

    وقد أحببنا أن ننبه على هذا لأنه أمر مهم جداً، وسنعرج خلال دراستنا لكتاب الجنايات على بعض الشبهات؛ ومن هنا أحب أن أنبه على أن من منهجنا -إن شاء الله- الإلمام ببعض الأمور والثغرات التي تقع في بعض الأحكام، ونبين بعض الشبهات التي أثيرت أو تثار، وكيف يجاب عليها، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يلهمنا في ذلك الصواب والسداد، كما نسأله بعزته وقدرته وجلاله وعظمته أن يقطع دابر كل من أفسد وألحد، ونسأله بعزته وجلاله أن يخرص كل من تكلم على الإسلام وأهله، وأن يقطع دابره، وأن يشتت شمله، وأن يسلبه عافيته، وأن ينزل به رجسه وعذابه.

    صدور الشبهات على وجه الاستهزاء بالدين وأهله

    ومن أعظم ما تكون هذه المصائب إذا كانت على سبيل التهكم والاستهزاء، فليس هناك أعظم من الاستهزاء بالدين، ولذلك كان الأئمة والعلماء يقولون: لا يؤمن على المستهزئ أن تسوء خاتمته والعياذ بالله. وقل أن تجد إنساناً كثير الاستهزاء بالدين، والاستهزاء بشرع الله عز وجل وأحكامه، والاستخفاف بها؛ إلا وجدته مستدرجاً من الله عز وجل، فإن أهل الشرك وعبدة المسيح وغيرهم، يقول الله عز وجل لهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وأما الذين استهزءوا بقراء الصحابة، وتهكموا بأهل الخير والدين، فقال الله لهم : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:66]، فجعل الله الأمر فيهم أشد، والعقوبة أسوأ، وسنة الله عز وجل معلومة ماضية، فلله عز وجل سطوات على الظالمين إذا نزلت بالظالم لم يُفلت منه، وإذا حلت به نقمة الله عز وجل فعندها: (سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

    ولذلك لا يستطيع أحد أن يعرف عواقب الشر الوخيمة، وعواقب التعرض لدين الله وأولياء الله إلا إذا نظر في خواتم هؤلاء، ولا يمكن للإنسان أن يجد ذلك جلياً ظاهراً إلا إذا قرأ التاريخ، ونظر إلى عظمة هذا الرب الذي: أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:50-53]، فمن قرأ عبر الزمان، واستفاد من التاريخ، يعلم أن أهل الشبهات وأهل التوهين دابرهم مقطوع، وكما أخبر الله عز وجل أن الباطل: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26]، فهذه شهادة الله عز وجل الذي وصف نفسه بصفتين عظيمتين: العليم، والحكيم، فأخبر أن هذا الباطل وأن هذا الغثاء كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

    وكلما سمعت من الشبهات التي تدار على الإسلام، وأهل الإسلام، وبلاد المسلمين التي تضاد شرع الله عز وجل، فاعلم أنه: َكسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، ولذلك جعل الله عز وجل أمرهم كالسراب، فهم في الأمر ينظرون كأنهم يجدون شيئاً، فيستدرجون، كمن يرى السراب فيلهث وراءه، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) فوصفهم الله بأنهم ظمآنين، فالشخص الذي يرى السراب يلهث يريد الماء، (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) أي: عندما تأتي نهايته، تأتيه قاصمة الظهر من جبار السماوات والأرض، (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) فيؤخذ بجريمته وجنايته شر أخذ من عزيز منتقم سبحانه وتعالى، ولا يحسب أحد أن الدين عبث، ولا يحسب أحد أن كلمة الله سبحانه وتعالى عبث، والحق يستمد قوته من ذاته، والله عز وجل ليس محتاجاً إلى أحد أن يدافع عنه أو يقول عنه، فالله سبحانه وتعالى له عظمته وجبروته، وهو أعلم وأقدر، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فلا يحزن المؤمن. وأهم شيء ينبغي أن يعتمد عليه المسلم: ألا يحزن، ولذلك يقول الله عز وجل لنبيه: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، فلا تحزن أبداً؛ مهما سمعت فإن هذه أمور منتهية، والباطل له جذور قديمة، قطعت وبترت وأخذت أخذ عزيز مقتدر.

    لكن لا يكون هذا له أثر على القلب؛ لأنهم يريدون هذا، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، فقال: (إن) وهو أسلوب التوكيد، وجاء بكلمة الكيد التي هي غاية المكر والعبث، وجاء بالاسم الظاهر (الشيطان)؛ لأنه لا أخبث من الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يجد مسلكاً إلا دخل منه، ولأنه هو الذي أمر وسول هذا وزينه، وأتى بـ(كان) التي تفيد الدوام والاستمرار.

    فالباطل والشبهات ضد الإسلام وبلاد المسلمين وأهل الإسلام مهما ترى لها من عجعجة وصخب ولغط، فإنها منتهية، مقطوع دابرها ودابر أرض أهلها، ودابر من أعانها وسول بها وقال بها، شاء أو أبى؛ إن عاجلاً أو آجلا؛ لأنه أبداً لا يمكن أن يبقى.

    فلابد على المسلم أن يدرك أن الحق باق ما بقي الزمان، وتعاقب المنوان، وليعلم المسلم حقيقة أنه ليس هناك أصدق من التاريخ شاهداً على صدق الصادق، وكذب الكاذب، فإن هذه الشريعة حكمت العالم من المحيط إلى المحيط، ومع ذلك كانت العدالة الاجتماعية والسمو والرقي الاجتماعي في أبهى صوره، وأجمل حلله، وقادت العالم من المحيط إلى المحيط، وما كانت تقوده بالموازين المختلة، ولا كانت تقوده بالشعارات الطنانة، والكلمات المعسولة، والحقوق المكذوبة الملفقة، ما كانت تقوده إلا بالحق: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء:105]، وحيثما حل قضاء الشرع، وحكم الشرع، لقد حكم العالم والأمم والشعوب على اختلاف ألوانها وأحسابها وأعرافها وتقاليدها، وإذا قرأت التاريخ تكاد تصاب بالوله من عظمة هذا الدين وجماله.. ماذا تريد بعد هذا كله؟! متى وقفت الشريعة أمام قضية من القضايا لم تفصل فيها؟! ومتى وقفت أمام مسألة من المسائل ففصلت فيها فخرج الخصمان غير راضين عن حكم الله عز وجل؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يأتي بشيء يكمل به نقصاً يزعمه في دين الله وشرع الله عز وجل؟

    إذاً: عندنا حقائق واضحة تجعل المسلم كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57]، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما هو لكل مسلم علم الشريعة؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء.

    فالشريعة ليس فيها خلط، وليس فيها أهواء؛ بل إنها واضحة المعالم: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57]، فهذا هو الحق الذي كان عليه الرسل والأنبياء، وسيبقى ما بقي المنوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز، أو بذل ذليل، فكلمة الله ماضية، وشرع الله عز وجل ماضٍ، فلا يحزن الإنسان من هذا الكيد، ومن هذه الأراجيف، ومن هذا التوهين؛ بل عليه أن يزداد استمساكاً بالحق؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43]، وانظر إلى الأسلوب العربي؛ ففي أسلوب العرب أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فما قال الله: فأمسك الذي أوحي إليك، وإنما قال: (فَاسْتَمْسِكْ)، ومعناه: أن هناك أموراً تزلزل وتقلق وتزعج، فكلما جاءت شبهة زادت ولي الله تمسكاً بالحق، وكلما جاء ران من الباطل وزيف من الباطل انكشف به بهاء الحق ونصوعه، كما قيل: إن الذهب كلما احتك ازداد لمعاناً، وشرع الله أعز وأنفس وأطهر وأقدس من الذهب وغيره، لأنه نور من الله سبحانه وتعالى.

    أمور يجب على المسلم معرفتها عند التصدي للشبه

    إذاً: يجب على المسلم أن يعلم هذه الحقائق:

    أولاً: العناية بضبط الشريعة، والاشتغال جل الوقت بمعرفة المسائل والأحكام، وتصورها، ومعرفة أدلتها، وعندها سيقف أمام أي شبهة.

    ثانياً: إذا رفع أهل الباطل عقيرتهم، كشف زيغهم وعوارهم، ولكن بقدر، فلا يضيع الوقت؛ بل يشتغل بأبناء المسلمين؛ توجيهاً، وتعليماً، وتأصيلاً على مدرسة الحق والهدي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة من بعده، ثم من بعد ذلك يزداد رسوخاً بقراءة التاريخ، ومن هنا قالوا: من قرأ التاريخ ازداد عقلاً إلى عقله، وحكمة إلى حكمته، ومن قرأ التاريخ كانت له عقول بدل عقل واحد؛ لأنه تظهر له سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول، ولهذا لما قال الله عز وجل: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [غافر:85]، لما بين الله عز وجل أنها سننه، وبين أنها لا تتبدل: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، فأخبر أنها لا تتحول ولا تتبدل؛ لأن كل من عرفها وكل من علم بها فسيكون على الحق الذي لا يتغير ولا يتحول.

    فليعلم طالب العلم، وليعلم كل إنسان متخصص في الفقه، أنه لا يمكن أن يكون طالب علم بحق إلا إذا كان عن قناعة تامة، واستفاد من العلم بالشريعة، ومن معرفة سنن الله عز وجل في خلقه من بقاء الحق، وبطلان الباطل، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضره كيد الكائدين: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، وهو سبحانه أعلى وأجل من هذا كله، وكما قلنا أن الإنسان لا يمنع أن يكون عنده إلمام بقدر.

    ضرورة رد الشبهات وبيان زيفها وباطلها

    وأنبه على أننا لا نمنع من رد الشبهات بقدر؛ فقد يقف طالب العلم موقفاً واحداً يرد فيه شبهة؛ يرضى الله عنه رضى لا يسخط بعده أبداً، وقد يأتي إنسان يريد أن يلبس الحق بالباطل، فتقف في وجهه فتخرس لسانه، وتكتم بيانه، وتظهر عواره، وتكشف عيبه، فيكتب الله عز وجل بذلك لك من الأجر ما لم يخطر لك على بال.

    فهذا حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله شكر لك قولك: جاءت سكينة كي تغالب ربها وليُغلبن مغالب الغلاب).

    فانظر: إن الله شكر لك؛ جبار السماوات والأرض يشكر لـحسان بيتاً من الشعر قاله، فجاءه الشكر من رب العالمين. فمن قال كلمات، فكشف للأمة بها عوار أهل العوار، وزيفهم، فهو على خير.

    ومن هنا أنبه أيضاً على قضية: أن هناك أناساً فضلاء، وأناساً لهم جهود طيبة في كشف الباطل، والوقوف أمام أهل الزيغ والباطل، تذكر فتشكر، فينبغي أن نشد على أزرهم، ودائماً نشعر أننا يكمل بعضنا بعضاً، ولا ننظر إلى غيرنا بالنقص، فلن تستطيع أن تجد جمال هذا الإسلام وعظمته إلا إذا أحسست أن الذي يقف في خندقه -يذود وينافح عن الإسلام- أنه أخوك، وأنه ينفح عن الدين، وعن إسلامك؛ فتحبه، وتدعو له بالخير، وترجو له الخير، وما وجدت منه من نقص كملته، وما وجدت من عيب سترته، وحرصت على أن تكون معه، كما يكون الأخ مع أخيه، فإن هذا أمر مهم جداً، ونحن والله نحب أناساً تفرغوا للفكر والدعوة، وسطعوا بكلمات نتمنى أن نلقى الله بهذه الكلمات، وأناساً لهم ردود على الشبهات، وعلى أهل البدع والأهواء والشكوك والزيف، نتمنى أن نلقى الله بأقوالهم وأعمالهم.

    فلا يحتقر أحد مهمة أحد، إنما أردنا أن ننبه إلى أنه لا يشتغل بهذه الأشياء أكثر من اللازم، وأما من تصدى عن علم ودراية، وغار على الحق، وتفطر قلبه، وتمعر وجهه من أجل الحق، فنسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يكثر من أمثاله، وأن يثبت أهل الحق على الحق، وأن يسدد ألسنتهم، وأن يصوب آراءهم، وأن يجمع شملهم، وأن يجمع بين قلوبهم، وأن يصلح بينهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من فرط في دفع الخطر عن نفسه

    السؤال: من فرط في حفظ نفسه، كمن سافر في أرض بها أخطار، أو قصر في تعاطي أمور السلامة، فهل هو مؤاخذ شرعاً؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فإن النصوص واضحة في عدم جواز إلقاء الإنسان بنفسه في التهلكة، وتعاطي الأسباب التي تضر به، وتضر بغيره، ولذلك قال تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز المخاطرة بالأنفس والأرواح.

    ومن أمثلة ذلك: أن يركب البحر-كما ذكروا في القديم- عند هيجانه، أو تكون السفينة التي يركبها، أو المركب الذي يركبه به عوار، ولا يؤمن غرقه، ونحو ذلك في زماننا، وقد كانوا في القديم ينهون عن السفر في الأراضي المسبعة -أي: ذات السباع- والأراضي التي فيها هوام، مثل الحيات والعقارب، فإذا نام فيها، أو -مثلاً- نام في بطون الأودية بالليل، وتعاطى أسباب الإهمال؛ فهذه موجبة لمسئولية الآخرة، لكن القاضي لو اطلع على شخص فعل هذا الفعل فإنه يعزره. ومن هنا فإن الألعاب الخطيرة التي لا يؤمن معها إزهاق الأنفس محرمة شرعاً، فإذا جاء مثلاً يعبث بسيارته، أو يعبث بدراجته، أو يعبث بنفسه بألاعيب قد يدق بها عنقه، أو تنكسر بها رجله، واطلع القاضي على هذا؛ فإنه يعزره شرعاً، وهذا معروف في الفقه الإسلامي: أن التلاعب بالأنفس بتعريض نفسه أو نفس غيره لهلاك، هذا فيه التعزير، فإن مات فإنه مسئول أمام الله عز وجل، وحينئذ تنتقل الحكومة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأن هذه الأخطاء من الجنايات، والأخطاء المتعلقة بالشخص نفسه لا ينتقل فيها إلى ورثته، ولا يتحمل ورثته شيئاً، ولذلك يتحمل الإنسان فيها مسئولية نفسه، ويلقى الله عز وجل بتبعة ذلك. والله تعالى أعلم.

    متى يقول المصلي: (اللهم أعني على ذكرك...)

    السؤال: قول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، هل تكون بعد الانتهاء من الصلاة، أو عقب التشهد الأخير؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فهذه اللفظة وهذا الذكر ثابت في حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! والله إني أحبك؛ فلا تدعن كلمات تقولهن دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فقوله: (تقولهن دبر كل صلاة). فيه وجهان للعلماء:

    فبعض أهل العلم يقول: دبر الشيء منه، وبناءً على ذلك يقولها بعد انتهائه من التشهد في الأدعية التي تقال.

    وقال طائفة من أهل العلم: المراد دبر كل صلاة؛ أي: بعد أن تنتهي من الصلاة، فجعلها من مقول القول الذي يحكى، والصلاة في أصلها عمل، فجعلها تبعاً للعمل، فجعلها من الجنسين: جنس المقابلة، أي: إذا صليت وفعلت الصلاة فقل، فجمع له بين عبادة القول والعمل، فقالوا: يقولها، ويكون مقصوده بدبر كل صلاة؛ أي: أنه يجعلها عقيب السلام، بعد الاستغفار وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام).

    وعلى كل حال: فالأشبه أنها تقال بعد السلام، وإن قالها داخل الصلاة يتأول قول من قال أنها من الصلاة؛ فلا بأس، لكن الأقوى والأشبه -كما ذكرنا- أنها تقال دبر الصلاة؛ أي: بعد الانتهاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين دبر كل صلاة، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فقال: دبر كل صلاة، وهذه بالإجماع لا تقال داخل الصلاة، فدل على أنه من تنويع الطاعة، أي: بعد فراغك من عمل الصلاة. والله تعالى أعلم.

    حكم الخصم الجزائي إذا غاب الموظف

    السؤال: إذا غاب العامل عن العمل دون عذر، وقد أخبره صاحب العمل أنه إذا غاب فالجزاء خصم راتب يومين مقابل كل يوم، فهل يجوز لصاحب العمل هذا الفعل؟

    الجواب: لا يجوز إلا إذا أراد أن يأكل أموال الناس، ويظلم الناس حقوقهم -نسأل الله السلامة والعافية- يقول الله في الحديث القدسي : (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل استأجر أجيراً فلم يوفه أجره)، والوفاء: أن تعطيه أجرته تامة كاملة.

    وبناءً على ذلك فإن نصوص الكتاب والسنة واضحة في تحريم هذا الأمر؛ لأننا إذا قلنا: إن العامل قد عمل شهراً إلا يوماً واحداً، فجاء -بناءً على غيابه في اليوم- وأنقص منه أجرة ذلك اليوم مضاعفاً بيومين مثلاً، فأخذ قط يومين عقوبة، ففي هذه الحالة لم يوفه أجره؛ لأن أجره أجرة تسعة وعشرين يوماً، وهذا أعطاه أجرة ثمانية وعشرين يوماً، وإذا قال: اليوم بثلاثة أيام؛ فقد أعطاه أجرة سبعة وعشرين يوماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلم يوفه أجره)>

    فإن قال قائل: هذا من باب العقوبة بالمال. فنقول: في هذه الحال تصبح إجارة فيها شبهة الربا؛ لأنه قال: إذا عملت العمل فلك عشرة، وإذا ما عملته فسآخذ منك عشرين، وهذا أمر واضح جلي، فليس له مدخل، ثم هذا لا يملك أموال الناس حتى يعاقبه في ماله، فأموال الناس محترمة، وحقوق العامل تسعة وعشرين يوماً، أن يعطى أجرة تسعة وعشرين يوماً، وإذا ضيع من أجرته ساعة واحدة، بل دقيقة واحدة؛ فسيقف بين يدي الله ويسأله عنها، شاء أم أبى، فيسأل عن هذه الأجرة، فلابد وأن يوفيها تامة كاملة.. (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته)، فدل على أنه باطل وظلم.

    وبعضهم يقول: إن هذا جائز ولا بأس به؛ وهو من باب التعزير بالمال، فنقول: التعزير يكون في مسائل خاصة، أما التعزير بالمال ففيه شبهة، وجمهور العلماء على تحريم التعزير بالأموال؛ لأن النصوص واضحة: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ..وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ [البقرة:188]، فكلهم يحرمون العقوبة بالمال، لكن على القول بجوازها: إنما ذلك لولي الأمر، والتعزير مسلك قضائي تشريعي خاص، ولا يتوسع فيه على مستوى الأفراد.

    فعلى مستوى الأفراد هناك معاملات وحقوق بين الشركة وبين العامل.. بين المؤسسة وبين العامل.. بين الأجير والمستأجر، وهذا الأجير له حق يأخذه، وعليه حق يؤديه، لا يظلم ولا يُظلم، فإن غاب يوماً يخصم منه غياب يوم، وكان غاب يومين يخصم منه غياب يومين.

    وقد يقول: إنه متكاسل فلابد من تأديبه.. سبحان الله! انظر إلى نفسك متى صليت صلاة مع الإمام من أول تكبيرة الإحرام؟ كم تتخلف عن الصلاة؟ وكم يذهب عنك من حقوق الله عز وجل؟ ومع هذا تذهب وتدقق مع عباد الله.. والله ما شدد عبد على عباد الله إلا شدد الله عليه، ومن عامل الناس بهذه الأذية والإضرار؛ عامله الله بها في الدنيا والآخرة.

    ولذلك فإن من يدخل هذه المداخل يظلم الناس، ويجر على نفسه ويلات لا تحمد عقباها، فأوصي السائل، وأوصي من يعمل هذا العمل، وأوصي من يطلع على من يعمل هذا العمل؛ أن يحذره العقوبة من الله عز وجل، والعمال لهم حقوقهم، فإذا عملوا أيامهم فيجب إعطاؤهم أجورهم كاملة تامة بدون منة، وأما بالنسبة للعقوبة؛ فإذا أعجبك عمله وانضباطه أبقيته، وإذا لم يعجبك ولم يناسبك فابحث عن غيره، أما أن تتسلط على ماله، أو تتسلط على عرضه بالسب والشتم والتوبيخ، أو يكتب له خطاباً يؤنبه ويؤذيه ويضره، فهذا مما ليس في شرع الله عز وجل، فلا يجوز هذا العمل، لا في الأمور الخاصة، ولا في الأمور العامة. والله تعالى أعلم.

    معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب)

    السؤال: نرجو منكم بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب

    الجواب: هذا الحديث أسلوبه أسلوب تحذير، ومحقرات الذنوب: هي الذنوب الصغيرة التي يحتقرها الإنسان، فإذا فعلها واحتقرها ألفها، فلا تزال به حتى تتعاظم فتهلكه-نسأل الله السلامة والعافية- ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت). فالإنسان ينظر إلى عظمة الله جل جلاله، ويستعظم كل ذنب في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يدعوه إلى الإحسان، وإلى الندم، وإلى التوبة النصوح، وقد قالوا في الحكمة: إن الجبال من دقائق الحصى، فالجبل كما تراه هو من دقائق الحصى، وقد ترى الكوم من الرمال متناهي العظمة، ولكنه من ذرات يسيرة، فإذا أحاطت الخطيئة بالإنسان أوبقته-والعياذ بالله- وأهلكته. والله تعالى أعلم.

    حكم التدليس في عمر الزوج أو الزوجة

    السؤال: هل الزيادة في عمر الزوجة عما أُخبر به الزوج تعد عيباً من عيوب النكاح؟

    الجواب: هذا غش، فإذا كان عمرها أربعين أو خمسين أو ستين، فتأتي تقول: إن عمرها ثلاثون سنة، أو خمس وعشرون سنة، فإن هذا غش بلا شك، فإذا كانت كبيرة السن ولم تخبر بالحقيقة فقد غشك. والمرأة قد تخاف من كبر السن، ولذلك يقولون في الحكمة: إذا اختصم النساء فاعلم أنهن في السن يختصمن.

    وعلى كل حال: لا يجوز الإخبار بسن -لا من الرجل ولا من المرأة- خلاف الحقيقة؛ بل المنبغي أن يكون هناك صدق؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

    أما بالنسبة للحكم الشرعي: فهذا يرجع فيه إلى القضاء، والعيب المؤثر عند العلماء: هو الذي يؤثر في الجماع، ويؤثر في الحياة الزوجية، سواء من الرجل أو المرأة؛ لأن السؤال: هل هذا عيب يعطي الخيار للمرأة، أو الرجل هذا فيه نظر: فإذا كان سنه يؤثر على حياة المرأة، ويضر بها، ويؤثر على حقها في العشرة الزوجية؛ فنعم، ولذلك نرد هذا إلى القاضي، لكن الأصل في السن أنه لا يؤثر، فقد تجد الرجل مثلاً وعمره أربعون سنة، ويخبر أن عمره مثلاً خمساً أو ثمانياً وثلاثين، فالفارق يسير، فلا يكون نقصاً يوجب الخيار، بل قد يكون عمره خمسين سنة، فيقال: إن عمره مثلاً ثلاثون سنة، ولكن تكون فيه قوة الشباب، ويعطي المرأة حقها، ولا يضر بشيء من حقوقها، فالعقد قائم ولا يؤثر ذلك عليه، مادام أنه يقوم ويؤدي حقوق الزوجية.

    فهذا ليس عيباً يؤثر في النكاح؛ بحيث أنه يوجب الخيار، والأصل -كما تقدم معنا في النكاح- أن العيوب المؤثرة مثل: عيوب الفرج التي تمنع من الاستمتاع، أو تمنع من الجماع أصلاً كالعنين والمجبوب، فهذه كلها عيوب مؤثرة، أما بالنسبة للسن فإنه ليس بمؤثر على كل حال.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756200556