تكلمنا في الدرس السابق عن بقية أحكام الجعالة، وذكرنا من هذه الأحكام ما يتعلق بالفروق بين بابي الجعالة والإجارة، وذكرنا عدة فروق.
وكذلك أيضاً: ما هي الأعمال التي يصح أن يجاعل عليها، وذكرنا ضابط ذلك عند أهل العلم رحمهم الله، وهل الجعالة حق لازم أو أنها عقد جائز لكل من المُجاعَل والمجاعِل أن يفسخها، هذا تقدم الكلام عليه. ومن عمل لغيره عملاً فهل يستحق على ذلك عوضاً؟ ذكر المؤلف رحمه الله: أنه لا يستحق على ذلك عوضاً إلا ما استثني، وكذلك أيضاً تقدم لنا أن من عمل لغيره عملاً فإنه لا يستحق على ذلك عوضاً إلا بأمرين:
الأمر الأول: أن يكون هناك شرط لفظي، فإذا كان هناك شرط لفظي فالمسلمون على شروطهم.
والأمر الثاني: ألا يكون هناك لفظ؛ لكن يكون هناك عرف، فإذا كان هناك عرف فإن الشرط العرفي كالشرط اللفظي.
ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله: (باب اللقطة).
هذا الباب ليس من العقود، وإنما هو من باب التمليكات، ولو أن المؤلف رحمه الله تعالى أخره بعد عقود التبرعات لكان أحسن؛ لأنه ليس عقداً وإنما هو من قبيل التمليكات.
وهي في اللغة اسم لما يلتقط.
وأما في الاصطلاح فقد بينه المؤلف رحمه الله بقوله: (وهي مال أو مختص ضل عن ربه).
وكذلك أيضاً سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها )، وسُئل أيضاً عن لقطة الشاة فقال: ( خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب )، وغير ذلك من الأحاديث التي ستأتينا إن شاء الله.
والإجماع قائم على مشروعية اللقطة بالجملة، وأيضاً النظر الصحيح يقتضي ذلك؛ لأن اللقطة فيها حفظ المال، وحفظ المال من الضروريات الخمس، وكما تقدم لنا أن المصالح تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مصالح ضرورية، وهي المشتملة على حفظ الدين، والنفس، والمال، والعقل، والعرض. ومصالح حاجية ومصالح تفصيلية كما تقدم، فحفظ المال أو اللقطة يكون فيه حفظ مال المسلم، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، وكذلك أيضاً فيها حفظ المال على وجه العموم.
وقوله: (أو مختص) المختص -كما سبق لنا- هو كل ما ينتفع به، ولا يصح العقد عليه، مثل كلب الصيد، وكلب الحراسة، والماشية، هذه مختصات يُنتفع بها، والشارع أباح لك أن تنتفع بها، لكن لم يجوّز لك أن تعقد عليها، يعني أن تبيع وتشتري، وعلى هذا فإذا فقد مختصاً من هذه المختصات فنقول: يأخذ أحكام اللقطة، مثلاً: فقد كلب صيد، أو كلب حراسة، أو نحو ذلك، فهذا لقطة، كما أنه إذا فقد الدراهم والدنانير فهذه لقطة، فاللقطة شاملة للأموال وكذلك أيضاً شاملة للمختصات.
وقال بعض العلماء: اللقطة في غير الحيوان، فالحيوان يسمى ضالة، ولا يسمى لقطة، وأما غير الحيوان من الأقمشة، والأطعمة، والدراهم، والدنانير، فهذه تسمى لقطة.
بالنسبة لهذه الأموال التي ضلت عن أربابها، ما هو الذي يلتقط منها ويعرف، وما هو الذي لا يجب تعريفه، وما هو الذي لا يجوز أن يلتقط؟ نقول هذه الأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الحكم الأول: أنه يجوز التقاطه.
والحكم الثاني: أنه لا يجب تعريفه.
والحكم الثالث: أنه يمتلك لمجرد الالتقاط.
والحكم الرابع: أنك إذا كنت تعرف صاحبه فإنه يجب عليك أن ترده عليه، فنقول هذا القسم الأول: ما يباح التقاطه، ولا يجب تعريفه، ما هو ضابط ذلك؟ نقول ضابط ذلك: ما لا تتبعه همة أوساط الناس، وذكرنا أنه لا عبرة بأراذلهم، وكذلك أيضاً لا عبرة بأعاليهم وأشرافهم، فإذا كان أوساط الناس لا يهتمون له مثلاً: إذا فقد ريالاً، أو ريالين، أو خمسة ريالات، أو عشرة ريالات، أو عشرين ريالاً، فهؤلاء هم أوساط الناس، فلا يهتمون بفقد مثل هذه الأشياء، أو مثلاً فقد قلماً رصاصاً، أو قلماً من الحبر العادي، فهذه الأشياء لا يهتمون لها.
ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق، فقال: لولا أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها )، فهذا يدل على أن مثل هذه الأشياء اليسيرة لا بأس أن تلتقط، فالنبي صلى الله عليه وسلم منعه من أكلها أن تكون صدقة؛ لأن الصدقة محرمة عليه، وإلا فإنه إذا كان يعلم أنها ليست من الصدقة لأكلها، مما يدل على أن مثل هذه الأشياء اليسيرة تملك لمجرد الالتقاط، وأنه لا يجب تعريفها، وكذلك أيضاً عمر رضي الله تعالى عنه وجد تمرة في الطريق فأكلها، وكذلك أيضاً ورد ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، أما إذا كان يعرف صاحبه فإنه يجب عليه أن يرد المال إلى صاحبه، ويدل لذلك أن الأصل في مال المسلم الحرمة.
وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: ( من وجد عين ماله فهو أحق به ) فصاحب المال أحق بماله.
قال رحمه الله: (فأما الرغيف والسوط ونحوهما، فيملك بلا تعريف).
هذا القسم الأول، كما ذكرنا: ما يباح التقاطه ولا يجب تعريفه، وذكرنا أن هذا القسم يدخل تحته هذه الأحكام.
هذا القسم الثاني من أقسام اللقطة: ما يحرم أخذه، والذي يحرم أخذه نوعان:
وما المراد بصغار السباع؟ المراد بصغار السباع: مثل الذئب، ومثل ولد الأسد، وولد النمر، ونحو ذلك، ومثل الثعلب، فهذه صغار السباع، فإذا كان يمتنع من صغار السباع فهذا لا يجوز التقاطه، ويدل لذلك: حديث زيد بن خالد الجهني ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن لقطة الإبل فقال عليه الصلاة والسلام: مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر )، فالإبل هذه تمتنع من صغار السباع، وصغار السباع لا تقوى عليها، ويُلحق بالإبل ويُقاس عليها ما كان في معناها، وما يمتنع من صغار السباع إما لكبر جثته كما مثّل المؤلف رحمه الله، بقوله: كالثور، أو لطيرانه، أو لسرعته، فهذا الذي يمتنع من صغار السباع نقول: بأنه يحرم التقاطه لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما لك ولها ) في الإبل، ( معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر ) هذا النوع الأول مما يحرم التقاطه.
وأيضاً هذه في معناها وهذه الآلات، والأموال الكبيرة، التي تتحفظ بنفسها في معنى الإبل، اتركها حتى يأتي صاحبها، فهذا هو النوع الثاني من أنواع اللقطة وهو ما يحرم التقاطه.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (وما امتنع من سبع صغير) كالذئب، وكالثعلب، وولد الأسد، وولد النمر، وابن آوى.
وقوله: (كثور وجمل ونحوهما) الثور والجمل هذا يمتنع لكبر جثته، وكما ذكرنا أن بعض أهل العلم ألحق البقر والحمار، وبعض العلماء لم يلحق الحمار، قال: لأن الحمار لا يمتنع من صغار السباع، فلا يمتنع من الذئب، بل إذا سمع الذئب وقف في مكانه، على كل حال: إن قلنا بأنه يمتنع فيحرم أخذه، وإذا قلنا لا يمتنع فهذا يلحق بالشاة كما سيأتينا إن شاء الله، ومثله أيضاً البقر موضع خلاف بين أهل العلم، هل تمتنع من الذئب وولد الأسد والثعلب أو أنها لا تمتنع، هذا موضع خلاف بين أهل العلم، المهم ما ثبت أنه يمتنع يلحق بهذا القسم.
وإذا كان لا يمتنع يلحق بما يجوز التقاطه كما سيأتي.
وقوله المؤلف رحمه الله: (حرم أخذه)، دليل ذلك ما سبق أن ذكرنا من حديث زيد بن خالد الجهني ، وقوله عليه الصلاة والسلام في الإبل: ( ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، تأكل الشجر ).
القسم الثالث: ما يباح التقاطه ويجب تعريفه، وهذا القسم نوعان:
النوع الأول: ما لا يمتنع من صغار السباع، مثل: الشاة، ومثل: الحمار والبقرة على قول بعض أهل العلم، يعني لا يمتنع من الذئب، ولا يمتنع من الثعلب، ولا يمتنع من ولد الأسد، فهذا النوع الأول لك أن تلتقطه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الشاة لما سُئل عن لقطة الشاة، قال: ( خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ) فرخص النبي صلى الله عليه وسلم بالالتقاط.
النوع الثاني: الأموال التي لا تتحفظ بنفسها وتتبعها همة أوساط الناس، مثل: الدراهم، والدنانير، والذهب، هذه ما تتحفظ بنفسها، هذه تتقاذفها الرياح، ومثل الأطعمة وما يسرع عليها الفساد، فهذه التي تتبعها همة أوساط الناس، فأوساط الناس يهتمون بفقدها، لكي نخرج القسم الأول، ولا تتحفظ بنفسها، فهذه نقول بأنها تلتقط.
إذاً القسم الثالث من أقسام اللقطة: ما يباح التقاطه ويجب تعريفه، وهذا نوعان:
النوع الأول: الحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع.
والنوع الثاني: ما تتبعه همة أوساط الناس ولا يتحفظ بنفسه، فنقول بأن هذا يلتقط، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الشاة: ( خذها )، هذا النوع هو الذي يعرف، لكن هل يجب التعريف أو لا يجب التعريف؟
أما النوع الثاني: وهو بقية الأموال التي تتبعها همة أوساط الناس، ولا تتحفظ بنفسها كالدراهم، والدنانير، ونحو ذلك، فهذه يحب تعريفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بذلك فقال: ( ثم عرفها سنةً ).
أما بالنسبة للحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع، مثل: الشاة، والماعز، ونحو ذلك، وولد الفصيل، ولد الإبل، وكذلك أيضاً العجل ولد البقر، فهذه لا تمتنع من صغار السباع، فهذه يجوز أن تلتقط؛ لكن هل يجب أن تعرف أو نقول بأن التعريف ليس واجباً؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، والذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى أن هذه الغنم، والفصلان، والأعجال، هذه يجب أن تعرف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثم عرفها سنة )، ولأنها مال من الأموال، فهي داخلة في تعريف اللقطة.
والرأي الثاني: أن مثل هذه الأشياء لا يجب أن تعرف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب )، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لك أو لأخيك، أو للذئب )، فقوله: (لك) ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم تعريفه، فإما أن تأخذها أنت أو أن يأخذها الذئب، أو أن يأخذها أخوك، والذي يظهر والله وأعلم أن كلا القولين له قوة لكن الأبرأ للذمة والأحوط أنها تُعرف.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ) هذا لبيان إباحة الالتقاط وأن الالتقاط مباح، بخلاف الإبل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل عن الإبل فحرَّم التقاط الإبل، ثم بعد ذلك أباح الالتقاط، فالكلام هنا عن الالتقاط، لأن النبي سُئل عن التقاط الإبل، فقال: ( دعها )، ثم سُئل عن لقطة الشاة فقال: ( خذها ).
أما التعريف: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم عن التعريف، والأحوط في هذه المسألة أن نقول: بأن هذه الحيوانات التي لا تمتنع من صغار السباع الأحوط فيها أنها تعرف، فيجوز أن تلتقط لكن نقول: بأنها تعرف، وهذا هو الأبرأ، وما الفرق بينها وبين خمسمائة ريال يجدها أو مائتي ريال يجدها؟ نقول هذه يجب أن تعرف، وهذه لا يجب أن تعرف، ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ) المراد بذلك مقابل الإبل، لأن الإبل حرم النبي صلى الله عليه وسلم أن تلتقط.
النوع الأول: ما تتبعه همة أوساط الناس، ولا يتحفظ بنفسه من بقية الأموال.
والنوع الثاني: ما لا يمتنع من صغار السباع، من بقية الحيوانات، هذان النوعان يلتقطان ويعرفان، لكن ما هو حكم الالتقاط؟ هل نقول بأن الالتقاط جائز؟ أو نقول بأنه واجب؟ أو نقول: الأفضل للإنسان أن يترك الالتقاط؟ نقول: هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يعلم الإنسان أمانة نفسه على هذه اللقطة ويخاف عليها من الضياع، ولأن هذه دراهم إن تركها فقد يأتي أناس فساق يأخذونها دون أن يكون هناك تعريف، أو تكون هذه الدراهم بقرب البحر، أو بقرب نار، أو غير ذلك، فهذه إذا كان يعلم أمانة نفسه ويخشى عليها من الهلاك فهنا يجب عليه أن يلتقطها لما في ذلك من حفظ مال المسلم، والله عز وجل يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] ومقتضى الولاية: أن تحفظ مال أخيك المسلم.
القسم الثاني: أن يعلم خيانة نفسه: أي يعلم أنه إذا التقط هذا المال فإنه سيأكل هذا المال وسيجحده، ولن يقوم بالتعريف، ونحو ذلك، فنقول: في هذه الحالة يحرم عليه أن يلتقط، ولهذا المؤلف -رحمه الله- قال: (وإلا فهو كغاصب) يعني حكمه حكم الغاصب؛ لأن يده يد عادية ليست يد أمانة، فلو تلف المال الذي التقطه يضمن فإذا كان يعرف خيانة نفسه، وأنه سيخون في هذا المال، إما أنه سيجحد هذا المال، أو أنه لن يقوم بالتعريف الواجب فهنا نقول بأنه يحرم عليه الالتقاط، ونقول بأن يده يد عادية كيد الغاصب.
القسم الثالث: ما عدا هذين القسمين، يعنى، ما يخشى عليه من الهلاك ويأمن عليها نفسه، إن تركها فسيأتي غيره فيلتقطها، ولو أخذها هو فهو أمين عليها ولا يخشى عليها من الهلاك، فالمشهور من المذهب: أن الأفضل أن يترك الالتقاط، وعند الشافعية: يستحب أن يلتقط، وعند المالكية: يكره أن يلتقط، وعند الحنفية: يباح أن يلتقط، فما عدا هذين القسمين، وهو أن يأمن نفسه عليها، ولا يخشى عليها من الهلاك، أو تركها فيأتي غيره يلتقطها من الأمناء، فالمشهور من المذهب: أن الأفضل أن تترك الالتقاط؛ لأن السلامة لا يعدلها شيء، وعند الشافعية أنه يستحب أن يلتقط، لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى، وعند الحنفية: يباح كالاحتشاش والاحتطاب، وعند المالكية يكره أن يلتقط، لأنه يشغل نفسه، وربما أنه يفرط ونحو ذلك.
والأقرب في ذلك، والله أعلم: أنه يرجع في ذلك إلى حال الشخص، فإذا كانت هذه اللقطة لن تصده عما هو أنفع، وسيقوم بالواجب، فنقول: الأفضل أنه يلتقط، وإن كانت ستصده عما هو أنفع له من علم أو دعوة أو عبادة ونحو ذلك، فنقول: الأفضل أن يترك، هذا الذي يظهر والله أعلم.
اللقطة لا تخلو من ثلاث حالات: إما أن تكون حيواناً، وإما أن تكون طعاماً يسرع إليه الفساد، وإما أن تكون غير ذلك، كما لو كانت أقمشة، أو أموالاً، أو نحو ذلك، يعني أحوال اللقطة في مدة التعريف، الآن لا يجوز له أن يتصرف فيها في مده التعريف هذا الأصل، لكن التصرف في اللقطة في مدة التعريف هذا لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون اللقطة حيواناً، فهو مخير فيها في مدة هذه السنة يخير الملتقط إما أن يبيع الحيوان؛ لأنه يحتاج إلى نفقة، مثل الشاة مثلاً، أو مثل الفصيل، أو العجل، ونحو ذلك مما يحتاج إلى نفقة، إما أن يبيعه، ويحتفظ بالثمن وإما أن يأكله بقيمته، وإما أن ينفق عليه، فهو مخير بين هذه الأمور الثلاثة، والخيار هنا خيار مصلحة؛ لأنه يتخير لغيره، لا يتخير لنفسه، وأيضاً إذا كانت اللقطة من الطعام الذي يتسارع عليه الفساد، -ولنفرض أن اللقطة من الفواكه، ونحو ذلك- فنقول أيضاً: هو مخير بين الأمور الثلاثة؛ بين أن يأكلها بقيمتها، وبين أن يبيعها ويحتفظ بالثمن، وبين أن يحفظها إذا أمكن حفظها، إذا كان الممكن أن تحفظ فإنه يحفظها؛ لأن مدة الحول قد يصعب أن يحفظها فيه، وتحتاج إلى نفقات، فنقول: هو مخير بين هذه الأمور الثلاثة، وخياره خيار مصلحة، أما إذا كانت اللقطة ما عدا هذين، مثل: الدراهم، ومثل الأقمشة، ومثل الآلات، ونحو ذلك، فنقول هنا: يجب عليه أن يحتفظ بها ولا يجوز أن يتصرف فيها، بل لا يباح له أن يتصرف فيها إلا بعد تمام الحول، كما سيأتي إن شاء الله.
وقول المؤلف رحمه الله: (في مجامع الناس) هذا في أمر مضى، أما اليوم فالصواب في هذه المسألة: أن نقول بأنه يختلف، واليوم يكون التعريف في وسائل الإعلام المختلفة ووسائل الاتصال، وربما تظهر أشياء أخرى، والله أعلم.
وقوله: (غير المساجد) أما المسجد فإنه لا يجوز أن يعرفها فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك )، فإن المساجد لم تبن لمثل هذه الأشياء؛ لكن لو أنه لم ينشد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع رجلاً ينشد ضالةً ) وإنشاد الضالة يكون برفع الصوت، فلو أنه مثلاً فقد شيئاً، كبطاقةً، أو دراهم، وسأل الموجودين في المسجد دون أن يكون هناك نشدان الضالة مثل رفع الصوت فإن هذا جائز، ولا بأس به.
ومثل ذلك أيضاً: لو كتب ورقةً أو علقت البطاقة على باب المسجد، أو المفاتيح، أو نحو ذلك، حتى لو كان في الداخل، نقول: بأن هذا لا يضر، وهذا جائز ولا بأس به؛ لأنه ليس هناك نشدان، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نشدان الضالة، فإن لم يكن هناك نشدان للضالة كرفع الصوت فهذا الذي يظهر أنه جائز ولا بأس به.
يعني: بعد الحول يقول المؤلف رحمه الله: الملتقط يملك اللقطة حكماً، وما معنى حكماً؟
أي بدون اختيار، يعني قهراً عليه، وهذه القاعدة تكلم عليها ابن رجب رحمه الله، فيما يتعلق بالتمليكات الاختيارية والتمليكات القهرية، فهناك تمليك قهري، مثلاً اللقطة، إذا مر الحول دخلت في ملكك قهراً عنك، الملتقط لو قال: أنا لا أريدها، فنقول: بعد الحول -على كلام المؤلف- أنها حكماً تدخل في ملكك، قهراً عليه، وهذا ما ذهب إليه المؤلف.
ومثل ذلك أيضاً الميراث، إذا مات الشخص وله ورثة فإن ميراثه يكون لورثته قهراً عليه، فلو قال شخص: أنا لا أريد الميراث، نقول: دخل في ملكه، ويترتب على ذلك مسائل، مثلاً: إذا كان يحتاج إلى نفقة -النفقة تكون على من؟ على المالك- يقول: ملكتها فتنفق عليه، يجب أن تنفق عليه، فقد يحتاج إلى نفقة، وقد يحتاج إلى حفظ، المهم: أنه يترتب عليه ما يترتب على الملك، فكلام المؤلف رحمه الله: أنها تدخل في ملك الملتقط قهراً عليه بغير اختياره هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
ودليلهم على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فهي كسبيل مالك ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( ثم كلها، ثم استنفقها.. ) مما يدل على أنها دخلت في ملكه.
الرأي الثاني: أنها لا تدخل في ملكه إلا باختياره، يعني: إذا مر الحول هو بالخيار إن شاء أن يتملك، يقول: تملكتها، وإن شاء ألا يتملكها وتبقى وديعة عنده إلى أن يأتي صاحبها، وهذا مذهب الشافعية: أنها لا تدخل في ملكه حتى يختار التملك، وهذا يظهر والله أعلم: أنه الأقرب في هذه المسألة؛ لأن الإنسان لا يجبر على ملك شيء لا يريده، فنقول: إذاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثم كلها واستنفقها كسبيل مالك )، المقصود بذلك: أنه يباح لك التصرف في هذا الحق، هذا المقصود، فالصواب بعد الحول: أن المالك بالخيار إن شاء أن يتملك فله ذلك، وإن شاء ألا يتملك فله ذلك؛ لأنه بعد الحول إذا قلنا دخلت في ملكك فالنفقة تكون على الملتقط، وإذا قلنا: لا تدخل في ملكك فالنفقة تكون على المالك، وغير ذلك من المسائل.
يقول المؤلف رحمه الله: بعد تمام الحول لا يتصرف فيها، كما تقدم لنا: أن الأصل ما يتصرف في اللقطة إلا إذا كانت اللقطة حيواناً فهو مخير بين ثلاثة أمور، أو كانت طعاماً يتسارع عليه الفساد فهو مخير، وما عدا ذلك تبقى اللقطة، فنقول: بأنه لا يتصرف في اللقطة بل يحفظها مدة الحول، فإذا تم الحول قبل أن يتصرف فيها مثل ما إذا كانت دراهم أو دنانير فلابد أن يعرف صفاتها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعرف وكاءها، وعفاصها )، يعني: الوكاء: الحبل التي تربط به، والعفاص: الوعاء التي تحفظ فيه، ( ثم استنفقها ).
فنقول: لابد إن تم الحول وأراد أن يتصرف فيها لابد أن يعرف صفاتها، فإذا عرف صفاتها فلا بأس أن يتصرف فيها، وقبل ذلك لا يجوز؛ لأنه ربما يأتي صاحبها فإذا كان لا يعرف الصفات فكيف يدفعها إلى صاحبها، والعلماء رحمهم الله يقولون: يسن من حين يجد اللقطة أن يعرف الصفات وإن كان سيحفظها.
والرأي الثاني: رأي الحنفية أن الإشهاد واجب، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من وجد لقطة فليشهد ذا عدل ).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر