ولا شك أن هذا وصف المؤمنين في كل زمان، فهم يعترفون لمن سبقهم من أهل الإيمان بالفضل والخير، ولا شك أن أفضل مَن سبق وأول مَن سبق هم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، فنحبهم من كل قلوبنا، وهذا وصف أهل السنة، يقول شيخ الإسلام في عقيدته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسلُ
ولكلهم فضل وقدر ساطع لكنَّما الصديق منهم أفضلُ
نحبهم لأنهم السابقون إلى الخيرات، ونحبهم لأنهم حفظوا على الأمة دينها وشريعتها، ونحبهم لفضلهم وشرفهم، ونحبهم لقرابة أكثرهم -سيما الخلفاء الراشدون- من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)، فجعل المحبة لله مقدمةً ثم المحبة لقرابته أي: قربهم منه كعمه وبني عمه ونحوهم.
ومعلوم أننا ما أحببناهم لمجرد القرابة، فقد كان هناك من هو أقرب منهم كـ أبي لهب وأبي طالب وغيرهما ممن ماتوا على الكفر، ومع ذلك نمقتهم ونبرأ من أعمالهم، هذه هي عقيدتنا، أما من آمن به ولو كان بعيداً من نسبه، وصدَّقه واتبعه؛ فإنه محبوب إلى كل مسلم تقي من أهل السنة والجماعة.
ومحبتنا للصحابة لا تصل إلى الغلو كعادة الذين يغلون في بعض الصالحين، فالرافضة أوصلهم الحب لآل البيت إلى الغلو بحيث اعتقدوا في أئمتهم الاثني عشر نوعاً من الألوهية، وأعطوهم شيئاً من التصرف في الكون، وصاروا يطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلَّا الله، ويصفونهم بأوصاف لا يستحقها إلَّا الله.
أما أهل السنة فأحبوا الصحابة، وأحبوا قبلهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يغلوا في أحد منهم، ولم يعطوه شيئاً من حق الله، بل اعتقدوا أنهم بشر، وأنهم مخلوقون، وأن فضلهم إنما هو بالأعمال الصالحة، وأن محبتهم إنما تحمل على اتباعهم، وعلى العمل بمثل أعمالهم، وهكذا محبة كل مؤمن، فإذا أحببنا الأئمة ودعاة الخير ومشايخنا وعلماء الأمة فهذه المحبة تحمل المحب على أن يقتدي بالمحبوب، وعلى أن يحرص على أن يفعل كأفعاله، وبذلك يكون صادق المحبة، فأما أن تحمله محبته على أن يعطيه شيئاً من حق الله، فإن هذا غلو وإطراء داخل في فعل النصارى، وهو منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وصفة العبودية للنبي صلى الله عليه وسلم صفة شرف، وكذلك صفة العبودية للصحابة صفة فضل وشرف، وكذا صفة العبودية لنا صفة شرف، فأنت تفرح إذا نُسِبت إلى أنك عبدٌ لله، وكذا أنبياء الله، قال تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] لا يستنكفون أي: لا يأنفون ولا يتكبرون عن العبودية، فكذا الصحابة لا يتكبرون عن العبودية، وكذا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكبرون عن العبودية، بل يفتخرون بها، وهذا هو الواجب في اعتقادنا نحوهم.
وقد مر بنا في هذه العقيدة قول أهل السنة في الصحابة وفي الخلفاء، وأن أفضلهم: الخلفاء الأربعة، وأفضل الصحابة: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، وأنهم هم الخلفاء الراشدون، وتكلم العلماء في خلافتهم فقالوا: إن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم بعده عمر ، ثم عثمان ، ثم علي، ومن طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله كما قال ذلك شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية.
وكذلك تكلموا في فضلهم، فاتفقوا على فضل الشيخين أبي بكر وعمر ، واختلفوا في عثمان وعلي أيهما أفضل؟
فقدم قوم عثمان وربعوا بـ علي ، أي: جعلوه هو الرابع في الفضل، وقدم قوم علياً ، وقوم توقفوا، هكذا ذكر شيخ الإسلام في الواسطية، وذكر أن مسألة التقديم بين عثمان وعلي ليست من المسائل التي يُضَلَّل مَن خالف فيها، وإنما التي يُضَلَِّل فيها مسألة الخلافة، فهناك فرق بين مسألة الخلافة ومسألة الفضل، فقد اتفق أهل السنة على أنهم مرتبون في الخلافة، واتفقوا على أن ترتيبهم في الفضل أن يقدم أبو بكر ثم عمر ، واختلفوا هل علي يلي عمر في الفضل ثم عثمان بعده أو بالعكس؟
وأكثر العلماء على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وهذا هو الذي نعتقده؛ وذلك لأنهم لا يتفقون على خطأ، وقد اتفقوا على تقديم عثمان في الخلافة، فدل ذلك على أهليته وأفضليته.
تقدم الحديث الثابت في السنن وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ولـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من المزية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ولم يأمرنا بالاقتداء في الأفعال إلا بـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: (اقتدوا باللذَين من بعدي:
قد ذكرنا أن هؤلاء هم الخلفاء الراشدون، سماهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خَلَفوه، وواحدهم خليفة، والخليفة هو الذي يخلف مَن بعده بخير، وقد سمى الله آدم خليفة بقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]؛ لأنه -كما قيل- خلفٌ عمن قبله، فكل من تولى أمراً هاماً وناب عمن قبله فهو خلف عنه، فـ أبو بكر اتفقوا على تسميته خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا ينادونه بذلك، ولما تولى عمر دعوه بقولهم: يا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أن هذا شيء يطول فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فاتفقوا على تسميته أمير المؤمنين ؛ ولكنه في الحقيقة خليفة ، فهو أول من سمي بأمير المؤمنين .
هؤلاء الأربعة سماهم النبي صلى الله عليه وسلم بالراشدين، وهذا دليل على أنهم على رُشْد، والرُّشْد ضد الغَي قال تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] والرشد هو الصلاح والخير، والغي هو الغواية والضلال، فهم راشدون على رشد، نشهد لهم بذلك كما شهد لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ومن فضلهم أنه أمر باتباعهم في قوله: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين) أي: اتبعوها، إذا قيل: عليكم بكذا فالمعنى: خذوه، وسنتهم يعني: أعمالهم وطريقتهم التي ساروا عليها، هذه هي سنتهم، ونحن نعرف أنهم لم يبتدعوا سنة من قبل أنفسهم، بل يحرصون كل الحرص على أن يسيروا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن نسبت إليهم لأنهم أظهروها، فقيل: هذا سنة أبي بكر ، يعني: الذي رواه وأظهره، ولو لم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم لطول صحبتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم قد حفظوا منه ما لم يحفظ غيرهم، وقد عرفوا من شريعته ما لم يعرف غيرهم، فلا جرم كانت سنتهم هي سنته صلى الله عليه وسلم.
وسمعنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بـ أبي بكر وعمر فقال: (اقتدوا باللذَين مِن بعدي:
ونأخذ من هذا أنه صلى الله عليه وسلم نص على خلافة هؤلاء وأنهم هم الخلفاء الراشدون، أما ترتيبهم في الخلافة فالخليفة الأول هو: أبو بكر يقول الكلوذاني:
قالوا فمَن بعدَ النبي خليفةً قلت الموحد قبل كل موحد
قالوا فمَن ثاني أبي بكر رضاً قلت الخلافة في الإمام الزاهد
قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً: مَن بايع المختارُ عنه باليد
قالوا فرابعهم فقلت مجاوباً: مَن حاز دونهمُ أخوة أحمد
فهؤلاء هم الخلفاء، وهكذا ترتيبهم.
وسمعنا أيضاً أن عبد الرحمن بن عوف لما أخذ البيعة لـ عثمان قال لـ علي : إني نظرتُ في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـ عثمان أحداً.
وهذا يدل على أن الصحابة في ذلك الوقت يعرفون قدر عثمان ويفضلونه.
وقد ذكرنا فيما سبق متى حدث التشيُّع، وأنه أكثر ما حدث في العراق، ولا شك أن أكثر من يذكر فضائل علي أهل العراق، ولكثرة ما يروى عنه من أحاديث وآثار في العراق فمَن يسمعها يعتقد فضله على عثمان ، فلعل أبا حنيفة بسبب كثرة سماعه من يطري علياً ، ويزيد من قدره، ويصفه بما ليس فيه، قال: إنه أفضل من عثمان ، وإن كان القول الصحيح عن أبي حنيفة أنه يفضل عثمان كسائر أئمة السنة.
وقد ذكر ابن كثير في التاريخ في ترجمة سفيان الثوري -وهو من أهل العراق- أنه كان يميل إلى تفضيل علي على عثمان ، ولعل ذلك لم يثبت عنه، وإذا رُوِي عنه شيء من ذلك فلعله كان يكثر من ذكر فضائل علي -لكونها منتشرة- في العراق، وكان أهل العراق في زمن الثوري قد ظهر فيهم شيء من الغلو ومحبة علي ، وصاروا يبالغون في ذكر ما ينقلون عنه، ويتناقلون أحاديث قد يكون بعضها مكذوباً، ويكثرون في مجالسهم من ذكرها، فلعلها التي أثرت في أبي حنيفة وسفيان الثوري ، وإلَّا فهما إمامان من أئمة أهل السنة.
تقدم ذكر بعض فضائل الخلفاء الأربعة، ومن فضائل الستة الباقين من العشرة رضي الله عنهم أجمعين: ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أَرِق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: وسمعنا صوت السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لـ سعد بن أبي وقاص أبويه يوم أحد فقال: (ارمِ فداك أبي وأمي).
وفي صحيح مسلم عن قيس بن أبي حازم قال: (رأيت يد
وفيه أيضاً عن أبي عثمان النهدي قال: (لم يبقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم غير
وفي الصحيحين واللفظ لـ مسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي حواري، وحواريي
وفيهما أيضاً عن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي).
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة أميناً وإن أميننا -أيتها الأمة-:
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلاً أميناً. فقال: (لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس. قال: فبعث
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته يقول: (عشرة في الجنة: النبي في الجنة، و
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهدأ! فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد) رواه مسلم والترمذي وغيرهما، ورُوِي من طرق ..]
هؤلاء الستة الباقون من العشرة، وأفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة هم الستة الباقون من العشرة، وقد جمعهم ابن أبي داوُد في عقيدته في بيت واحد فقال:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير المُمَدَّح
وقد تقدم أنه من الذين جعلهم عمر من أهل الشورى، وأخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راضٍ، وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ، فهؤلاء الستة جعل عمر الأمرَ شورى فيهم، وهو من الذين بشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة في هذه الأحاديث التي عدَّ فيها عشرة بأنهم من أهل الجنة.
ومن فضله: أنه من ضمن الذين كانوا على جبل أحد لما ارتجف وتحرك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسكن! فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد) فهو من الشهداء، والشهيد ليس خاصاً بمن قتل في سبيل الله، فقد قال الله تعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، وقد قيل: إن المراد شهداء هذه الأمة، وقد ذكر الله أن كل من آمن بالله ورسوله فإنه من الشهداء في قوله تعـالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الحديد:19].
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد : هلمَّ أقاسمك مالي، وأنزل لك عن إحدى زوجتَيَّ، فقال: بارك الله لك في مالك وفي زوجتك. ثم قال: دلوني على السوق، فدُلَّ على السوق، فصار يتجر، حتى صار ذا مال، وكان من أثرياء الصحابة وأغنيائهم، قدمت عيرٌ له إلى المدينة، والناس في حاجة، فجاء إليه التجار فرغَّبوه بأن يبيعهم، وأعطوه فائدة في المائة -مثلاً- خمسةً أو ستةً؛ ولكن قال: قد أعطيت فيها في المائة ألفاً! فتصدَّق بها وقال: إن الله قد أخبر بأنه يضاعفها أضعافاً كثيرة في قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11] فتصدق بها كلها، وكان رضي الله عنه إذا أتي بالطعام الشهي بكى حتى يتركه؛ إذا تذكر حالة الصحابة الذين كانوا في جهد جهيد.
وبكل حال فهو من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة اثنين وثلاثين، في السنة التي مات فيها العباس رضي الله عنه.
والزبير من بني أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، وهو ابن عم خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهو أيضاً من المهاجرين الأولين، وله قرابة أخرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عمته صفية بنت عبد المطلب ، وقد كان من المجاهدين الذين بذلوا أنفسهم في الجهاد في سبيل الله، وكان من الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، حتى فدَّاه بقوله: (ارمِ فداك أبي وأمي).
قتل هو وطلحة في سنة ست وثلاثين في وقعة الجمل، لما خرجوا مع أهل الجمل وحصلت الوقعة التي حصلت بينهم وبين علي، فتبرأ علي ممن قتلهما. وبكل حال فهم مجتهدون وإن حصل منهم هذا الاختلاف؛ لأنهم أرادوا بخروجهم تتبع قتلة عثمان -كما تقدم-، ولا شك أن هؤلاء الستة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم، وممن شهد لهم صلى الله عليه وسلم بالفضل وبالجنة.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمين فقال: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة
مات رضي الله عنه سنة ثماني عشرة في خلافة عمر ، بطاعون عمواس، وقد كان عمر أمَّره على الغزاة بعد موت أبي بكر ، عزل خالداً وجعل أبا عبيدة هو القائد؛ لأن أبا عبيدة هو أسبق من خالد بن الوليد ، وهو أفضل منه، فقدَّمه وجعله هو الأمير القائد لتلك الجيوش، وحصلت فتوحات عظيمة بقيادة أبي عبيدة .
فهؤلاء هم الخلفاء، وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين ساعدوهم، والذين كانوا معهم، فنشهد للجميع بأنهم من أهل الخير، وبأنهم من أهل الجنة كما شهد لهم بذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فالرافضة يدَّعون أنهم ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حيث منعوا علياً حقه من الولاية، فلما منعوه أصبحوا بذلك مرتدين، هكذا تدعي الرافضة! ومتى منعوه حقه من الولاية، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ولم يأمر علياً ، وأقر أبا بكر بأن يصلي بالناس، وأبو بكر هو صاحبه في كل الحالات والأوقات؟!
فكيف اتفق الصحابة -كما تزعم الرافضة- على أن حرموا علياً من الولاية فأصبحوا بذلك مرتدين؟!
كيف يرتدون وقد زكاهم الله بقوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وسماهم السابقين الأولين، وسماهم أهل البيعة: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10]؟! وهكذا غيرهم من بقية الصحابة الذين لهم سابقة وفضل، نعترف بفضلهم، ونؤمن بسابقتهم، وننزلهم منزلتهم، ونعرف لكل منهم حقه وسبقه، ونتبرأ ممن ثلبهم وعابهم وقدح في دينهم وعبادتهم وتسلط عليهم؛ كما تفعله الرافضة الذين نصبوا عداوتهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، والله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:113] وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].
ولم يأت ذكر الأئمة الاثني عشر إلا على صفة ترد قولهم وتُبْطله وهو ما خرَّجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليَّ فسألت أبي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش. وفي لفظ: لا يزال الإسلام عزيزاً باثني عشر خليفة. وفي لفظ: لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة)، وكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية ، وابنه يزيد ، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز ، ثم أخذ الأمر في الانحلال.
وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولى عليهم الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود!
وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر].
قد ذكرنا من فضائل الصحابة سيما العشرة أنهم اجتمعت فيهم الثلاث البشائر:
البشارة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة)، وذَكَرَهم كما تقدم.
البشارة الثانية: أنهم من أهل بدر، وقد قال الله تعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم).
البشارة الثالثة: أنهم من أهل البيعة، قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة).
فهذه البشارات الثلاث كلها داخل فيها هؤلاء العشرة، بل هم أولى بها وأقدم، وغيرهم من الصحابة الذين حضروها لهم فضل ولهم سابقة، فأهل بدر الذين شهدوا وقعة بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، هؤلاء قد قال الله لهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) والرافضة تدعي أنهم ارتدوا وكفروا إلا علي ونفر قليل، والذين بايعوا تحت الشجرة هم ألف وأربعمائة وزيادة، بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وأخبر الله بأنهم بايعوا ربهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وفي هذا شرف لهم وشرف للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض المتأخرين في مدحهم ومدح النبي صلى الله عليه وسلم:
كيف السبيل إلى تقضي مدح مَن قال الإله له حسبك جاها
إن الذين يبايعونك إنما حقاً يقال يبايعون الله
فأي مدح أشرف من هذا المدح؟!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر