إسلام ويب

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [6]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله سبحانه فوق سمواته, مستو على عرشه, كما نطق بذلك الكتاب والسنة, وقد تواردت أقوال أئمة السلف في التشنيع على من أنكر استواء الله على عرشه, وجعلوه كافراً, مباح الدم والمال؛ وذلك لأنه أنكر صفة من صفات الله تعالى.

    1.   

    عقيدة أهل الحديث في علو الله واستوائه على عرشه

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله سبحانه فوق سبع سمواته, على عرشه مستو, كما نطق به كتابه في قوله عز وجل في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54], وقوله في سورة يونس: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس:3], وقوله عز وجل في سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2], وقوله في سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59], وقوله في سورة السجدة: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4], وقوله في سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5], وأخبر الله سبحانه عن فرعون اللعين أنه قال لهامان : ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37], وإنما قال ذلك؛ لأنه سمع موسى عليه السلام يذكر أن ربه في السماء, ألا ترى إلى قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:37], يعني: في قوله: (إن في السماء إلهاً), وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه ].

    والأمر في إثبات علو الله سبحانه وتعالى مستفيض, وعلو الله سبحانه وتعالى أعم من الاستواء والاستواء أخص, ويلزم من الاستواء العلو, ولا يلزم من العلو الاستواء, ولكن قد ثبت واستقر واستفاض في نصوص الوحي من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم علو الله عز وجل واستوائه على عرشه, ولهذا نثبت استواء لله عز وجل على الحقيقة, ولا ندخل في تشبيه ولا في تكييف؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يكيف إلا وقد وجد شبيهاً ومثيلاً, والله عز وجل يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    قال المؤلف رحمه الله: [ يثبتون من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به, ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على عرشه، ويمرونه على ظاهره ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7], كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم؛ أنهم يقولون ذلك ورضي منهم فأثنى عليهم به ].

    وقول المصنف رحمه الله: (ويكلون علمه إلى الله) أي: علم الكيفية إلى الله سبحانه وتعالى, فهذا لله جل وعلا, وأما الإيمان بذلك فأمره إلى الله سبحانه وتعالى, وقد بينه في كتابه فيجب الإيمان به, وإثبات آثاره كذلك أي: آثار تلك الصفة أو ذلك الاسم, فنقول: إننا نكل علمه إلى الله إخباراً يعني: إثباتاً أو نفياً, وكذلك حقيقة وكيفية, فما بينه الله عز وجل لنا من الإخبار عنه وإثبات الحقيقة نثبته, وما حجبه الله عز وجل عن عباده ونفاه -وهو أنه ليس كمثله شيء- ننفيه, والإثبات والنفي في ذلك هو من إيكال العلم إلى الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    أقوال السلف في استواء الله على عرشه وتشديدهم على من أنكره

    قال المؤلف رحمه الله: [ أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكى حدثنا محمد بن داود بن سليمان الزاهد أخبرني علي بن محمد بن عبيد أبو الحسن الحافظ حدثنا أبو يحيى بن كيسبة الوراق حدثنا محمد بن الأشرس الوراق أبو كنانة حدثنا أبو المغيرة الحنفي حدثنا قرة بن خالد عن الحسن عن أبيه عن أم سلمة في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5], قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.

    وحدثنا أبو الحسن ابن أبي إسحاق المزكى ابن المزكى حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5], كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, وما أراك إلا ضالاً, وأمر به أن يخرج من مجلسه.

    أخبرنا أبو محمد المخلدي العدل حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد الإسفراييني حدثنا أبو الحسين علي بن الحسن حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا مهدي بن جعفر بن ميمون الرملي عن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس , يعني: فسأله عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5], كيف استوى؟ قال: فما رأيته وجد من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء، وأطرق القوم, فجعلوا ينظرون الأمر به فيه، ثم سري عن مالك فقال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعه ].

    وعلى ما تقدم الكلام عليه في أن وقوف الإنسان عند النص وإثباته كما أمر الله عز وجل به هو اعتراف وإقرار بضعف الإنسان وقصوره, وعدم إدراكه ما بعد وغاب عنه, فالإنسان لا يؤمن إلا بمثله وبمثل له, وهذا المثيل سواء كان مشابهاً له أو مشابهاً لغيره هو الذي ينقدح في ذهن الإنسان.

    وقوله هنا: (الكيف غير معقول)؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يعقل ما له مثيل, ومدارك الناس تتباين في هذا, كلٌ لديه من معرفة الأشياء والأعيان ما يختلف عن غيره, فالإنسان يؤمن بشيء قد رآه فيأنس به؛ لماذا؟ لأنه قد رآه كثيراً, وما لم يره يستوحش منه, فلو قدر أنك أتيت بشخص وقطعت يده ورجله ثم وضعته في غرفة أو وضعت معه اثنين وهم مقطوعي اليدين ولم ير إلا من كان مثله, ثم بعد عشر سنوات أو عشرين سنة أي: بعد تمييزه أخرجته للناس وهو يرى الأطراف فإنه يستوحش, ويقول: ما هذه التي تخرج من الناس؟ لأنه في حياته لا يرى إلا أناساً بلا أطراف, ويظن أن الناس قد ولدوا على هذا, فلما رأى الإنسان سوياً استوحش منه, ولهذا نقول: إن الإنسان لا يؤمن إلا بما رأى, ويستوحش ويقيس على ما عليه, ولهذا في قول الإمام مالك رحمه الله يقول: الكيف غير معلوم, يعني: غير مدرك, ليس له مثيل, لا في ذهن الإنسان ولا في واقعه, لا في ما يؤلف من المتشابهات, ولا أيضاً مما كان له عين واحدة فيستطيع الإنسان أن يقيس عليه غيره.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وأخبرنيه جدي أبو حامد أحمد بسنده إلى جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله , الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5], كيف استوى؟ قال: فما رأينا مالكاً وجد من شيء كوجده من مقالته, وذكر بنحوه.

    وسئل أبو علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء, وقيل له: كيف استوى على العرش؟ فقال: إنا لا نعرف من أنباء الغيب إلا مقدار ما كشف لنا, وقد أعلمنا جل ذكره أنه استوى على عرشه, ولم يخبرنا كيف استوى.

    أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بسنده إلى عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سموات, على العرش استوى, بائناً من خلقه, ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا, وأشار إلى الأرض ].

    وعلى ما تقدم, فإن استواء الله سبحانه وتعالى يتضمن علواً, وعلو الله عز وجل المجرد لا يتضمن استواء حتى يثبت في الدليل فثبت الأمران: علو الله عز وجل واستوائه, ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجارية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال: أين الله؟ قالت: في السماء, قال: أعتقها فإنها مؤمنة ), يعني: آمنت بخالق وبعلوه سبحانه وتعالى, والعلو على معنيين: علو ذات, وهو ما يتعلق باستواء الله سبحانه وتعالى, وعلو قدر, وهذا ما يجب على المؤمن أن يثبته لله سبحانه وتعالى.

    1.   

    حكم من أنكر استواء الله على عرشه

    قال المؤلف رحمه الله: [ وسمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يذكر بسنده إلى محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه قد استوى فوق سبع سمواته فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل؛ حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئاً, لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال الني صلى الله عليه وسلم: ( لا يرث المسلم الكافر, ولا الكافر المسلم ) ].

    وذلك لأنه يكذب بظاهر القرآن الدال على استواء الله عز وجل على عرشه, وإذا لم يكن الاستواء على معنى أراده الله سبحانه وتعالى ويتضمن ذلك علواً فلم يكن ثمة حاجة إلى ذكر العرش, ولقال: استوى الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    عقيدة أهل البدع في استواء الله على عرشه والرد عليها

    وكذلك أيضاً من يحمله على أنه الاستيلاء, فيقول: إن الله عز وجل استولى, فهذا يتضمن معاني فاسدة, من هذه المعاني: أنه يلزم من قول الاستيلاء أن الأمر كان لغير الله ثم آل إليه, وهذا ينزه عنه الله سبحانه وتعالى أن يكون ثمة أحد يضاهي الخالق جل في علاه.

    كذلك أيضاً فإن مسألة الاستيلاء لا تربط بعرش, فالذي يستولي يستولي على كل شيء, ولهذا نقول: إن الإنسان يثبت الاستواء لله سبحانه وتعالى ولا يكيف, ولا يشبه الله عز وجل بغيره, ويثبت ما جاء من المعاني في كلام الله سبحانه وتعالى ويقرها كما جاءت؛ كالمعية, فالله عز وجل أثبت أنه مع عباده, وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4], مع العباد في مسيرهم وذهابهم ومجيئهم ونحو ذلك, يثبتها الإنسان ويمرها كما جاءت, ولهذا نقول: إن كثيراً ممن نفى استواء الله سبحانه وتعالى وحمله على معنى من المعاني وهي القوة والسيطرة وغير ذلك من المعاني, نقول: إن مثل هذه المعاني إنما حملهم عليها أنهم وجدوا بعض الآيات تثبت معية الله عز وجل لعباده, قالوا: إذا كان مع عباده أينما كانوا فكيف يكون الاستواء؟ لكننا نقول: إننا نثبت معية الله ونثبت الاستواء, وإذا كان هذا الاستفصال في ذهن الإنسان أنه لا تتحقق المعية إلا بنفي الاستواء فهذا سببه تشبيه وقع في ذهن الإنسان؛ أنه إذا استوى على موضع لم يكن مصاحباً لغيره, فلما وقع في ذهنه وشبه نفسه جعل الله عز وجل كذلك, فنفى أمراً وأثبت الآخر, أو نفى الأمرين, ولهذا الذين غلوا في هذا الجانب أي: في جانب إثبات المعية لله سبحانه وتعالى وعطلوا استواء الله سبحانه وتعالى وقعوا في معاني أيضاً فاسدة, فقالوا: إن الله عز وجل مع عباده في ذاته, ولزم من ذلك أنهم حينما سئلوا: هل الله عز وجل في كل مكان؟ قالوا: نعم في كل مكان, فإذا قيل: هل الله عز وجل في أجوفنا؟ قالوا: نعم الله عز وجل في أجوافنا, فإذا قيل: هل الله عز وجل في الحشوش ومواضع النجاسات تعالى الله عن ذلك؟ قالوا: الله عز وجل أيضاً في هذه المواضع, وهل الله عز وجل حال في الأصنام والأوثان؟ قالوا: حال فيها؛ لأنه معها أينما كانت, وعلى هذا لزم من قولهم أنه لا فرق بين خالق ومخلوق, فإنه إذا كان الله هنا وهناك وهو حال في كل شيء إذاً فأين الخالق؟ وأين المخلوق؟ فدخلوا في حيرة, حتى قال أحدهم:

    العبد رب والرب عبد فياليت شعري من المكلف

    يعني: من المكلف منهم؟ يعني: إذا قلنا: إن الله عز وجل فينا وفي هذا الموضع وفي هذا الموضع بذاته فمن هو المكلف؟ ومن هو المشرك أيضاً إذا كان الإنسان يسجد لصنم الله قد حل فيه؟ ولهذا دخلوا في مسألة الحلول فقالوا: الإنسان ما عبد إلا الله, فإذا سجد لصنم أو وثن ما سجد إلا لله جل وعلا, فدخلوا في مسألة الحلول والفناء وغير ذلك, حتى إن أحدهم رأى صاحباً له وقع في نهر فأسقط نفسه خلفه, قال: سقطت أنت وظننتك أنك أنا, يعني: أنت الذي سقطت فظننت أني أنا الساقط فسقطنا سوياً, فدخلوا في متاهات من الفلسفة والقول الذي لا معنى له في مسائل الحيرة في هذا الباب, وأشركوا وألحدوا مع الله عز وجل, ولهذا على هذا الاعتقاد قالوا: لا يوجد كافر في الأرض؛ لأن الإنسان ما عبد إلا الله, وطبعاً الإنسان إذا اعتقد عقيدة ثم التمس لها دليلاً فإنه يجد من المتشابهات ما تعضد قوله, ولهذا قالوا: إذا عبد الإنسان الصنم والله حال فيه فما عبد إلا الله؛ لأنه توجه إلى الله وعبده, فيلزم من ذلك نفي أحقية وصحة الجهاد والقتال وخلق النار وعقاب الناس وغير ذلك, فتأولوا كثيراً من المعاني السابقة كالنار وغير ذلك, وقالوا: هو بناء على هذا الأصل, ويتشبثون ببعض المعاني كقول الله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23], قالوا: قضى يعني: قدر, أي: القضاء والقدر, أي: قدر الله أن الإنسان لا يعبد إلا الله, فالذي يعبد الصنم والشجر ويسجد للشمس والقمر فما عبد إلا الله سبحانه وتعالى, ولو أكملوا الآية لعرفوا النقض ذلك, وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23], يلزم من ذلك أن من لطم أباه أنه محسن لأبيه, وهذا لا يقول به عاقل.

    والمعنى في قول الله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23], يعني: وصى وأمر, كما قال بذلك جماعة؛ كـعبد الله بن مسعود وكذلك عبد الله بن عباس وغيرهم.

    1.   

    عقيدة الشافعي في علو الله واستوائه على عرشه

    قال المؤلف رحمه الله: [وإمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق ].

    وهذا يدل على أن هذا المصنف رحمه الله هو من أئمة الشافعية, وقوله: إمامنا محمد بن إدريس الشافعي , يعني: جرى على اعتقاده, وهذا دليل أيضاً على أن اعتقاد الإمام الشافعي رحمه الله هو كاعتقاد الأئمة من أسلافه واعتقاد أهل الحديث, وأن مدرسة الإمام الشافعي ليست على مدرسة كلامية, مع بصره ومعرفته بكلام المتكلمين وأهل النظر في ذلك إلا أنه جانبهم وتمسك بالدليل, وحذر من الخوض في مسائل الكلام؛ لأنها تفضي إلى كثير من معاني الشر؛ من التأويل والتكييف وغير ذلك, وغلب على الشافعية من أتباع الإمام الشافعي رحمه الله القول بقول أبي الحسن الأشعري , حتى جعلوا أن هذه العقيدة هي عقيدة الإمام الشافعي وليس كذلك, والإمام الشافعي رحمه الله منها براء.

    قال المؤلف رحمه الله: [ احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة, وأن غير المؤمنة لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم , و ( أنه أراد أن يعتق الجارية السوداء لكفارة, وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها, فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لها: من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء ), يعني: أنك رسول الله الذي في السماء, فقال صلى الله عليه وسلم: ( أعتقها فإنها مؤمنة ), فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء, وعرفت ربها بصفة العلو ].

    وهذا معلوم, حتى بفطرة الإنسان, بإثبات علو الله سبحانه وتعالى, أن الإنسان إذا أراد أن يسأل الله توجه إلى السماء, ولو كان ينفي علو الله جل وعلا, وهذا معلوم حتى في البهائم, إذا تضرعت أو تضررت أو تألمت رفعت رأسها إلى السماء, وهذا معلوم بالفطرة, كذلك أيضاً معلوم ومستقر بالفطرة أن القاهر القوي في علو وفي ارتفاع, وهذا يؤمن به سائر أهل الفطرة.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وإنما احتج الشافعي رحمة الله عليه في قولهم بجواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة بهذا الخبر, لاعتقاده أن الله سبحانه فوق خلقه, وفوق سبع سمواته على عرشه, كما معتقد المسلمين من أهل السنة والجماعة, سلفهم وخلفهم, إذ كان رحمه الله لا يروي خبراً صحيحاً ثم لا يقول به ].

    وهذه قاعدة؛ أن الأئمة عليهم رحمة الله إذا رووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنهم قول في مسألة من المسائل فما في الحديث هو قول له, وهذا عن الإمام مالك , وكذلك الإمام أحمد رحمه الله, وكذلك الإمام الشافعي , وأما أبو حنيفة لقلة الأحاديث التي يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم قل نسبة ذلك إليه, ولهذا المالكية يقولون: إن ما ذكره الإمام مالك رحمه الله في الموطأ من أحاديث فهو مذهبه وإن لم ينص عليه, وكذلك الإمام أحمد رحمه الله اختلف أصحابه فيما ذكره في كتابه المسند من أحاديث ولا يعرف له قول في مسألة تضمنها الخبر؛ هل هذا الحديث هو قول الإمام أحمد أو كان عنه من الروايات, برواية أو روايتين أو ثلاثة, وكان حديث في مسنده يعضد أحد هذه الروايات قالوا: وهو عاضد ومرجح له, اختلف الأصحاب في ذلك, والأرجح أن الإمام أحمد لا يخالف ما يورده في المسند, فما يورده في المسند من أحاديث هو مذهب له إذا لم يكن ثمة قول صريح في مسألة من المسائل يخالف ذلك المعنى, كذلك أيضاً الإمام الشافعي عليه رحمة الله.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقد أخبرنا الحاكم أبو عبد الله رحمه الله بسنده إلى الشافعي رحمه الله يقول: إذا رأيتموني أقول قولاً وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب ].

    والمراد بذلك أن عقلي قد ذهب أنه طرأ على الإنسان من السهو والغفلة والنسيان, وليس المراد بذلك الجنون, ولكن أني خلفت الدليل عن سهو وغفلة, ونحو ذلك.

    قال المؤلف رحمه الله: [ قال الحاكم رحمه الله: سمعت أبا الوليد غير مرة يقول: حدثت عن الزعفراني أن الشافعي رحمه الله روى يوماً حديثاً, فقال السائل: يا أبا عبد الله! تقول به؟ قال: تراني في بيعة أو كنيسة؟ ترى علي زي الكفار؟ هو ذا تراني في مسجد المسلمين, على زي المسلمين, مستقبل قبلتهم, أروي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا أقول له؟ قال أبو عثمان : والفرق بين أهل السنة وبين أهل البدع أنهم إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً, ولم يقبلوه ... ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله وإبطال عقولهم وآرائهم فيه, ويعلمون حقاً يقيناً أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى ما قاله, إذ هو كان أعرف بالرب جل جلاله من غيره, ولم يقل فيه إلا حقاً وصدقا ًووحياً, قال الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] ].

    لأنه لا أعلم من الشيء بنفسه, ولا أعلم من الله عز وجل منه بنفسه, ولا أعلم أيضاً منه بعده من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يبلغ عنه, ومن أدلة إثبات العلو لله عز وجل: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء للقاء ربه سبحانه وتعالى ).

    1.   

    ضرورة التسليم بما جاء عن الله ورسوله من مسائل الاعتقاد

    قال المؤلف رحمه الله: [ قال الزهري إمام الأئمة وغيره من علماء الأئمة رضي الله عنه: على الله البيان, وعلى الرسول البلاغ, وعلينا التسليم ].

    والتسليم المراد بذلك: أن الإنسان إذا ظهرت له العلة أو لم تظهر عليه أن ينقاد لما جاء من معنى ولو لم يقبله عقلاً, وأن يتهم الإنسان عقله فيما خرج عنه؛ لأن الإنسان لا يدرك كل شيء, ولا يستوعب كل شيء, وربما تحير إذا أطال التأمل في دليل من الأدلة أو نحو ذلك, باعتبار أن عقل الإنسان وقلبه كذلك إنما هو وعاء يسير, فإذا أراد أن يعرف كل حقيقة استحال منه ذلك وازداد تحيراً, فإذا قلنا: إن علم الله عز وجل لا حد له ولا حصر, وعقل الإنسان لا يستوعب من العلوم إلا شيئاً يسيراً؛ كحال الكأس اليسير إذا أراد الإنسان أن يفيض فيه ماء البحر ثم صبه عليه أي: صبه على كأس يسير؛ فقام البحر بغمس وطمر ذلك الإناء فيه وطويه, فازداد عقل الإنسان وقلبه حيرة, وعليه ينبغي أن يسلم لما جاء عن الله سبحانه وتعالى من أخبار, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ, وعلى الأمة التسليم, ولهذا نقول: إن البحث عن العلل والإيغال في ذلك يعلق الإنسان بها ويجعله يتوقف عن التسليم بها إذا لم يجد من ذلك علة ظاهرة, ولكن نقول: لا يعطل الإنسان العلل, ولكن لا يؤمن فيها؛ لأن ذلك يعارض التسليم, فلو بحث الإنسان في كل علة من علل التشريع وأراد أن يوجد من ذلك شيئاً, وإذا لم يوجد فإنه يرجع الإنسان إلى شيء من الحيرة والتردد في هذا, هذا يورثه شيئاً من بعض التسليم, ولكن إن وجد علة ظاهرة تمسك بها ودعته ذلك إلى شيء من قوة الإيمان والتصديق والثبات, وإذا لم يجد علة سلَّم وآمن, والله عز وجل فصل الأحكام, فأمر بالصلوات الخمس, ولماذا جعلها بمثل هذا العدد؟ ولماذا جعل الفجر ركعتين والمغرب ثلاثاً والبقية أربعاً؟ ولماذا جعل الجهرية في مواضعها, وجعل السرية في مواضعها؟ نقول: هذه لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى, ولماذا جعل الله عز وجل الإنسان في صلاته يقبض هذا القبض؟ وكذلك أيضاً في استقباله للقبلة, وتغيير الله عز وجل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام؟ وغير ذلك من الأمور ينبغي التسليم فيما أخبر الله سبحانه وتعالى وأمر به, ولهذا نقول: إن من علامة أهل الإيمان والتصديق أنهم يسلمون بما أخبر الله عز وجل به من غير ربط ذلك بقناعة الإنسان وعقله؛ لأن هذا إقرار بضعف الإنسان وعدم إدراكه, وكثير من العلل التي يبحث عنها الإنسان ولا يؤمن إلا بفهم العلة؛ كحال الإنسان الذي معه كأس يقول: لا أؤمن بهذا البحر حتى يستوعبه الكأس, نقول: عقلك صغير, فإذا جاء البحر وفاض إليه لم يكن لديك قدرة على استيعاب ماء البحر, ولو أراد الله عز وجل أن يعلمك إياه ما كنت أهلاً لذلك؛ لضعف عقل الإنسان حتى يخلق الله عز وجل له عقلاً آخر, فيدرك حينئذ الإنسان تلك العلة ثم يبلغه الله عز وجل ذلك الأمر, ولهذا القصور هل هو في العلة أم في الإنسان؟ القصور في الإنسان, وجعل الله عز وجل الإنسان على نحو من القدرة العقلية, وكذلك أيضاً بجميع حواسه من السمع والبصر وغير ذلك, هل كل شيء يراه الإنسان؟ وهل يستطيع أن ينفي ما لا يراه؟ ثمة مخلوقات لا يراها الإنسان لكن لا يستطيع أن ينفيها, وهل كل شيء يسمعه الإنسان؟ ليس كل شيء يسمعه الإنسان, وليس له أن ينفي صوتاً للبعوض, أو صوتاً للذباب, أو صوتاً للرذاذ والهواء ونحو ذلك, نقول: لها أصوات لكن لا تدرك, وهل كل شيء يحس به الإنسان؟ لا, فربما جرى على الإنسان وعلى يده من الكائنات مما لا يدركه ولا يحس به, هذا قدرته التي جعله الله عز وجل عليه, وثمة شيء لا يدركه إلا الله سبحانه وتعالى, وإذا أراد الله عز وجل أن يدرك الإنسان ذلك؛ فإن الله عز وجل يغير خلقته حتى يدرك الأمر ذلك, والعقل هو من جملة الحواس لدى الإنسان التي يدرك بها الإنسان المعلومات, وما كان زائداً عنه لا يستطيعه الإنسان, ولهذا لما سأل موسى ربه جل وعلاه أن يراه قال: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143], قال له: قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لعباده في هذه الدنيا رؤية الخالق سبحانه وتعالى إلا ويغير الله جل وعلا خلقة الإنسان, ويجعل له من القدرة ما يستطيع معها أن يرى الله سبحانه وتعالى, لهذا الله عز وجل تجلى للجبل فجعله دكاً, فأراد أن يبين لموسى أنك لا تستطيع, وإنما تجليت لغيرك لترى أثر تجلي الله سبحانه وتعالى له, وكيف كانت حاله, وأنك من ذلك أضعف, حتى يخلقك الله عز وجل على خلق وصفة من الإدراك أخرى ثم يمكنك الله عز وجل من رؤيته سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن كثيراً من الحقائق لا يستطيع الإنسان إدراكها؛ كحال الشمس في زمن الظهيرة, إذا أراد الإنسان أن يطالعها هل يستطيع أن يديم النظر فيها؟ لا يستطيع, وكلما أدام النظر فيها رجع الضرر إليه؛ لماذا؟ لأن آلته لا تدرك هذا, كذلك الأصوات الشديدة التي تزعج الإنسان لا يستطيع, والإنسان إذا سمعها قام بوضع شئياً على أذنيه؛ لأنها بذاتها قوية بالنسبة له.

    1.   

    التصدي لأهل البدع باللسان والسنان

    قال المؤلف رحمه الله: [ قدم الجعد بن درهم على وهب بن منبه يسأله عن صفات الله تعالى فقال: ويلك يا جعد! بعض المسألة, إني لأظنك من الهالكين, يا جعد! لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك فاتق الله, ثم لم يلبث جعد أن قتل وصلب, وخطب خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالبصرة, فقال في آخر خطبته: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا بارك الله لكم في ضحاياكم, فإني مضح اليوم بـالجعد بن درهم ؛ فإنه يقول: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً, ولم يكلم موسى تكليماً, سبحانه وتعالى عما يقول الجعد علواً كبيراً, ونزل عن المنبر فذبحه بيده وأمر بصلبه ].

    وهذا لأنه قال وأنشأ هذا القول الكفري, وكما تقدم معنا أن الأقوال البدعية تنشأ عند الأعاجم إما بسوء قصد أو بحسن قصد, وقليل منها ما ينشأ عند العرب؛ وذلك لسلامة اللسان, ومنها ما ينشأ عند العرب ولكنه قليل, ودافعه في ذلك ليس سوء الفهم وإنما سوء الطوية إذا كانت لغته في ذلك صحيحة, ولهذا أغلب البدع العقائدية كمسألة القدر الذي أنشأها غيلان وغيره, وكذلك أيضاً مسألة خلق القرآن, وعلو الله سبحانه وتعالى, واستوائه على عرشه, وغير ذلك من المعاني نشأت عند من ضعفت لغته أو ساءت طويته, وانبرى لذلك في الصدر والزمن الأول جماعة من أئمة الحق, سواء كانوا من الغلاة أو كانوا من العلماء, فالعلماء بالحجة والبيان, والغلاة بالسنان وإقامة الحدود, ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73], جاء عن عبد الله بن عباس وكذلك أيضاً أبي العالية و الربيع قال: جهاد الكفار بالسنان, وجهاد المنافقين باللسان, وألا يظهر منهم بدعة إلا وأقمت الحد عليهم, جاء هذا أيضاً عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبيه وغير ذلك كما رواه ابن جرير الطبري وغيره.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767074969