الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم في هذا المجلس على ما تبقى من الآيات المتعلقة بالأحكام من سورة آل عمران، وأول هذه الآيات هي قول الله جل وعلا: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] ، هذه الآية نزلت في غزوة أحد لما استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أهل المدينة وذلك بالخروج معهم للقاء المشركين، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة على اختلاف أحوالهم، وأيضاً خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقون, وكان المنافقون في حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد على حالين:
الحالة الأولى: خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من نصف الطريق، وهذا كحال عبد الله بن أبي ومن معه، فإنهم خرجوا ابتداءً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما كانوا في طريقهم إلى أحد رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثانية: الذين لم يخرجوا أصلاً من المدينة وتعذروا بشيء من الأعذار، وأولئك أيضاً منافقون، والنفاق يظهره الله عز وجل بأحوال وبأسباب, وهذه الأسباب ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأظهر مواضع النفاق هي في سورة التوبة, ويأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في مواضعها.
وأكثر ما يظهر الله عز وجل به النفاق هو بأمرين:
الأمر الأول: الاستهزاء.
الأمر الثاني: الإكثار من الأعذار لترك الحق.
ولهذا نجد أن المنافقين حينما يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر لا يعترضون على ذات الأمر, وإنما يعتذرون بشيء من الأعذار التي تسوغ لهم عند من أمرهم أن يتخلفوا عن الامتثال، ولهذا نجد أن المنافقين يتخذون الأعذار للخروج عن الحق، لا يعارضونه صراحة كحال الكفار وإنما يعتذرون.
ولهذا لما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد أن يخرجوا معه: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لما استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]. ومعنى ذلك: أنه لو كان في غير حر كبرد لخرجنا.
وكذلك أيضاً قال الجد بن قيس لما استحثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال في غزوة تبوك قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ائذن لي ولا تفتني، أي: أني إذا لم يكن ثمة فتنة فإني خارج معك، فهذه أعذار لترك الحق لا لرده ظاهراً.
ولهذا الله سبحانه وتعالى ما بيَّن لرسوله صلى الله عليه وسلم كفراً ظاهراً، ولكن بين نفاقاً باطناً، ولهذا حكم الله عز وجل عليهم أنهم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] وقربهم من ذلك، يعني: لا يتمحض الكفر في الظاهر، والنفاق في ذلك ظاهر، لأنهم يظهرون ما لا يبطنون، فيبطنون الرد كحال المشركين، ويظهرون الأعذار نفاقاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم في الظاهر كمعاملة المسلمين.
وفي هذه الآية في قول الله سبحانه وتعالى: وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] ، هنا ذكر القتال في سبيل الله وذكر الدفع, فجعل القتال في سبيل الله وما أضاف الدفع إلى سبيل الله، في هذا معان، منها: ما يذكره بعض الفقهاء من السلف والخلف إلى أن الدفع لا يشترط له نية، وأما قتال الطلب فهو الذي يشترط له النية، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح لما سئل قيل له: ( الرجل يقاتل للمغنم, والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ).
فهذا دليل على أن القتال في الطلب يجب فيه توفر النية، ومن قاتل بغير نية كمن يقاتل حمية أو شجاعة أو ليرى مكانه فميتته جاهلية، وهو من أول من تسعر بهم النار، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.
وأما قتال الدفع وهو أن يدفع الإنسان عن عرضه وماله ودمه ودينه عند إرادة أحد منه، فإنه لا يشترط من ذلك نية، فبمجرد وجود النية في الدفع عن حقه ذلك موجب لشرعية عمله، وهذا يتحقق فيه الشهادة ولو لم ينو، ولهذا أضاف الله عز وجل إلى القتال أن يكون في سبيل الله، وما أضاف الدفع إلى سبيله، باعتبار أن مجرد الدفع هو دفع عن حرمات يتحقق فيه أمر الله سبحانه وتعالى, ويعضد ذلك ويؤيده ما جاء في حديث سعيد بن زيد عند أبي داود وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه أو نفسه فهو شهيد ) . وأصل هذا الحديث في الصحيح من غير ذكر أهله.
وفي هذا أن الإنسان إذا قصد الدفع ولو لم يستحضر النية فإن أجره على الله عز وجل وقع، ولو لم يستحضر إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وإنما استحضار إعلاء كلمة الله عز وجل يكون في جهاد الطلب لا في جهاد الدفع، ويؤيد هذا حديث قابوس بن أبي المخارق عن أبيه وهو في المسند والسنن وغيرها، وقد أشرنا إليه في عدة مواضع.
وقول الله سبحانه وتعالى: قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167]، الدفع هنا حمله المفسرون من السلف على أنه تكثير سواد المسلمين ولو لم يقاتل الإنسان ويحمل السلاح بيده، وهذا جاء تفسيره عن عبد الله بن عباس فيما رواه ابن المنذر في التفسير، وكذلك ابن جرير عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس قال: ( كثروا المسلمين بسوادكم ).
وجاء ذلك عن ابن جريج و الضحاك و السدي وعن غيرهم إلى أن المراد بهذا كثروا المسلمين إذا لم تقاتلوا معهم، وهذا يدل على أن قتال الطلب أعظم عند الله سبحانه وتعالى من جهة لحوق الأجر لصاحبه من جهة الدفع؛ لأن جهاد الدفع النية فيه مشوبة، وذلك أن الإنسان يدفع عن ماله، ويدفع عن عرضه، ويدفع عن نفسه، ثمة حظ في هذا عاجل.
وأما جهاد الطلب فهو أمحض وأخلص في باب النية، وذلك أن الإنسان قد حميت نفسه ودمه وماله وعرضه وهو يطلب إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى لما أمر المنافقين بالقتال في سبيل الله خيرهم بين أمرين: بين الكمال وبين ما دونه، والكمال في ذلك هو أن يقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفه، وبين أن يكثروا المسلمين في سوادهم, ويدفعوا دفعاً عند ورود صولة على حريم المدينة.
فدل هذا على أن جهاد الطلب أزكى وأعظم للنفوس وأعلى لصاحبه من جهاد الدفع, وإن كان جهاد الدفع في ذلك أوجب من جهة وجوبه على الأعيان بخلاف جهاد الطلب فله شروطه ومسائله، ويأتي الكلام عليه.
وتكثير السواد هنا يؤتي الله عز وجل صاحبه الأجر، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى يؤتي أجر من كثر سواد المسلمين بنفسه ولو لم يحمل سلاحاً فإن الله يؤتيه أجر المقاتل؛ ولهذا استحث رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأخر ممن خرج معه من أهل المدينة إلى أن يكثروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه بسوادهم، لأن تكثير السواد يورث قوة وشداً في العزيمة في المسلمين، ويثخن في نفوس عدوهم ويهزمهم، وأكثر هزائم الحروب معنوية أكثر من كونها حسية ومادية، وهذا ظاهر.
ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في جهادهم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ما انتصروا على المشركين بما لديهم من قوة عتاد وعدد، وإنما بقوة عزيمة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نصره الله عز وجل بالرعب مسيرة شهر كامل، وهذا من الهزائم المعنوية لا الهزائم الحسية المادية، ولهذا تكثير سواد المسلمين في الجهاد يؤتي الله عز وجل من كثر سوادهم ولو لم يشارك معهم، وهذا فيه دليل على استحباب تكثير سواد المجاهدين في سبيل الله تقوية لهم وشداً من عزائهم، وكسراً لنفوس العدو.
وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى العاجزين منهم، وقد جاء في حديث أنس بن مالك وغيره أنه قال: رأيت ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى ومعه درع يجره, فقيل له في ذلك قال: إني أكثر سواد المسلمين، وكان ذلك في القادسية.
وجاء نحو ذلك عن سهل بن سعد فيما رواه ابن جرير الطبري في المعجم، وكذلك البخاري في كتابه التاريخ من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد أنه نفر وقيل له: وفيك قتال؟ وذلك لما كبر، فقال: لأكثر سواد المسلمين.
وهذا فيه إشارة إلى أن من كثر سواد المسلمين وكان معذوراً يؤتيه الله عز وجل أجر المجاهد القادر.
وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167]، يأخذ منه بعضهم تقسيم الجهاد إلى نوعين: جهاد دفع، وجهاد طلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جعل حال الصحابة الذين كانوا معه في الصفوف الأولى، هؤلاء يطلبون المشركين ويطلبون الالتحام والمواجهة، وأن من تأخروا عنهم جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في حال دفاع عند استحلال حريمهم أو تعدي المشركين للصفوف التي وراءهم، هكذا يكون مقامهم حينئذ مقام الدفع، ولا خلاف عند العلماء أن النوعين من الجهاد قد دل عليهم الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجهاد الدفع هو فطرة حيوانية فطر الله سبحانه وتعالى جنس الحيوان عليها، سواءً خالطه عقل أو لم يخالطه عقل، فيدفع الحيوان عن نفسه، وماله، وهذا أمر معلوم مشاهد حتى عند الحيوان البهيم، ويعظم ذلك ويدق, وتفاصيله في الحيوان الذي يؤتيه الله عز وجل عقلاً وذلك من الثقلين من الإنس والجن مما جعل الله عز وجل فيه حياة.
والكمال في ذلك إنما هو في جهاد الطلب، الذي يتمايز فيه أهل الحق والباطل، والأدلة في جهاد الطلب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة مستفيضة، ولا أعلم أحداً من السلف ولا من أئمة الخلف أنكر جهاد الطلب، وإنما هو في أقوال بعض المعاصرين، حينما استعمرت كثير من بلدان المسلمين دب الوهن فيهم والتعلق بالدنيا والماديات، والنبي صلى الله عليه وسلم في أمر جهاد الطلب دل على ذلك، وكذلك ظواهر القرآن أدلة كثيرة مستفيضة.
ومن ذلك ما جاء في الصحيح من حديث معاوية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى قيام الساعة ) ، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على ثبوت جهاد الطلب، وله ضوابطه وشروطه وقيوده وأحواله، التي يتكلم عليها العلماء في مواضيعه.
وكلا الحالين قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني: جهاد الدفع، وجهاد الطلب، فتنوعت أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام مدافعاً لما بلغه قدوم كفار قريش إليه، وذلك في غزوة أحد، وفي غزوة بدر، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم طالباً عير وقوافل المشركين وهذا في أحوال عديدة، وقصد النبي عليه الصلاة والسلام في مواضعهم كما في غزوة تبوك وغيرها، وكذلك أصحابه من بعده في كثير من الغزوات في غزوهم لفارس والروم، فكان ذلك من جهاد الطلب لا من جهاد الدفع، ويخشى على من أنكر جهاد الطلب الكفر، لأنه ينكر شيئاً معلوماً مستفيضاً ثبت به النص واستفاضت به وتواترت به النقول وأجمعت عليه الأمة.
وفي قوله سبحانه وتعالى: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] ، في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع عبد الله بن أبي من الطريق حين ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى غزوة أحد عامله بظاهره أخذاً بعذره ولو علم باطنه أنه يكتم ويسر خلاف ما يظهر.
والإنسان لا يأخذ بعلمه الباطن، وإنما يأخذ بالأمر الظاهر؛ ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين كمعاملة المسلمين، وهذا من الحكمة والسياسة، تقوية للمسلمين وكبتاً لباطن المنافقين أن يخرج, وكذلك أن يتزاحموا وأن يكثر بعضهم بعضاً، ولهذا لما رجع عبد الله بن أبي إلى المدينة ومعه ثلث القوم ما واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، بل لما خرج النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في غزوات أخرى أخذ أولئك معه، والله سبحانه وتعالى هنا ما أبدى كفرهم الظاهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما أبدى نفاقهم الباطن حتى لا يؤاخذهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر، وإنما يعاملهم بالنفاق، فلا يصدرهم ولا يقدمهم في حال من تلك الأحوال في قضايا الأمة على السرايا والجيش ويستأمنهم على الأعراض والأموال، وإنما يأخذهم تكثيراً للسواد ودفعاً لشرهم ومكنون نفوسهم، حتى لا يخرجوا عن ما زاد من الشر الذي أظهروه.
وهذا في سياسة النبي عليه الصلاة والسلام في المنافقين واحتوائهم وعدم فصلهم عن صفوف المسلمين، من سياسته عليه الصلاة والسلام في تعامله في الغزو، وتعامله عليه الصلاة والسلام في المدينة في المجالسة والمخالطة والعطية وإجابة الدعوة، إنما يأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم بالظاهر، ولهذا هنا إنما ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك لنبيه ليعلم ما في باطنهم.
ولهذا ذكر الله عز وجل إشارةً إلى هذا المعنى في قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ، أي: أنهم يكتمون أمراً غير ما يظهرونه من الأعذار، فهم في غزوة أحد أظهروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يلتقي بالمشركين؛ لأنه لن يكون في ذلك قتال، فلا نريد أن نأخذ في الذهاب في قتال ربما لا يتحقق، وهم في حقيقتهم إنما يتعذرون، وأكثر الناس أعذاراً للخروج من الحق هم أكثرهم نفاقاً.
ولهذا المنافقون لا يواجهون الحق بعينه وإنما يعتذرون لتركه، وإذا كثرت الأعذار في ترك الحق فهذا أمارة على النفاق، كما في غزوات النبي عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بالخروج إلى تبوك قالوا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]، ولما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالقتال فيها قالوا: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49] خشية فتنة النساء، يعتذرون بذلك، ولما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام في الخروج إلى أحد: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، يريدون من ذلك الخروج بأعذار، وكلما كانت الحجة ظاهرة والعذر في ذلك ضعيفاً فهذا أظهر في النفاق.
الآية الثانية في قول الله سبحانه وتعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].
في هذه الآية إشارة إلى استواء الذكر والأنثى في أبواب الجزاء والإجزاء والثواب والعقاب، يستوون في الجزاء والإجزاء والثواب والعقاب في أبواب الطاعات، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل أصل الأمر يتوجه إلى الناس جميعاً، سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً.
وكذلك إلى الثقلين سواء كانوا من الإنس أو كانوا من الجن، وفي هذا أن الأوامر إذا جاءت من الله سبحانه وتعالى عامة أن الامتثال في ذلك يكون عاماً إلا بتقييد، وأن العمل إذا جاء من الثقلين وجاء من الذكر والأنثى منهم أن الثواب في ذلك واحد، وذلك لقرائن عديدة، فالأصل في التشريع والأصل في الخطاب أنه يتوجه إلى الجميع، فيجب أن يكون الجزاء والإجزاء والثواب والعقاب في ذلك على السواء.
ومنها أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى يجعل العقاب في حال المخالفة واحداً، فإذا كان العقاب في حال المخالفة واحداً فإنه يجب أن يكون الثواب في ذلك متساوياً، وهذه الآية نزلت لما قالت أم سلمة عليها رضوان الله: إن الله سبحانه وتعالى ما ذكرنا في الجهاد والهجرة، فأنزل الله سبحانه وتعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].
يعني: أن الله سبحانه وتعالى جعل العمل من جهة الأصل متساوياً، فما أوجبه الله عز وجل على الرجال وأوجبه على النساء يتقبل الله من الرجال والنساء على حد سواء، إلا أن الفرائض المخصوصة بالرجال هي للرجال، والفرائض المخصوصة بالنساء إنما هي للنساء، ولهذا جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله: ( لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: هل على النساء جهاد؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة ).
فثواب الرجل في الجهاد تساويه ثواب المرأة في الحج، وكذلك في العمل في الطاعات، ولو كانت الصورة في والموضع في ذلك مختلفاً، فصلاة الرجل في الجماعة تساويه صلاة المرأة في دارها، فإذا كانت صلاة الرجل في الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع أو خمس وعشرين درجة، فكذلك المرأة إذا صلت منفردة.
وقد تقدم معنا الإشارة في هذه المسألة في غير هذا الموضع من سورة البقرة.
وفي قول الله عز وجل: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195]، هنا فيه ضمان على قبول جميع العمل، ولكن هذا يقيد ما كان ذلك مع إخلاص ومتابعة، وإذا كان ثمة إخلاص ومتابعة فبمقدار توفر هذين يكون في ذلك القبول، وهذا مقتضى كمال عدل الله سبحانه وتعالى.
وكذلك فإن العمل إذا كان خالصاً لله وكان صواباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله الإنسان مجتهداً ناسياً أن هذا العمل باطل، كمن يصلي الصلاة بغير طهارة، ثم انقضت صلاته، فهذا على حالين:
إذا علم بذلك أو لم يعلم، فإذا لم يعلم فصلاته صحيحة مقبولة، يعني: أن الله عز وجل رفع عنه بها الإثم واستحق بها الأجر، وإن كانت في حق غيره من جهة الأصل باطلة.
وإذا علم بذلك فأدى الصلاة على غير طهارة وهو لا يعلم, ثم علم بعد ذلك أنه أداها بغير طهارة، هل يؤجر عليها أم لا يؤجر؟
نعم يؤجر عليها, ولكنها لا ترفع عنه الإثم، ويجب عليه أن يأتي بالصلاة.
وهذا يقع كثيراً في أحوال الناس، فبعض الناس يجتهد في عبادة كمن يقوم الليل ويجهد نفسه في ذلك ثم يتضح أنه ليس على طهارة، أو يؤدي صلاة يوماً كاملاً, ثم يظهر من حاله له أنه صلى بمسح على خف لم يلبسه على طهارة، أو غير ذلك من الأعمال التي يفعلها والعمل في حقيقته لو علم باطل، نقول: يثاب على ذلك، لأن الله عز وجل قال: لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195].
فإذا قبل منه الأجر نقول: لا يرتفع الإثم بعلمه، فإذا علم الإنسان بعد انقضاء تلك العبادة وجب عليه أن يؤديها، وعمله الفائت متقبل من جهة تحقق الأجر، لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع لعامل عمله وإن كان لا يجزئه ذلك، وذلك كحال الإنسان الذي يصلي صلاة الظهر ثلاثاً ويظنها أربعاً, ثم سلم من ذلك, وبقي على هذا الأمر ونسي, فإنه يؤتى أجر أربع ركعات, وثوابه في ذلك مكتوب، وإذا علم بعد ذلك وكان الفاصل طويلاً وجب عليه أن يعيدها أربعاً، وأجره في الثلاث مكتوبة له.
وهذا هنا لفضل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لعبده ما أداه من عمل، أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195].
وهنا في توفر الشرطين: الإخلاص والمتابعة إذا أتى الإنسان بعبادة متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها بغير إخلاص، فيقال حينئذ بعدم قبولها.
والشرط الأول آكد من الشرط من الثاني، وذلك أنه قد يثاب الإنسان بعمل لم يتابع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توفر الشرط الأول ولكن لا يمكن أن يثاب على عمل بأي حال، ولو تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يتوفر في ذلك الشرط الأول.
وبيان ذلك: أن الإنسان إذا أخلص لله سبحانه وتعالى بعبادة من العبادات التي جاء أصلها في الشريعة ولكنه زاد فيها إما أن يكون بدعة، أو إحداث بحسن قصد، تديناً لله سبحانه وتعالى فإنه يثاب على ذلك ويعذر بجهله، ولهذا قد ذكر بعض العلماء كـابن تيمية رحمه الله: أن بعض المتعبدين يثاب على عبادته مما يفعله بعض المتعبدين، وذلك مما يفعلونه مثلاً في يوم المولد أو نحو ذلك، وذلك عند جهلهم لا عند علمهم بالمخالفة.
ومقتضى ذلك: أنهم أخلصوا لله عز وجل بهذا العمل، وهذه العبادة من جهة أصلها دل الدليل عليها, وإنما كان الإثم باجتماعها واقترانها ببعضها وانتظامها على صورة لم يدل عليها الدليل، فهم يجتمعون في المولد ويقرءون القرآن, والقرآن قد دل عليه الدليل، ويذكرون الله, والذكر قد دل عليه الدليل، ويذكرون من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام, وهذه قد دل عليها الدليل، ولكن البدعية في انتظامها، فيؤجر الإنسان على إخلاصه إذا جاء بعبادة الأصل فيها قد دل عليها الدليل, فيؤجر على ذلك، ولكن لا يثاب على عمل ولو كان موافقاً في ظاهره لرسول الله من غير زيادة أو نقصان، إذا لم يكن في ذلك إخلاص.
ولهذا نقول: شرط الإخلاص أعظم عند الله من شرط المتابعة.
وكذلك من مقتضاه: أن الإنسان قد يثاب على الإخلاص لله سبحانه وتعالى وحب عمل الخير بقلبه ولولم يفعله بجوارحه، ولكنه لا يثاب لو عمل العمل إذا لم يكن لديه نية لله سبحانه وتعالى، ولو لم يكن لديه نية لغير الله جل وعلا فإنه لا يثاب على ذلك.
إذاً: شرط الإخلاص أعظم عند الله سبحانه وتعالى من شرط المتابعة، ولهذا كان عمل المشركين وكفرهم بعمل الباطن أكثر من عمل الظاهر, وإن كان في عمل الظاهر لديهم مكفرات ولكن كفرهم بباطنهم أكثر من كفرهم بظاهرهم، ولهذا اشترك المنافقون مع الكفار في كفر الباطن, واختلفوا في كفر الظاهر؛ لأن الباطن في ذلك أعظم والاشتراك فيه أظهر.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195]، ذكر الذكر والأنثى فيه ما تقدم الإشارة إليه أن الأصل الاستواء في أبواب الثواب في سائر أنواع الطاعات، في الصلاة، والزكاة والصيام والحج والعمرة، وذكر الله سبحانه وتعالى من جهة الأجر أنه في ذلك سواء، كما أنهم في أبواب الحدود والعقاب سواء، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، أي: إشارة إلى ما تقدم من هذا المعنى.
الآية الثالثة: في قول الله سبحانه وتعالى وهي آخر آية من سورة آل عمران، في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200].
هنا ذكر الله سبحانه وتعالى أمر الرباط وأمر به، والأمر بالرباط هو الرباط في سبيل الله، والرباط في سبيل الله على نوعين:
النوع الأول: رباط في الثغور وهي مواضع الغزو والقتال.
والنوع الثاني: رباط على حريم المسلمين في ديارهم، وذلك أن تحرس الأموال إما ممن يصدون عليها من فساق المسلمين وضعفاء النفوس، أو ممن يسهر على الأعراض وحمايتها أو غير ذلك، فهذا داخل في ذلك الخطاب، ولكن هذه الآية لما جاءت في سياق الهجرة والجهاد، وجاء في ذلك الأمر بالصبر والمصابرة؛ كان الأمر الأول أقرب وأحظى بالنص, أن المراد بقوله جل وعلا: وَرَابِطُوا [آل عمران:200] ، هو المرابطة في سبيل الله في الثغور.
وهذا قد جاء تأويله عن غير واحد من السلف، وقد جاء عن عمر بن الخطاب ، ومجاهد بن جبر وزيد وغيرهم من السلف عليهم رضوان الله تعالى.
والمرابطة إشارة إلى بقاء الإنسان في موضع لا يتحرك منه عيناً للمسلمين، وجاء في فضل الرباط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، واقترن أيضاً من جهة الفضل والأجر في الجهاد في سبيل الله، ولهذا جاء من حديث سهل بن سعد في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رباط ليلة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) .
وكذلك جاء في حديث سلمان الفارسي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإذا قتل أجرى الله سبحانه وتعالى له عمله وأمن الفتان )، يعني: فتان القبر، وإذا كان هذا في المرابط فإنه كذلك في المجاهد في سبيل الله في القتال من باب أولى، ولهذا نقول: إن من قتل في سبيل الله فإن الله سبحانه وتعالى يؤمنهم من الفتان -وهو فتان القبور- أي: لا يفزع منه، ويؤمن الله جل وعلا كذلك في جوابه.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( عينان لا تمسهم النار )، وذكر منها: ( عين باتت تحرس في سبيل الله )، وهذا داخل في ذلك على النوعين.
المعنى العام للرباط يدخل فيه انتظار العمل الصالح وترقبه والتربص له، وقد جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله عز وجل به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط ).
وهذا داخل في الفضل، إلا أن الرباط في سبيل الله يتباين من جهة فضله بحسب مواضعه، وقد يؤتي الله عز وجل المرابط في حال الإقامة المحتسبة على المسلمين ما يؤتي من كان مرابطاً على الثغور بحسب المواضع التي يرابط عليها ومصالحه المتعدية نفعها إلى المسلمين.
وكذلك بمقدار وسعه، فإن الله سبحانه وتعالى يعطي العاجز القاعد ناوي الخير مساوياً لمن كان قادراً ونافراً في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ لأنه علم صدق هذا فأعطاه أجره وعذره كما أعطى النافر قدره.
وفي قول الله سبحانه وتعالى هنا: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، إشارة إلى أن الصبر والمصابرة، والرباط يجب أن يصاحبها التقوى، فإن الإنسان قد يصبر ويصابر ويرابط حمية أو طلباً للدنيا أو الجاه، يرى مكانه وسمعته ونحو ذلك، فإن الله عز وجل يعطيه من حظه ذلك بمقدار حظه من نيته، فإذا صاحبته التقوى في قلبه؛ فإن الله عز وجل يعطيه الكمال في ذلك بمقدار ما أوجد لله سبحانه وتعالى في قلبه.
وبهذا نكون قد ختمنا سورة آل عمران فيما يتعلق بآيات الأحكام منها، ونشرع بإذن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك في سورة النساء.
أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع وأحسنه، وأن ينفعنا بما سمعنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر