إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! فإن هذا الحديث الذي نتكلم به في هذه الليلة هو حديث عن موسم جليل القدر عالي المنزلة، قد جعله الله جل وعلا ركناً من أركان الإسلام، كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) ، هو ما يتعلق بشهر رمضان، وهو الشهر المبارك الذي جعله الله سبحانه وتعالى شهر خير ورحمة وغفران، ولهذا كان هذا الشهر على التحقيق هو أفضل الأشهر على الإطلاق، وفيه من الليالي ما هي خير ليالي السنة على الإطلاق، وهذا فضل خصه الله جل وعلا في هذا الشهر المبارك ليس لغيره من سائر الأشهر.
شهر رمضان قد خصه الله جل وعلا بإنزال القرآن فيه، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وأنزل الله جل وعلا فيه القرآن في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى ومنة لهذه الأمة المباركة.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: ( هلال خير ورشد ) ، وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله جل وعلا عند رؤية الهلال بأذكار متنوعة، منها ما رواه أبو داود من حديث أبان عن قتادة : ( أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: هلال خير ورشد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: آمنت بالذي خلقك، ثلاثاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أذهب شهر كذا وأتى بشهر كذا )، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأذكار عند رؤية الهلال، منها: ( اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله ).
وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه وكذلك بمعناه وبألفاظ أخرى من حديث عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء مرسلاً من حديث قتادة كما عند أبي داود وغيره، وجاء من حديث أنس بن مالك ومن حديث عبد الله بن عمر و طلحة بن عبيد الله , وكذلك جزي و عبادة بن الصامت و عمران بن حصين و عائشة عليها رضوان الله تعالى و عمر و ابن عمر وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه عند التحقيق لا يثبت في الذكر عند رؤية الهلال خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك أبو داود كما في كتابه السنن، قال: ليس فيه حديث مسند، يعني: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك العقيلي في كتابه الضعفاء، وكذلك أبو بكر الأثرم وغيرهم من الأئمة.
وأما بخصوص شهر رمضان فإنه أيضاً على خصوصه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأنه شيئاً معيناً.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل هذا الشهر المبارك بالاستنفار للعبادة, والتهيؤ بالطاعة, وتوطين النفس على ذلك، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من صيام شعبان توطيناً للنفس وتهيئةً لها لاستقبال هذا الشهر المبارك.
وذلك أنه من نظر إلى كثير من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد أنه يجعل للأركان من مقدماتها ما هو مستحب يسبقها به، وذلك توطيناً للنفس وحمايةً لجنابها من التفريط، وكذلك أطراً للنفوس على الإتيان بها كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد أن الصلاة سبقها نوافل وتطوعات، منها ما هو من جملة النوافل المطلقة ومنها ما هو من جملة النوافل المقيدة، كذلك الصيام فإنه كان على التدريج في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان النبي عليه الصلاة والسلام في ابتداء الأمر يصوم ثلاثة أيام من كل شهر كما جاء عند الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض الله جل وعلا عليه صيام يوم عاشوراء، ثم شرع الله جل وعلا له من غير إيجاب صيام رمضان، فكان من أراد أن يصومه فليصمه، ومن لم يرد فإنه يطعم - يعني: على الخيار - ثم فرض الله جل وعلا صيام شهر رمضان، وجعل صيام يوم عاشوراء على التنفل والاستحباب ولا يجب على الإنسان ) ، واستقر الأمر على هذا، وبقي سائر الصيام تنفلاً وطاعة يتقلب الإنسان في السنة بين عبادة وأخرى.
وهذا كذلك أيضاً في مسألة الحج، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع العمرة وهي من جنس الحج، طواف وسعي يتقرب به الإنسان لله جل وعلا، واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل حجه مرات، وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً قبل حجه، قيل: حجةً, وقيل: حجتين, وقيل: ثلاثاً, وقيل: أكثر، والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حج كما جاء في الصحيح وغيره من حديث السائب عليه رضوان الله تعالى، وجاء أيضاً من حديث جبير بن مطعم عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج قبل هجرته إلى المدينة ).
والمراد من ذلك: أن أركان الإسلام لها عناية في الشريعة، فتوطن النفوس لها بالتهيئة لها بجملة من الأعمال السابقة، حتى يأتي الإنسان على هذا الركن وقد حماه من جهة المتابعة الدقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يتبدع بشيء من الأقوال والأفعال ويتقبل حينئذ عمله على وجه التمام، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الله جل وعلا قد جعل جملةً من شرائع الصيام قبل رمضان، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من صيام شعبان توطيناً للنفس وتهيئةً لصيام رمضان.
كذلك أيضاً فيما يتعلق بمسألة الصلوات الخمس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن والمسند قال: ( مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ) ، وهذا منه عليه الصلاة والسلام لكي يتوطن الإنسان على ذلك، وذلك أن الصلاة إذا جاءت بعد بلوغ الرجل أشده صعب عليه أن يأتي بها لأن ذلك ثقيل، ولا يوفق على ذلك إلا الخلص والندرة، ولهذا جاء جملة من أهل الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترطوا جملةً من الشروط للدخول في الإسلام، منها: التقلل في الصلاة لصعوبة ذلك على النفس المتعلقة بالدنيا ومتعها.
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس بالخير، وكان أشد ما يكون في رمضان حينما يأتيه جبريل كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، إن حقيقة العالم بالله جل وعلا المتقي له الذي يبلغ عند الله جل وعلا مراتب علية، الذي يعرف مراتب الخير، فيأتي الأفضل عند الله جل وعلا أجراً، ولو كان بعمل أو جهدٍ يسير، ويتقي الشرور بحسب مراتبها من جهة الدركات فيتقي الأعظم عند تزاحم الشرور، ولهذا يقال: ليس العالم هو الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العالم هو الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، فإنه يميز بين مراتب الخير فيتقي أدنى الشرور, ويأتي أعلى مراتب الخير، فيوفق حينئذ لله جل وعلا بعمل يسير؛ ولكن ثوابه عند الله جل وعلا عظيماً.
ومما ينبغي أن يعلم قبل الولوج بجملة من أحكام الصيام، وكذلك ما يندب للمرء فيه: أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المشرع وهو الهادي ولا قدوة غيره عليه الصلاة والسلام، لهذا ينبغي للإنسان أن يكون سالكاً لنهجه عليه الصلاة والسلام متبعاً لسبيله مقتدياً أثره عليه الصلاة والسلام، بمعرفة الدليل من كلامه وكلام ربه سبحانه وتعالى على أحكام الصيام من جهة الأصول العامة الظاهرة، وكذلك ما اقترن بالصيام من جملة أنواع الطاعات، مما خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر المبارك من جملة من العبادات التي هي مستقلة من جهة الأصل، لكن قرنها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشهر المبارك كمسألة الاعتكاف ومسألة العمرة ومسألة قيام الليل جماعة، وغير ذلك من الأحكام التي ينبغي للمرء أن يكون على بصيرة وبينة منها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتبصر بالدليل من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل رمضان بعناية بالغة، والإكثار من التعبد بأنواعه، وكان ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اختيار جملة من أنواع التعبدات التي هي من جهة الأصل منزلتها معلومة، ويعلم منزلة الفرائض والشرائع بمنزلة المفروض منها، ولهذا ينبغي أن يعلم أن أعمال الخير تعلم مراتبها من جهة تأكيد الشارع على جنسها من جهة الوجوب أو الاستحباب، ولهذا الصلاة علم منزلتها من جهة أن الله جل وعلا قد جعل جنسها ركناً من أركان الإسلام، وجعله هو الركن الثاني بعد الشهادتين، فعلم أن النوافل المطلقة هي أعظم عند الله جل وعلا وأحب من النوافل المطلقة للصيام، كذلك يأتي بعد ذلك مرتبةً على حسب التدريج بقية أركان الإسلام من زكاة وصيام وحج على حسب منزلتها من جهة الفرض، وما لم يكن له فرض من جنسه فإنه دون ذلك مرتبةً، وعلى هذا يقاس.
وما كان مفروضاً لا على سبيل الاستقلال ولكن قد فرض داخل عبادة، فإنه لا يكون في تلك المنزلة بحسب منزلة الذي قد دخل فيه، كجملة الأذكار الواجبة في الصلوات، ولكنها لا تجب على سبيل الاستقلال، فهي حينئذ تكون إن استقلت دون ذلك مرتبةً، ولها من جهة اشتراكها بواجب من الواجبات مزية قد اختصت عن غيرها مما لم يوجبه الله جل وعلا على ضرب من ضروب الوجوب، سواءً كان ذلك على سبيل الاستقلال أو كان على سبيل التبع، كبعض التشريعات التي توجب في الصلاة والصيام، وكذلك الحج والعمرة وغير ذلك على من قال بوجوب العمرة من العلماء، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة كـعبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و جابر بن عبد الله وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أحكام الصيام والكلام عليها يحتاج إلى روية، وكذلك يحتاج ذكراً للأدلة بالثابت من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثمة جملة من المسائل والأحكام التي يحتاج إليها كثير من الناس فيما يتعلق بنوازل الصيام وأحكامه التي يتلبس بها العامة والخاصة، لما يفتقرون مع ذلك إلى معرفة الدليل ومعرفة صحته، وكذلك القائلين به من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم الأئمة الأربعة، وكذلك أئمة الإسلام.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الأصل يحيط الفرائض بجملة من الاحترازات ما لا يحيط النوافل، ومن ذلك: أن الله جل وعلا قد جعل لكل صلاة يدخل فيها الإنسان شيئاً من الأذكار يجب على الإنسان أن يحرم ما كان جائزاً عليه بها وهو التكبير، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن أنه قال: ( تحريمها التكبير ) ، يعني: الصلاة ( وتحليلها التسليم ) ، فجعل ثمة شيئاً من التعبدات وكذلك شيئاً من الألفاظ يحيط هذه العبادة، وكذلك يصونها من الدخيل فيها مما جاز للإنسان أن يفعله قبل ذلك، سواءً من التعبدات التي يحرم على الإنسان أن يأتي بها، أو أن يشرك الصلاة بها إلا بدليل ونص، كذلك يحل للإنسان بعد ذلك بتسليمه.
ولهذا كان الأصل في العبادات أنها لا تدخل إلا بدليل وعلامة شرعية، ولهذا كان أصل الحماية موجوداً كذلك في ركن الصيام، فجعل الله جل وعلا الصيام لا يثبت إلا برؤية الهلال، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له ) ، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً من حديث أبي هريرة من طرق متعددة عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإذا غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ).
هذا الخبر قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية جملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثله وأصحه ما جاء من حديث عبد الله بن عمر و أبي هريرة ، وقد جاء فيه جملة من الألفاظ التفسيرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبةً، ولكن من جهة الأصل هي من جملة الإدراج، منها:
ما جاء من ذكر شعبان في ذلك: ( فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ) ، وهذا هو من المدرجات، قيل: إنه من آدم كما نص على ذلك البيهقي عليه رحمة الله في كتابه السنن، وأشار إلى هذا البخاري عليه رحمة الله في كتابه الصحيح، وعدة شعبان تكمل ثلاثين في حال عدم رؤية الهلال.
ولهذا من جملة الاحترازات للصيام: أن حرم الله جل وعلا أن يصام يوم الشك، حتى لا تختلط العبادة الشرعية الواجبة بعبادة شرعية نافلة، لأن ثمة بوناً شاسعاً بين عبادة النافلة وعبادة الفريضة يفتقر كل واحد منها إلى نية، والشريعة تخفف في النوافل ما لا تخفف في الفرائض، لهذا يحرم على الناس أن يصوموا يوم الشك، ولهذا جاء في الصحيح: ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم ) ، والمراد من هذا أن المراد بتحريم صيام يوم الشك؛ حتى لا يتساهل الناس بصيام نافلة فيدرجوها في العبادة، أو أن يتردد الإنسان بشيء مؤكد في الشريعة وهو النية، فيتردد بين إيجاب ونفل فقال: إن كان غداً من رمضان فأصومه، وإن لم يكن من رمضان فإني لا أصومه.
كذلك حرم الله جل وعلا في آخر رمضان صيام يوم العيد حصراً للعبادة ألا يدخلها شيء فيها، ولهذا لو صام الإنسان ثاني العيد جاز له ذلك، أما العيد الأول فإنه يحرم عليه إظهاراً لنعمة الله ومنته، وصيانةً كذلك للفريضة من أن يدخل فيها ولو من التعبدات ما ليس منها ولو كان من جنسها، لهذا حرم الله جل وعلا في ابتداء الصيام صيام يوم الشك، وحرم في ختام الصيام صيام يوم العيد، وجعل العبادة محصورةً في ذلك صوناً وحمايةً لها.
جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة الأصلية في دخول الشهر هي رؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، وذلك أن الشهور القمرية لا يمكن أن تزيد عن ذلك، فالشهور إما تسع وعشرون أو ثلاثون كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، وهو معلوم أيضاً من جهة النظر، وهذا من جهة الأصل متقرر ومحل تسليم واتفاق عند أهل العقل والنقل، بخلاف الأشهر الشمسية فإنها تزيد إلى الحادي والثلاثين وربما شيئاً من الساعات، ولكنها لا تزيد عن ذلك باتفاق أهل الحساب، وكذلك أهل النقل...
وما ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا جعل الهلال شريعةً يعرف بها دخول الشهر وانصرامه، وهذا أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة ) ، والمراد من هذا في قوله عليه الصلاة والسلام: ( نحن أمة أمية، لا نقرأ ولا نحسب، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) ، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا ) ، يعني: في حد أدنى، ويزيد ويصل إلى الثلاثين، يعني: ( فاقدروا له ) ، قيل: بمعنى: ضيقوا عليه كما جاء في كلام بعض السلف كـعبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى وغيره.
ولهذا بعض السلف أجاز صيام يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، وهذا قد ثبت عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثبت هذا عن عمر بن الخطاب و معاوية و عبد الله بن عمر و أنس بن مالك و أبي موسى الأشعري و عائشة و أسماء وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم الغيم.
ولهذا يفرق بعض العلماء -وهو قول الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في المشهور عنه- بين يوم الغيم وبين إذا كانت السماء صحواً ولم ير الناس الهلال، فإن هذا هو يوم الشك، ولهذا يقال: إن الحنابلة يخرجون صيام يوم الغيم عن مسألة الشك ولا يدخلونه في هذا الباب، ولهذا قد جاء عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى أنه نص على مشروعية صيام يوم الغيم على سبيل الاحتياط، وهذا قد جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت: لأن أصوم يوماً من شعبان خير من أن أفطر يوماً من رمضان، يعني: خشية أن يكون يوم الثلاثين الذي فيه غيم يوماً من رمضان فأفطره من غير عذر.
والأصل في ذلك أن يرجع إلى ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ما جاء عن جملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأشهر في صيام يوم الغيم، ولكن يقال: هذا حالة نادرة، والإحالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معرفة دخول رمضان برؤية الهلال إحالة إلى أمر حسي معلوم يستطيعه الحاضر والبادي والقريب والبعيد والبري والبحري، يستطيع الإنسان أن يعرف ذلك بنفسه من غير دخيل، ويعلق هذا بظهور البينة وهو أن يرى ذلك أحد من الناس، فإذا ثبتت الرؤية فإنه حينئذ يدخل الهلال.
وأما تعلق بعض المتأخرين بمسألة الحساب وقولهم: نرجع إلى معرفة أهل الفلك، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب ) ، قالوا: النبي عليه الصلاة والسلام قال: نحن أمة أمية، وقد تعلمنا ولم نعد حينئذ من الأمة الأمية بل نحسب، حينئذ نرجع إلى الحساب.
أولاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( نحن أمة أمية لا نكتب ) ، وجاء في رواية: ( لا نقرأ ولا نكتب ) ، النبي عليه الصلاة والسلام كان من أصحابه من يقرأ ويكتب وكان فيهم من يحسب أيضاً، ومع ذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأمر من جهة التعليل باقياً ومستمراً إلى قيام الساعة، ثم إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتوح البلدان واتساع رقعة الإسلام، وكذلك معرفة متأخري أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك التابعين وأتباع التابعين وتسليمهم بكثير من مسائل الحساب إلا أنه لم يكن هذا الأمر معتبراً، بل جعل هذا الأمر من العلل التي علل فيها التشريع وبقيت إلى يومنا هذا، ككثير من التشريعات التي شرعها الشارع وزالت العلة وبقي التشريع إلى يومنا هذا، كمسألة التشريع في الرمل والاضطباع في الحج، وكذلك في رمي الجمار فيمن علقه برؤية الشيطان وقد زال حينئذ، ولكن قد بقي تشريعاً باقياً إلى قيام الساعة.
وأما تعليق الأمر بمسألة الحساب، فإن هذا من جهة الأصل مخالف لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة النص، وكذلك ما كان عليه الأئمة في القرون المفضلة بل قرون الإسلام بعد ذلك، لا في قرن الثالث ولا في الرابع ولا في الخامس ولا في السادس ولا في السابع أيضاً لم يكونوا على هذا القول، مع اتساع رقعة الإسلام واعتداد أهل الإسلام بكثير من علوم الطبيعة من الطب والمنطق والحساب بأنواعه وغير ذلك مما هو معلوم، ولهذا لا يعلم عن أحد من السلف أنه قال بمشروعية الحساب، وإنما ثمة قول مرسل يحكى بلا إسناد في بعض كتب الفقهاء عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه قال بذلك، وهذا قول ليس له إسناد بل أنكره جماعة من العلماء، و مطرف هو من التابعين من متوسطيهم، أنكر قوله ذلك ابن عبد البر عليه رحمة الله كما في كتابه الاستذكار والتمهيد، وقال: هذا القول ليس له إسناد عنه ونفاه.
ولا يعلم أحد من القرون المفضلة قال بمسألة الحساب مع وجوده في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي التابعين وفي أتباعهم، وإنما قال بذلك بعض الفقهاء وهو أبو العباس بن سريج وهو من فقهاء الشافعية، وكان قوله هذا من جهة الأصل ليس مدوناً في فقهه، وإنما يحكى في الأفواه عند بعض فقهاء الشافعية، وكذلك المالكية ولم يكونوا يأخذون به.
ولهذا قد ذكر أبو بكر بن العربي في كتابه المسالك في شرح موطأ الإمام مالك حينما تكلم على مسألة رؤية الهلال، قال: قد نقل أن بعض فقهاء الشافعية قال بمسألة الحساب وهو في القرن الخامس عليه رحمة الله، قال: قد قال ببعض هذا، فالتمسته فلم أجده وظننت أن ناقله قد وهم في ذلك وهو أبو الوليد الباجي لكثرة أوهامه في هذا، قال: حتى علمت أنه قد قال بذلك أبو العباس بن سريج ، قال: وهي زلة وهفوة لا استقامة معها، ومخالفة للدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ).
وثمة جملة من التعليلات أيضاً: منها: أن الشريعة من جهة الأصل قد قصدت الهلال من باب التيسير لا من باب الضبط، وكثير من الناس يغلب على ظنه أو ربما يتشوف إلى حماية بعض أحكام الشريعة من باب وهو باب الاحتراز، وأن الشارع قد احترز للعبادات، الشارع قد احترز للعبادات وله مقاصد في كثير من التشريعات، منها الاحتراز ومنها التيسير، ولهذا علقت كثير من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلامات وبينات، وهذه البينات الوصول إليها سهل، والتدقيق فيها عسير، وإن أمكن فليس بمشروع، والسعي إليها فيه ضرب من ضروب التنطع والتشدد.
ولهذا أرى أن من قال بمسألة الحساب أنه متنطع ومتشدد لا متساهل؛ وذلك أن رؤية الهلال أمر ميسور للحاضر والباد والقريب والبعيد، وهذا النبي عليه الصلاة والسلام من نظر إلى الصلوات الخمس وهي ركن من أركان الإسلام، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الترمذي وغيره: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، ولهذا لما ظهر الحساب وكان الناس يهتدون إلى معرفة القبلة بالجدي ونحو ذلك، أنكر الإمام أحمد وشدد عليهم هذا وأنكر على من يهتدي بالجدي لمعرفة القبلة، وذلك أن الأمر مقصود من أن يجعل ما بين المشرق والمغرب قبلة، ولهذا ليس على صواب من يهدم المحاريب أو يزيل مفارش المساجد لأنه ينحرف درجة واحدة عن القبلة ونحو ذلك باعتبار أنه يعرف عن طريق البوصلة ونحو ذلك.
ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) ، هو مقصود بذاته، أن الإنسان يتجه نحو هذه الجهة إلا في حالة واحدة، أنه إذا رأى الكعبة يجب عليه أن يصوب إليها، قد كان الإمام أحمد عليه رحمة الله يزجر من يستدل بالجدي للقبلة، وذلك وإن كان تدقيقاً إلا أنه فيه تشديد وعسر على الناس؛ لأنه ما كل أحد يهتدي بالجدي.
الشريعة جاءت للأفراد والجماعات، جاءت للحاضر والباد، حتى يصوم الناس على هذا الأمر وهو رؤية الهلال، ولما كان كذلك يستطيع الإنسان أن يراه ويتراءاه الناس فالأمر حينئذ يشتهر، بخلاف الحساب الذي يعرفه أفراد وأعيان، والتأكد من ذلك متعذر لعامة الناس، ولهذا الشريعة جاءت حتى تطاق من القريب والبعيد، وعلاماتها كانت ميسورةً أيضاً من القريب والبعيد أن يتثبت منها وأن يعرفها.
ولهذا ينبغي أن يعلم أن الاستدلال ببعض التأصيلات الشرعية أو ببعض القواعد الشرعية من أجل حماية الدين وصيانته، وكذلك الاحتراز لركن من أركان الإسلام، ووضعه في موضع لم يرده ولم يقصده الشارع، أنه ليس هذا من مقاصد التشريع ولا من أهداف أو مقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رؤية الهلال علقت مع وجود الحساب لمقصد التيسير، وكذلك القبلة جعل ما بين المشرق والمغرب قبلة لمقصد التيسير مع وجود الجري، الحساب باستطاعة الحاسب من جهة الفلك أن يعرف حد القبلة على خط مستقيم، وما علق الأمر بذلك وإنما علق على السعة.
إذاً: من علق القبلة بالتدقيق أنا أرى أن هذا ضرب من ضروب التشديد، أن توضع البوصلة مثلاً ويجعل هذا المحراب عليه بالدقة وإن انحرف درجةً واحدة تزال المحاريب، وقد علمت أن ثمة محاريب أزيلت ومساجد أزيلت بسبب درجة واحدة عن القبلة وهي جهة الناحية.
ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى وغيره، كان يستقبل القبلة على راحلته إذا تنفل ثم يصلي حيث اتجهت به عليه الصلاة والسلام، إذاً: هذا الأمر المراد به ضرب من ضروب التيسير للناس، التعلق بالوصول إلى الدقة في هذا الأمر ليس من مقاصد التشريع، لماذا؟ مقصد التشريع أن تتجه للقبلة عملاً ونية، وأما التدقيق فهو تعسير وتشديد في نواح عديدة نظر إليه الشارع وأهمل هذا الجانب، ولهذا كثير ممن يتكلم في هذا الباب: صيانة العبادة والاحتراز لها ونحو ذلك، عليه أن ينظر إلى هذه المصلحة وهذا المقصد النبوي.
ثمة جملة من التعليلات يتكلمون فيها في مسألة رؤية الهلال أو الحساب ويعلقون فيها، من ذلك: ما يقولون من أننا نعتد بأقوال أهل الحساب في الصلوات وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأننا نعتد بالتقاويم فنؤذن على كلامهم ونقول على كلامهم، أولاً: ليعلم أن الشارع في الصلوات قد ربطنا بالرؤية من جهة طلوع الشمس ومن جهة زوالها ومن جهة غروبها، كذلك من جهة الرؤية من جهة الشفق ومن جهة مغيبه ومن جهة أيضاً طلوع الفجر، وهذا هو الرؤية، وما جاء من جهة التقاويم ونحو ذلك فهو سبر للرؤية وتثبيت لها وليس حساباً على سبيل الاستقلال.
ولهذا لو أخذنا بأقوال أهل الحساب في مسألة الصلوات الخمس لأصبح بعض الصلوات التي نؤديها باطلة؛ وذلك أننا نرى قرص الشمس في السماء وليس القرص الحقيقي للشمس، بل هو انعكاسها في الخلاف الجوي بإجماع أهل الفلك، وهو متأخر عنها بضع دقائق، قيل: سبع دقائق أو ثمان دقائق، هذا القرص يسميه أهل الفيزياء: انكسار الضوء، كأن يأتي الإنسان يسلط ضوءاً على كأس ماء فإنه يجد أن الضوء ينكسر، لو قدر أن إنساناً في جوف الكأس فإنه سيرى القرص الذي على سطح الماء ولا يرى القرص الحقيقي، كذلك الإنسان أيضاً على الكرة الأرضية يرى انعكاس الشمس في الغلاف الجوي ولا يرى الشمس الحقيقية، لو أخذنا بالحساب لرأينا الشمس قد طلعت وليست هي الشمس الحقيقية، كذلك أيضاً نراها غربت وليست هي الشمس الحقيقية، من جهة الحساب لو أخذنا بذلك لبطلت أعمالنا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام علق الأمر بالرؤية، والرؤية ما هي هنا؟ الرؤية التي نراها لا بكلام أهل الحساب.
إذاً: هم من خضع لأقوالنا في حساب الأوقات، أهل الحساب خضعوا للرؤية أم الرؤية خضعت للحساب؟ أهل لحساب خضعوا للرؤية، إذاً: اعتدوا هم برؤيتنا فخضعوا وأعملوا التقاويم على هذه الرؤية وهم مؤمنون بهذا الأمر، وكثير من الناس يتكلم في مسائل الحساب ويظن أن مسائل الحساب حادثة، مسألة الحساب ومعرفة دوران الأفلاك معروفة حتى في جاهلية الرومان وجاهلية الهند واليونان، ومعروف حتى في عصر النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لم يكن العرب ممن يعتدون ويهتمون بهذا الأمر، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) ، إشارة إلى الكتابة مع أن هناك من يكتب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، (ولا نحسب): وفيهم من يحسب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد بذلك الأمة، أي: أمة الدعوة، فيجب على الأمة أن تسلك هذا الأمر، وهو: ( صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته ).
به يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أشار إلى الرؤية أنه قصدها، لأن التشريع ليس لنا ولا لجيلنا وإنما تشريع عام للناس فينبغي أن يصان هذا الأمر، ثم ليعلم أيضاً أن مسألة الحساب وهذا أمر ينبغي أن يقال وألا يحجم عنه أنه أثير في بضع سنوات ماضية وعظم من أناس يشك في تدينهم أصلاً، زعموا أنهم أرادوا بذلك حماية الشريعة وحماية الإسلام وحماية الركن الثاني من أركان الإسلام، وإن قال بذلك بعض الأجلة ممن ينتسب إلى العلم، والعجب في ذلك: أني قرأت مقالاً لشخص أنا أشك بأنه يصوم رمضان، يتكلم على الحساب وأنه يجب أن نأخذ بالحساب وأن نتطور ونتقدم ولا ندع النظر إلى الرؤية والمناظير ونحو ذلك، وأن نكون أمة متقدمة ونحو ذلك، ومع العلم بأن الحساب موجود عند اليونان والرومان وجد حتى عند جاهلية الإسلام وليس هو بجديد، ولكن المشكلة العظمى ممن يظن أن هذه العلوم هي علوم حادثة، علم الحساب وعلم الفلك هو من أقدم العلوم، بل إنه يستطيع الإنسان أن يعرفه ربما في جلسات معدودة يستطيع أن يعرف ما يضبطه أهل الحساب، بغض النظر عن دقائق مسائل الحساب، مسألة المجرات وكذلك دوران الكواكب وعددها والأفلاك وتباينها أيضاً، وكلما بعدت من مصدر الجاذبية يقول بنسبة معينة لدورانها وغير ذلك، وأثرها أيضاً من جهة ورود شيء من المواسم عليها، فدورانها في الشتاء يختلف عن الصيف ونحو ذلك، وكذلك قربها من الشمس له أثر وأثره أيضاً في الحرارة التي تصل إليها وغير ذلك، هذا من الأمور التي لا حاجة إليها فيما نتكلم فيه.
فالواجب في مثل هذا الأمر أن يرجع إلى مقاصد التشريع، وأن ينظر أيضاً إلى هدي النبي عليه الصلاة والسلام وأن ينظر إلى جانب الاحتياط الذي قصده الشارع، وألا ينظر إلى جوانب أخرى، وكثير ممن ينساق إلى أمثال هذه المسائل ينساق من باب الاحتياط، وما نظر كيف أن الشارع هو قد احتاط بوضع الهلال أصلاً، احتاط للدين حتى يكون فسحةً لكل أحد فلا يتشدد في هذا الأمر.
ثم إن الأمر في مسألة الرؤية وكذلك الحساب لو قلنا: إن ثمة خلافاً سيكون الخلاف في يوم واحد والناس معذورون لو قضوه في صفر أو محرم أو ربيع أول والثاني ويكون كأنه صامه في رمضان، لأنه قد فعله من غير علم أو أفطر فيه، أو كان ثمة زيادة ونقصان، وتسعة وعشرون من صيام الناس من أيامه أو ثمانية وعشرون هي على يقين تام، والشك في حال الرؤية، والأغلب على مر التاريخ إلى يومنا هذا أنه يندر أن يقع خطأ في مسألة الرؤية، فيؤمر الناس بأن يستدركوا ما قضاهم! ولو سئل أحد من الناس ولو كبار السن: هل مر عليهم أن قضوا من رمضان باعتبار الرؤية، لو وجد أن هذا وقع ربما حدث مرة في عمر الإنسان أو ربما لا يحدث، مما ينبغي أن يعلم أن الاحتياط في ذلك أن يترك هذا الأمر كما كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام إقامةً للدليل وتيسيراً للناس الحاضر والباد البعيد والقريب.
حينما حمي هذا الشهر المبارك بما تقدم الكلام عليه وجعل له علامات في دخوله وفي انصرامه، فثمة إشارة إلى أن المتأمل لكثير من الأحكام الشرعية يجد أن العبادات الموقوتة أفضل من العبادات غير الموقوتة ولو كانت بدرجتها تشريعاً، لأن الموقوت دل على فضله فخصص بزيادة تشريع كالنوافل، نجد أن جملة من النوافل فيها المطلق والمقيد في الصلوات، ما حدد بوقت معين أفضل مما لم يحدد، فالنوافل المقيدة أفضل من النوافل المطلقة، ما لم تقترن بقرينة أخرى خصها الدليل في ذلك كمسألة الوقت وغير ذلك.
كذلك أيضاً في مسألة الصيام منه ما هو محدد بوقت كصيام الإثنين والخميس وصيام الأيام البيض على من قال بثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الصيام يوم عرفة وصيام يوم عاشوراء وغير ذلك من صيام النوافل المحددة بوقت معلوم فهي أفضل من النوافل المطلقة، لهذا ينبغي للإنسان أن يعرف مراتب النوافل من جهة الأفضلية، ما كان موقوتاً أفضل مما كان مطلقاً؛ لأن زيادة التوقيت دليل على زيادة تأكيد، وزيادة التأكيد دليل على حسن عاقبة؛ لأن الشارع لا يؤكد مفضولاً مع وجود الفاضل من جنسه مما هو أفضل منه، ومن سبر هذا في سائر أحكام الشريعة وجد هذا مطرداً ولا يكاد ينخرم، وهذا لا يخرمه ما كان مندوباً أنه أفضل مما هو موقوت من غير جنسه، لأن هذا لا علاقة له به، كأن يقول الإنسان: إن الصدقة المطلقة أفضل من الذكر الواجب في الوقت الفلاني ونحو ذلك، يقال: إن هذا ليس هو من مواضع كلامنا هنا، وهذا إنما هو متعلق بدليل خاص من كلام الله عز وجل أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن عليها مدار التشريع.
مسألة ما يتعلق بصيام رمضان: قد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام رمضان بأهمية أن يصاحب عمل الإنسان اعتقاد القلب، وهو أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل لا أن يكون متجرداً، ومعلوم أن الناس في النية لهم ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يكون العمل خالصاً لله جل وعلا.
المرتبة الثانية: أن يكون العمل متجرداً بلا نية، لا لله عز وجل ولا لغيره.
المرتبة الثالثة: أن يكون العمل لغير الله عز وجل، وهذا هو الظلم الأكبر، وهو مراتب: منه ما هو كفر كمن يتعبد لغير الله عز وجل بأنواع العبادات وهذا حال المنافقين الخلص، ومنه ما يكون من جملة الرياء وهو الشرك الأصغر، والمرتبة الوسطى: أن يتعبد الإنسان أو يفعل فعلاً ظاهره عبادة ولكن من غير نية، كالذي يصبح ممسكاً حتى يأتيه الزوال، ويقول: لم أطعم شيئاً، هذا متجرد، هذا دخول النية عليه صالحة وتقلب العمل السابق لله جل وعلا. وأما هذا هل هو على إطلاقه أم لا؟
من جهة الفرائض يشدد فيها ما لا يشدد في النوافل، قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في المسند والسنن، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل ) ، هذا الحديث قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث حفصة، وجاء من حديث عبد الله بن عمر يرويه الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر، عن حفصة عليها رضوان الله تعالى، وجاء أيضاً موقوفاً على عبد الله بن عمر، وجاء موقوفاً على حفصة وهو الصواب، صوب ذلك أبو حاتم وكذلك البخاري و البيهقي و الترمذي و أحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة، ولا يصح مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنه قد رواه الثقات الحفاظ من أصحاب الزهري كـعبيد الله بن عمر و عبد الرحمن المدني و معمر وغيرهم عن الزهري به موقوفاً على حفصة ، وتارةً موقوفاً على عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى.
ويغني عنه ما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) ، وهذا في قوله عليه الصلاة والسلام، أي: إنما قبول الأعمال وردها بالنية، والنية محلها القلب، واشتقاقها من النوى والنوى أصل في جوف الثمرة، وبه يعلم أن إخراج النية على اللسان هو إفساد لمعناها الحقيقي الذي أقره الشارع وبقي عليه العمل.
وإذا جهر الإنسان بالنية كان محدثاً ومبتدعاً كأن يقول: اللهم إني أنوي لك صيام الغد، هذا مخالف للمعنى الأصلي من النية ومخالف أيضاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يجهر بذلك، والعبادات على وجه الإطلاق ليس لأحد أن يجهر بالنية فيها، ولا خلاف عند العلماء في هذه المسألة إلا خلافاً يسيراً يروى في هذا عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله في مسألة الصلاة، والنية محلها القلب وزمناً محلها أن يكون سابقاً للعبادة، وهذا كما جاء في حديث عبد الله بن عمر و حفصة السابق: ( من لم يبيت النية من الليل فلا صيام له ) ، وهذا قد ذهب إليه عامة الفقهاء، وهو قول عامة السلف: أن الإنسان يجب عليه أن يبيت صيام رمضان من الليل، وإذا لم يبيت صيام رمضان من الليل فإنه لا يصح منه الصيام ويجب عليه أن يقضي ذلك اليوم.
ويكفي في ذلك على الصحيح من أقوال العلماء: نية واحدة لرمضان كله؛ لأنه في حكم الركن الواحد، ولا يفصل بينها أيام يفطر فيها الإنسان، ويكفي الإنسان أن يعلم أن غداً من رمضان، فإذا علم أن غداً من رمضان والأصل فيه أنه متبع وممتثل للصيام بالإمساك، كان هذا حينئذ كاف عما يسمى بعقد النية، والأصل في العقد: هو أن يربط الإنسان بين شيئين منفصلين، أي: كأن الإنسان قد ربط بين التعبد وبين هذا الفعل فجعلهما عقداً، وكذلك ما يسمى بالعقد بين الزوجين عقداً بعدما كانا منفصلين، قد ربط بينهما حتى كانا زوجين، كذلك بين البائع والمشتري وغير ذلك، ولهذا تسمى عقد النية: عقداً لهذا المعنى من باب التأكيد والإلزام.
والنية كما لا يخفى لها فائدتان: الفائدة الأولى: هي تمييز العبادات بعضها عن بعض، الثانية: هي تمييز العبادات عن العادات، وتمييز العبادات بعضها عن بعض: أن تميز العبادة الفريضة عن النافلة، وهذا مقصد شرعي، بعض الناس يقول: الصيام عبادة، العبادة تختلف الفريضة تختلف عن النافلة وثمة بون شاسع حينئذ بينهما، فوجب أن تستقل هذه بنية وهذه بنية، لهذا يجب على الإنسان أن يبيت النية من الليل.
وأما صيام النافلة فإنه لا حرج على الإنسان أن يجعل نيته من النهار؛ وهذا لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي النضر عن عائشة بنت طلحة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يأتيها صباحاً فيقول: أعندكم شيء فإني أصبحت صائماً؟ قالت عليها رضوان الله تعالى: فأقول له: نعم، قالت: فيطعم، وجاء يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: أعندكم شيء؟ فأقول: لا، قال: إني صائم ).
وفي هذا مسائل: المسألة الأولى: أن النبي عليه الصلاة والسلام أصبح صائماً تنفلاً ثم أفطر، وبه يعلم أن الإنسان إذا بيت النية من الليل للنافلة جاز له أن ينقضها نهاراً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا أصبح بلا نية -وهي المرتبة الثانية كما تقدم الكلام عليه- جاز له أن يدخل نية التعبد عليها وصح منه ذلك.
وهل ثمة زمن معين للنية يعقدها، بمعنى: أن الإنسان إذا كان ممسكاً إلى قبل غروب الشمس بدقيقة هل تصح منه النية إذا لم يطعم؟ يقال: إن هذه فيها خلاف عند العلماء عليهم رحمة الله على قولين:
ذهب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود و أنس بن مالك إلى أن ذلك إلى الزوال، قالوا: لا بأس أن يكون ما بينه وبين الزوال، قد جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى في جملة من المرويات، قد رواه ابن أبي شيبة و عبد الرزاق وغيرهم.
وقد جاء عن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى الإطلاق بلا تقييد، أن ينوي الإنسان من أي موضع شاء ما لم يكن قد طعم قبل ذلك، وهذا هو الصواب والأوسع والأليق بسعة فضل الله عز وجل ورحمته.
وثمة كلام لبعض الفقهاء في مسألة الأجر الذي يترتب للإنسان في مسألة العبادة: هل الثواب الذي يترتب للإنسان في صيامه هو من ابتداء نيته، بمعنى: أنه يكتب له نصف يوم أو ثلاثة أرباع يوم أو ربع يوم ونحو ذلك؟ بعض الفقهاء يقول: إنه من ابتداء النية، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا أوسع وفضل الله عز وجل أوسع، بل يقال: إنه يكتب له ما سلف منه متجرداً، الدليل على ذلك قياس الأولى: وذلك أن الكافر إذا كان حال كفره الأصل في عبادته أنها ليست مقبولة كالوثني اليهودي والنصراني، فعمله حال يهوديته ونصرانيته لا يخلو من أحوال، منها:
الحالة الأولى: أن يفعل عملاً بلا نية، أن يحسن للغير بلا نية، العمل.
الثانية: أن يفعل فعلاً لله عز وجل خالصاً ولكنه مشرك في أصله، خالصاً لله ليس لصنم ولا لوثن ولا لغيره، يفعله لله جل وعلا خالصاً في مثل هذا الموضع.
الثالثة: أن يفعله بإشراك.
إذا أسلم الوثني فإنه يتقبل من عمله ما كان خالصاً حال شركه، أليس المؤمن المتجرد من شريك لله جل وعلا الذي فعل فعلاً بلا نية أحرى بالقبول؟! نعم، يقال: أحرى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) ، تلك الرقاب التي كان يعتقها في الجاهلية مع كونه وثنياً، كان يشرك مع الله إلهاً غيره وعمله لا يرفع، ولكن لما دخل الإسلام قبل له ما كان قبل ذلك، كذلك بالنسبة للمسلم إذا كان له عمل لم تصحبه نية، يقال: إن هذا يصح منه وهو أليق في سعة فضل الله عز وجل ورحمته.
وإذا كان الإنسان قد بيت النية من الليل للنافلة جاز له أن يقطع ذلك كما تقدم في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، وأما ما جاء عن بعض السلف كـعلي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: من بيت النية من الليل فلا يقطعها، كما رواه ابن أبي شيبة وغيره من حديث أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، أنه قال: لا بأس ما لم تبيت النية من الليل، وإسناده عنه ضعيف، وهذا قد قال به جماعة من الفقهاء من أهل الكوفة ممن يتأسى بفقه علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى.
ومن المسائل المهمة فيما يتعلق بالنية: بعض الفقهاء يوجب النية كل ليلة على سبيل التجرد، وهو أن يعقد الإنسان نيته كل ليلة، وهذا هو الأحوط والأليق في صيام الإنسان، والأظهر -والله أعلم- أنه تكفي لليالي رمضان نية واحدة، وذهب إلى هذا الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى، ورواية عن الإمام أحمد مخالفة للمشهور عنه، وذهب إلى هذا جماعة من السلف الصالح وهو الأظهر: أن يعقد الإنسان نيته لرمضان، ويكفيه أن يعلم أن الله عز وجل قد أوجب عليه رمضان وأن غداً من الصيام، وهكذا.
والعلم وحده مع احتمال النقيض ليس بكاف، وذلك أن العلماء يقولون: يكفي أن يعلم أن غداً من رمضان مع عدم وجود النقيض في النفس، بمعنى: أن الفاسق الذي لا يصوم رمضان يعلم أن غداً رمضان، هل يكفيه ذلك إذا أصبح أن ينوي، مع أنه لا يصوم أصلاً؟ يقال: لا يكفي ذلك ولو كان قد علم، وبهذا يعلم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) ، هي شاملة للثلاثين، والعلم الذي يذكره الفقهاء عليهم رحمة الله في قولهم: يكفي أن يعلم أن غداً من رمضان، ذلك علم لا يجد في النفس ما يناقضه، فإذا وجد ما يناقضه لم يكف هذا العلم، كعزم الفاسق ألا يصوم غداً أو نحو ذلك، كأن يكون مثلاً من عادته أنه يفطر في رمضان ونحو ذلك، فيقال: إنه يعلم أن غداً من رمضان، وعلم هذا لا يغنيه من الله شيئاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر