إسلام ويب

شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [1]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أحاديث رسول الله الجامعة: (الحلال بين والحرام بين) وهو نص شريف يبين انقسام التكليف إلى حلال وحرام وشبهة ينبغي أن تترك خشية الوقوع في الحرام؛ فأهل العلم في الناس قلة، والأولى بالإنسان أن يبتعد عن الأسباب التي تخل بدينه وتنال عرضه بالسوء.

    1.   

    الإحكام والتشابه في الشريعة الإسلامية

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد: فأصل الأحكام وأصول التشريع وفروع الإسلام جلها من المحكمة لا من المتشابهة، وهذا في أكثر أمور الدين، فقد جاء هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في كلام الله عز وجل في وصف الكتاب العظيم أنه كتاب مبين، قال الله عز وجل: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1]، وجاء في قوله: طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء:1-2] أي: واضحاً بيناً لا يأتيه الباطل ولا الاشتباه من بين يديه ولا من خلفه، وهذا ظاهر متقرر، وبهذا كان اكتمال الدين وإظهار المنة به، كما في قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

    فإتمام النعمة وإكمال الدين وإظهار المنة به لا يكون مع وجود المتشابه وغلبته على المحكم، بل إن الله عز وجل قد أوجد متشابهاً في كتابه، وجعل ذلك لحكمة، وهي أن يميز الله عز وجل الخبيث من الطيب، وكذلك أن يكل العلماء العلم به إليه حتى يقولوا: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] فيؤمنون بالمتشابه الذي لا تدركه عقولهم، وإن كان هو قد أنزل في كلام الله عز وجل، وجاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيؤمنون ويصدقون بما جاء من المحكم، ويكلون ما لا يعلمونه من المتشابه إلى الله سبحانه وتعالى؛ بياناً أن العلم مهما انتشر في الناس إلا أن قصورهم -وإن كان في أحكام الله عز وجل- ظاهر بين، أما من جهة التكليف وظهور العقاب والثواب والحساب فيكون بالمحكم، ومن علم ممن علم ممن وفقه الله عز وجل لمعرفة المتشابه.

    وينبغي بل يجب أن يعلم أن الأصل في الدين أنه محكم بين ظاهر لا يخفى على أحد، فقد أقام الله الحجة، وجعل الأعذار تنقطع بسماع الإنسان لكلام الله، كما قال الله سبحانه وتعالى -آمراً نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، فقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن مجرد السماع بلغة يفهمها الإنسان وعلى وجه يفهم المراد -لو أراد- أنه قد قامت عليه الحجة، وانقطع عذره بمجرد السماع؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح الإمام مسلم وغيره-: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار ) فمجرد السماع ينقطع به العذر؛ لأنه بهذا السماع دليل على أن الأصل ببلوغ الألفاظ إلى المسامع الفهم؛ لأن الله عز وجل قد أنزل القرآن واضحاً بيناً لا لبس فيه، وهذا هو الذي يفهمه جمهور الناس وعامتهم، إلا قليلاً ممن قد استغلق عليه، أو دخلت عليه عجمة، أو بعد عن مقاصد الشرع، أو خرج عن فطرته فلم يكن على الفطرة التي فطر الله عز وجل عليها الناس بمغير من المغيرات؛ ولهذا جعل الله عز وجل جمهورهم على فطرة سليمة يفهمون مراد الشرع من سماعه، كما قال الله سبحانه وتعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة-: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودناه أو ينصرانه أو يمجسانه ) وجاء في رواية ( أو يمسلمانه ) يعني: من جهة الأفعال التي قد زيدت عن الفطرة مما يوافق أصل الفطرة في قلب الإنسان.

    وفي الحديث: ( الحلال بين والحرام بين ) هذا هو المراد في قول الله سبحانه وتعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] أي: هذا هو الأصل في الدين، وأما المتشابه فيوجد، والحكم منه عظيمة جليلة: بيان أن الكمال المطلق في العلم لله سبحانه وتعالى ليس لأحد غيره، كذلك بيان أن الناس يتفاوتون، وينبغي أن يطلبوا العلم ويلتمسوه من مظانه، وبفهم أقرب الناس إلى التشريع وهم الصحابة عليهم رضوان الله تعالى وكذلك التابعون، ثم من جاء بعدهم أقرب إلى الدليل وفهمه من غيرهم؛ لهذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب القرون الأولى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، وجاء في رواية قد تكلم فيها بعضهم: ( خير القرون قرني ).

    1.   

    القواعد التي عليها مدار الدين

    أحكام الشريعة الأصل فيها الظهور وعدم الخفاء، وثمت قواعد وأصول عليها مدار الدين ومدار الأحكام على وجه العموم في جميع الفنون والعلوم ينبغي إدراكها.

    تحريم القول على الله بلا علم

    القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، وقد جاء النص عليها في كلام الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ [الأعراف:33] إلى قوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

    الأصل فيما سكت الله ورسوله عنه الإباحة

    القاعدة الثانية: أن ما سكت الله عز وجل عنه ورسوله عليه الصلاة والسلام الأصل فيه الإباحة، ولا يجوز لأحد أن يتجرأ عليه بتحريم إلا بدليل وأثر من كتاب أو سنة، كما قال الله عز وجل في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها ).

    اتباع المتشابه من كلام الله وكلام رسوله طريقة أهل البدع

    القاعدة الثالثة: أن اتباع المتشابه من كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنكب المحكم هذه طريقة أهل البدع والضلال من الرافضة وأهل الأهواء وغيرهم الذين يأخذون من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشابه، ويدعون المحكم؛ ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، ( فإذا رأيت الرجل يتبع المتشابه من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم -مع ظهور الآيات والأحاديث المحكمة الظاهرة البينة- فاعلم أنه ممن سمى الله فاحذره ) كما قالت عائشة عليها رضوان الله تعالى في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.

    وذلك أن الله عز وجل قد بين أن الإنسان إذا علم من سيرته ومن أقواله أنه يتتبع المتشابه ويدع المحكم من أقوال الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه من أصحاب الزيغ ومن في قلبه مرض.

    انقسام الشريعة إلى محكمات ومتشابهات والمحكمات إلى حرام بين وحلال بين

    القاعدة الرابعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين أن الشريعة على قسمين كما في حديث النعمان بن بشير هنا ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات ) إذاً هي على ضربين: بينات واضحات، ومتشابهات، والبينات الواضحات على ضربين: حلال بين، وحرام بين.

    والإطلاق في الشرع من جهة المحكم والمتشابه يطلق ويراد به إطلاقان: إطلاق عام، وإطلاق خاص، والمراد بإطلاق المحكم من جهة الخصوص هو ما كان مقابلاً لمنسوخ، ولا يلزم منه أن يكون ناسخاً، فكل ما كان من كلام الله عز وجل يقابل المنسوخ فهو محكم على وجه الخصوص، وأما ما كان على وجه العموم فهو ما لا يأتي إليه إلا فهم واحد، ولا يقع عند العلماء إلا على وجه واحد، فهذا هو المحكم من وجه العموم، ويقابله المتشابه وله إطلاقان: إطلاق على وجه الخصوص، وإطلاق على وجه العموم، وأما ما كان على وجه الخصوص فهو ما يقابل المحكم على وجه الخصوص، والمراد بذلك المنسوخ، وهذا ما يسميه العلماء ويألفون فيه الناسخ والمنسوخ.

    وأما ما كان متشابهاً على وجه العموم فهو ما وقع فيه اختلاف عند العلماء في المراد به، وهو الذي يشار إليه في قول الله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] وهي المرادة في حديث النعمان بن بشير عليه رضوان الله تعالى هنا ( وبينهما أمور متشابهات )، وجاء عند الترمذي في حديث النعمان هذا من حديث عامر بن شراحيل الشعبي عن النعمان بن بشير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يدري كثير من الناس أهي من الحرام أم هي من الحلال؟ )، وكلام العلماء في هذا هو على هذا المعنى وهو المتشابه على وجه العموم لا على وجه الخصوص؛ فإن المتشابه على وجه الخصوص؛ هو محكم من وجه باعتبار معرفة أنه منسوخ وناسخه معلوم.

    اختلاف العلماء في تحديد المتشابه

    وعليه يقال: إن المتشابه عند العلماء قد اختلفوا في تحديده على أربعة أقوال:

    القول الأول: قالوا: المتشابه هو ما تضادت فيه الأدلة.

    القول الثاني: قالوا: ما وقع فيه خلاف بين العلماء، وهذا منتزع من القسم الأول.

    القول الثالث: قالوا: هو المقلوب؛ وذلك أنه تتنازعه الإباحة والحظر، والفعل والترك.

    القول الرابع: قالوا: المباح، وهذا أبعد الأقوال إلا إذا كان المراد بالمباح ما لا يستوي من جميع الوجوه، وهو ما يدخله العلماء في باب خلاف الأولى، ويمكن أن يدخل المباح في باب المتشابه من وجه إذا كان يتساوى من جميع الوجوه في ذاته، ويختلف من باب الفعل والترك لأمر خارج عنه إما لقرينة أو لمقصد وغير ذلك، فيدخل في باب المتشابه من هذا، والمتشابهات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعني أنها مجهولة على العموم، بل إنه يعلمها العلماء، ومنها ما لا يعلمه إلا الله.

    وقد يقول قائل: وهل ثمة شيء من التشريع جاء به القرآن ونزل في كلام الله، وجاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد على وجه الأرض معرفة به؟

    يقال: نعم، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] ثم الوقف عند جمهور العلماء وقراءة عبد الله بن مسعود على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] ثم يبدأ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] وهذا التفسير المطلق، ومنه ما يشترك العلماء الراسخون في العلم بما وفقهم الله عز وجل من نظر فيفهمون ذلك المتشابه على قراءة بعض القراء بعدم الوقف، فيعلمون المتشابه، ولكن يقال: ثمة من الآي في كلام الله مما لا يعلمه إلا الله، ويبقى الاجتهاد فيه بلا دليل، كالحروف المقطعة في كلام الله، وإن كان فيها اجتهاد عن بعض السلف، ولكنه يقال: إنه ليس بمجزوم به، وإنما هو اجتهاد سائغ، كما في قول عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى فيما رواه ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال: الم [البقرة:1] و طسم [الشعراء:1] و حم [غافر:1] و ص [ص:1] و ن [القلم:1] و ق [ق:1] قال: قسم أقسم الله به، وهي من أسماء الله. وعامة العلماء على بطلان هذا القول، وهذا المعنى -لو صح إلى ابن عباس مع صحة إسناده- فهذه الحروف ليست من أسماء الله، وإن كان الإسناد ظاهره الصحة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى.

    1.   

    فوائد من قوله: (وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس)

    في قوله عليه الصلاة والسلام: ( وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ) يعني: بين هذا الحلال والحرام الكثير أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس.

    فضل العلم وأهمية التعلم

    وهذا بيان لفضل العلم وأهمية التعلم، وأن العلم والمعرفة هي فيمن اصطفاه الله عز وجل من عباده؛ لهذا كانت الرحمة متلازمة مع وجود العلماء، وعدم وجود العلماء، يلزم منه الوقوع في المتشابه، والوقوع في المتشابه يلزم منه الوقوع في الحرام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) وإذا انتشر في مجتمع الحرام نال الناس الهلكة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما لما قالت له أم المؤمنين: ( أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ) والمراد بالخبث هو مخالفة الكتاب والسنة وانتشار الحرام، وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) إذا لم يكن ثمة علماء أخذ أهل الجهالة، مكان العلماء، فيجعلون الحرام حلالاً، والحلال حراماً، فيحق حينئذ عقاب الله، ويقع حينئذ عذابه الذي حذر الله عز وجل منه، ويعلم أنه ما من حق وما من علم يضمحل في الناس إلا ويقع مكانه جهالة، وما من جهالة تزول إلا ويحل محلها علم ونور وهداية، وهذا على الاطراد وعلى وجه العموم في العلوم كلها.

    معرفة العلماء للمتشابهات

    وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( كثير من الناس ) دليل على أن الأقل هم الذين يعلمون هذه المتشابهات، وهم العلماء ومن وفقه الله عز وجل لمعرفة ذلك، كذلك قد يكون العلم أو بعض مسائل العلم عند بعض العلماء من المتشابه، وعند بعض العوام من المحكم البين الظاهر بحسب توفيق الله عز وجل له؛ لأنه ربما نظر في هذه المسألة وتبصر بدليلها وهو لم ينظر في تلك المسألة ولم يتبصر فيه، وربما نظر فيها ولم يوفق للصواب، وفي ذكر النبي عليه الصلاة والسلام -للمتشابه بعد الحلال والحرام دليل على قلته في مقابل وضوح وبيان الحلال والحرام؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما روى ابن أبي عاصم في كتابه السنة، وكذلك الهروي في ذم الكلام من حديث العرباض بن سارية قال النبي عليه الصلاة والسلام-: ( تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) هذا هو الأصل في أحكام التشريع أنها ظاهرة بينة، وأما وجود المتشابه فهو عند كثير من الناس، لكنه ليس عند جميع الناس؛ ولهذا أمر الله عز وجل بسؤال أهل العلم؛ لقوله جل وعلا: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    أهل الذكر عند أكثر المفسرين هم: اليهود والنصارى، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمراد بهذه الآية فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43] فيما هو موجود عندهم في الكتاب فأقيموا عليهم الحجة إن كنتم لا تعلمون ما في الكتاب فاسألوا الكتاب يعني: اليهود والنصارى، ويدخل في هذا من باب أولى أهل العلم والمعرفة، العالمون بكلام الله وبكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن كنتم لا تعلمون بأن القرآن هو الذكر، كما قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] وأهل الذكر هم أهل العلم وأهل القرآن، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] يشترك فيه من جهل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام من الأصول كاليهود والنصارى، أو ممن كان على منهج قويم، لكنه لم يعرف المسائل على وجهها، فيسأل أهل الذكر والمعرفة.

    المتشابه اتباعه من صفة المنافقين وأهل الزيغ؛ لهذا إذا رئي الشخص من أقواله أو أفعاله أنه يتبع المتشابه من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدع المحكم فليعلم أن في قلبه زيغاً، وبقدر تعلقه بالمتشابه يكون الزيغ فيه.

    الحذر من قربان المتشابه والتعلق به

    وهنا لفتة مهمة ينبغي أن يتنبه لها: كلما كثر المتشابه لدى الإنسان قرب من أهل الزيغ، وكلما ظهر عنده المحكم كان من أهل الحق والتوفيق، وإذا كثر عند الإنسان المتشابه وعدم معرفة الحق -مع استعراض الأدلة- فليعلم أن في قلبه زيغاً، ودواؤه النظر في المحكم، واتباع البين من الدليل، وهذا مشاهد ملموس.

    ومن طرائق أهل الزيغ والأهواء: تتبع الرخص وأقوال العلماء الذين يوافقون الأهواء، وعدم النظر في الدليل، وهذا لا نحب أن نطيل فيه لأننا سنتكلم عليه في محاضرة تامة يوم الثلاثاء القادم بإذن الله تعالى بعد صلاة العشاء بمحاضرة بعنوان: العزائم والرخص.

    المتشابهات حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيها، وظاهرها أنها يغلب ما التبس على الإنسان فيه الحلال والحرام، فهي من المتشابه وهي أقرب المعاني لهذا النص؛ لهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الدنو منها، قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير- قال: ( من ترك ما يشتبه عليه فهو لما استبان أترك ) وهذا هو الورع، الورع هو أن يغلب الإنسان جانب الخوف على جانب الرجاء في باب المتشابهات.

    1.   

    أحوال الناس في العبادة

    والإنسان في أحواله في العبادة يتقلب بين ثلاثة أمور: المحبة، والخوف، والرجاء، فهذه ثلاثة تصاحب الإنسان في كل عمل يعمله تقرباً لله، وينبغي للإنسان أن يكون فقيهاً بين هذه الثلاث، لا يغلب واحداً على آخر عند جماهير أهل العلم، نص على ذلك الحسن ومطرف وأحمد بن حنبل وابن عبد البر وابن عطية وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم أنه ينبغي للإنسان أن يكون متساوياً في أعمال القلوب الثلاثة، فلا يغلب شيئاً على آخر، روى أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث مطرف عن الحسن قال: الخوف والرجاء مطية المؤمن. أي: التي يرتحل بها فيستعين بها على قضاء أعماله، يقول ابن عطية : الخوف والرجاء كالجناحين للطائر، إن انفرد بواحد عن الآخر اضطرب وسقط، وينبغي أن يساوي بين هذا وهذا؛ فإن الله عز وجل يقول: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50] قال: فرجى وخوف. رجى الله عز وجل ببيان رحمته، وخوف ببيان عذابه، والإنسان في هذه المراتب على ثلاثة أحوال:

    الحالة الأولى: أن تتساوى هذه الأعمال عنده من غير تفاضل، وهذا في حال استقامة حياته في كل الأعمال، فلا يغلب جانب الخوف على الرجاء، ولا يغلب جانب الرجاء على الخوف؛ ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالمحبة وحدها فهو زنديق، حتى يعبد الله بالرجاء والخوف والمحبة، ومن عبد الله بالخوف والرجاء والمحبة فهو مؤمن موحد.

    الحالة الثانية: أن يغلب جانب الخوف، وهذا عند المتشابهات، وهذا الشاهد هنا عند وجود المتشابهات يغلب الإنسان جانب الخوف؛ وذلك لتأكيد وقوعه في الحرام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) أي: لا بد أن يقع في الحرام، فإنه إن أجاز لنفسه الوقوع في الشبهات -والشبهات هي ما تردد بين الحلال والحرام من غير وضوح- فإنه سيأتي مرة تكون الشبهة بالحرام فيقع في الحرام؛ لهذا قال بعض العلماء: إن من وقع في الشبهات فصادف حراماً أثم وعوقب على ذلك، والشارع لا يلحق تكليفاً إلا بما يحاسب عليه، وهذا هو الظاهر، أن الإنسان إن وقع في المتشابهات من غير ظهور الدليل والتماسه أنه يأثم إن صادف حراماً؛ لهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الوقوع في المتشابهات، وحذر من ذلك أيضاً السلف كما روى البيهقي في شعب الإيمان من حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من تعرض للشبهات فلا يلومن إلا نفسه. وقد رواه ابن عدي في كتابه الكامل عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من قوله، المراد بذلك: فلا يلومن إلا نفسه، يعني: من لحوق العقاب بالآخرة، ولحوق العقاب في الدنيا، والعقاب في الدنيا قد بينه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: ( فمن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام ).

    1.   

    اتقاء الشبهات

    ثم قال: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) أي: كف عن عرضه، وهذا من مقاصد الشرع أنه ينبغي للإنسان أن يغلب جانب التحريم عند المتشابهات حتى يسلم له عرضه. وهذا ما يسميه العلماء بوازع الطبع، وازع الشرع هو الأوامر والنواهي، ووازع الطبع هو ما ينفر منه الإنسان طبعاً: إما خشية مذمة، وإما رغبة بمدح، وهذا مقصد مشروع، لكنه يجوز انفراده في باب الحرام، ويحرم أن ينفرد به الإنسان في باب الواجبات والعبادات؛ لأنه في باب العبادات محرم، وفي المحرمات مقصد مطلوب؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فقد استبرأ لدينه وعرضه ).

    الاهتداء في ترك الشبهات

    وترك الشبهات هي هدي نبوي فعله خير الخلق، وربى عليه أصحابه، من ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث طلحة بن مصرف عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام ( وجد تمرة في طريقه )، وفي حديث أبي هريرة ( وجدها على فراشه ) قال: ( لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها ) وهذا من ترك الشبهات، مع أن أكل الطعام أو تركه خشية الفساد مقصد شرعي؛ لهذا قد روى ابن أبي شيبة من حديث ميمونة أم المؤمنين عليها رضوان الله تعالى أنها وجدت تمرة في الطريق فأكلتها وقالت: إن الله لا يحب الفساد. يعني: إفساد الطعام وتركه حتى يفسد، مع ذلك غلب النبي صلى الله عليه وسلم جانب الورع في هذا فتركه، وكذلك أصحابه عليهم رضوان الله تعالى لما جاءه الرجل الذي قال له: إني تزوجت فلانة، وقيل لي: إني قد رضعت معها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( كيف وقد قيل؟ ) أي: دعها؛ احتياطاً وورعاً.

    فوائد البعد عن الشبهات

    وهذا فيه فائدتان:

    الفائدة الأولى: الاستبراء للدين، وهذا مقصد أسمى. الفائدة الثانية: الاستبراء للعرض؛ خشية أن يقع الإنسان في عرض من تلبس بالشبهات، وترك الشبهة لها مسلكان، إما أن تكون شبهة عنده، وهذا ما يتأكد عليك تركه، وإما ألا تكون شبهة عندك وواضحة بينة، لكنها شبهة عند غيرك، فتتركها في الحالين، في الحالة الأولى أي: شبهة عندك استبراء للعرض والدين، والحالة الثانية أن تكون بينة عندك وشبهة عند غيرك استبراء للعرض، وهذا ظاهر فيما رواه البخاري ومسلم من حديث معمر عن الزهري عن علي بن الحسين ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان معتكفاً، فجاءه أزواجه أمهات المؤمنين يزرنه في معتكفه فخرجن وبقيت صفية، ودارها قريبة من دار أسامة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: امكثي حتى أخرج معك. فخرج النبي عليه الصلاة والسلام مع صفية، فلما كان في طريقه مر به رجلان من الأنصار، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مهلاً إنها صفية )، وهذا ليس بمتشابه عند النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو متشابه عندهم، والنبي عليه الصلاة والسلام مستبرأ لدينه قطعاً، ولا يأتيه شبهة في هذا، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام ألا يقع عند أحد من هؤلاء سوء ظن به فيهلكوا؛ لأن الظن بالنبي ليس كالظن بغيره، فالظن بالنبي كفر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنها صفية ) خشية أن يقع في نفوسهم سوء ظن، قال بعض العلماء: والمراد بذلك أن غالب أزواج النبي عليه الصلاة والسلام في الحجرات عند المسجد، ولا يوجد من البعيد إلا صفية، ويغلب على الظن أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يخرج من معتكفه إلا مع أجنبية؛ لأنه أزواجه عنده، ولا توجد بعيدة إلا صفية بنت حيي عليها رضوان الله تعالى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنها صفية ) استبراء لدين من كان يراه، وحفظاً لعرضه عليه الصلاة والسلام لدينهم؛ خشية أن يقعوا في الكفر بسوء الظن، وهذان المسلكان يجب فهمهما.

    ويغفل كثير من الناس ويقولون: هذا عندي ليس من المتشابه، بل هو من المحكم البين، وأنا أفعل به، وإن وقع الناس في عرضي فلا أبالي، وهذا من الجهل؛ لأن الاستبراء للعرض -وإن كان من المحكم عندك- لكنه من المتشابه عند الناس، فيجب أن تستبرئ لعرضك؛ لأنك قد استبرأت لدينك وسلمت؛ فإن الاستبراء للعرض مقصد شرعي، وعليه يقال: يجوز للإنسان أن يترك المحرم لأجل ألا يسبه الناس، لكنه لا يؤجر على ذلك، ولا يعاقب على هذه النية لوجود مقصد شرعي؛ لهذا يقول العلماء: وازع الطبع كوازع الشرع بلا نكران في باب المحرمات، وفي باب التروك، لا في باب الأعمال التي هي داخلة في العبادات، فباب العبادات لابد فيها من العمل المجرد وإن صاحبها وازع من الطبع فلا حرج، ووازع الطبع عند العلماء أقوى من وازع الشرع؛ لهذا يجوز للزاني والفاسق وشارب الخمر وصاحب الكبائر أن يسافر مع أمه مسيرة أيام، لماذا؟ لوجود وازع الطبع في قلبه، ويجوز للفاسق أن يلي أمر ابنته ويزوجها؛ لوجود وازع الطبع في نفسه أعظم من وازع الشرع، وقد أجمع العلماء على ذلك، نص عليه العز بن عبد السلام وابن رجب وابن القيم وغيرهم أن وازع الشرع دون وازع الطبع؛ لأن وازع الطبع قوي، وهذا يذكرها العلماء أحياناً في باب الإقرار في الجريمة وغيرها، يقولون: إن دافعه وازع الطبع لا تقابله شهادة الشهود وغيرها؛ لأنه شهادة الشهود دافعها وازع الشرع، والإقرار دافعه وازع طبع، ووازع الطبع مغلب على جانب وازع الشرع، ولا مقارنة بينهما، وهذا محل إجماع، ويطرد في جميع مسائل الدين إن اجتمعا.

    وعليه فيما يخصنا هنا يقال: إن ما تعلق به وازع طبعي وكان من باب التروك وليس من العبادات المحضة جاز للإنسان فعله لهذا المقصد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد استبرأ لدينه وعرضه ).

    الترغيب والترهيب بذكر الوازع الطبعي والوازع الشرعي

    وعليه فيما يقابله يجوز لمنكر المنكر أن ينكر المنكر من باب تحريك الطباع لا من باب تحريك وازع الشرع، كأن يقول: اترك الخمر والكذب والغيبة والزنى والسرقة فأنت فلان بن فلان، وأنت من الأسرة الفلانية ونحو ذلك، يجوز شرعاً، لكن من جهة الأعمال لا يجوز أن تقول: صل فإنك فلان بن فلان، وأنت من آل فلان ومن البلد الفلاني ونحو ذلك ولا يليق بك هذا، هذا غير جائز إلا إن صاحبه وازع شرعاً، كأن يقول: إن الله فرضها عليك، وهي واجبة عليك وأنت فلان بن فلان، يجوز في باب العبادات، وأما في باب المحرمات فيجوز انفراد وازع الطبع من باب إنكار المنكر باتفاق العلماء، ولكن لا يتحقق الثواب في باب المحرمات إلا بوجود وازع الشرع، إذا ترك الإنسان الخمر، وترك الغيبة والنميمة والكذب والبهتان وشهادة الزور وغير ذلك حسبة لله وطلباً للأجر يثاب على ذلك، إن تركها خشية أن يذمه الناس ونحو ذلك لا يؤجر عليها، ولكنه يرتفع عنه العقاب باتفاق العلماء، أما من جهة الأعمال فهو باب خطير ومسلك عظيم يدخل في باب الشرك، ربما يدخل في باب الشرك الأكبر، وربما يدخل في باب الشرك الأصغر، وهو ما يسميه العلماء الرياء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من رآى رآى الله به، ومن سمَّع سمَّع الله به ) وعاقبته وخيمة كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك معي غيري تركته وشركه ) .

    الوقوع في الحرام لمن وقع في الشبهات

    وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( فمن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام ) يعني: لا محالة؛ لأن الشبهة مترددة بين حل وحرمة؛ فإنه إن كان من عادته ذلك الوقوع في الشبهات فلابد أن يصادف حراماً حتى يتمكن من الحرام، وقيل: إن ثمة معنى ثانياً وهو أنه إن تجرأ على الشبهة لم يكن هيبة للحرام كهيبة الحرام قبل وقوعه في الشبهة حتى يقع في الحرام الصريح، أو تسول له نفسه أن هذا من الشبهة وهو من الحرام الصريح، وحينئذ يأثم كما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ) وهذا من عظيم تعليمه عليه الصلاة والسلام لأمته، ومن نظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام في التعليم وجد أنه كثيراً ما يمثل مسائل العلم بأمور محسوسة مشاهدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، ويقول عليه الصلاة والسلام: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) تمثيل للجسد، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس ) أي: أنه كالبنيان الذي يشيده الإنسان، وهذا من باب تقريب مسائل العلم بالأمثلة المحسوسة، وهذا أسلوب نبوي في التعليم.

    تشبيه من يقع في الشبهات

    قال: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ) الرعاة يرعون في البوادي، والغالب أن الملوك تكون لهم حمى في الجاهلية والإسلام، ويستأثرون بالأماكن الجيدة عن غيرهم، إما لأبلهم أو غنمهم أو لأنفسهم، فيصطفون هذا المكان لهم من دون الناس، والراعي الذي محرم عليه أن يأتي هذا الحمى يأتي بإبله أو بغنمه ويرعى بعيداً عنه، وهو يطمع في هذا الحمى، وبين ما هو مباح له، وبين ما هو محرم له وهو ما هو للملوك موضع شبهة، إن احترز منه بعد عن الحرام، وإن تجرأ على ما يشك فيه وقع في الحرام، والمعالم لم تكن معروفة؛ فإن حدود السابقين تحدد بالأودية وبالجبال وبالأميال من غير حد فاصل كما هو في وقتنا، فالراعي يأتي ويطمع ويقول: إني لم أصل إلى حمى الملك، فيتجرأ شيئاً فشيئاً حتى يقع في الحرام فيناله العقاب، وهذا من باب التمثيل منه عليه الصلاة والسلام.

    حكم الوقوع في المتشابه

    قال عليه الصلاة والسلام مبيناً الحكمة من هذا التمثيل: ( ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ) أي: أن المقصد من تحريم إتيان الشبهات هو الوقوع في المحارم بقوله عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإن حمى الله محارمه ). وقد اختلف العلماء في حكم الوقوع في المتشابه على أربعة أقوال:

    ذهب جماعة من العلماء -وهو قول أبي حنيفة، وقيل: إنه قول جمهور العلماء- إلى أن الوقوع في المتشابه محرم، وقال بعضهم: إنه مكروه، وتوقف بعضهم، وقال آخرون: إنه مباح، وهو داخل في خلاف الأولى.

    والصواب: أنه لا يجوز للإنسان أن يقع في الشبهات وقوعاً يجعله ديدناً له، ومرجع ذلك على التفصيل، أي: الصواب في مسألة الوقوع في المتشابهات على التفصيل: أنه ينظر في حكم الفعل قبل ورود الشبهة، إن كان الأصل فيها الإباحة فهي مباحة، وإذا كان الأصل فيها التحريم فهي محرمة، وإذا كان الأصل فيها الكراهة فهي مكروهة، وهذا قد لا يستقيم في بعض الأحوال لكنه أغلبي، كأن يشتبه على الإنسان الطعام لا يدري أهو حرام أو حلال، أذبح على الشرع أم لا؟ يقال: قبل ورود الشبهة ما حكم هذا الطعام؟ يقال: الإباحة، والشبهة لا تغيره، والأصل فيه الإباحة، أما إذا كان الأصل فيه التحريم فيقال: بأنه محرم، كأن يكون الإنسان في بلد وثني، ووجد طعاماً مذبوحاً، ولا يدري من ذبح، يقال: إن الأصل أن الذي يذبحه وثني أنه حرام، وإن كان من جملة الشبهة التي لا يتبين فيها الإنسان، والورع ترك ذلك كله.

    والورع من أعلى مراتب الدين، وهو باب دقيق يوفق له الإنسان، وربما دخل الإنسان فيه في باب المحرم، فيحرم على نفسه ما أحل الله؛ والنبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه بعض أصحابه وقد حرموا على أنفسهم النكاح، وحرموا على أنفسهم النوم، وأخذوا يصومون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أما أنا فأنكح النساء، وأصوم وأفطر، ومن رغب عن سنتي فليس مني )، فالورع يفهم ويستضاء بفهمه بنور الشرع لا بذوق الإنسان، فلا يجوز للإنسان أن يدع المباح الظاهر من غير شبهة قائمة، ويجعله في دائرة المكروه، وهذا هو الغلو في الدين الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وحذر منه العلماء بتغليب جانب الخوف على الرجاء؛ ولهذا قال بعض العلماء: من عبد الله بالخوف وحده - أي: غلبه على الرجاء - فهو حروري. والحرورية هم الغلاة في الدين، أول ما ظهروا في بلاد حرورة، وظهرت منهم الخوارج الذين أمروا المرأة الحائض أن تصلي وتصوم تورعاً وخشية من ترك الواجب، وهذا مناقض للدين مع ظهور الدليل.

    نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    الحكم على حديث: ومن تتبع الصيد غفل

    السؤال: ما صحة حديث: ( من تتبع الصيد غفل

    الجواب: حديث: ( من تتبع الصيد غفل ) جاء من أربع طرق كلها معلولة، وأعله ابن أبي حاتم وغيره.

    أحاديث الوضوء بفضل المرأة

    السؤال: ما هو حال حديث استعمال فضل ماء المرأة؟

    الجواب: في هذا أحاديث متضادة، لا أدري هل يريد الذي يدل على الجواز أو الذي يدل على الكراهية؟ أما الذي يدل على الكراهية فهو حديث لا بأس بإسناده، يرويه داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الجواز فقد جاء في حديث عبد الله بن عباس في صحيح الإمام مسلم.

    حكم سماع القرآن وقت الأذان

    السؤال: ما حكم سماع القرآن وقت الأذان؟

    الجواب: مخالف للسنة، الأولى أن يجيب الإنسان الأذان، على خلاف عند العلماء المتأخرين في وجوب الإنصات والترديد، والذي يظهر لي -والله أعلم- أن العلماء مجمعون على سنية الإنصات والترديد، وأما من قال بوجوبه وإن كان ظاهر المذهب فليس له سلف، فقد روى ابن المنذر في الأوسط عن عثمان بن عفان ما يدل على خلاف هذا.

    حال رواية حنبل عن الإمام أحمد

    السؤال: هل رواية حنبل عن الإمام أحمد ضعيفة؟

    الجواب: لا، ليست بضعيفة حنبل بن إسحاق وهو ابن عم الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله، هو كغيره من أصحاب الإمام أحمد، لكن له مفردات قليلة قد استنكرها عليه بعضهم كبعض التأويلات في بعض الصفات.

    حكم حديث صيام يوم الخميس

    السؤال: ما صحة حديث صيام يوم الخميس؟

    الجواب: صيام يوم الخميس جاء من حديث حفصة وأم سلمة وأنس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم، وجلها معلولة.

    حال قصة المرأة المتكلمة بالقرآن

    السؤال: ما حال قصة المرأة المتكلمة بالقرآن؟

    الجواب: لا أدري، إن كان يقصد القصة التي عن المبارك فهي ضعيفة.

    حكم الأكل من طعام من اختلط ماله بحرام

    السؤال: أحدهم يختلط ماله بالمال الحرام هل يجوز الأكل من طعامه؟

    الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام تدعوه المرأة المشركة اليهودية فطعم عندها، والله عز وجل وصفهم بأنهم أكالون للسحت، فهل يقال: النبي عليه الصلاة والسلام فعل ذلك؟ لا؛ لأن هؤلاء ليسوا ممن يأخذون بأحكام التشريع في تحريم الربا وغيرها، فأما إذا كان الإنسان متعاملاً بالربا، ويعلم أنه ربا فهذا هو التورع من عدم الأكل مما يعتقد أنه حرام، أما إذا كان لا يعتقد هذا الشيء إما المسألة خلافية وإما نحو ذلك فهذا يجوز.

    حكم الخروج من المسجد بعد الأذان

    السؤال: هل ورد في تحريم الخروج من المسجد شيء؟

    الجواب: إن كان يقصد حال بعد الأذان نعم جاء حديث أبي هريرة وغيره، وتسميته بالفاسق.

    حكم ترديد الآية في الصلاة

    السؤال: هل من السنة ترديد المصلي للآية أكثر من مرة في الركعة الواحدة؟

    الجواب: إذا كان في الفريضة فخلاف السنة، أما في النافلة فلا بأس بذلك، وإن كان لم يثبت عن رسول الله صلى الله وسلم، وأما ما رواه النسائي من ترديد النبي عليه الصلاة والسلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118] فهذا ضعيف.

    حكم توزيع الماء في المقابر بعد الدفن

    السؤال: ما حكم الماء السبيل الذي يوزع في المقابر بعد الدفن؟

    الجواب: الماء في الأصل صدقة؛ فقد روى أبو داود في سننه (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل أفضل الصدقة، قال: السقيا )، وجاء في مسند الإمام أحمد وغيره، فلا بأس بذلك يتناوله الإنسان يكون من جملة الإحسان.

    نعم كيف؟ توزيع الماء؟ ما فيه بأس، إيش الإشكال؟ المقبرة لا يأتي دليل باستثنائها سواء كان في مقبرة أو غيرها، إذا كان الناس يطيلون الحفر ويطيلون الدفن ويقفون في الشمس، والناس ليس وضعهم كالسابق، كانت في السابق المقابر قريبة، والناس لا تتهيب المقابر كما يتهيبها الناس الآن، يضعونها في أقاصي الدنيا، كان في السابق يموت الميت ثم قد يدفن في غرفته ويبقى فيها، ويموت الآخر ويدفنه بجواره، ولا يتهيبون من الموت، بل يبقونها من باب التذكير ولم يركنوا إلى الدنيا؛ لهذا يقول الشاعر:

    لكل أناس مقبر من فنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد

    الآن أصبحت المقابر في أقاصي الدنيا، ثم يقف الناس فيها وينتظرون الدفن، ثم يزدحمون أيضاً، الأمر فيه سعة، من قال بالبدعية والتحريم لا أدري ما وجهه!

    الحكم على قول: إذا قرع الكأسان ببعضهما

    السؤال: ما صحة حديث (إذا قرع الكأسان ببعضهما حرم ما فيها)؟

    الجواب: هذا ليس بحديث، وإنما كلام.

    حكم الأسهم المختلطة

    السؤال: يقول: ماذا على الأسهم المختلطة؟

    الجواب: لا أعرف عن السهم شيئاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767397174