الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن سنة الله الكونية قضت بأن الأشياء على مراتب وعلى مقادير، وجعل سبحانه وتعالى للأشياء أسباباً تتكون منها.
وينبغي أن تفهم سنة الله جل وعلا الكونية، ويدرك أن ثمة توافقاً بين ما يدركه الإنسان ويراه، وبين علل التشريع، وعلى الإنسان أن ينساق إلى أوامر الله سبحانه وتعالى, ويدرك الغايات والحكم الإلهية، وإنما يختلف نظر الإنسان إلى أحكام الله جل وعلا بين متأمل مدرك وعالم وجاهل ومقصر في هذا الباب، فيتباين الناس في إدراك حكم الله جل وعلا من أوامره ونواهيه بناء على ذلك.
لهذا كان الكون على تراتيب, وعلى تراكيب, ودرجات، ولكل درجة ومرتبة قيمة في الشريعة، وهذه حكمة ماضية جعلها الله سبحانه وتعالى لسننه الكونية، وجعلها أيضاً لسننه الشرعية، وهذا مقتضى حكمة الله جل وعلا وكمال قدرته، فالله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بالحكمة، وسمى نفسه بالحكيم، وجعل الله جل وعلا لجميع أوامره حكماً بالغة لا يدرك جميعها إلا هو، ويدرك الخلق بعضاً منها ويتباينون في إدراك ذلك.
ولهذا جعل الله جل وعلا العلماء أعظم الناس خشية له، قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
إن من أعظم المهمات في فهم دين الله سبحانه وتعالى: أن يعرف الإنسان مراتبه ومقاديره، وكذلك في حال اجتماع المصالح أن يعرف مراتب ودرجات تلك المصالح، وإذا اجتمعت المفاسد أيضاً أن يعرف مراتب ودركات تلك المفاسد، وإلا ضل الإنسان.
وسنتكلم هنا في بيان المراتب والمقادير، وكذلك في الدرجات والدركات في أبواب الخير، وأبواب الشر في دين الإسلام التي بينها الله جل وعلا في كتابه العظيم، وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من أقواله وأفعاله.
إن فقه الموازنات، وفقه الأولويات، من الأمور المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يدركها، وخاصة في الأزمنة المتأخرة, عند اختلاط كثير من أحكام الشريعة، وكذلك عند دخول المبالغات في بعض الأبواب وحقها عدم المبالغة، ودخول التصغير والتحقير لمسائل حقها التعظيم؛ وذلك أن مرد هذا إلى حكم الله جل وعلا وتقديره، وإنما وقع الخلط في كثير من أحكام الله سبحانه وتعالى وموازينه؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن الإسلام إنما جاء جملة فيؤخذ جملة.
وكذلك فإن كثيراً من الناس يخلطون بين ما يحتاجونه من أوامر الله وأحكامه, وبين أحكام الله سبحانه وتعالى التي لا يطيقها الإنسان, كذلك أيضاً بين مراتب الأمور التي أصلها معظم، ولكنها في ذاتها تعد من فرعيات الدين ومسائله، وإن كانت تدخل في الأصل العام: بعض فرعيات, وجزئيات, وصور دقائق مسائل الإيمان وغير ذلك.
وغيرها يدخل في أبواب الفروع، ولكنه أصل وباب فيها، وما يكون في الفروع مما هو ظاهر وأعظم إذا كان من الأصول العظيمة, والدعائم الجليلة, أعظم من بعض الفرعيات وصور مسائل الإيمان، وهذا أمر معلوم.
لهذا فالذين يأخذون بظواهر الأدلة من كلام الله جل وعلا, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, ببيان منزلة وقدر الأحكام الشرعية الواردة بالنص، ويكتفون بذلك، هذا فيه نوع قصور، وكذلك تجاهل لمراد الله جل وعلا، فإن الله سبحانه وتعالى الذي فرض أركان الإسلام هو الذي فرض أركان الإيمان، والذي جعل السنن والمستحبات، وكذلك جعل المباحات جعلها في باب، وجعل الفرائض في أبواب متنوعة، منها ما كان على فروض الأعيان، ومنها ما كان على فروض الكفاية.
وفروض الأعيان تتباين, منها: ما هو فرض إذا تركه الإنسان كفر, وخرج عن الملة، ومنها ما ليس بفرض ولكن مقامه في الشريعة أعظم؛ باعتبار أنه شعيرة من شعائر الدين.
والله جل وعلا قد جعل كونه، وجعل أحكامه على تراتيب, وأسباب يلزم من بعضها بعضها الآخر، والإنسان إذا لم يعرف أسباب الأشياء وعرف الغايات أو حصل العكس وقع في خلل وقصور.
فالله سبحانه وتعالى قد جعل كل شيء له مرتبة سابقة له؛ فقد أوجد الله الإنسان من عدم، وقبل إيجاده من عدم جعل الله سبحانه وتعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلقه؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى مبيناً المراتب التي خلق فيها الإنسان: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11].
فبين الله سبحانه وتعالى أنه كان الخلق، ثم كان التصوير، ثم أمر الله جل وعلا الملائكة بالسجود لآدم، ثم كان بعد ذلك الامتحان.
إن معرفة تسلسل الحوادث، وتدرج الأحكام من الأمور المهمة, التي يعرف فيها الإنسان مراتب الدين.
ما نتكلم عليه اليوم هو في مسألة فقه الأولويات، وكذلك ما يسمى بفقه الموازنات، لا يمكن أن يتحقق للإنسان معرفة الأولويات إلا بمعرفة باب الموازنات؛ فإن الإنسان لا يمكن أن يعرف أقدار الأشياء إلا بوزنها؛ ولهذا يقال: إن فقه الموازنات سابق لفقه الأولويات.
وفقه الموازنات: هو أن يعرف الإنسان مقادير الأشياء، ولا يمكن للإنسان أن يعرف فقه الموازنات إلا بأمرين يسبقان ذلك وهما:
الأمر الأول: معرفة المقاصد الشرعية ومآلات الأمور:
الأمر الثاني: معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بذوات الأقوال والأفعال والاعتقادات.
إذا عرف الإنسان هذين الأمرين فإنه سيوفق إلى الصواب.
لقد شرع الله جل وعلا لهذه الأمة جملة من الشرائع والأحكام، منها ما وافقت فيه الأمم السابقة، ومنها ما اختلفت فيه عن غيرها، وهذا يجمله العلماء بما يسمى بالضروريات الخمس.
وهي: ضرورية حفظ الدين، وكان هذا هو الأصل، الذي لأجله الله جل وعلا شرع الجهاد، وشرع القتال، وشرع إقامة الحدود؛ حفاظاً على الدين، وصوناً له من الدخيل فيه، ولما كان ذلك هذا الحفظ -يعني: لضرورية الدين- يلزم منه استباحة الدماء، وكذلك قطع الأطراف، والنفي، وكذلك أيضاً مصادرة ما يسمى بالحريات وغير ذلك؛ حفظاً للدين الذي لا تقوم الدنيا والآخرة إلا به؛ ولهذا جاءت التشريعات بحفظ هذا الدين, وبيان منزلته.
والإنسان لا يمكن أن يعرف الموازين إلا وقد عرف قيم الأشياء قبل أن يزنها، أعظم ما يعرف به الإنسان الموازين هو أن يرجع الموزونات إلى حكم الله سبحانه وتعالى, باعتبار أننا نتكلم عن أحكام الشريعة.
والشريعة جاءت بجملة من الشرائع, وأحكام الله سبحانه وتعالى متنوعة في هذا الباب, وهي ما يسمى بأبواب المصالح المتنوعة، هذه المصالح مصالح دينية، ومصالح دنيوية، وقد جاءت الشريعة ببيان جملة من أحكامها على سبيل النص، وجاءت الشريعة ببيان جملة من أحكامها على سبيل اللزوم، ومنها ما دل الدليل على بيان فضلها ومنزلتها بنزول النص العام الذي يدخل في ثناياه جملة من الصور والأحوال.
ولا يمكن للإنسان أن تتحقق له معرفة الأشياء إلا بإرجاع الأحكام الشرعية إلى الذي أنزلها وشرعها، والله سبحانه وتعالى قد بين تلك المقادير.
إن الميزان الحق في معرفة قيم الأشياء، ومعرفة مراتبها، وما يقدم منها وما يؤخر، ودرجات هذه الأشياء عند الاضطراب والتضاد, لا يكون إلا بالرجوع إلى النص.
وكثير من الأحكام الشرعية التي أنزلها الله جل وعلا, وأمر الناس بالتعبد له بها تتباين من جهة قيمها، وإن كانت ترد بصيغة واحدة، الله جل وعلا يأمر عباده في جميع العبادات بقوله جل وعلا: افعلوا، فقد أمر الله جل وعلا بالصلاة، وأمر بالزكاة, والصيام, والحج، وببر الوالدين، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام, وغير ذلك, كلها كانت بصيغة افعل، وما عدا ذلك قد يقع فيه الخلط.
إذا أخذ الإنسان شطراً من أوجه ومعاني الشريعة وقع لديه الخلط والاضطراب في هذا الأمر، فأخذ الشريعة حينئذ على ميزان واحد, هو أنها عبادات يأخذ الإنسان منها ما يشاء.
وهذا أوجد الخلط عند كثير من الناس بحيث أنه يأخذ شيئاً من دين الله, وتكون لديه قناعة بأنه أخذ شيئاً من الدين, فأشبعت غريزته حينئذ بأنه قد أرضى الله جل وعلا بصلة الأرحام، وأرضى الله جل وعلا بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكذلك بشيء من الصلاة, بينما هو ينقض ما هو أعظم من ذلك وهو التوحيد.
لهذا لا يمكن للإنسان أن يعرف حقائق الأشياء إلا بمعرفته بسببي المعرفة التامة، وهي معرفة الشيء بحقيقته، ومعرفته ببيان ضده؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد عرف الأشياء لأمته على الوجهين، ببيان حقيقة الشيء وبيان ضده.
فإذا أردنا أن نأخذ المأمورات التي بينها الله سبحانه وتعالى لعباده في كتابه العظيم, لا يمكن أن نعرف ذلك إلا بمعرفة ضدها:
وبضدها تتبين الأشياء
وإذا أردنا أن نعرف توحيد الله سبحانه وتعالى، وكذلك الصلاة، والزكاة وقيمها, وإخراجها إلى ميزانها الحق إذا أردنا أن نوازن، نحن نريد أن نوازن بين الصلاة والزكاة، وكذلك بين الحج وصيام رمضان، أيها أعظم؟
وكثير من الناس يخلط في هذا الأمر, لماذا؟ لأنه قد أشغل ذهنه بالنصوص الواردة في إيجاب ذلك، ولم يشغل ذهنه في بيان عقوبة تارك ذلك وحكمه في الشرع، وما أنزل الله جل وعلا من عقوبة لمن فعل خلاف أمره جل وعلا، وإذا جهل الإنسان الشطر الآخر، أو ما يسمى بحال الإنسان في حال مخالفة النص, وقع لديه الخلط في هذا الأمر.
نجد النصوص الشرعية في بيان التشريعات كلها منها ما كان على سبيل الوجوب والفرض، وما كان أيضاً على سبيل الندب والاستحباب, نجد أنها قد شرعت بصيغة واحدة وهي افعل، وأما العقوبة فنجد أنها تتباين، وهذه العقوبة هي التي يقع فيها الخلط؛ ولهذا وجب على العالم، وكذلك وجب على طالب العلم, أن يتبصر بالشطر الآخر وهو معرفة النقيض، وذلك أن الإنسان إذا فقد ذلك الحكم ما حكمه في الشرع؟
الإنسان إذا فقد التوحيد ما ميزانه؟ بعض الناس يقع في شيء من صور الشرك، ولكنه يسلي نفسه، أو يرضى عن الآخرين؛ لأنه مثلاً بار بوالديه، أو يتصدق، أو يكفل الأيتام، أو ينفق, أو غير ذلك من مسائل الإحسان، أو يعمر المساجد وهو قد وقع في الشرك، وهذا من الخلط في أبواب الموازنة.
ونحن حينما نتكلم على الموازنة في أبواب الشريعة، لابد للإنسان إذا أراد أن يعرف قيمة الشيء ووزنه, أن يرجعه إلى أهل النظر فيه، وأهل النظر هنا هو المشرع سبحانه وتعالى, الذي شرع الشرائع وأمر بالأحكام، وجعل الحكم له جل وعلا لا لغيره؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، فجعل الحكم له وجعله عبادة.
وجعل المخالف له في تبيين مقدار تلك الأشياء, مخالفاً له جل وعلا في أبواب التشريع، ومناقضاً لحكم الله سبحانه وتعالى.
وكثير من الناس -والعامة أعظم- تكون أمامهم عقبة في فهم مراد الله سبحانه وتعالى في الأحكام الشرعية، وكذلك ترتيبها في أبواب الموازنات, خاصة عند الفتن والمحن واشتداد الأمور, يقع لديهم الخلط في هذا الأمر، وهذا مقترن بمعرفة الشق الآخر في أبواب الموازنات, وهو معرفة المقاصد والمآلات التي لابد للإنسان أن يتبصر بها.
ومعرفة الإنسان لحقيقة الشيء أيضاً لا تجعله يحكم على الشيء بالاطراد، وإنما لابد من معرفة المآل، فإذا عرفنا أن الله جل وعلا قد قدم أمر الدين على غيره, فالدين حينئذ على مراتب: منه ما هو واجب، ومنه ما هو فرض، ومنه ما هو مستحب، فالله سبحانه وتعالى قد جعل ضرورية حفظ الدين مقدمة على حفظ النفس، فهل يقال: إن الإنسان يقيم نافلة, ولو كان ذلك بإراقة الدماء تحت هذه القاعدة، نقول: هذا من الجهل.
إذاً لا بد للإنسان أن يجمع بين الأمرين، ومعرفة ما تؤول إليه الأحوال، وكذلك الأقوال، فإذا عرف ما تؤول إليه ونظر بنور الله جل وعلا واهتدى بهديه, أرجع تلك الأحوال والمآلات إلى نصابها, ثم حكم بينها وبين ما كان حالاً من مراد الله جل وعلا وحكمه.
والواجب في حق الإنسان ابتداءً في معرفته للأوليات: أن يفقه أبواب الموازنات، وأن يعرف قيم الأشياء، وقيم الأشياء كما تقدمت الإشارة إليها أن يرجع الأمور إلى النص، الله سبحانه وتعالى قد جعل الدين مقدماً على غيره.
وجعل بعد الدين العرض؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى صان الأعراض بإزهاق الأنفس، فمن وقع في الزنا -وهو محصن- يرجم، فأزهقت النفس لأجل حفظ العرض والنسل، ثم جعل الله جل وعلا بعد ذلك حفظ النفس، ثم يلي ذلك حفظ المال والعقل على خلاف في هذا، فمن العلماء من يقول: العقل، ومنهم من يقول: المال، ومنهم من يقول: إن العقل مقدم على ذلك باعتبار أن التشريع لا يمكن أن يفهم إلا بحفظ العقل، ومن الناس من يقول: إن بين حفظ النفس والعقل امتزاجاً، ومنهم من يقول: إن حفظ العقل ملازم لأصل التكليف وهو موجود في خلقة الإنسان، ولا يمكن أن يزال، فحفظه وصونه هو دفع لشيء عارض، وهذا الأمر لا نخوض فيه باعتبار أنه يخرجنا عن مرادنا.
والله سبحانه وتعالى قد جعل إدراك حقائق الأشياء بمعرفتها ومعرفة ضدها؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى لا يبين حكماً من أحكامه إلا وقد بين ضده؛ فقد أمر الله جل وعلا بالتوحيد وبين ضده وهو الإشراك، وأمر الله جل وعلا بإقامة الصلاة وبين ضدها وهو الترك، ومن تركها وحكمه في الشريعة, وما جاء في ذلك من نصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما جاء في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة )، وكذلك ما جاء في حديث بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )؛ لهذا يجد الإنسان إذا أراد أن يوازن على سبيل المثال بين الصلاة والزكاة، يجد أن نصوص التكفير فيمن ترك فعل الصلاة والزكاة إنما جاءت في تكفير تارك الصلاة أكثر من غيره؛ لهذا يقال: إن الصلاة تقدم على غيرها، ونصوص الوعيد التي جاءت في ترك الزكاة أعظم من نصوص الوعيد التي جاءت في ترك الصيام، وهكذا يجري ذلك على سائر الفروض, سواء كانت من فروض الأعيان فيما بينها، أو من فروض الكفايات فيما بينها.
وكذلك ما كان من المستحبات منها ما هو متأكد، ومنها ما كان على غير التأكيد، ومنها ما بين الله جل وعلا أمره ولم يبين الله سبحانه وتعالى عقاب التارك.
ومعرفة الموازنة في هذا الأمر تكون بمعرفة الثواب المقدر فيه، فالله جل وعلا قد بين كثيراً من الأحكام الشرعية, وحث عليها, وبين فضل الفاعل, ككثير من العبادات كالسنن الرواتب وغيرها، ومن ذلك ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما في قوله: ( من صلى لله جل وعلا في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة ), هذا بيان للثواب. ودليل الخطاب فيه: أن الإنسان إذا ترك ذلك فإنه لا يستحق هذا، فيكون حينئذ ضده أن من ترك هذا الفعل لم يبن له بيت في الجنة كل يوم، على خلاف عند العلماء, في لزوم ذلك في كل يوم أم هو على الدوام والمحافظة، وفضل الله جل وعلا أوسع، وعلى هذا يقال: إن ذلك في كل يوم.
ولهذا نقول: إن أبواب الموازنات تحتاج من الإنسان أن يعرف حقائق الأشياء، وأن يعرف ضدها، وألا ينظر إلى النص، وكذلك النصوص المترادفة المجردة، فيشغل نفسه بالأوامر، ولا يشغل نفسه ببيان عقوبة التارك؛ لهذا يقع الخلط في هذا الأمر.
ومن الخلط الذي يقع فيه كثير من الناس: أنهم ينشغلون بأبواب معرفة أمر أنه من أمور العبادة التي أمر الله جل وعلا بها دون غيره، والإنسان بفطرته مهما كان صالحاً، ومهما كان مخلصاً لله سبحانه وتعالى، يقع لديه شيء من الخلط في هذا الأمر، وهذا جزء من صراع الأنبياء مع أممهم.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قد قاتل المشركين، ويعلم عليه الصلاة والسلام أن لديهم شيئاً من الخير، وهذا الشيء من الخير هو خلط في أبواب معرفة ما أمر الله جل وعلا به قبل غيرهم.
والمشركون من كفار قريش يعمرون المساجد ويسقون الحاج، ولكن يقدمونها على توحيد الله سبحانه وتعالى, فبين الله جل وعلا ضلالهم: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة:19]، فجعلوا هذه الأفعال على السواء: سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة:19]، إن هذا الظن من الوهم والغلط في ذلك، وهذا الأمر وإن كان من الدين, إلا أنه في أبواب ومراتب الأولويات من الخلط في هذا.
وكثير من الناس الذين يتعلقون بأمور يخالفون فيها أمر الله جل وعلا من باب، وهذا الباب يجادلون فيه؛ ولهذا التتار لما قاتلوا المسلمين كان عند التتار بعض أعمال الإسلام؛ ولهذا قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمه الله: أن التتار كانوا يقومون الليل مع ما فعلوا من فساد، كانوا يقومون الليل، ولكن حالهم العام فيه مخالفة أمر الله جل وعلا, ومناقضة حكمه، أي: أنهم كفروا بالله جل وعلا, وخالفوا توحيد الله، ووقعوا في كثير من نواقض الإسلام, فاستحقوا الكفر، وعلى هذا فما يفعلونه من أمور العبادة يعد هباء منثوراً.
كثير من الناس يخلط في معرفة الحقائق، ومعرفة لوازمها، والعلماء يقولون: إن العالم الحق هو الذي يعرف مراتب ودرجات الخير من درجات الخير نفسها، وليس الذي يميز بين الخير والشر هو العالم؛ لأن هذا من مدركات العقل البسيط، فمن العامة من يفرق بين الخير والشر، ولكن حقيقة الصراع الذي يكون بين الأنبياء وأممهم هو في معرفة المراتب، هل هذا أولى من هذا، أو هذا أولى من ذاك؟
كفار قريش لديهم شيء من الخير، ولديهم شيء من التدين والعبادة، ولكنه في باب من أبواب الخير, فقد أغلقوا الباب الأعظم الذي يوصل إليه وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، فكان لديهم شيء من التوحيد، ولديهم شيء من الشرك في العبادة، ولكن نقضوا حكم الله جل وعلا بجملة من الأفعال والأقوال فخرجوا من ملة الإسلام، وحينئذ لا ينفعهم هذا، ولم يدركوا أيضاً أن الله جل وعلا إنما أمر بتوحيده من جميع الوجوه ونفي الشرك، وهذا لا يتحقق في عبادة من العبادات, إلا في توحيد الله جل وعلا ونفي ضده؛ وذلك أن الإنسان إذا وقع في باب من أبواب التفريط في هذا, استحق الوصف الكامل بالشرك.
كثير من الناس يظن أن توحيد الله سبحانه وتعالى -وكذلك الإيمان- يتحقق للإنسان بفعل خصلة من خصال الإيمان، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )، وهذه الشعب التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم جعلها من الإيمان وجعلها على مراتب، فالإيمان لا يتحقق كاملاً إلا بالإتيان بهذه الشعب كاملة أو بأغلبها، والكفر أيضاً شعب، ولكن يتحقق الكفر بشعبة واحدة.
من وقع في شيء مما يكفر به الإنسان كفر ولو أتى ببعض شعب الإيمان؛ ولهذا فالذي يسجد لصنم يكفي هذا في تكفيره, ولو لم يعبد الشمس, والقمر, والكواكب, ويحلف, وينذر, ويذبح, وغير ذلك؛ باعتبار أنه قد كفر بوجود شعبة من شعب الكفر، وأما الإنسان الذي يفعل العبادة كأن صلى لا يلزم من ذلك أن يتحقق فيه الإيمان, إلا بنفي سائر أبواب الشرك كلها، وتحقق مجموع أو جمهور شعب الإيمان.
ولا يمكن للإنسان أن يتحقق الإيمان لديه, إلا بالإتيان بشعب الإيمان أو بأغلبها، وهذا على الخلاف، وهذا على اختلاف في مسائل شعب الكفر، فالكفر يتحقق بشعبة واحدة من شعبه، إذا وقع فيها الإنسان.
لهذا كثير من الناس الذين تسوقهم العاطفة, إذا ثبت كفر شخص، أو ثبت كفر جماعة بأي نوع من أنواع المكفرات, نظروا إلى شيء من العبادات التي يقوم بها فحكموا له بالإيمان لذلك، كأن يكون من أهل صلة الرحم، أو يكون من أهل بذل السلام، أو كفالة الأيتام وغير ذلك، وهذا خطأ؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد عارض كفار قريش حينما أشركوا في العبادة مع الله غيره.
ومعرفة الحقائق الشرعية وقيمها -كما أنها تعرف بمعرفة ضدها- ولكنها تختلف من باب إلى آخر، بكثرة التحذير، الذي جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكلام الله جل وعلا، ويظهر هذا أن الله سبحانه وتعالى يأمر بشيئين على صيغة واحدة، ويبين العقاب أيضاً على صيغة واحدة، ولكن ذلك العقاب الذي بينه الله سبحانه وتعالى يختلف ويتباين من جهة الوفرة، فهناك بعض الأوامر يبين الله جل وعلا خطورة تاركها بجملة من النصوص، ويكرر ذلك ويرد فيه عشرة من الأخبار, أو عشرون خبراً مخارجها متنوعة.
وإذا جاءنا أمر قد اتحد العقاب عليه مع ذلك الأمر لكنه جاء في خبر واحد فنقول: إن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان خطر ذلك الفعل بنصوص, وأحاديث متنوعة هي أعظم؛ لأن كثرة التحذير دليل على عظمة ذلك الفعل الذي حذر الله جل وعلا منه.
وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن يعرف حدها الإنسان، وأن يعرف قدرها حتى يخرج إلى ما يسمى بفقه الأولويات.
وإذا أدرك الإنسان حقائق هذه الأشياء, ورسخت في قلبه لم تزعزعه الفتن، وكذلك الدعاوى التي يدعيها كثير من الناس بأن هذا باب من أبواب الخير وذاك أولى منه، وحتى حين تتزلزل الأقدام عند الفتن، ويكون أيضاً الشقاق في الناس، ويكثر أيضاً عرض أبواب الخير على سبيل المبالغة فالعالم لا يغتر بذلك.
لهذا قد روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث شعبة عن عمرو بن مرة , أن عبد الله بن سلمة يقول: رأيت عمار بن ياسر يوم صفين, وهو شيخ طويل, ويده ترتعد، فقال عمار عليه رضوان الله تعالى, وهو بين الصفين: لو ضربونا حتى بلغوا بنا نخل هجر, إننا لنعلم أننا على الحق وهم على الباطل.
وفي قول عمار عليه رضوان الله تعالى دليل على ثباته على ما هو عليه، وأنه حتى لو تحقق النصر لخصومهم والهزيمة لمن كان مع عمار , إلا أن الحق معهم مهما فعلوا, ولو أرجعوهم من أطراف العراق إلى هجر.
وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا عرف حقائق الأشياء وعرف ضدها، وعرف مقاديرها في الشريعة، لم يضره حينئذ التعارض الذي يطرأ في ذهنه، فالإنسان قد يطرأ في ذهنه جملة من المتعارضات والمصالح، ولكن إذا كان من أهل العلم الراسخ والإيمان, زال عنه ذلك التعارض.
من ذلك ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، الله سبحانه وتعالى بين أن المشركين نجس، ونهى عن دخولهم المسجد الحرام، ولكن بين الله جل وعلا أن ثمة أمراً, انقدح في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من المصالح التي تتعارض في ابتداء الأمر مع هذا، ويقع فيه الخلط, وهي خوف العيلة وهي الفقر: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28].
ومعنى هذا كما جاء عند ابن جرير الطبري وغيره من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أن الله جل وعلا لما أنزل قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، قال المسلمون: إننا إذا أخرجنا المشركين وقعت الفاقة والفقر, باعتبار أنهم أهل تجارة، وهم الذين يجلبون التجارة إلى مكة, فخشوا الفقر والفاقة، وهذا نوع من أنواع الموازنة، ولكنها موازنة في هذا الموضع موازنة خاطئة، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا أن الغنى من الله سبحانه وتعالى.
يقول عبد الله بن عباس: فأمر الله جل وعلا نبيه بجهاد أهل الكتاب فغنموا مالاً كثيراً، يعني: عوضهم الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا معنى جليل، وهو أن الشريعة منظومة تامة، فالإنسان إذا أتى بها على سبيل التمام والكمال, تحقق له ترتيب الوعد والنصرة التي أمر الله جل وعلا بها, وهذا يظهر في قول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:28]، والفقر الذي خشيه أهل الإيمان في مكة يدفعه الاستجابة لأمر قتال أهل الكتاب، فإذا فرطوا في قتال أهل الكتاب لم تظهر الحكمة حينئذ، ويسألون: ما وعدنا الله جل وعلا من الإجابة أن الله جل وعلا سيغنينا؟ والسبب في ذلك أنهم حرموا إجابة ما وعدهم الله جل وعلا به؛ بسبب تفريطهم بالحكم الآخر, وهو أن الله جل وعلا أمرهم بمقاتلة أهل الكتاب، ثم امتنعوا عن ذلك، وإذا لم يكن ثمة وحي, فإنهم يجهلون أين ما وعدنا الله سبحانه وتعالى في ذلك الموضع؟
ونسوا أن ذلك الحكم المنفك والمنفصل عنه إخراج المشركين من مكة بأمر الله سبحانه وتعالى في قوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فهذا منفصل عن ذلك الحكم، ولا يتبادر إلى ذهن الإنسان أن ذلك هو الذي يسد الخلة التي ظهرت في ذهن الإنسان من الحكم الأول, وهو أن المشركين نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا.
لهذا الإنسان إذا أراد أن تظهر ثمار أحكام الله جل وعلا كلها، وتظهر العلل فليلتزم أحكام الله سبحانه وتعالى على السواء, وهذا يدلنا أيضاً على قاعدة مهمة, وهي أن على الإنسان إذا كان من أهل الحذق, والمعرفة بمآلات الأحكام، ومقاصد الشريعة أن ينظر إلى أسباب الأشياء ولو كانت منفكة عنها، إذا كان الإنسان يريد أن يأتي بحكم من أحكام الشريعة فلينظر إلى ما يسد هذا الأمر وهذه الخلة ولو كان في أمر آخر، وإذا لم يوجد ذلك الأمر فعليه حينئذ أن يوجد بديلاً، لا أن ينقض حكم الله جل وعلا.
ومن الأمور المهمة -ما تقدم الإشارة إليه- أن الإنسان في أبواب الموازنات لابد أن يعرف حقائق الأشياء، ومردها إلى النص من كلام الله سبحانه وتعالى, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست بالذوق ولا بالحس.
ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بينوا كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن سالم أنه قال: اتهموا رأيكم في دين الله، لقد رأيتني أيام أبي جندل لو كنت أملك أن أرد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلا آل بنا إلى أمر نعرفه إلا هذا الأمر، يعني: أننا ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمرٍ وإن كان شديداً علينا إلا ظهرت لنا النتيجة منه، وظهرت لنا الحكمة سريعاً، إلا هذا الأمر الذي آل به في نهاية الأمر إلى مصلحة الأمة فقال: ( اتهموا رأيكم في دين الله ).
ولهذا يقول أبو الزناد -كما رواه البخاري معلقاً في كتابه الصحيح- قال: إن الرأي كثيراً ما يأتي مخالفاً لحكم الله، ولا نجد بداً من الأخذ بحكم الله جل وعلا؛ وذلك أن الله جل وعلا أمر المرأة الحائض بقضاء الصيام، ولم يأمرها بقضاء الصلاة، فأمثال هذه الأمور لا ترجع إلى العقل، وإنما يجب أن يمتثل النص.
فإذا نظر الإنسان في قيم الأشياء, وحقائقها, ومرتبتها من جهة الأصل, ونظر أيضاً إلى مآل الأمور وجب عليه أن يمتثل حكم الله، وهذا أيضاً يظهر في قصة الحديبية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان معه جماعة من الصحابة، منهم عمر و أبو بكر و سهل وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سهل أيضاً كما رواه البخاري من حديث أبي وائل عن سهل قال: ( لقد رأيتنا أيام الحديبية، لو نملك أن نرد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ونقاتل لقاتلنا، حتى إن عمر بن الخطاب ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، فقال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لن يضيعني، وذهب عمر إلى أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، فقال له نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لن يضيع نبيه ).
والمراد من هذا أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى لما كان دون النبي عليه الصلاة والسلام إدراكاً للغايات باعتبار الوحي، وكذلك أيضاً إدراك النبي عليه الصلاة والسلام للحكم الإلهية أعظم، كان الموازنات في قول عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى دون النبي عليه الصلاة والسلام, فوازن بإرجاع بعض الوجوه, إلى أسباب لا ترد هنا، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فجعل هذا نتيجة إلى وجوب المقاتلة: ( أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار )، أننا لو فعلنا هذا الأمر وكانت النتيجة بعد ذلك، ألا يكون هذا أننا في الجنة وهم في النار؟ قال: نعم، أي: أننا لو قاتلناهم على هذه الحال فنحن في الجنة وهم في النار.
ولكن ثمة مصلحة هي أعظم من ذلك وهي الفتح، ثم أنزل الله جل وعلا على نبيه عليه الصلاة والسلام سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فجاء عمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( هو الفتح؟ فقال: نعم ).
وهذا فيه إشارة إلى أن أبواب الموازنات ينبغي للإنسان أن يجمع فيها بين أمرين:
الأمر الأول: معرفة حقائق الأشياء، وهي التي أخذها عمر بن الخطاب في هذا الموضع, وهي معرفة أننا على الحق في أبواب التوحيد، وكذلك أيضاً في أبواب الجهاد، وهم على الباطل، وأن قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار، وهذا أمر، ولكن مسألة المآلات أمر أعظم من ذلك, وهو أن الأنفس لن تزهق، والدين لن يزول، والحق حق معنا لن يضيع، والباطل هو باطلهم على ما هم عليه، ولن يتغير من الأمر شيء, إلا أن الغاية في غير هذا الأمر أعظم وأسمى.
لهذا نقول: إنه لا يمكن للإنسان أن يتحقق له وزن الأشياء، والخروج بنتيجة جليلة القدر إلا بمعرفة الأمرين: الأمر الأول: معرفة حقائق الأشياء، وهي التي صدر عنها عمر بن الخطاب .
الأمر الثاني: معرفة المقاصد والمآلات, والجمع بين هذين الأمرين لا ينفك، فلما جمع النبي عليه الصلاة والسلام بينهما, كان الحق في قوله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه مؤيد ومنصور بالوحي.
وكذلك أيضاً من الأمور المهمة التي ينبغي أن تدرك في أمور الموازنات: أن الأخذ بمعرفة حقائق الأشياء مرجعه النص، وما يتعلق بالمقاصد والمآلات مرده إلى الخبرة والدراية؛ لهذا ينبغي للعالم أن يكون من أهل الخبرة والدراية، وينبغي أيضاً ألا يصدر العالم عن آراء الجهال، وقليلي الخبرة من صغار السن وغير ذلك، بتصيير مسار الأمة إلى ما لا يرجوه ولا يريده، بل ينبغي له أن يجمع بين الأمرين ثم يصدر عما يريد.
فإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسهل يحكي حال الصحابة, ومجموع الصحابة وجمهورهم, أنهم ينبغي لهم ألا يرجعوا عما أقدموا عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان معه جملة من أصحابه، فكان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لا يصدرون في نهاية الأمر إلا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمهما رأوا خلاف ذلك، وهذا إذا كان في حال نزول الوحي من الاختلاف، فإنه أيضاً في حال موت النبي عليه الصلاة والسلام، وما كان بعده من قرون, فكيف بآخر الزمان؟ فإن ذلك من باب أولى.
كذلك فإن الإنسان ينبغي له أن يكون من أهل الدراية والإحاطة بنصوص الشريعة، وهذا لا يمكن أن يتحقق للإنسان في معرفة أبواب الموازنات إلا بمعرفة حقائق الأشياء، وحقائق الأشياء مردها إلى النصوص الشرعية, من كلام الله جل وعلا, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يخوض في مسائل الإيمان, أن يعرف مراتب الإيمان, وأن يعرف أيضاً الشرك ودرجات الشرك، وأن يعرف نواقض الإسلام، ومتى تنتفي عن الإنسان؟ وأبواب العذر بالجهل، وكذلك أيضاً مآلات هذا الأمر إلى غيره، وكذلك اللوازم التي تحتف بذلك الأمر، والتفريق بين الشرك الأصغر والشرك الأكبر، وكذلك أيضاً الشرك الذي يقع من شخص، والشرك الذي لا يقع في الجماعة, أو يقع في جماعة، وجماعة قليلة دون الجماعة الكثيرة وغير ذلك، وهذا كما أنه يتعلق في ذوات, كذلك أيضاً يتعلق في مسائل المعاني من بيان أحكام الله سبحانه وتعالى.
والصحابة عليهم رضوان الله تعالى -مع معرفتهم لأحكام الله جل وعلا- يجمعون في أبواب الموازنات بين ما يمكن إقامته تأجيلاً, وبين ما يلغى ولا يمكن إقامته، وأن ما كان من أصول الدين, ويجب إقامته أنه يمكن تأجيله إذا تحقق في ذلك مصلحة ولو كانت لفرد؛ ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أسقطوا بعض الحدود إذا كانت في الغزو.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد وكذلك أبو داود في كتابه السنن واللفظ للإمام أحمد من حديث شييم بن بيتان عن جنادة , أن بسر عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقام الحدود في الغزو ).
قال الأوزاعي : خشية أن يقام عليه الحد فيلحق بالمشركين, فإذا سرق أحد من المؤمنين في الغزو, فإقامة الحد عليه مدعاة إلى أن يخرج من صفوف المسلمين, وأن يلحق بصفوف المشركين، هذا في أبواب الموازنة وإدراك هذا الأمر.
ولهذا جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( إن رجعتم فأقيموا عليه الحد, وإن قتل قتل شهيداً ), يعني: إن قتل في صفوف المسلمين فهو شهيد، وتعجيل ذلك لا يسقط الأمر، وهذا من الحكمة الجليلة والغاية العظيمة بمعرفة مآلات الأمور مع الحفاظ على الأصل.
ولهذا ذهب الإمام أحمد و أبو حنيفة و الأوزاعي وجماعة من العلماء إلى أن الحدود لا تقام في أرض الحرب، ولا في بلدان الغزو؛ حتى لا يخرج الفرد من صفوف المسلمين, فيلحق في صفوف أعداء الملة والدين، وهذا إدراك للنص, ومعرفة لقيمته، وأنه يحافظ عليه، كذلك أيضاً معرفة ما يتعلق بمسألة المآل؛ ولهذا قال بذلك غير واحد من الصحابة كما روى البيهقي أيضاً من حديث مكحول عن زيد بن ثابت أنه قال: ( لا تقام الحدود في الحرب )؛ وذلك قد يلحق بالمشركين إذا أقيم عليه الحد.
في مسألة الموازنات عند التضاد والتعارض ما يتعلق بالذوات يختلف عما يتعلق بالأمم، وهذا من الأمور التي ينبغي أن تدرك، وأن من الأمور ما لا يكون في أبواب المساومة إذا كان ذلك يقتضي إلغاءً يختلف عما إذا كان يقتضي تأجيلاً، وأما إذا كان يقتضي التنزل في أبواب الأفراد فيختلف عن التنزل في أبواب الأمم، وكذلك أبواب الشعوب عامة؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يسقط الحد عن فرد، لكن لا يسقطه عن النظام، ولا يسقطه في أبواب التشريع.
ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول عمر في الصحيح من حديث جابر لما قال عبد الله بن أبي : ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز من الأذل، قال عمر بن الخطاب : لأضربن عنق هذا المنافق، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أتريد أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )، فاحتمل النبي عليه الصلاة والسلام عدم إقامة حد الردة عليه مع ظهورها؛ لمصلحة أعظم من ذلك وهو ما يتعلق بإدراك المآلات.
كثير من الناس يتعلق بباب وهو ما يسمى بإدراك المآلات، ثم يضرب بها النصوص الشرعية, ويلغيها نصاً نصاً؛ تعلقاً بشطر من أمور المدركات، وكذلك أبواب الموازين، وهذا نوع من التشهي والخلط؛ لهذا ينبغي للإنسان أن ينظر وأن يفرق بين ما يتعلق بفرد، وما يتعلق بأمة.
وأن ما يتعلق بأمة كذلك ينبغي أن ينظر إليه بحسبه، فما كان مؤقتاً يؤجل، وما كان يسقط على سبيل الإلغاء, فهذا يختلف عن غيره.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يأمر، من جاء يريد المبايعة بأركان الإسلام، وإذا وجد فرد من يريد التنزل تنزل له النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن للأفراد لا للجماعة، وحكم الشريعة ونظامها باقيان.
وقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث نصر بن عاصم ويرويه عنه قتادة قال: ( كان رجل منا، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه على ألا يصلي إلا صلاتين, فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يصلي إلا صلاتين ).
وهذا إشارة إلى أن هذا الرجل تردد بين أمرين: أن يبقى على وثنيته وكفره، أو أن يدخل الإسلام, ويؤمن بأركانه, ولكنه لا يؤدي إلا الصلاتين, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلِ صلاتين )، وهذا من أبواب الموازنة, والموازنة لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء، وقد يقع بعض الخلط في هذا عند بعض الناس، وقد يقع الخلط هذا أيضاً حتى عند بعض أهل العلم والفضل، فضلاً عن عامة الناس.
وأعظم ما يجلب الخلط في هذا الأمر: إشغال ذهن الإنسان بنصوص دون نصوص، وهذا لا ينبغي أن يساق العالم إليه.
قد تثار نصوص معينة في بعض الأزمنة لتعظم أمراً وتهون أمراً آخر، وتخفى نصوص عظيمة بينة طاهرة جلية، فينبغي على العالم أن لا ينطلي عليه هذا اللبس, وإنما ينطلي على القاصر، وعلى بعض طلاب العلم, أو قصيري الأفهام، ومرد ذلك إلى حكم الله سبحانه وتعالى وقضائه.
روى الدارمي وغيره من حديث إبراهيم عن علقمة أن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قال: كيف بكم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويعمل فيها بغير السنة، فإذا تركت قالوا: تركت السنة، قالوا: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: إذا كثر قراؤكم, وقل علماؤكم, وكثرت أمراؤكم، وابتغيت الدنيا بالآخرة.
وفي هذا جملة من المسائل منها:
أنه قد يعم لدى كثير من الناس العمل بغير السنة، ويظن أنه في حال تركها أنها تركت السنة وهي بدعة، ومرد ذلك إلى استحسان العقل, لا إلى حكم الله جل وعلا ووزنه كما أنزل الله جل وعلا في كتابه, وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لهذا وجب على الإنسان في إدراكه لما يزنه أن يرجع ذلك إلى النص، وأن يرجع ذلك أيضاً إلى معرفة المآل، ثم بعد ذلك يصدر عن حكم الله سبحانه وتعالى, ورأي خالص مع شدة الاستعانة, والاستخارة ومعرفة الحال.
ثمة أمور وأسباب إذا تحصلت لطالب العلم، وكذلك العالم، كان من أهل المعرفة في هذا الأمر, يمكن أن تجمل في أمور:
أولها: الفقه في دين الله جل وعلا ومعرفة النصوص الشرعية وضبطها، وعلى النحو الذي تقدم الإشارة إليه، بمعرفة المسائل ومعرفة ضدها، وهذا من الأمور التي ينبغي أن تدرك.
الأمر الثاني: معرفة أحوال المخاطبين الذين ينزل عليهم النص؛ فإنهم يتباينون ويختلفون، منهم ما تنزيل النص عليه من المهمات، ومنهم من يؤثر معرفة حاله في أبواب الموازنات.
أحكام الشريعة ينبغي ألا تلقى إلى الناس جملة، وإنما على سبيل التدرج، ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام حينما بعث معاذاً إلى اليمن كما جاء في الصحيحين وغيرهما، قال عبد الله بن عباس : ( بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن فقال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ).
في هذا إخبار من النبي عليه الصلاة والسلام إلى معرفة حال الإنسان قبل توجيه الخطاب إليه، كذلك التدرج في إنزال الأحكام، والتدرج في إنزال الأحكام هو نوع من أنواع الموازنات، وكذلك معرفة الأولويات، إذا جاء إليهم وكان الإنسان على عاطفة ونحو ذلك، ربما يدعوهم إلى بعض الأمور المستحسنة، ما يسمى بمكارم الأخلاق وغير ذلك، وهذا نوع من التقصير, أن يدلهم على الصدق، وعلى تحريم الغش, وصلة الأرحام وغير ذلك، ولا يدعوهم إلى توحيد الله جل وعلا, وهذا من الجهل.
قد يقول قائل: إن هذه الأمور تدلهم على الإسلام؟ نقول: هذا من الجهل وهو نقص للشريعة، ينبغي أن تدعوهم إلى التوحيد، ويقترن ذلك بحسن الخلق والدعوة إلى الأمانة، والصدق, وغير ذلك؛ فإن هذا لا يضيع أمر التوحيد، وإنما إذا تجرد منه الإنسان وقع في ذلك الخلط.
ولهذا عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله لما ولي الولاية، وكان ثمة خلط في كثير من أعمال الإسلام، كان يدعو الناس على سبيل التدرج، فلما قال له ابنه في ذلك، قال: إنك ما علمتهم وأخذتهم بالإسلام جملة, إلا تركوه جملة، وهذا للعلم والإدراك بأحوال الناس، كذلك معرفة المراتب، وهذا من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يقيمها.
ويظهر هذا أن الإنسان إذا وقع لديه خلط في هذا الأمر بمعرفة أحوال المخاطبين، وكذلك في المآلات التي ربما تؤول إليها الأمور, أن الإنسان يطرد في تنزيل أحكام الله سبحانه وتعالى عليهم, فيقع ذلك الأمر في الفتنة، وكذلك الصد عن سبيل الله، وهذا يظهر في ممارسات كثير من أهل الحق.
وإن قالوا: إن ذلك حق، ولكن ذاك حق عمل فأدى إلى باطل؛ ولهذا تجد بعض المسلمين الذين في الثغور إذا دخلوا بلداً من البلدان، تجدهم أول ما يقيمون الحد على الزاني، أو على السارق أو غير ذلك، وهذا مما يدعو المسلمين إلى النفرة منهم وكراهيتهم، والمنافقون كثر، وأعداء الملة والدين كثر، فينبغي في مثل هذا أن يؤجل ذلك؛ جمعاً لكلمة المسلمين، وتحقيق التوحيد أعظم من ذلك.
وهذا لا يعني أن يجعل الزنا حلالاً، والسرقة مباحة، والربا مباحاً، بل يبين خطره، ويحذر من الوقوع فيه، ولكن يقدم على ذلك ما هو أعظم منه.
وكثير من مصالح المسلمين إنما يقع فيها الخلل, والنقصان, والقصور, بسبب الجهل بأحوال المخاطبين, والجهل بفقه الموازنات, أو فقه الأولويات.
الأمر الثالث: أن يكون الإنسان عالماً بالمآلات والمقاصد الشرعية، والمآلات لا تكون بالعجلة, والطيش, بل بالروية, ,والدقة والتوكل على الله جل وعلا, والإكثار من سؤال الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد؛ ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي سلمة أنه قال: ( سألت عائشة عليها رضوان الله تعالى، ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يستفتح به في قيام الليل؟ قالت عليها رضوان الله تعالى: كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, أنت تحكم بين عبادك فيما اختلفوا فيه، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ).
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل الله جل وعلا الهداية فيما أختلف فيه, من قضايا الأعيان، وما يتعلق بأبوابنا هنا فيما يسمى بأبواب الموازنات عند التعارض، وكذلك الأولويات, فينبغي لمن هو دونه -من باب أولى- أن يلح أكثر من ذلك وأعظم؛ حتى يوفق إلى الصواب، ولا يكفي الإنسان مجرد علمه، والرجوع إلى عقله فحسب بل عليه فهم ومعرفة المآل، مع التوكل على الله سبحانه وتعالى.
فإن لم يعرف ذلك فإنه سيقع في الجهل, والاضطراب, ثم يصدر بظنه عن وحي وقد وقع فيما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى.
والمآلات تدرك بأمور:
أولها: بسؤال أهل الخبرة والعقل، وخاصة من كان أهل السن, وكذلك طول العمر، وهذا من الأمور المهمة أن يرجع الإنسان كثيراً من المقاصد إلى أهل الخبرة والدراية؛ ولهذا يقول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللاً
لهذا ينبغي لمن قصر عن معرفة التجارب، وكذلك الخوض في أحوال الناس أن يسأل أهل الخبرة والعقل الدراية, وطول العمر في ذلك, فهذا من الأمور التي يمتزج فيها ما لدى الإنسان من علم ومعرفة, مع ما كان من خبرة في أحوال الناس، حتى يصدر عن أمر ناضج مستوٍ.
الأمر الثاني: معرفة التاريخ، وهذا من الأمور المهمة, أن يكون الإنسان على معرفة وبينه بأحوال التاريخ، والتاريخ هو عمر الإنسان، وإن قصر بالإنسان العمر, فكان من أهل النظر, ومعرفة أحوال الأمم والشعوب وما آلت بهم، وكذلك معرفة النوازل, والفتن, وأحوال الناس، وكذلك سير الصحابة وأحوالهم، وكذلك ما كان فيهم من مناكفة، وكذلك مجادلة ومجاهدة لأعداء الملة والدين، وكذلك أحوالهم في حلهم, وسفرهم, وسياستهم لكثير من الأمور, يصدر الإنسان في مثل ذلك عن دراية وعقل، ويخرج حينئذ بنتيجة خالصة متمحضة.
وأعلى ذلك وأسماه ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جعله الله جل وعلا حكماً وشريعة لهذه الأمة.
فينبغي أن تأخذ به، ومن ذلك حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس، والإنسان حتى لو عرف الباطل فلا ضير عليه أن يتنزل معه ولو شيئاً يسيراً لمصلحة أعظم من ذلك.
لهذا النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين، وكما جاء في الصحيح وغيره من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى قالت: ( استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أأذنوا له، بئس أخو العشيرة! فلما جاء وجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, هش النبي عليه الصلاة والسلام في وجه وبش، فقالت عائشة عليها رضوان الله تعالى في ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه ).
النبي عليه الصلاة والسلام أدرك أن اللين معه، والبشاشة في وجهه لا تسقط من حق الله جل وعلا وحكمه شيئاً، ولو أن النبي عليه الصلاة والسلام أظهر له العداوة والبغضاء، وكذلك الكره وغير ذلك، فإنه ربما فحش في القول عند الناس، فالنبي عليه الصلاة والسلام أراد كسب هذا الرجل؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه )، وهذا إدراك لأحوال الناس، وما يقولون في مجالسهم، وهو من معرفة مآل الأحوال.
كذلك ما تقدم معنا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتريد أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟! )، وهذا من إدراك أحوال الناس، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أتريد أن يتحدث الناس )، النبي عليه الصلاة والسلام لا يقصد الأقربين؛ لأن الأقربين عايشوا القصة ويعرفونها، ولكن يريد الكلام الذي ينقل من مجلس إلى مجلس حتى يخرج المدينة فيتحدث الأبعدون، عما حدث في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا المقرب الذي ذهب معه وقاتل معه، وذهب وجاء، ويحضر مجالس النبي عليه الصلاة والسلام, قتله فيحمل تأويل ذلك على غير ذلك المراد، وهذا من الحكم العظيمة التي ينبغي أخذها, والنظر فيها على ما جاء من وحي الله جل وعلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث من الأمور التي ينبغي أن يصدر عنها الإنسان في معرفة الأوليات: أن يدرك الإنسان ما يقابل ذلك الأمر من مرتبة من أبواب الشر، وما يفوت من مصلحة على سبيل التعيين، وتقدمت الإشارة إلى أن من أعظم ما يوفق إليه الإنسان من الخير: أن يعرف مراتب الخير بعضها من بعض وأيها أولى، ويعرف مراتب الخير، وما يقابلها من مراتب الشر.
ثم يقيم كل مرتبة على ما تقدم الكلام عليه في أبواب الموازنات.
إذا كانت هذه المصلحة بذاتها، والمصلحة لها أمران:
الأمر الأول: قيمتها من جهة النص الشرعي.
الأمر الثاني: قيمتها من جهة مآلها؛ لأن المصلحة قد تؤدي إلى مفسدة.
والمفسدة التي قد تؤدي إليها تعرف بأمرين:
الأمر الأول: معرفتها من جهة النص وقيمتها.
الأمر الثاني: مآل تلك المفسدة.
فتلك المفسدة قد تكون دون تلك المصلحة التي يريد الإنسان أن يعمل بها، وقد تؤول تلك المفسدة بعد ذلك إلى خير, فيكون حينئذ الخير قد آل إليه خير، والمفسدة إنما هي مرحلة، فتكون حينئذ المرحلة قاصرة عن ذلك، وهذا من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يكون من أهل التوسع والنظر فيها, حتى يوفق إلى الحق والصواب في هذا.
وأكثر ما يقع الخلط في الناس بسبب قصر النظر في هذا الباب، وهذا نوع من الحرمان يقع في الناس بحسب جهلهم بهذه الأحوال الأربع، وبحسب أيضاً بعدهم عن التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه، وسؤال الله جل وعلا التوفيق والصواب.
كما أشرنا إلى الأسباب التي تعين الإنسان على معرفة الأولويات، ينبغي أن نشير إلى الأسباب أيضاً التي تحرم الإنسان خاصة في الأزمنة المتأخرة، أو تجعله من أهل الخلط في أبواب الموازنات.
فمن هذه الأسباب: انشغال الإنسان بنصوص دون أخرى فتعميه عن إدراك غيرها، وهذا يقع فيه كثير من الناس، ويخلط فيه العامة، كما تقدم الإشارة إليه، إذا انشغل الإنسان -على سبيل المثال- في باب من الأبواب، وأكثر من النظر في النصوص فيه وقع لديه الخلط.
مثال ذلك: قد يقع الإنسان في التعارض بين بر الوالدين ومسألة الجهاد، فينظر في نصوص الجهاد، ويكثر من النظر فيها؛ حتى يقع في قلبه تعظيم هذا الأمر، ولو كان عقوقاً لوالديه، ويقدم هذا على هذا؛ وذلك لأنه اشغل قلبه بنصوص معينة, صرفته عما هو أعظم من ذلك، ولو شغل الإنسان قلبه بما هو أدنى من ذلك كبعض أعمال البر مثل كفالة الأيتام، وأكثر من النظر فيها، والأجور المترتبة عليها، وأخذ ينظر فيها صباحاً ومساءً, لأصبحت في قلبه أعظم من التوحيد والعياذ بالله! وهذا من الخلط الذي ينبغي للإنسان أن يكون من أهل الموازنة ليتجنبه، وألا ينساق إلى العاطفة، وإنما يحكمه في ذلك النص، وإذا وقف على النص، فليجعل ذلك الأمر هو الحاسم له في هذا الأمر، والعاطفة في ذلك كثيراً ما تسوق الإنسان إلى الغواية وكذلك إلى الشر، وخاصة ما يتعلق بالأمور المتعدية، التي تتعدى من الإنسان إلى غيره.
السبب الثاني الذي يوقع الإنسان في أبواب الخلط: أن يصدر الإنسان عن قول غيره, لا أن يصدر عن وحي من كلام الله جل وعلا, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة المقادير على ذلك النحو الذي تقدم الإشارة إليه.
فإذا صدر الإنسان عن قول غيره تسلل إليه حينئذ الخطأ، وأصبح الخطأ متناسخاً, فيتناسخ من فرد إلى فرد، وهذا من أعظم ما يوقع الإنسان في الوهم والغلط، وكذلك الخلط في أبواب الأولويات، فتعظيم الإنسان لباب لا يعني تعظيم غيره له، وقد يكون هذا الأمر معظماً عنده ويجوز منه، لكنه لا يجوز من الآخر، وهذا من الأمور التي ينبغي أن تدرك.
قد لا يجوز من شخص أن يفعل شيئاً، ويجوز من الآخر أن يفعله؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد يصح منه فعل بعض الأشياء ولا يصح من غيره، وبعض الأشياء لا تصح أن تكون من النبي عليه الصلاة والسلام, وتصح من أصحابه؛ لهذا النبي عليه الصلاة والسلام تارة كان يبعث بعض أصحابه إلى الغزو, ولا يذهب معهم؛ لمصلحة يراها أعظم من ذلك، وهذا يرجعنا إلى أن الذوات تتباين في معرفة الحق والقيام به، وألا يكون الناس في ذلك على السواء، وهذا من الأمور التي يخلط فيها كثير من الناس.
قد يدرك الإنسان أنه من أهل الإقبال على باب من أبواب الخير، ويرى أنه في ذلك لا يفوت واجباً عليه بعينه، وأنه إذا انصرف عن ذلك الأمر فإنه يرجع عنه ولا يستمر فيه، حينئذ يستمر في الخير الأدنى، ولا يسلك الخير الأعلى؛ لأن الأعلى ينقطع فيه؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم جعل القليل الدائم أعظم من الكثير المنقطع؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الخبر: ( قليل دائم خير من كثير منقطع )، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عائشة : ( عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا ).
ومن أعظم التلبيسات ومسالك إبليس التي تدخل على كثير من الصالحين والعباد, فضلاً عن عامة الناس, حيث يقبل على باب من الأبواب المعظمة من أمور الخير مع تضييع بقية الأبواب؛ وذلك لجهل الإنسان بسياسة النفس, وبأبواب الموازنة، وهذا على سبيل المثال ما يتعلق في أمور العبادة، قد يكون الإنسان مثلاً منقطعاً في أمور العبادة، ولا يقبل عليها، ويجد في يوم من الأيام إقبالاً على العبادة والتوبة والإنابة إلى الله جل وعلا، فيجد في نفسه انشراحاً عظيماً لقيام الليل، فتجده مثلاً في أول ليلة -بعد انقطاع تام عن الفرائض, والصلوات, والرواتب- فيتوب إلى الله جل وعلا، ويقبل على العبادة, فيكثر من الصلاة وقيام الليل وغير ذلك، وربما قام الليل كله، ويجد في نفسه انشراحاً عظيماً، وهذا الانشراح قد يسأل السائل: أين إبليس عنه؟ يقال: إن النفس لا تكون سياستها ومقاليدها بيد إبليس، وإنما يتغالب الإنسان مع إبليس والشيطان، والشيطان إذا وجد الإنسان مقبلاً يعلم أن النفس تمل، بل إن النفس إذا كانت في غاية الخير قد يطلقها ويعينها إبليس على باب من أبواب الخير, لماذا؟ لأن النفس حينئذ بين أمرين: إما أن تقبل على الخير بالكلية على أقصى الخير، وإما أن يحجمها إبليس، ويجعلها تقتصد في أبواب الخير, حينئذ تدوم، وإما أن تكثر من الخير فتقوم ليلة ثم تنقطع، أفضل من أن تقوم ركعتين في كل الليالي ثم تتدرج في هذا الأمر.
ولهذا ليس إبليس على كثير من العباد والصالحين، وكذلك أيضاً في أمور العلم فقد يشغل الإنسان في باب ويجعله يكثر من الإقبال عليه, لماذا؟ حتى يمل وينقطع؛ لأن النفس إذا أقبلت لا طاقة للشيطان بردها، وإنما يطلق لها العنان, لماذا؟ حتى تقبل حتى تنقطع بعد ذلك، وإذا انقطعت فإنها ترجع وتنتكس؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ).
وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه البزار وغيره: ( إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق؛ فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ).
والمراد من هذا أن الإنسان إذا كان شديد المسير، ويريد أن يصل إلى الغاية فإنه قد يشد في مسيره، ويشبع رغبته بالعجلة، ولكن الغاية حينئذ لا يمكن أن يصل إليها؛ لأن الدابة ستهلك وستعطب, وحينئذ سيمشي على قدميه، وإما أن يمشي بالهوينى, ويصل ولم يشبع رغبته وساس الأمر ووصل إلى الغاية، والإنسان في ذلك يسوس النفس ولا يصيرها كما تريد؛ لهذا ينبغي للإنسان في أمثال هذه الأمور أن ينظر إلى الغايات.
كذلك أيضاً هذا كما يتعلق في أبواب العبادة، يتعلق أيضاً في أبواب العلم، فتجد بعض طلاب العلم يقبل على باب من الأبواب ويجد النفس مقبلة على ذلك، ولكنه لا ينظر إلى أبواب الموازنات من جهة المآل، وكذلك مرد ذلك العلم إليه، فتجد الإنسان مثلاً إذا كان منقطعاً عن العلم بالكلية، ثم يقبل على العلم إقبالاً تاماً بالقراءة والنظر والإقبال على العلماء لا على سبيل التدرج، فتجده ينقطع بعد ذلك ويفتر، وهذا مما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام وهو الشرة التي تأتي وترد على الإنسان في ابتداء الأمر، ولكل شره فترة، ولكل فترة أمد معلوم، فإذا جاءت على الإنسان انقطع وانتكس.
وهذا من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يسوس فيها نفسه وأن يعلم أحواله، وألا يقلد غيره في ذلك، فالنفوس تتباين من جهة القدرة والطاقة، وكذلك من جهة حالها، وكذلك من جهة امتثالها للنص، فبعض النفوس تكون مقبلة، ولكن إقبالها ذلك ليس على حق وليس على هداية، وليس على أمر الموازنة؛ فحينئذ يرجع الإنسان عن طريق الحق ويصيب طريقاً بعيداً عن نهج الحق ومراد الله جل وعلا، وأعظم ما يوفق إليه الإنسان أن يعرف الأسباب التي تدله إلى الخير، وكذلك أمور الموازنة، وإذا لم يوفق إلى هذا الأمر لم يكن من أهل الصواب والرشاد.
ومن الأمور التي تجعل الإنسان يخلط في أمور الموازنات: أن ينظر إلى فتنة الحال ولا ينظر إلى مآلات الأشياء، وهذا يقع فيه كثير من الناس خاصة ما يتعلق بأمور الفتن، والمحن التي يخلط فيها كثير من الناس في الأحكام ونحو ذلك، فيقعون في الخلط في هذه الأبواب، ولا يعلمون ما تؤول إليه الأمور، فيقع الإنسان في عدم الموازنة، ومخالفة ما يريده الله جل وعلا من حيث لا يشعر؛ ولهذا نجد كثيراً من الناس نادمين على أقوال يقولونها، وأفعال يفعلونها بسبب العجلة أو الطيش، أو مسايرة الهوى والنفس بالقصور في باب؛ لأن النفس تركن إلى الراحة والدعة.
ومن الأمور المهمة أن يعلم أن الشريعة لا تساير الأنفس وتنساق لها، بل الشريعة قد جعلت العقول والأنفس تسير معها، وهي التي تسوس الأنفس والعقول؛ فإن الشريعة جاءت مواكبة، ومنساقة لما فطر الله جل وعلا النفوس عليها؛ ولهذا ينبغي للعالم أن يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد نصره الله جل وعلا وأيده؛ لأن الدين لا يقوم إلا بمحمد، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نصره الله جل وعلا، ووعد الله جل وعلا بنصره فقال سبحانه وتعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، الله جل وعلا جعل النصرة لنبيه، وما جعل النصرة لأتباعه بذواتهم، وهذا من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يدركها وأن يفهمها، فكثير من الناس يجعل ميزان الأولويات، وميزان الموازنات في الأمور بحسب ما يدرك من مآل الأشياء القاصرة عنده، لا بميزان الشرع، وميزان المآلات لا بعقل الإنسان المجرد المحض، وإنما يجمع المآلات تلك ثم يرجئها ويزنها بالشرع.
بعض الناس ينظر إلى المآلات، وتكون المآلات إلى شر، قد يكون الخير فعله في بعض الأحيان يأتي بشر، ولكن ذلك الشر لا يكتفى بمجرد وجوده، وإنما ينظر بميزان ذلك الشر في الشريعة، هل ذلك الشر بميزانه في الشريعة يوازي ذلك الخير الحال أم لا؟ ولهذا المآلات ينبغي أن ترجع أيضاً إلى ميزان الشريعة، لا أن ترجع إلى ميزان العقل المحض، وكما انصرفنا وصدرنا من الشريعة، ينبغي أن نرجع أيضاً في أمور المآلات إلى الشريعة، أعظم ما يخلط فيه الناس في أمور المآلات أن يرجعوا ذلك إلى مسألة الحس، أو ذوق الإنسان، أو عاطفته.
وأعظم ما يخلط فيه الناس -وخاصة أتباع الأنبياء من العلماء وطلاب العلم والمناضلين المجاهدين, والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر- أنهم يجعلون أنفسهم أمثال النبي عليه الصلاة والسلام في أبواب النصرة، واستعجال النصر، النبي عليه الصلاة والسلام يختلف في هذا الأمر، وإن كان العلماء ورثة الأنبياء؛ وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الله جل وعلا نصرته في ذاته؛ لهذا قال الله جل وعلا: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، أما الأتباع فقد يقوم الأتباع ولا ينصرون.
لهذا من كان مع النبي عليه الصلاة والسلام في ابتداء الأمر قتلوا ولم يروا النصرة، ومنهم جماعة من خيرة المقربين من النبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن ثمة تمكين للنبي عليه الصلاة والسلام تام، كـحمزة عليه رضوان الله تعالى قتل ولم يمكن للنبي عليه الصلاة والسلام بعدُ، ولم يشاهد من ذلك تمكيناً، وجماعة ممن قتل مع النبي عليه الصلاة والسلام في بدر وأحد وغيرهما، وقبل ذلك ممن طرد مع النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أسلم ولم يدرك ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصرة.
النبي عليه الصلاة والسلام أبقاه الله جل وعلا؛ لأن النصر يتعلق بذاته حتى مكن الله جل وعلا له في الأرض، ثم أنزل الله جل وعلا عليه آية التمكين والنصرة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فكانت هذه أعظم تمكين لأمة الإسلام في هذه الأرض، وأعظم نصرة للنبي عليه الصلاة والسلام، ونعيت للنبي عليه الصلاة والسلام نفسه إذا أوشك على لقاء ربه جل وعلا، وبهذا نعلم أن ثمة فرقاً بين أتباع الأنبياء وبين النبي عليه الصلاة والسلام.
وأكثر الناس يخلطون في أمور الموازنات كأن يجعلون موازنة النبي عليه الصلاة والسلام في إقدامه وإحجامه في بعض الصور لتعلقها بالنصرة التي تكون بذاته، بخلاف الأمة، الأمة قد لا تنتصر في عقد أو عقدين أو ثلاثة أو قرن وإنما يكمل بعضها بعضا منهم من يموت في ابتداء أمره ثم لا يمكن له، ومنهم من يمكن له بعد ذلك، ومنهم لا يكون النصرة له إلا بعد جيل، ومن الناس من يمكن بسبب نضال غيره ممن قضى نحبه فجاءه التمكين بين يديه؛ ولهذا حكمة عظيمة وسنة جليلة، وهذا ندركه في كثير من العصور.
وكثير من المجتمعات تمكن بسبب نضال وقوة وقيام أناس آخرين قد ناضلوا وجاهدوا في سبيل الله، وقاموا بأمر الحق؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله )، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة)، ما قال: واحد، في نص النبي عليه الصلاة والسلام إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، لأن الأمر يتعلق بوعد، أما أنتم فتذهبون وتجيئون، ولكن النصرة تتعلق بمحمد هذه المرة، وما عداه فلا بد أن تكون طائفة (لا تزال طائفة من أمتي) هذه الطائفة كالأمة الممتدة في طريق، قد يهلك أولها ولم يصل، ويهلك أكثرها ولم يصل، وقد يهلك ويولد أقوام في بلد التمكين ولم يسلكوا الطريق ولم يتحملوا شيئاً من المشاق؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ).
أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو واحد والنصر يتعلق به (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ )).
لهذا وجب على الإنسان أن يدرك مقامه أنه يجب عليه أن يقوم وأن يسوس الأمور، وألا يربط المآلات به بذاته، أو بحال أمة من الناس، وإنما ينظر إلى تمكين الدين في الأرض، وأن يسوس ذلك وأن يرجعه إلى حكم الله جل وعلا وميزانه فإذا كان كذلك فإنه يوفق ويكون أيضاً من أهل الدراية والخبرة والرشاد.
وكذلك أيضاً أن يقدر تلك المسائل بذاتها وقيمتها ومآلها أيضاً على الأمة، وكذلك أثرها.
ثمة أمور إذا أقام بها الإنسان من الأمور الفرعية أثرت على الأمة، وينبغي للإنسان أن يحجم عنها ولو كانت في ذاتها حقا؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا عائشة! لولا أن قومك حدثاء عهد بكفر، لجعلت باب الكعبة على الأرض يدخل منه الناس، ولأنفقت كنوز الكعبة في سبيل الله، ولأدخلت الحجر فيها )، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما منعه من ذلك أن قومها حدثاء عهد بكفر وجاهلية، وهذا فيه ما تقدم الإشارة إليه أن الإنسان في أمور الموازنات ينبغي أن يرجع الأمر إلى أحوال الناس، وكذلك إدراكهم لهذا الأمر.
وكذلك أيضاً أن يرجع المصالح إلى معرفتها، فتوسيع الكعبة وفتح الباب، لا يغير من مقام الكعبة شيئاً، ولا من أحكامها: من استقبالها من الطواف حولها، من بيان منزلتها، ولكن لو فعل ذلك لارتد من ارتد من العرب؛ لأنهم يعظمون الكعبة تعظيماً في نفوسهم، وهذا من بقايا الجاهلية؛ ولهذا قد يبقى في مجتمع من المجتمعات بعض التعظيم في قلوب أهله لبعض الشعائر، ولكنهم لا يبوحون بها وهذا من الأمور الفطرية، ولو كانوا قد دخلوا في الإيمان وحسن إيمانهم، لكن العالم قد يدرك ما لا يدركه الناس، وقد يستقر في قلبه من الإيمان والثبات وإدراك بعض المسائل قدر كبير لا يدركه الناس، ينبغي ألا يجعل ذلك الإدراك كإدراك الناس أو يجعل الناس يفهمون فهمه، وينبغي أن يميز بين إدراكه وفهمه وإدراك الناس فإنه إذا كان من أهل هذا الأمر ونظر بنور الله جل وعلا سدده وأعانه.
كذلك أيضاً ينبغي له أن يكون من أهل العبادة والديانة؛ ولهذا العالم إذا لم يكن من أهل الديانة والعبادة فإنه يخلط، وإذا لم يتجرد من الأمور الشائبة التي تؤثر على قلبه، فإنه يخلط في هذا الأمر؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الخبر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ( ما ذئبان جائعان أطلقا في غنم بأفسد عليها من المال والجاه للرجل في دينه )؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يحذر من الأمور التي تخلط عليه في مسائل الموازنات.
وهذا من الأمور والأسباب التي تجعل الإنسان يخلط في هذا الأمر، أنه إذا شاب ميزانه بأمر من أمور الدنيا وتعلق بها فهذا يشغل شيئاً من القلب، فينبغي أن يترفع من مد يده إلى الناس، ويترفع عن مخالطة أرباب الدنيا حتى لا يختل ميزانه؛ فإنه إذا حمى قلبه من هذه الأمور وفق إلى الصواب والهداية والرشاد.
وإن خالفه غيره من أرباب الدنيا فيعلم أنهم أتوا من سبب هذا الخلط الذي وقع في قلوبهم، وأنه يدرك أنهم قد مدوا أيدهم إلى شيء من الدنيا، وركنوا إلى شيء منها؛ فأثر ذلك على ميزان القلب، وإن نزعوا إلى شيء من النصوص الشرعية فالنصوص الشرعية ثمة نصوص أخرى تماثلها.
وكذلك هذه النصوص التي جاءت في الوحي، وإن كانت حقيقة في ذاتها، لكن ثمة أعظم منها ومعانٍ أجل منها؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى أقر المشركين على أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من الدين، ولكن لا يسوون، أي: أن هذه الكفة هي كفة حقيقية، وهي من الخير، ولكن قد زاحمت خيراً أعظم من ذلك, فينبغي ألا تقدم عليها، وأن تقديم غيرها عليها من الظلم والبغي؛ ولهذا سمى الله جل وعلا من يساوي ويعظم عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج بالإيمان بالله وباليوم الآخر بالقوم الظالمين، وهذا يجعل الإنسان يعلم أن الشريعة تحتاج إلى إنصاف وعدل، وهذا العدل لا يكون إلا بفهم النصوص كما تقدم الإشارة إليه.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وأسأله سبحانه وتعالى أن يهديني وإياكم منهجاً قويماً، وصراطاً مستقيما، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: يقول: حديث معاذ بن جبل أن النبي عليه الصلاة والسلام في لما بعث معاذ إلى اليمن لم يذكر الصوم والحج؟
الجواب: الحج فرض متأخراً بعد ذلك، والصوم جاء في بعض الروايات عن النبي عليه الصلاة والسلام.
السؤال: كثير من القوم يدعي المصلحة، وأن الأولى كذا، وآخر يقول: كون الناس يستفيدون من جهة أو باب أولى، وفتح باب أولى من إغلاقه، وبعض الناس يقول: يرشد الناس ويعلمه ولكن لا ينكر ونحو ذلك؟
الجواب: نقول: هذا سبب الخلط لدى كثير من الناس، لماذا؟ إذا بلغنا الناس الحقائق الشرعية بشطر معارفها وقع الخلط، إذا أتيت إلى الناس أو إلى أهل قرية أو أهل حي، وأخذت تعلمهم الشريعة بصيغة افعل وبينت الأوامر الشرعية، وقلت: وحدوا الله، صلوا، زكوا، أطعموا الطعام، صلوا الأرحام، صلوا بالليل والناس نيام، أكرموا الضيف، كفوا الأذى عن الجار ونحو ذلك، هذه الأوامر إذا أبلغتها بهذا الأمر هذا من المعروف، ولكن إذا أسقطت المنكر وبيان مقداره، وهو الشق الآخر وقع الخلط بين الناس؛ ولهذا تجد الناس يأخذون ما يسهل عليهم من غير معرفة وإدراك للتراتيب، ويقع حينئذ الخلط عند كثير من الناس.
ولهذا تجد كثيراً من المسلمين في بلدان العالم يشبعون عواطفهم الدينية ببعض الأمور، مثلاً بالتعلق بالموالد، باعتبار أن لديه عاطفة دينية يشغلها في مناسبة وانتهى الأمر، أو بعض الناس يظن أنه إذا علق في داره آيات وفي السيارات دعاء السفر، وذكر الله عز وجل عند خروجه ودخوله أن ذلك يعني شيئاً، هذا من الخلط، وتجده مسرفاً على نفسه يقع في الكبائر والفواحش ونحو ذلك، ويشبع عاطفته النفسية بأمثال هذه الأمور؛ ولهذا يقع الخلط عند كثيرٍ من الناس؛ بسبب خطأ كثير من المبلغين، الذين يأمرون بالمعروف، لكن لا ينهون عن المنكر إطلاقاً، ويبينون حرمة الزنا وخطورته، والأسباب الموصلة إليه وخطورتها، من الخلوة والاختلاط واللين بالكلام، كذلك أيضاً ترك الصلوات، وتحذير المخالف لها، فتجد الإنسان يتحاشى ذكر المخالفة، وبيان منزلة تارك الصلاة وتارك الزكاة، وتارك الحج ونحو ذلك لماذا؟
لأن هذا يخيف كثيراً من الناس ولا يرغبون فيه، هم يريدون مساحة عريضة من الفعل، ولكن لا يريدون أن يسمعوا العقوبات، لماذا؟ لأن الذي أخذ هذا سيدرك ذاك، وإذا أخذ هذا وترك ذاك ستأتيه عقوبة ذاك، وتكدر عليه العمل هذا، فهو يريد أن يجعل غريزته وعاطفته الدينية في بذل السلام، أو لديه مال ينفق على الناس، ولكنه من أكفر خلق الله، هل يغني من الحق شيئاً؟ لا يغني من الحق شيئاً.
الحق لا بد أن يعرف بحقيقته في ذاته ومعرفة ضده حينئذ تكتمل الصورة، نعرف ونعلم أن التوحيد إذا فرط فيه الإنسان كفر، وأن النصوص جاءت بتكفير تارك الصلاة حينئذ يعرف الإنسان التراتيب، أما أن نقول: صل، وزك، وصل الأرحام سيضع الإنسان هذه الأمور في خانة واحدة، ويأخذ ما يستطيع منها، ويقول: إني أديت هذا الأمر، ويعلق قلبه به، ويقول: إنني قدمت قرابين عظيمة لله جل وعلا، ويدع ما هو أعظم من ذلك، وهذا من الخلط الذي ينطلي على كثيرٍ من العامة، وهذا الذي يروج له الآن كثيراً في وسائل الإعلام، وهو الانشغال بشطر دون شطر، الانشغال بالأمر بالمعروف دون النهي عن المنكر، صلوا، زكوا، صلوا الأرحام، سلموا على الناس البشاشة وطلاقة الوجه، الإحسان إلى الغير وغير ذلك.
أما من ترك الصلاة فقد كفر، يوم يحمى على أولئك الكافرين في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، كذلك من عق الوالدين وعقوبته عند الله سبحانه وتعالى، ومن وقع في الزنا وعقوبته عند الله جل وعلا، إقامة الحدود وبيان العقاب من الله سبحانه وتعالى، لا يكاد يرد في كلام كثير من الناس، وهذا ما أورث الخلط لدى كثير من الناس، فيرد الاضطراب في فهم الشريعة.
وتجد الغوغاء والعامة إذا قام ناصح بإرجاع بعض الأمور في موازينها، تجد الخلط لدى الناس في عدم الإدراك، أن هذا أولى من ذاك أو ذاك خير، أو نحو ذلك، أو تجد بعض الناس إذا وقع في كبيرة من كبائر الذنوب ونحو ذلك، يقال: فلان قد وضع ماء سبيل في بيته، أو فلان تصدق بكذا، أو فلان يوزع الكتاب الفلاني ونحو ذلك، هذا أمر وذاك أمر، ذاك أعظم من ذاك، وهذا من أبواب الخلط التي تقع عند كثير من الناس، وسببها تقصير كثير من المبلغين.
السؤال: هل هناك كتاب في فقه الأولويات والموازنات؟
الجواب: لا أعلم في هذا كتاباً، وإنما مردها أن يديم الإنسان النظر في الشريعة، ويرجع على حسب الأصول التي تقدم الكلام عليها، فسيوفق ويعان ويسدد بإذن الله.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر