إسلام ويب

تفسير سورة يس [12]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنكر بعض الناس البعث والنشور مستبعداً أن يعيد الله العظام وهي رميم، فرد الله عليهم بعدة أدلة؛ ومن ذلك: خلق الله للإنسان من العدم، وخلق السموات والأرض وهي أكبر من خلق الناس، وأن الله على كل شيء قدير، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ...) إلى قوله: (... وهو بكل خلق عليم)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    فإن الله جل جلاله في هذه الآيات المباركات التي يختم بها سورة يس، يرجع إلى ما بدأ به السورة من أن البعث والنشور حق لا ريب فيه، وأن الله عز وجل كما بدأ أول خلق يعيده.

    سبب نزول قوله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)

    يقول سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77].

    هذه الآية كما قال مجاهد و قتادة و عروة بن الزبير و السدي و عكرمة : نزلت في أبي بن خلف الجمحي لعنه الله، حيث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال ففتته ثم نفخ فيه وقال له: ( يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما صارت رميماً؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: نعم، يحييها ويبعثك ويدخلك النار ).

    وقال سعيد بن جبير رحمه الله: بل نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وقال بعضهم: بل نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ، وهذا القول الثالث بعيد لأن السورة مكية، و عبد الله ابن سلول لم يرد له ذكر إلا بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

    وسواء كان القائل هو العاص بن وائل أو أبي بن خلف أو غيرهما، فالآية رد على كل منكر للبعث أو شاك في وقوعه، والمعنى أولم ير الإنسان المنكر للبعث، المكذب بوقوعه، الشاك في إمكانه، والرؤية هاهنا المراد بها الرؤية العلمية، الرؤية القلبية، وليست الرؤية البصرية، فقوله: أَوَلَمْ يَرَ[يس:77]، أي: أولم يعلم، مثل ما قال ربنا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ [الفجر:6]، وكقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ[البقرة:246].. هذا كله بمعنى: ألم تعلم.

    إذاً: أولم ير الإنسان المنكر للبعث، المكذب بوقوعه، أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ[يس:77]، النطفة: الماء المهين، الذي بدأ منه خلقك أيها الإنسان، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات:20]، وكقوله: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [القيامة:37]، وقوله: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ[الإنسان:2]، وقوله: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6].

    وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن بسر بن جحاش رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في كفه يوماً ثم وضع أصبعه عليها، قال: يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه! حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد؛ فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة! )، فالله عز وجل يخاطب كل إنسان، (ابن آدم! أنى تعجزني!..)، أي: كيف تعجزني! (وقد خلقتك من مثل هذه..)، أي: من مثل هذه البصقة، (حتى إذا سويتك وعدلتك..)، أي: أن الله عز وجل بدأ خلق الإنسان من النطفة ثم صار في الأطوار التي ذكرها ربنا، بعد النطفة علقة، وبعد العلقة مضغة، وبعد المضغة عظاماً، ثم كسا الله العظام لحماً، ثم شق سمعه وبصره بحوله وقوته، ثم نفخ فيه الروح، ثم خرج من بطن أمه ضعيفاً صغيراً، يمد للثدي فاه، ثم بعد ذلك لم يزل ينمو ويشب حتى يصير غلاماً جفراً قوياً، وفي هذا كله يزداد بهاء وجمالاً وحسناً، (مشيت في برديك..)، أي: في ثياب حسنة، ( وللأرض منك وئيد.. )، يعني: تمشي مشية الكبر والأشر والبطر، (فجمعت ومنعت.. )، جمعت المال ومنعت من إنفاقه فيما أوجب الله عليك، (حتى إذا بلغت التراقي..)، أي: جاء أوان الموت، (قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة.. )، فالإنسان لا بد أن يتفكر في خلقه الأول.

    مخاصمة العبد لربه واعتراضه على حقيقة البعث

    وقوله: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77].

    يخاصم ربه جل جلاله ويعترض على أخباره وعلى أحكامه، كما قال الله في أوائل سورة النحل: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، ينسى بدايته، فهذا دليل أول على إمكانية البعث، فإذا كنت أيها الإنسان مخلوقاً من ذلك الماء الضعيف، فالله عز وجل قادر على أن يعيدك مرة أخرى، وهذا الدليل تكرر في القرآن كثيراً، كقول ربنا جل جلاله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[الروم:27]، وكقوله سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:62]، وكقوله سبحانه: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم:66-67]، وفي قراءة: أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً بالتشديد، وكقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت:20]، كلما داخل قلبك شك أو وسوس لك الشيطان كيف يكون البعث بعد الموت؟! فقل له: تذكر النشأة الأولى.

    قال الله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78]، هذا الإنسان يعترض على الله عز وجل وينسى خلقه الأول، حيث قال: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، و(رميم) من رم العظم يرم إذا صار بالياً. وقوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، هذه الشبهة تكررت في القرآن كثيراً على لسان منكري البعث، كما في قول الله عز وجل: أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ[الرعد:5]، وقوله تعالى: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48]، هكذا دائماً يعترضون.

    الرد على منكري البعث والنشور

    قال الله عز وجل في جواب هذا السؤال: قل يا محمد! لهؤلاء المنكرين المكذبين: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ[يس:79]، يحيي هذه العظام وهي رميم من أنشأها أول مرة -جل جلاله- قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1].

    ثم قال تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، وهذا دليل ثان تدحض به هذه الشبهة، تقول لشيطان الإنس وشيطان الجن: أنا أؤمن بأن الله عز وجل بكل خلق عليم، قد علم المستقدمين منا والمستأخرين، علم الأولين والآخرين، علم الذكور والإناث، علم المؤمنين والكفار، علم الأبرار والفجار؛ كما قال تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4]، وقوله سبحانه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، وقوله: وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [يس:81] جل جلاله، وقوله: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، أي: ما يفوته شيء؛ ولذلك يوم القيامة يعيدك كما كنت.

    وفي الحديث في الصحيحين: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن رجلاً ممن كان قبلكم، لما حضره الموت وأيس من الحياة جمع بنيه، فقال لهم: إن أنا مت، فاجمعوا حطباً كثيراً، ثم أوقدوا فيه ناراً واجعلوني فيه، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي وامتحشت، فدقوني ثم ذروا نصفي في اليم ونصفي في البر؛ فلأن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك، قال الله له: كن، فكان، وقال الله عز وجل له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك يا رب! فقال الله عز وجل: قد غفرت لك )، فالله عز وجل بكل خلق عليم، يعيدك كما كنت.. بشعرك وظفرك ولحمك وعظمك ودمك وعصبك.. كما كنت لأنه جل جلاله بكل خلق عليم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ...)

    ثم ذكر جل جلاله دليلاً ثالثاً على أن البعث حق، فقال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً[يس:80]، فالله جل جلاله يلفت أنظارنا إلى دليل من دلائل قدرته جل جلاله في هذا الشجر الذي هو رطب، والذي كانت مادة حياته الماء، يجعل الله عز وجل منه ناراً، وللمفسرين في ذلك قولان:

    القول الأول: أن المراد حال يبسه يجمع ثم يقطع فيصير حطباً توقد به النار، فالشجر الذي أصل مادته الماء يصير ناراً.

    القول الثاني: أن المراد نوع من الشجر خاص، يؤخذ منه غصنان فيضرب أحدهما بالآخر فيتقد ناراً.

    وأياً ما كان على القولين، فهو دليل من أدلة قدرة ربنا جل جلاله.

    وهذا الذي ذكره ربنا جل جلاله كله من أدلة البعث، ذكرها ربنا سبحانه في خواتيم سورة الواقعة: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:58-62].

    ثم ذكر دليلاً آخر: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64].

    ثم الدليل الثالث: أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:68-69].

    ثم الدليل الرابع: أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ [الواقعة:71-72]، هذا كله من أدلة قدرة ربنا جل جلاله ومن تأمل فيها علم أن البعث يسير، وأمره هين؛ لأنه جل جلاله يقول للشيء: كن، فيكون؛ ولذلك في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن الله تعالى قال: يا عبادي! كلكم مذنب إلا من عافيت، يا عبادي! كلكم فقير إلا من أغنيت، يا عبادي! إني واحد ماجد واجد، عطائي كلام وعذابي كلام، أقول للشيء: كن فيكون )، عطائي كلام: إذا أراد أن يعطي قال: كن فيكون، وإذا أراد أن يعذب قال: كن فيكون، فليس أمره موقوفاً على الأسباب التي يتعاطها الخلق.

    ولذلك هذا المسكين الذي اعترض على البعث كان يقيس فعل الخالق على فعل المخلوق، وقدرة الخالق على قدرة المخلوق، وهو في هذا واهم جاهل؛ فإن الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] جل جلاله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ...) إلى قوله: (... وإليه ترجعون)

    ثم ذكر دليلاً رابعاً، قال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ[يس:81]، يا من تنكر البعث، يا من تشك فيه، انظر فوقك إلى السماء كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، انظر تحتك إلى الأرض كيف بسطها ربنا، ومهدها للسالكين، وجعل فيها من أجناس المخلوقات ألواناً وأنواعاً، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى[الأحقاف:33]، أيهما أكبر: خلق الإنسان - هذا المحدود - أم خلق السموات والأرض؟! الله عز وجل أجاب فقال: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].

    فإذا شككت فانظر إلى السماء فوقك وإلى الأرض تحتك؛ من أجل أن تعلم أن الذي خلقهن قادر على أن يعيدك.

    قال الله: أَوَلَيْسَ [يس:81]، هذا سؤال، الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ[يس:81]، والسموات كل ما علاك فأظلك؛ فكل ما علاك فأظلك يسمى سماء، فالسقف الذي فوقك هو بالنسبة إليك سماء؛ لكن السموات إذا ذكرت في القرآن فمراد بها السبع الطباق، التي جعلها الله عز وجل سكناً لملئه الأعلى من ملائكته المقربين، وجعل فيها أرواح عباده المؤمنين، وجعل فيها جنته سبحانه وتعالى.

    قال الله: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ[يس:81]، ثم أجاب سبحانه بنفسه فقال: بَلَى[يس:81]، إثبات، وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [يس:81]، وهو الخلاق جل جلاله، سمى نفسه خالقاً: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الزمر:62]، وسمى نفسه خلاقاً مبالغة من الخلق. ‏

    إطلاق كلمة (الخلق) في القرآن الكريم

    كلمة الخلق في القرآن تطلق على معنيين:

    المعنى الأول: بمعنى الإيجاد، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وهذا الذي نفاه الله عن غيره، لما قال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[فاطر:3]، وأثبته لنفسه فقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الزمر:62].

    المعنى الثاني: بمعنى التقدير، ومنه قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، (الخالقين) أي: المقدرين، ومنه قول القائل:

    ولأنت تخلق ما فريت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

    فابن آدم قد يطلق عليه أنه خالق باعتبار، تقدير الشيء بمعنى رسمه، أو بمعنى وضع مقاديره وأبعاده.. وما إلى ذلك.

    أما الإيجاد من العدم فلا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فالله جل جلاله خالق وخلاق؛ قال تعالى: بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [يس:81].

    ثم قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، يا أيها المنكر للبعث! يا أيها المكذب به! اعلم بأن الله عز وجل إرادته ماضية، وأمره غالب، وأن أمره بين الكاف والنون، إذا أراد أن يقع الشيء كوناً وقدراً فإنما يقول له: كن فيكون.

    إثبات الملك المطلق لله سبحانه وتعالى

    ثم ختم السورة بتنزيه نفسه جل جلاله: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83]، مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))، الملكوت والملك بمعنى واحد، يقال: الملك والملكوت، والرهبة والرهبوت، والجبر والجبروت، وقد ثبت من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح الصلاة فكبر ثلاثاً: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة )، فالملكوت هي مبالغة من الملك، والجبروت مبالغة من الجبر، والرهبوت مبالغة من الرهبة.

    وقوله: الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ[يس:83]، وهذا في القرآن كثير، كقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[آل عمران:189]، وكما في قوله سبحانه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[الزمر:62-63]، فهو سبحانه خالق كل شيء ومليكه، جل جلاله، قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95]، فبيديه ملكوت كل شيء.

    وقوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83]، أي: إليه جل جلاله المرجع والمصير والمآب، لا ينبو أحد عن ملكه، ولا يخرج أحد عن قدرته، ولا يستطيع أحد أن يفر من قضائه وقدره؛ بل هو قاهر الجميع جل جلاله؛ قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18].

    وكما بين ربنا جل جلاله في كثير من آي القرآن بأن من في السموات ومن في الأرض واقع تحت تصرفه، قال سبحانه: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً[آل عمران:83]، أسلم بمعنى: استسلم لقدره جل جلاله، لقضائه سبحانه وتعالى، من في السموات ومن في الأرض، المؤمن والكافر، البر والفاجر، المصدق والمكذب.. كلهم مقهور محكوم بقدر الله عز وجل.

    لكن المؤمن المصدق الطيب لما علم بأن قدر الله ماض، وأن أمره غالب، وأن حكمه نافذ، استسلم لله عز وجل طوعاً؛ فأنفذ شرعه، وأطاع أمره، واجتنب نهيه، وصدق خبره، وكان في طاعة الله عز وجل طوعاً، إذا أمر ربنا أو نهى فإنه يقول: سمعت وأطعت؛ قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]، هذا هو حال المؤمنين الطيبين.

    أما الكافر فإنه متمرد على الله عز وجل، مكذب بالبعث والنشور، معترض على الأمر والنهي، مستهزئ بالآيات، ومع ذلك هو مقهور محكوم بقدر الله، إن شاء ربنا أفقره وإن شاء أغناه، إن شاء أصحه وإن شاء أسقمه، إن شاء رفعه وإن شاء خفضه، إن شاء أعزه وإن شاء أذله، إن شاء أماته وإن شاء أحياه.. فالكل مقهور بأمر الله.

    وبهذا تم الكلام في تفسير هذه السورة المباركة التي جبل الناس على حبها والإكثار من قراءتها والتماس فضل الله عز وجل فيها.

    أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من المنتفعين المعتبرين المتعظين، وأن يجعل القرآن العظيم حجة لنا لا علينا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755948962