إسلام ويب

يوسف عليه السلامللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أكرم الناس يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله، نشأ كريم الأصل في بيئة طيبة، واستقام على أمر الله من نعومة أظفاره، وكان حسن الالتجاء إلى الله، وكان شاكراً لله على نعمه، صابراً على بلائه، لا ينسى ربه طرفة عين، حريصاً على الدعوة إلى الله حتى في أحلك الظروف.

    1.   

    فوائد من قصة يوسف عليه السلام

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يتقبل منا أجمعين.

    وحديثنا سيكون عن شخصية عظيمة، ذكرت في القرآن بما هي عليه من مكارم الأخلاق، وحسن المعتقد، والدأب في الدعوة إلى الله عز وجل، مع التحلي بالصبر، وشكر الله على نعمته، إلى غير ذلك من الصفات النبيلة.

    وهذه الشخصية هي شخصية الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الخليل، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: وكل إذا عد الرجال مقدم.

    ( وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال: أكرم الناس أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فـيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ).

    وهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ذكر في القرآن ستاً وعشرين مرة، أربعاً وعشرين في السورة التي سميت باسمه، سورة يوسف، وذكر في سورة الأنعام، في الآيات التي ذكر الله فيها ثمانية عشر نبياً، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:83-86]، وفي سورة غافر: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً[غافر:34].

    وقصته صلوات الله وسلامه عليه لا يكاد يجهلها مسلم، لكننا في هذا الدرس نستنبط منها بعض الفوائد التي تدلنا على شخصية هذا النبي الكريم، منها:

    تأثير البيئة والتربية الحسنة

    أولاً: أن كرم الأصل إذا التقى مع طيب البيئة، فإن الإنسان ينشأ نشأة سوية، حتى إنه ليكاد يكون خيراً محضاً لا شر معه، فــيوسف عليه السلام أصله كريم، نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، نشأ على التربية الحسنة، وعلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وعلى الاستقامة على أمر الله عز وجل، فبيئته بيئة طيبة، وقد نشأ بين أبوين كريمين، في بيئة مسلمة تعرف الله عز وجل وتوحده.

    ثم بعد ذلك استقام على أمر الله من نعومة أظفاره؛ ولذلك قال له أبوه: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6].

    ومثله أيضاً سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه نشأ في بيئة كريمة، في كنف عبد المطلب ثم في كفالة عمه أبي طالب وتمتع برعاية أمه حين كان صغيراً.

    ثم بعد ذلك صلوات ربي وسلامه عليه أدبه ربه فأحسن تأديبه، وكان له من الأخلاق طرفيها، الخلق الجبلي الطبعي غير المتكلف، ثم الخلق المكتسب، الذي اكتسبه صلوات ربي وسلامه عليه من تأديب ربه إياه.

    حسن الالتجاء إلى الله عز وجل

    ثانياً: من فوائد هذه القصة: حسن الالتجاء إلى الله عز وجل، كما جاء في خبر يونس عليه السلام، فإنه تعرف إلى الله في الرخاء فعرفه الله في الشدة، ويوسف عليه السلام ما استغنى عن ربه طرفة عين، حتى في أحلك اللحظات، لما تعرض صلوات ربي وسلامه عليه لتلك المرأة التي أرادت منه أن يواقعها في الحرام لجأ إلى الله، قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، ولما تآمرت عليه فجمعت النسوة فقطعن أيديهن، وبدأن يقلن له: أطع مولاتك، ويهددنه بالسجن، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32]؛ لجأ إلى الله عز وجل، فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:33-34].

    ثم بعد ذلك في السجن كان ذاكراً شاكراً، مقبلاً على الله عز وجل، لا ينساه طرفة عين، فلما مكن الله له في أرض مصر، وصار قائماً على خزائنها، ولما رأى سجود أبويه وإخوته له، كان في هذا كله في حالة لجوء إلى الله، وأخيراً لما اقترب أجله لجأ إلى الله فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، فكان لا يستغني عن ربه قط.

    الدأب في الدعوة إلى الله

    ثالثاً: الدأب في الدعوة إلى الله، ما كانت دعوته عليه الصلاة والسلام دعوة موسمية، ما كانت دعوته في المواسم، ولا كانت في بلد دون بلد، أو مكان دون مكان، أو جو دون جو، بل كان على كل حال يدعو إلى الله؛ ولذلك المرأة تراوده عن نفسه، وهو يدعوها إلى الله! إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، يذكرها بسنة الله عز وجل، بأن الإحسان لابد أن يقابل بالإحسان، يقول لها: زوجك قد ائتمنني على عرضه، ومكنني من بيته، فكيف أخونه؟! إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].

    ثم بعد ذلك في السجن، لما كان معه في زنزانته فتيان، فقال أحدهما: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً[يوسف:36]، وقال الآخر: إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ[يوسف:36]، لم يسارع بتأويل الرؤيا، وإنما قال لهذين الفتيين بعدما بين لهما أنه قادر على التعبير والتأويل: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ[يوسف:40]، الحكم القدري الكوني، والحكم الشرعي الديني، كله لله، أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40]، فكان يدعو إلى الله عز وجل وهو على تلك الحال، في السجن.

    وهذا أيضاً كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يدعو إلى الله في المسجد الحرام، ويدعو إلى الله في سوق عكاظ، ويدعو إلى الله في موسم الحج، يدخل على الناس فيقول: من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ دعوة ربي، وفي المدينة كان يدعو إلى الله عز وجل في مسجده، ويدعو إلى الله في الطرقات إذا مر بقوم، كما ثبت في صحيح البخاري : ( أنه أردف أسامة بن زيد على حمار، ثم مر على قوم فيهم أخلاط من المشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله ابن سلول رأس النفاق، و عبد الله بن رواحة فنزل صلى الله عليه وسلم من دابته، وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله ).

    وفي كل الأحوال كان صلوات ربي وسلامه عليه يدعو إلى الله، فحين يأبى أهل مكة يخرج إلى الطائف، وحين يرجمه أهل الطائف بالحجارة يرجع فيدعو عداساً في الطريق، يدعو إلى الله على كل أحواله؛ ولذلك في آخر سورة يوسف يقول سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    ملازمة الصبر

    رابعاً: أيضاً صفة عظيمة نلمحها في ثنايا قصة يوسف، وهذه الصفة لازمت يوسف عليه السلام في أطوار حياته كلها، وهي صفة: الصبر، وهو: حبس النفس على ما تكره، فقد صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على قضاء الله وقدره، يلقى في الجب فيصبر، يخرج من البئر فيباع عبداً رقيقاً وهو الكريم ابن الكريم فيصبر.

    ثم بعد ذلك تعرض عليه الفاحشة، دانية قريبة، سهلة هينة، فيصبر ويستعصم بالله عز وجل، ثم يسجن ظلماً وعدواناً فيصبر، ثم يخرج من السجن ويمكن من خزائن مصر فيصبر، وهذه فتنة السراء، وبعض الناس قد يصبر على الضراء، ولا يصبر على السراء، يصبر إذا نزل به بلاء، وإذا أحاطت به فاقرة، لكنه لو كان في سعة ونعمة فإنه لا يصبر.

    ويوسف عليه السلام صبر على تلك الأحوال كلها. ثم يمكنه الله من إخوته الذين آذوه، وباعوه، وكادوا يتسببون في مقتله، يمكنه الله منهم، يستطيع أن يفعل بهم ما يريد، لكنه عليه السلام يصبر ويقول لهم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، وهي نفس الكلمة التي قالها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مكنه الله من أهل مكة الذين آذوه وطردوه، وقتلوا عمه، وبقروا بطنه، وجدعوا أنفه، وقطعوا أذنه، وتسببوا في جراحات بليغة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلوا من أصحابه من قتلوا، ومع ذلك لما فتح مكة صلوات ربي وسلامه عليه وقال قائل: اليوم يوم الملحمة، لا قريش بعد اليوم، قال عليه الصلاة والسلام: ( اليوم يوم المرحمة، اليوم عزت قريش وسادت، ثم يقول لأولئك الكفار، الذين كانوا ينتظرون حكم الإعدام، يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: لا أقول إلا كما قال العبد الصالح: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء ).

    قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما ظلم عبد مظلمة فعفا إلا زاده الله بها عزاً، وما فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ).

    شكر يوسف عليه السلام لربه

    ومن ملامح شخصية يوسف عليه السلام صفة الشكر؛ فهو لا يعيد الفضل لنفسه، بل لربه جل جلاله، فكل نعمة منه، كما قال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]، حين يرى سجود أبويه وإخوته، وما هو فيه من عز وسؤدد، يقول: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ[يوسف:100]، أي: أخرجني ربي جل جلاله، وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100]، هكذا كان صلوات ربي وسلامه عليه، يشكر نعمة ربه.

    وهكذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل مكة مطأطئاً رأسه تواضعاً لربه، حتى كاد يلمس برأسه قادمة رحله عليه الصلاة والسلام، وهكذا نبي الله سليمان لما رأى عرش بلقيس بين يديه ماثلاً في لمح البصر، قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].

    1.   

    معنى الهم في قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها ...)

    وأما الآية التي يسأل عنها كثير من الناس: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[يوسف:24]، فالتفسير المرتضى -والعلم عند الله تعالى-: أن الهم هاهنا هو الميل الطبعي، الغريزي، الجبلي، الذي لا يحاسب الله العبد به، مثال ذلك: إنسان صائم يعاني من شدة الحر، وقد تكلم كثيراً مثلاً، أو بذل مجهوداً كبيراً في حمل بعض الأثقال، فرجع إلى بيته في نحر الظهيرة، فوجد أطفاله يشربون الماء البارد والعصير الشهي، فتميل نفسه إلى هذا الشراب بحكم الجبلة، بحكم الطبع البشري، لكنه لا يمد إليه يداً ولا تحدثه نفسه بأن يتناول منه شيئاً.

    كذلك يوسف عليه السلام هو شاب، فتي، قوي، غض الإهاب، حديث السن، كامل الفحولة، تام الرجولة، خلت به امرأة ذات منصب وجمال، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك! وبحكم الطبيعة البشرية، تثور شهوته لكنه استعصم بالله عز وجل فعصمه ربه.

    وما أجمل ما قاله الفخر الرازي رحمه الله، قال: يوسف بريء بشهادة الله، وشهادة الشيطان، وشهادة الشاهد، وشهادة العزيز، وشهادة المرأة، وشهادة النسوة، وشهادة نفسه، فمن كان من حزب الله، أو من حزب الشيطان فلابد أن يعتقد أن يوسف بريء.

    أما ربنا جل جلاله فقال: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، والشيطان قال: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، والمرأة قالت: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ[يوسف:51]، والنسوة قلن: حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ[يوسف:51]، والشاهد قال: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ[يوسف:26-27]، وهنا وقف جيد تقرأ: (فكذبت) ثم تبدأ كلاماً جديداً: وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ [يوسف:27] عليه الصلاة والسلام، وأما العزيز فإنه قال: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، وما كان عزيزاً؛ لأنه اكتفى بأن يقول: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ[يوسف:29].

    ثم بعد ذلك لم يتورع عن أن يدخل يوسف السجن، وهو يعلم أنه مظلوم، وأنه بريء عليه الصلاة والسلام، و يوسف عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على شرفه، رزيناً، قوياً في الحق الذي يحمله؛ ولذلك لما جاءه الرسول المبعوث من الملك، قال له: اخرج، الملك يدعوك لمقابلته، فأبى أن يخرج! وقال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، أنا لن أخرج وهناك شبهة لحقت بي، وهناك نقطة سوداء تدنس شرفي، لا، لابد أن يعاد التحقيق وأن تفتح القضية من جديد؛ من أجل أن يتأكد الناس أني بريء.

    وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الموقف من يوسف عليه السلام، حيث قال: ( لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ، ثم دعيت لأجبت الداعي )، يعني: يقول: يوسف جلس في السجن سبع سنين، أو بضع سنين كما قال القرآن، ثم قيل له: اخرج، المفروض يخرج، بل ربما لو سبعة أيام، أنا واحد من الناس لو سجنت سبع ساعات ثم قيل لي: اخرج، سأخرج مباشرة.

    فيوسف جلس في السجن بضع سنين، ثم يقال له: اخرج للقاء الملك! عندك مقابلة ملكية، ومع ذلك يرفض صلوات الله وسلامه عليه، مما يدل على رزانة وثبات، وقوة، ورباطة جأش، ومضاء عزيمة.

    أسأل الله أن يرزقنا الاقتداء به.

    وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755814043