إسلام ويب

النسخ في القرآن الكريمللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد نسخت الشريعة كثيراً من الأحكام التي أقرت في بداية التشريع مراعاة لمصلحة الناس وتدرجاً معهم في التشريع، وللأسف أن تجد بعضاً ممن يتصدرون للفتيا يتمسكون بمثل هذه النصوص التي قد نسخت، وقد كان الواجب عليهم ابتداء تعلم الناسخ والمنسوخ في مسائل الدين وأحكامه.

    1.   

    الحكمة من وجود النسخ في الكتاب والسنة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    من القضايا التي ناقشتها سورة البقرة قضية النسخ في كتاب الله، وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

    قال الله سبحانه وتعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]، مثلاً تغيير القبلة نوع من النسخ، وهناك آيات نحن نسمعها في سورة البقرة ونقرؤها ونثاب على قراءتها، ونصلي بها، لكن لا يجوز لنا أن نعمل بها.

    ومن حكم الله سبحانه وتعالى أنه كان يشرع الشرع مراعياً فيه مصلحة الخلق، ومصلحة الناس، فينقلهم رتبة رتبة ودرجة درجة، فيربيهم سبحانه وتعالى كما يربي الأب الرحيم ولده الصغير، بما يصلحهم مرتبة مرتبة، بل هو سبحانه وتعالى أرحم بهم من أنفسهم، فجاء الشرع المطهر بما يتناسب مع حاجة الناس، مرة كان الناس مولعين بنوع من المحرمات لا يستطيعون مفارقته، فلو قال لهم الله مباشرة: (اتركوا كذا) لما سمعوا ولما أطاعوا، فينقلهم مرتبة مرتبة، ومرة يكون هناك تكليف عليهم سيكون ثقيلاً لو فرض عليهم كله مرة واحدة، فينقلهم رتبة رتبة، الرتبة الأولى تنسخ وتلغى بالرتبة التي تليها، قال الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].

    وفي سورة البقرة نقرأ نماذج كثيرة من هذا، والمسلم ينبغي له أن يكون على وعي بهذه الحقيقة.

    1.   

    أمثلة على وجود النسخ في القرآن

    اليوم نحن نرى على الفضائيات بين الوقت والوقت، يطلع بعض الناس بأنواع من الشبهات، إما في العقائد، وإما في الأحكام، ويستدلون بأدلة إما بآية من القرآن، أو بحديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول لك: هكذا كان الرسول صلى عليه وسلم يقول كذا، والمسلمون كانوا يفعلون كذا، هذا موجود في القرآن، هذا موجود في السنة، الحجاب مثلاً، يظهرون علينا على الشاشات ويستدلون بأحاديث ووقائع كانت المرأة تخالط الرجال سافرة غير محجبة، لكن هذا لأنهم لم ينظروا إلى الشرع في آخر أمره، فقد جاء الشرع بمراتب من الأحكام.

    النسخ في حكم الصيام

    لما فرض الله الصوم كان شاقاً على الناس، ففرضه عليهم على التخيير، الذي يريد أن يصوم يصوم، والذي ما يريد أن يصوم يطعم مسكيناً، قال الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، ثم قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، أي: الذين يقدرون على الصوم: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، قال لهم في أول الأمر: أنتم بالخيار، إما أن تصوموا، والذي يطيق الصيام ولا يريد أن يصوم يطعم مسكيناً، لكن أن تصوموا خيرٌ لكم.

    لكن اليوم ما يجوز لأحد أن يقول: الله يقول هكذا في القرآن: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، إن شئت أن تصوم تصم، وإن شئت ألا تصوم فأفطر وأطعم مسكيناً، لا يجوز لأحد أن يقول هذا الكلام؛ لأن الله غير هذا الحكم، ونسخ هذا الحكم، وأنزل حكماً آخر غير به الحكم الأول، فقال في الآية التي تليها: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185] ماذا؟ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، ما هناك: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] لا، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185].

    النسخ في حكم شرب الخمر

    كذلك نحن نقرأ قوله سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219] ماذا كان الجواب؟ حرام، لا، ليس بحرام، قال: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، هذا الجواب كان في مرحلة من المراحل: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، يعني: الذي يريد أن يشربها لأجل المنافع ما عليه، والذي يريد أن يتركها من أجل الإثم الذي فيها فهذا أحسن وأولى، مثلما قال للصائمين هناك: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، هنا قال: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، يعني: اتركوها من أجل الإثم، لكن ما يجوز اليوم لأحد أن يقول: الله قال هكذا في القرآن: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، فنحن نشربها من أجل المنافع التي فيها؛ لأن الله أنزل حكماً آخر غير به هذا الحكم، نسخ به هذا الحكم، قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] ما هناك خيار: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219] إنما هناك: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، هذا معنى النسخ.

    النسخ: تغيير الحكم الشرعي بحكم شرعيٍ آخر. الله عز وجل يحكم بما يشاء ويقضي بما يريد، فكان يشرع للناس شرائع بمقتضى المصلحة، المصلحة تقتضي هكذا، يشرع هذا الحكم، ثم هو سبحانه وتعالى يغير هذا الحكم إلى حكم آخر، قد يكون التغيير إلى حكم أشد من الحكم الأول، كما في تحريم الخمر، وكما في فقه الصيام.

    النسخ في عدد الكفار الذين يقاتلهم الفرد المسلم

    وقد يكون النسخ والتغيير إلى الأخف؛ لأن المصلحة تقتضي أن يكون التغيير للأخف، كما فعل سبحانه وتعالى في الجهاد مثلاً، الجهاد أمر الله عز وجل في أول الأمر المسلمين بمجاهدة الكفار، والواحد من المسلمين كان مأموراً بأن يقاتل عشرة من الكفار، وكان مأموراً بأن يثبت ولا يهرب، ولا يوليهم الأدبار، كل واحد بعشرة، فإذا التقى جيش المسلمين وفيهم مائة، والكفار ألف، فيجب على المسلمين أن يثبتوا ويصبروا، ويقاتلوا الألف، ولا يجوز لهم أن يفروا، قال الله عز وجل: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا[الأنفال:65] كم؟ (مِائَتَيْنِ)، وبعدما كثر عدد المسلمين، ودخل في الإسلام طوائف كثيرة خفف الله عز وجل عنهم هذا الحكم، كان أول الأمر فيه شدة ثم خففه إلى أقل، فقال سبحانه وتعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66] فالمائة الصابرة من المؤمنين مأمورة بأن يجاهدوا (مائتين)، يعني: الواحد يجاهد اثنين، بدل ما كان الواحد يجاهد عشرة، وهذا تغيير للحكم أيضاً؛ لأن فيه مصلحة الناس ومصلحة الخلق، ففي أول الإسلام كان عددهم قليلاً، ففرض الله عز وجل عليهم حكماً يليق بتلك الحالة، ثم غير سبحانه وتعالى الحال إلى حالٍ آخر.

    النسخ في عدد الرضعات المحرمة

    كذلك الرضاع كان في أول الأمر الرضاع يحرم المرأة على الرضيع، إذا رضع منها عشر رضعات صارت أماً له من الرضاعة، وحرمت عليه، ثم نسخ الله عز وجل هذا الحكم بغيره، وقالت عائشة : ( فنسخهن الله عز وجل بخمس رضعات مشبعات يحرمن، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن على ألسنة الناس ).

    وهكذا الأحكام كثيرة في كتاب الله لكنها قد غيرت، موجودة في أحكام العدة، في أحكام الطلاق، في أحكام عديدة، نقرأها في المصحف، لكن لا يجوز لنا أن نعمل بها، نحن نقرأ هذه الآيات ونثاب على قراءتها، ونصلي بها في صلاتنا، لكن لا يجوز لنا أن نعمل بها؛ لأن الله غيرها بأحكام أخرى هذه الأحكام الأخرى، هي خير وأنفع للناس من الأحكام الأولى، قال الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] يعني: نؤخرها ما ننزلها عليك: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].

    1.   

    غياب الحكمة من النسخ عند بعض الناس وآثار ذلك في الواقع

    ختم الله هذه الآية آية النسخ بالإخبار عن قدرته سبحانه وتعالى، وأنه لا يفعل هذا من عجز، ولا يفعله من جهل، لا يفعله من عدم علم قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]، يقدر سبحانه وتعالى أن يفرض على الناس شريعة واحدة من أول الأمر، ويلزمهم بها، لكن مصلحتهم لا تقتضي هذا، فهو سبحانه وتعالى يربيهم بما يصلحهم، ولما غابت هذه الحكمة عن بعض البشر أنكروا وجود النسخ، فاليهود أنكروا النسخ، وقالوا: النسخ في الأحكام الشرعية غير ممكن، والرافضة تبعتهم وشابهتهم في ذلك، فأنكروا النسخ، قالوا: النسخ غير ممكن في الأحكام الشرعية، قلنا لهم: ما هو ممكن في الأحكام الشرعية، لماذا الله ما يغير حكماً إلى حكم ثان؟ قالوا: لأن معناه أن الله عز وجل ما كان يدري، ثم بدا له الشيء بعد ذلك، فغير من حكم إلى حكم، وهذا فعل الإنسان الجاهل القاصر، أما الله عز وجل فإنه بكل شيء عليم، لكنه سبحانه وتعالى علم بأن مصلحة الناس في هذه المرتبة وفي هذه الحالة أن يفرض عليهم كذا، ثم إذا ارتقوا إلى مرتبة أخرى يفرض عليهم فرضاً آخر، فليس عن عدم علم، وليس عن بداء، وليس عن قصور، ولا تقصير، ولكنها الحكمة الإلهية في إصلاح الخلق.

    فلا يجوز إذاً العمل بالقرآن ولا بالسنة إلا بعد العلم بأن هذه الآية أو هذا الحديث غير منسوخ، فإذا كان منسوخاً لم يجز العمل به.

    فالذين يحتجون أمامك في الشاشات بأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقر النساء يخرجن سافرات، أو يخرجن كاشفات عن بعض شعورهن، أو يخالطن الرجال على هذه الهيئة هذا فيه احتجاج بآثار منسوخة؛ نسخت بالحجاب، وغيرت بالحجاب؛ لأنه الحجاب نزل في آخر أيام الدولة الإسلامية بعهد النبي عليه الصلاة والسلام، نزل في سورة الأحزاب، قال الله عز وجل فيه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، وهذه السورة سورة الأحزاب من السور الأخيرة في النزول، فالذي يحتج بشيء من هذا مثل الذي يحتج بشرب الصحابة للخمر، وخيارهم كان يشربها، هذا حمزة سيد الشهداء رضي الله تعالى عنه كان يشرب الخمر، وشربها مرة حتى ثمل وضاع عقله، فدخل عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وقد نحر جزوراً لـعلي رضي الله تعالى عنه، وعلي كان يعد العدة للعرس، وما عنده شيء من الأموال إلا بعيراً اشتراه، كان يذهب ويأتي بنوع من النبات ويبيعه للصواغين صواغي الذهب، واشترى البعير والعدة، فمرة سكر حمزة رضي الله تعالى عنه حتى ثمل، وأنشدته القينات أبيات الشعر التي تدل على الكرم والشجاعة، فقام إلى البعير ونحره، فجاء علي رضي الله تعالى عنه حزيناً كئيباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ما فعل حمزة، فأخذ رداءه عليه الصلاة والسلام على كتفه، وذهب من أجل أن يعاتب حمزة دخل و حمزة في جماعة من الأنصار سكارى، فهل هم فاعلين إثماً؟ لا ليسوا فاعلين إثماً؛ لأنهم فعلوا شيئاً حلالاً في زمان لم يكن قد حرم عليهم، فدخل ونظر في وجه حمزة وإذا هو ثمل، عيونه محمرة من السكر، فبدأ يعاتبه، ونظر إليه حمزة نظرة احتقار، نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصوب فيه النظر من أعلاه إلى أسفله ثم قال له: وهل أنتم إلا عبيد لأبي. أنتم كلكم أنت و علي وفلان وفلان عبيد لأبي. انظروا عظم هذه الكلمة التي يقولها سيد الشهداء رضي الله عنه وأرضاه. كانوا يفعلون الشيء لما كان حلالاً، فلما حرمه الله قال أنس رضي الله تعالى عنه: أكفئت القدور بما فيها من الخمر حتى سألت شوارع المدينة خمراً، وذلك لما أنزل الله عز وجل: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، فلا يجوز الاحتجاج بشيء من كلام الله أو كلام رسوله حتى يعلم الإنسان بأنه غير منسوخ.

    وأنتم ستقرءون آيات كثيرة في العدة وفي غير العدة، في سورة البقرة نسخها الله، وغير حكمها بأحكام وحكم يعلمها سبحانه وتعالى.

    نسأل الله أن يفقهنا في دينه، وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755933307