إسلام ويب

ميزان الأعمال الصلاةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تعتبر الصلاة ميزان الأعمال، ومقياس الناس، بها يعرف المؤمن من غيره، والناس فيها أصناف خمسة، فمن أحسن فيها حسن جزاؤه ونَعُم هناؤه، خاصة إذا أتم ذلك بأمره غيره بها كأهله وأولاده ومن ولي أمرهم.

    1.   

    من مظاهر عظمة الصلاة

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

    إخوتي في الله! هذه اللحظات تذكرة للميزان -ميزان الأعمال- الذي ينبغي للمسلم أن يقيم نفسه به قبل أن يقيمه الله عز وجل فيه يوم القيامة، فميزان الأعمال: الصلاة، فمن أوفى استوفى كما روي في الحديث، من أوفى هذه الصلاة وأعطاها حقها من الرعاية والحفظ، من الأداء والحضور والخشوع فيها، من أوفاها حقها استوفى الأجر والمثوبة عند الله، إن هذه الصلاة ميزان، ( الصلاة ميزان, فمن أوفى هذا الميزان استوفى المثوبة )، هكذا روي في الحديث.

    الصلاة أهم أمور الإسلام؛ ولهذا كثر ذكرها في القرآن، فقد ذكرت فيما يزيد عن سبعين موضعاً من القرآن، في سبعين آية يذكر الله عز وجل الصلاة مرة آمراً بها، ومرة حاثاً على الخشوع فيها، ومرة يبين أثرها في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.

    أما الأحاديث فمن استقرأ أحاديث رسول الله وتتبع أخباره، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أكثر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد.

    إن أكثر موضوع تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم موضوع الصلاة.

    الصلاة عمود الدين

    الصلاة يكفينا من أهميتها: أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عنها بأنها عمود الدين، قال: ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله )، فكيف يستقيم الدين إذا سقط هذا العمود؟!

    ولذلك يقول الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم! أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك، إذا هانت الصلاة وتساهل الإنسان بها ولم يعطها شأناً ولم يبال بأمرها, فيا ترى بعد ذلك أي أمر من أمور الدين سيبالي به!

    هذه الصلاة من أجلها نصبت القبلة، ومن أجلها أنزل الله عز وجل الكتاب، ومن أجلها أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الدين ومقاتلة الناس: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ).

    وقال سبحانه وتعالى عن المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] .

    كان أهم ما يوصي به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الصلاة، سواء في محضرهم في المدينة، أو عندما يسافرون للغزو.

    وهكذا فعل الناس بعده، كان أهم ما يعتنون به أمر الصلاة، فهذا عمر رضي الله عنه كان يوجه الخطاب إلى الأمراء في الأقاليم، يقول لهم: واعلموا أن أهم أموركم عندي الصلاة, فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع.

    لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس جماعة لما كان مريضاً علم الناس بأن أحق الناس بالحكم والإمامة بعده عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر ، ما دام أنه الرجل الكفء الذي يستحق أن يكون إماماً في الصلاة لهذه الجماهير، فهو أحق الناس بأن يرعى لهم دنياهم. من حفظ الصلاة كان لما سواها أحفظ، ومن ضيع الصلاة كان لما سواها أضيع؛ ولذلك اتفقت كلمة الصحابة بعد الاختلاف في من يؤم الناس ويتولى الإمارة بعده عليه الصلاة والسلام، فقالوا: ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا!

    الصلاة ميزان تقاس به الرجال، الرجال الأوفياء، الرجال المخلصون لهذا الدين يعرفون بقدر حظوظهم من الصلاة، إقامتها في أنفسهم، وأمرهم للآخرين بها.

    الصلاة مفتاح السعادة

    أيها الإخوة! إذا تحدثنا عن الصلاة فإننا نتحدث عن مفتاح السعادة، سر السعادة في هذه الدنيا، حسن العلاقة بين الإنسان وبين الله، إذا حسنت علاقتك بالله فقد فتحت لك أبواب السعادة على مصارعها، وإذا ساءت هذه العلاقة فإنك لا تنتقل إلا من غم إلى غم، ومن نكد إلى نكد: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

    هذه الصلاة سر سعادة الإنسان في هذه الدار، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، العين لا تقر ولا ترتاح من الالتفات يميناً وشمالاً إلا إذا صلت، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ( أرحنا بها يا بلال ! ) .

    ولذلك تجدون في الفقه الإسلامي أنواعاً من الصلاة غير الصلوات الخمس، غير الصلوات الرواتب والنوافل التي نعرفها، هناك صلاة يسميها الفقهاء: صلاة التوبة، صلاة الحاجة، صلاة الاستسقاء، صلاة الكسوف، صلاة الخسوف، صلاة الجنازة، صلاة الاستخارة.. أنواع من الصلوات تملأ على هذا الإنسان يومه وليلته، ليسأل الواحد منا نفسه: كم مرة صلى الاستخارة في عمره؟ مع أنه يحتاج إلى هذه الصلاة في كل يوم وليلة، كم مرة صلى صلاة التوبة في عمره؟ مع أنه يحتاج أن يصلي هذه الصلاة كل يوم وليلة، كم مرة صلى لله عز وجل صلاة الأوابين التي أخبر عنهم النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه الصحيح: ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ).

    هناك أنواع من الصلوات بها تحل المشكلات، وبها تنزل الرحمات، وبها تفرج الكربات، هذا هو هدف الصلاة في حياة هذا الإنسان، الإنسان مصاب بأنواع من الأمراض، بأنواع من الأدواء النفسية، جعل الله عز وجل علاجها في الصلاة: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19] ، هذه طبيعة الإنسان، الهلع عندما يصاب بالمصائب والشدائد، الجزع عندما يصاب بالمكروه، والهلع والحرص عندما يصاب بالخير: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19-23].

    أهل الصلاة الذين يحافظون على القيام بين يدي الله مساءً وصباحاً مبرءون من هذه الآفات، شفاهم الله وعافاهم من هذه الأمراض، فهم يعيشون حياةً مستقرة، حياةً هادئة، هذا هو شأن الصلاة.

    لا نتحدث عن الصلاة كضريبة بدنية نكلف بها ونؤديها كرهاً، نتكلم عن الصلاة ونؤمر بها لأن بها خيرنا، لأن بها فلاحنا في الدنيا وفي الآخرة.

    كم من ذنب يكفره الله عز وجل عن هذا الإنسان بصلاته، بركعاته وسجداته، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا قام العبد يصلي جيء بذنوبه كلها فوضعت بين كتفيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه ذنوبه )، كلما ركعت سقطت من بين كتفيك ذنوب لا يحصيها إلا الله، ولا يعلمها إلا الله.

    الصلاة عهد وميثاق

    الصلاة عهد عند الله، وميثاق عند الله، مقدمة عند الله بأن يدخلك الجنة، وفي الحديث: ( خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حافظ على ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة )، كان له عند الله عهد وميثاق وعد بأن يدخله الجنة، على أي حال يقدم الإنسان على ربه إذا خرج من هذه الدار وهو متهاون بهذه الفريضة، وهو مضيع لهذه الفريضة، كيف سيحاسب الإنسان نفسه؟

    نحن بحاجة أيها الإخوة! أن نقيم الصلاة ميزاناً نزن بها أحوالنا، ونزن بها أمورنا مع الله، وأمورنا مع خلق الله.

    الصلاة ميزان من أوفاها استوفى، من أوفاها حقها استوفى الأجر والمثوبة عند الله.

    1.   

    أصناف الناس تجاه الصلاة

    لما نتكلم عن الصلاة نتكلم مع جميع شرائح المجتمع، مع الناس جميعاً، الأواب والفاجر، الشقي والسعيد، الصالح والطالح، كلنا يحتاج إلى أن يذكر بالصلاة، وكلنا يحتاج أن يراجع حساباته مع الصلاة, فإننا وإن صلينا فإننا نحن في صلاتنا على مراتب، منا من لا يصلي، ومنا من يصلي ويترك، ومنا من يحافظ على الصلاة, لكن في محافظته على الصلاة مراتب وأنواع ينبغي أن يستوفيها.

    ولذلك قسم العلماء المصلين إلى خمسة أقسام، وأنت لا بد أن تسمع هذا جيداً, وتزن نفسك بهذا الميزان، من أي صنف أنت؟! من أي المصلين أنت؟! فإن الله عز وجل توعد في كتابه المصلين بعذاب شديد، قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ، ما قال: للذين يتركون الصلاة! الذين يتركون الصلاة لم يكن لهم حظ ولا وجود في المجتمع الإسلامي، ما كان يوجد أحد في مجتمع المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أو من بعده من القرون المفضلة ويزعم أنه مسلم والناس يعرفون عنه أنه لا يصلي، أو الناس يعرفون عنه أنه يصلي بعض الصلوات ويترك البعض الآخر، هذا لم يكن له وجود. ‏

    الصنف الأول المنافقون

    المنافقون الذين تسمعون أخبارهم في القرآن الذين قال الله عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، هذا الصنف من الناس كانوا يصلون، ما كان هناك أحد يجرؤ أن يزعم أنه مسلم ثم لا يصلي، أو يتعمد أن يترك الصلاة حتى يخرج وقتها، هؤلاء ما كان لهم وجود؛ ولذلك يقول ابن أبي مليكة من التابعين: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله ما كانوا يعدون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، فما كان يوجد أحد يتجرأ على هذا الإعلان أن يقول: أنا مسلم ثم يعرف الناس عنه بعد ذلك أنه يصلي متى شاء، ويترك الصلاة متى شاء، هذا لم يكن موجوداً في أذهان المسلمين.

    ولذلك نجد الله عز وجل يتوعد بعض الناس بأشد العذاب مع أنهم مصلون؛ لأنهم ينتمون إلى المجتمع المسلم، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، هذا الفريق من الناس الذين يصلون أخبر عنهم في سورة أخرى، قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] .

    إنهم إذا نودي إلى الصلاة قاموا مع الناس إلى الصلاة، ما كانوا يتخلفون عنها، ما كانوا يتباطئون عنها، يقومون إليها مع الناس، ولكن المشكلة أنهم كانوا يصلون على طريقة أخرى، يقومون إليها كسلاً، يقومون إليها كرهاً، وهم مع ذلك لا يقومون إليها بغية الثواب عند الله، إنما يقومون إليها رياءً وسمعة، وهم إذا قاموا في الصلاة قاموا وقلوبهم في مكان آخر، فإن أجسادهم تتحرك، يركعون ويسجدون ويجلسون ولكنهم لا يذكرون الله، أو يذكرون الله قليلاً، قال: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] .

    هذه صلاة أقوام من الناس، وهم في صلاتهم أيضاً منافقون، كما قال عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: ( تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا قامت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله إلا قليلاً )، هذه صلاة المنافق.

    وفينا اليوم من هو أسوأ من هذا المنافق في الصلاة، فينا من هو أسوأ منه في الصلاة، فينا من هو متهاون أشد من تهاونه بالصلاة، هذا المنافق كان يجلس يرقب الشمس لا يقوم إلى الصلاة حين يؤذن إليها في صلاة العصر، ولا يقوم إليها حين يؤذن لها في صلاة الفجر، يقوم إليها حين تكون الشمس قريبة من الغروب، حتى إذا كانت بين قرني شيطان، فإن الشيطان ينصب قرنه للشمس عند غروبها وعند شروقها، إذا أشرفت على الغروب أو أشرفت على الشروق قام هذا المصلي يصلي، قال: ( قام فنقر أربعاً لا يذكر الله إلا قليلاً )، هذا نوع من الناس متهاون بهذه الصلاة، يؤديها أحياناً ويتكاسل عنها أحياناً، وإذا قام لا يذكر الله عز وجل فيها إلا قليلاً، هذا الصنف الأول من المصلين وهو بصلاته معاقب، معاقب على هذه الصلاة، معاقب على هذا الحال الذي هو عليه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] ، إذا قام إلى الصلاة لا يقوم إليها إخلاصاً، ولا يريد بها ذكر الله، ولا يراقب الله في ركوعها ولا سجودها ولا أركانها ولا شروطها، فهو معاقب بصلاته، فاحذر أن تكون منهم وأنت لا تشعر، بل من باب أولى احذر أن تكون أسوأ حالاً منهم.

    الصنف الثاني المتهاونون

    وهناك صنف آخر من المصلين أرفع درجة وأعلى رتبةً من هذا الصنف، إنه فريق يصلي ويؤدي الصلاة في أوقاتها ويحافظ على شرائطها وأركانها، ولكنه إذا دخل في الصلاة يكون بدنه في مكان وقلبه في مكان آخر، يصلي الصلوات الخمس ولكنه لا يشعر إلا والإمام يسلم، يصلي ولكنه في غالب أحواله لا يدري كم صلى؟! يصلي ولكنه لا يدري ماذا قال في صلاته؟! فهذا وإن أدى الصلاة ظاهراً وحافظ عليها بركوعها وأركانها في الأحكام الظاهرة إلا أنه ليس له من صلاته إلا بقدر حضوره فيها، بقدر خشوعه فيها، كما قال ابن عباس : يكتب للمرء بقدر حضوره من صلاته، أو كما قال رضي الله تعالى عنه.

    هذا الفريق الثاني قال عنه ابن القيم رحمه الله: محاسب، يعني: ستعرض صلاته على الميزان، وستوزن في الميزان، له أو عليه، فإن كان ما أحسنه أكثر نجا وأفلح، وإذا كان ما أفسده أكثر خاب وخسر، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته, فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر )، الخيبة والخسران إذا خرج الإنسان من هذه الدار بصلوات ناقصة، بصلوات مضيعة.

    الصنف الثالث المحافظون

    وهناك فريق ثالث أعلى في الرتبة من هذين الأولين، إنه فريق يحافظ على الصلاة في أمورها الظاهرة، فيؤدي أركانها الظاهرة ويحافظ على شروطها، ويؤديها في أوقاتها، وإذا دخل في الصلاة دخلها لا بقلب لاه ولكنه بقلب مجاهد، فالشيطان معه في صراع, كلما أراد الشيطان أن يذكره بأمر جاهده هو ليشتغل بالصلاة، فهو في طوال صلاته في عراك مع الشيطان، كلما أراد الشيطان أن يجره منها رجع إليها، فهذا مجاهد, قال عنه ابن القيم رحمه الله: فهذا مكفر عنه، صلاته تكفر عنه سيئاته، صلاته تحط عنه ذنوبه، وسلم من العقاب، فهو لا يعاقب لأنه أدى ما يقدر عليه، فهو مكفر عنه الذنوب وسلم العقاب، لكنه نقص عن المرتبة العليا وهي مرتبة الدرجات العلى والثواب العظيم الذي وعده الله عز وجل المصلين، فهو مجاهد يستحق أجر هذا الجهاد، سلم بأمر الله وبإذنه من تبعات تضييع الصلاة، وكفرت عنه ذنوبه، فهو في خير عظيم.

    الصنف الرابع الخاشعون

    وهناك صنف رابع أعلى مقاماً من هؤلاء, وهو من إذا حضر الصلاة حضرها بقلب حاضر خاشع، لكن قلبه منصرف إلى أعمال الصلاة، قلبه مراقب لأعمال الصلاة، فهو يحاسب نفسه في وقت الركوع، هل أديت الركوع على الصفة التي تنبغي؟ ويحاسب نفسه عند السجود هل أديت السجود على الوجه الذي يراد؟ وهكذا هو محاسب لنفسه أوقات الصلاة، مراقب لأعمالها وأركانها، محاسب لنفسه عن إتمامها وخشوعها.

    فهذا أخبر عنه العلماء بأنه مكفر عن سيئاته مثاب على صلاته، يعني: ما وعد الله عز وجل به أهل الصلاة من رفعة الدرجات وتكفير السيئات والمقامات العلى نائلة هذا بإذن الله؛ لأنه أدى ما يقدر عليه من المجاهدة للشيطان وزاد على ذلك.

    الصنف الخامس الأولياء والنبيون

    والصنف الخامس وهو أعلى المقامات: مقامات الأولياء، مقامات الأنبياء، مقامات الصالحين المقربين الذين إذا حضروا إلى الصلاة استشعروا وقوفهم بين يدي الله، فإنهم يذهلون عن كل شيء, ويغيبون عن كل شيء إلا عن مراقبة الله والاشتغال بمناجاته، الاشتغال بالحديث معه، الاشتغال بتذكر الوقوف بين يديه، فهذا صنف آخر من المصلين، هم أشبه الناس بالذي قال: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، أشبه الناس بمحمد عليه الصلاة والسلام الذي إذا صلى قرت عينه، وسكنت نفسه، واستراح لمناجاة ربه، فهؤلاء هم المقربون الذين لا يعلم ما أعد الله عز وجل لهم من الثواب إلا الله سبحانه وتعالى. كل واحد منا مطلوب بأن يحاسب نفسه على هذه الصلاة في أي المراتب هو؟ ليتدارك نفسه قبل فوات الأوان، ليتدارك نفسه قبل أن يتمنى صلاة ركعتين فلا يستطيع.

    والله الذي لا يحلف إلا به إن ركعتين خفيفتين من هذه الصلاة خير لهذا الإنسان من كل ما على هذه الأرض، خير له من قصورها وذهبها وفضتها وأرصدتها وعماراتها، خير له مما على هذه الدنيا، ركعتان خفيفتان.

    وهذا ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو يدفن أحد الناس في القبر، يقول: ( ركعتان خفيفتان مما تحقرون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من سائر دنياكم )، لو خير الآن بين أن يخرج إلى الدنيا ويعطى كل ما عليها أو يخرج إلى الدنيا فيزيد ركعتين خفيفتين مما تحقرون من الصلاة لاختار الركعتين؛ لما علم لها من الأثر عندما عاين العذاب أو النعيم في القبر، فإن الصلاة أول أسباب النجاة من عذاب القبر، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا وضع في قبره كانت الصلاة عند رأسه, فإذا جاء العذاب من قبل رأسه قالت الصلاة: ما قبلي مدخل )، وإذا حشر الناس يوم القيامة للعرض والحساب كانت الصلاة أهم أسباب النجاة.

    1.   

    تمايز الناس بصلاتهم يوم القيامة

    إن الناس يتمايزون يوم القيامة في ذلك الموقف المريب، في ذلك الموقف المخيف، الموقف الرهيب، دنت فيه الشمس من الرءوس، وسال العرق، وغرق الناس في عرقهم، والواحد ينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار.

    في ذلك الموقف الرهيب الناس يتمايزون بصلاتهم، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام، لما سئل كيف يعرف أصحابه؟ فقال: ( إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً من الصلاة، محجلين من الوضوء ) (غراً) يعني: في وجوههم البياض من آثار الصلاة، (محجلين) يعني: في آثار أيديهم وأرجلهم البياض من آثار الوضوء.

    فليسأل الواحد منا نفسه: كيف سيحشر في زمرة محمد عليه الصلاة والسلام إذا خرج بغير صلاة؟

    يعرف الناس يوم القيامة بآثار هذه الصلاة، حتى إذا دخلوا النار من كتب الله عز وجل عليه أن يدخل النار ليعاقب بقدر ذنوبه ثم يخرج منها يرسل الله عز وجل الملائكة لإخراجه من النار كما في الأحاديث الصحيحة، فكيف تعرفهم الملائكة وهم في النار؟ قال عليه الصلاة والسلام: ( تعرفهم بآثار السجود، حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود )، هذا يقول عليه الصلاة والسلام.

    هذه المواضع الشريفة السبعة: الكفان، والركبتان، وأطراف القدمين، والجبهة مع الأنف، هذه المواطن السبعة مواطن شريفة لأنها خضعت لله؛ لأنها خشعت لله؛ لأنها ذلت لله، فاستحقت أن تجزى يوم القيامة بأن تسلم من هذا العقاب الأليم.

    ( حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود )، فإذا جاءت الملائكة إلى النار أخرجت هؤلاء الناس الذين ترى فيهم هذه الأعضاء سليمة، وهذا من آثار وبركات هذه الصلاة، وإذا دخل الناس بعد ذلك الجنة فلا تحدث عن درجاتها! ولا تحدث عن ثوابها! فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة )، درجات بعضها فوق بعض ينالها الناس بقدر حظهم من الأعمال الصالحة، وبالأخص بقدر حظهم من السجدات.

    فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يستعملنا فيما يرضيه عنا.

    اللهم يا حي! يا قيوم! أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    الأمر بالصلاة والاصطبار عليها

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

    أما بعد:

    إخوتي في الله! ومن قضايا الصلاة التي نحتاج أن نراقب الله عز وجل فيها وأن نحاسب أنفسنا، أمر الناس بالصلاة, الواحد منا مأمور بأن يصلي وأن يأمر من ولاه الله بالصلاة، كما قال الله عز وجل: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] ، اصطبر أنت في نفسك، و(اصطبر) أبلغ من (اصبر)، الأمر يحتاج إلى مجاهدة، الأمر يحتاج إلى عناء، والله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] .

    أمر الأهل بالصلاة

    الصلاة تحتاج إلى صبر في نفسك، وإلى صبر لتجاهد من ولاك الله عز وجل عليه ليصلي، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، هذا الولد أنت لم تكلف بأن تجمع له الأرصدة والأموال، أنت لم تكلف بأن تأمن له المستقبل لعشرة مليون سنة قادمة، أنت لم تكلف بأن تهيئ له من المساكن والعقارات ما يستثمره هو ومئات الأحفاد من ورائه، لم تكلف بهذا، أنت كلفت بأن تقيم له دينه، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132] ، الرزق عند الله، وما من نفس إلا وستستوفي ما كتبه الله لها عاجلاً أو آجلاً، لكننا مأمورون أولاً بأن نقيم في حياتنا هذا الدين.

    الأمر بالصلاة يا إخوتنا الكرام! من واجبات هذه الشريعة، كيف يستقيم في حس المسلم أن ينجو هو بنفسه وأن يترك أولاده وزوجته وأهله لظى للنار، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] .

    الأمر بالصلاة في البيوت فريضة مضيعة عند كثير من الناس، النبي عليه الصلاة والسلام كان يأمر الزوجات بصلاة النوافل، كما ورد في الحديث الصحيح، كان يقوم الليل فإذا فرغ من صلاة الليل أيقظ عائشة لتصلي الوتر، عائشة امرأة لكنها شابة مات النبي صلى الله عليه وسلم وعمرها ثمانية عشر عاماً، شابة في مقتبل عمرها، كان إذا قام من الليل وانتهى من هذه الصلاة يقيمها أيضاً لتنال حظها من صلاة الليل.

    نحن اليوم نتحدث عن الفرائض، نتحدث عن الصلوات الخمس متى يصليها أبناؤنا! متى تصليها بناتنا! متى تصليها نساؤنا، كل واحد منا يسأل نفسه قبل أن يسأله الله، كم مرة سأل أبناءه في البيت صليتم أو ما صليتم؟

    الواحد منا يسأل نفسه قبل أن يوجه إليه هذا السؤال يوم العرض، كم مرة أمر ولده بأن يصلي؟ كم مرة شجع أبناءه وحضهم على الصلاة، كم مرة جاهد نفسه ليسأل كيف يجعل أبناءه مصلين؟ هذه هي طريق السعادة، هذا هو أمان المستقبل، أن تربي نشأك وأولادك على أن يكونوا من أهل الصلاة، فإذا لم تغرس فيهم هذا والله ما فعلت لهم شيئاً، ولم تجرهم إلى خير، ضيعتهم وسوف يسألونك أمام الله يوم القيامة، ما من أحد منا إلا وهو مسئول.

    أمر الولاة رعيتهم بإقام الصلاة

    وكما سمعتم في أول الخطبة الولايات العامة فضلاً عن الولايات الخاصة وأمراء الجيوش كان الخليفة يحضهم على الصلاة ويأمرهم بأن يقيموا الصلاة في الجيش ومع الجنود، وكان الخلفية هو الذي يؤم الناس في الصلاة، وهو الذي يخطب بالناس الجمعة، وهو الذي يخطب بالناس في العيدين، من ولايات الإنسان إذا ولاه الله عز وجل على أحد أن يقيم فيهم الصلاة، يأمرهم بها ويحثهم عليها، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] .

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي! يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم يا حي! يا قيوم! انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك يا قوي! يا عزيز!

    اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755825669