إسلام ويب

أهمية الوقت والحث على اغتنامهللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنفاس الإنسان في الدنيا محدودة، وحياته فيها موقوتة، وآماله فيها كثيرة، غير أن عقلاء البشر استغلوا ليلها ونهارها فيما يقربهم إلى خالقهم، وينجيهم يوم لقائه؛ لذلك فإن استغلال الفراغ فيما ينفع من كمال العقل.

    1.   

    حقيقة الدنيا

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! ذكر لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من وصايا الصالحين، وصايا قوم قارون لـقارون ، ذكر سبحانه وتعالى جملة من الوصايا، وكان من هذه الوصايا قوله سبحانه وتعالى حاكياً عنهم أنهم قالوا له: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

    سنقف اليوم مع هذه الوصية العظيمة: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، ما هو النصيب من الدنيا؟ ماذا يريد الواحد منا من هذه الدنيا؟ ما هي هذه الوصية التي لفتت النظر إلى هذا المعنى؟

    وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، الناس في هذه الدنيا همومهم شتى، وآمالهم متفرقة، وأطماعهم متنوعة، فماذا يريد العاقل من هذه الدنيا؟

    وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، يقول ابن عباس ترجمان القرآن وحبر الأمة في تفسير هذه الآية: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي: لا تنس العمل فيها للآخرة، هذا هو النصيب المرتجى من هذه الدنيا، النصيب الأعلى، النصيب الأعظم، في الدنيا لذائذ وشهوات، وفي الدنيا أنواع من النعيم، ولكن وراء هذه الدنيا نعيم لا خطر له، أو عذاب لا يتصور وقعه، وراء هذه الدنيا سعادة لا تنتهي، أو شقاوة لا تزول، فحري بالإنسان أن يقارن بين الدارين، (لا تنس نصيبك من الدنيا) أي: لا تنس العمل في هذه الدنيا للآخرة، فتكون قد نسيت نصيبك الأعظم منها، هذه هي حقيقة الدنيا، الدنيا أيام نمضيها، وساعات نقضيها، وإذا بملك الموت ينزع الروح لننتقل إلى الحساب والجزاء فنحصد ما زرعنا في هذه الدنيا، كما قال الشاعر:

    إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق والليالي متجر الإنسان والأيام سوق

    نحن في هذه الدنيا في تجارة إما رابحة وإما خاسرة، ( كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، هذه حقيقة الدنيا باختصار، مزرعة الآخرة، نصيبنا الأعظم منها أن نتزود منها للقاء الله تعالى، كما قال الشاعر:

    إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

    نظروا إليها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا

    جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا

    هذه هي حقيقة الدنيا، أنفاسك فيها معدودة عليك، وهي سبب سعادتك الأبدية، أو شقاوة نسأل الله عز وجل منها العافية، هذه حقيقة الدنيا التي ينبغي لنا أن نتفكر فيها مساء صباح، إنه ليس إلا الاستعداد للعيش في الآخرة، إنه ليس إلا الاستعداد للانتقال إلى دار الخلود، إما في نعيم وإما في عذاب.

    وقد جعل سبحانه وتعالى الثمرة هناك والجزاء هناك على قدر العمل في هذه الدنيا، كلما عملت كلما أجرت، وكلما أكثرت كلما ازداد ثوابك، وأنفاسك في هذه الدنيا يقابلها من الحياة ملايين الأعوام أو قل على وجه الصواب والصحة: يقابلها ما لا يعد من الأعوام، يقابلها ما لا يعد من السنين، إنك تحيا هنا ستين عاماً، ثمانين عاماً، لتحيا هناك حياة أبدية لا موت بعدها، فكم يقابل النفس الواحد في هذه الدار من الأعوام في تلك السنين، هذا النفس الواحد به تجني نعيماً لا خطر له في الدار الآخرة، أو به تحل عذاباً أليماً لا مثيل له في دار الدنيا.

    ولذلك كان من وصايا الصالحين، واستمع إلى هذه الوصية العظيمة، وصية الإمام الأعظم شيخ الحنابلة، الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله، وهو يوصيك كيف تتعامل مع أنفاسك في دنياك، يقول رحمه الله: وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نفسٍ فيها يعادل أكثر من ألف ألف عام، والألف ألف يعني: مليوناً، النفس الواحد يعادل أكثر من مليون عام في نعيمٍ لا خطر له، يعني: لا مثيل له، أو خلاف ذلك نسأل الله العافية، وما كان هكذا فلا قيمة له، فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض، واجتهد ألا يخرج نفس من أنفاسك إلا في عمل طاعة، أو قربة تقرب بها، فإنك لو كان معك جوهرة من جواهر الدنيا لساءك ذهابها، فكيف تفرق في ساعاتك؟! وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟! هذه حقيقة الخسارة أو الربح.

    لما هبطت سوق الأسهم رأينا الناس يعانون ألواناً من الأمراض النفسية، لما خسروا بعض الدراهم وبعض الريالات في أيديهم رأيناهم يعيشون ألواناً من الهموم في الليل والنهار، لكن يضيع نهاره كله ويذهب عمره كله وهو لا يبالي بذلك؛ لأنه لا يعلم مقادير الربح والخسارة على الحقيقة.

    1.   

    أهمية الوقت والحفاظ عليه

    الوقت أغلى مملوك

    وقديماً قالوا: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والحكماء يقولون عندما قال بعض الناس: الوقت من ذهب، قال الحكماء: بل أغلى من الذهب؛ لأن الذهب إذا فات يمكن أن تستعيده، يمكن أن تكسب أضعاف أضعاف ما فاتك، وكم رأينا أناساً انتكبوا في بداية أعمارهم واغتنوا في أواخرها، لكن إذا ذهبت اللحظة، وإذا مضت الساعة، وإذا انصرف اليوم فإنك لو بذلت كنوز الدنيا كلها على أن تعيش لحظة أخرى فإنك لن تستطيع حين يأتي الموت وتأتي ساعة الفراق من هذه الدنيا يعرف الإنسان قدر الساعات التي كان يعيشها، فيقول كما حكى الله في كتابه: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، يتمنى أن يرجع ليعمل صالحاً، ولكن هيهات، لو بذل ما في الدنيا كلها لو كان يملكه على أن يؤخر لحظة فإنه لن يؤخر، لا يستطيع أن يشتري هذه اللحظة بكنوز الدنيا كلها، هذا هو رأس المال الذي ينبغي أن يكون محل الاهتمام ومحط الرعاية والعناية، عمر الإنسان، عمرك.. لحظات حياتك، هذا أغلى ما تملكه، الكنز الثمين الذي ينبغي أن تخاف من خسرانه، أن تخاف من سرقته، أن تخاف من ضياعه، إذا ذهب من غير شيء فقد خسر الإنسان خسراناً مبيناً.

    الإمام الشافعي رحمه الله كان يتمثل ببيتين والإمام الشافعي هو من تعرفون، مات وهو في الرابعة والخمسين من عمره، وقد ملأ الدنيا علماً، ولا يزال الناس يقتدون بآثاره، وينتهلون من علمه إلى اليوم، أربعة وخمسون عاماً ملأت الدنيا علماً، كان يقول:

    إذا هجع النوام أسبلت عبرتي وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعر

    أليس من الخسران أن ليالياً تمر بلا علم وتحسب من عمري

    أليس من الخسران أن تذهب الليلة من غير شيء تحسب من العمر، كلما مضى من عمرك يوم، بل كلما مضى من عمرك لحظة قربت من الأجل، قربت من الدار الآخرة وابتعدت من هذه الدنيا، فهذا هو الخسران الحقيقي، الخسران الحقيقي أن تخسر هذه الساعات بدون زيادة؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو ينهى عن تمني الموت، لا ينبغي للإنسان المؤمن أن يتمنى الموت مهما نزل به من الضر، مهما نزل به من الفقر أو العناء أو المرض أو الشدة، لا ينبغي له أن يتمنى الموت، لماذا؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ( فإن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً ) أتدري ماذا يعني العمر؟ أتدري ماذا تعني الدقيقة على هذه الدنيا؟ فكر معي لو أنك في دقيقة واحدة استغللتها في أنواعٍ من الطاعات، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: ( من قال: سبحان الله وبحمده غرست له في الجنة نخلة ) كلما قال: سبحان الله وبحمده غرست له في الجنة نخلة، يا ترى الدقيقة الواحدة كم ستقول فيها من هذا الذكر؟ كم ستقول فيها: ( سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ).

    الثواب النعيم المقيم الذي ينتظر الناس أو العذاب الأليم، إنما هو حصاد لثمار هذه الأنفاس، إنما هو حصاد لثمار هذه اللحظات، فماذا أودعت فيها أيها الإنسان؟! عمرك أيها الإنسان! هو الحجة لك أو عليك، إما أن يأتي شاهداً عليك، وإما أن يأتي شاهداً لك، ولذلك قال الإمام مجاهد بن جبر إمام المفسرين رحمه الله: ما من يومٍ إلا يقول: ابن آدم! قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تفعل فيّ، فإذا انقضى طوي، ثم يختم عليه، إذا انقضى هذا اليوم طويت ما فيه من أعمال، طويت هذه الصحيفة وختم عليها، يعني: وضع عليها الخاتم الذي لا يفتح، وختم عليه، فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفضه يوم القيامة، ولا تقول ليلة إلا كذلك، كل يوم من أيام عمرك محسوبة فيها أنفاسك، معدودة فيها لحظاتك، مسجلة فيها أعمالك، ولن تفتح هذه الصحيفة إلا يوم العرض على الله، فهنيئاً لمن ابتدأ هذه الصحيفة بطاعة وختمها بطاعة؛ ولذلك جاء في الحديث: ( أن الله عز وجل إذا رأى في صحيفة الإنسان في أولها خيراً وفي آخرها خيراً قال: قد غفرت لعبدي ما بين ذلك ).

    إقسام الله تبارك وتعالى بالوقت في القرآن الكريم

    أهمية الساعات أيها الإخوة! حقيقة قررها القرآن، والله عز وجل يقسم في القرآن بأيمان متنوعة، والله عز وجل لا يقسم ولا يحلف إلا بما يعظمه سبحانه وتعالى، نحن لا يجوز لنا أن نحلف بغير الله؛ لأنه لا يجوز لنا أن نعظم أحداً غير الله كتعظيمنا لله، فلا نحلف بغير الله، والله لا يحلف بشيء من مخلوقاته إلا إذا كان هذا المخلوق عظيماً، إلا إذا كان هذا المخلوق له شأن، أقسم سبحانه وتعالى بالوقت في مواطن عديدة من القرآن، بل بأجزاء الوقت، أقسم بالفجر، ونحن نقرأ: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2].

    أقسم بوقت الضحى، قال: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، أقسم سبحانه وتعالى بالعصر، قال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2].

    أقسم سبحانه وتعالى بوقت مجيء الليل وذهاب النهار، قال: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17].

    وأقسم بوقت انجلاء الليل ومجيء النهار وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:18].

    أقسم بالنهار كله، وبالليل كله، قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2]، أيمان تبين لنا أهمية هذه الساعات، ثم جاءت تكاليف الشريعة أيضاً تشعر هذا الإنسان بأهمية الوقت، وأنه مراحل تطوى، كلما انتقلت من ساعة انتقلت إلى أخرى، وأن كل ساعة لها وظيفة، إذا جاء وقت الصباح أذن المؤذن يدعوك إلى صلاة الفجر، فإذا انتصف النهار؛ فلعلك غرقت في تجارتك، ولعلك غرقت في أعمالك ووظيفتك، يدعوك عندما يقوم قائم الظهيرة بعد أن تزول الشمس، يدعوك المنادي ثانية إلى الصلاة، فإذا قاربت الشمس من الغروب وأزف النهار أن يرتحل دعاك ثانية لتصلي صلاة العصر، فإذا انقشع النهار وجاء الليل أذن المؤذن يناديك إلى صلاة المغرب، فإذا دخل الغسق وأوشك الليل أن ينتصف، وذهب الناس في غمراتهم وشهواتهم أذن المؤذن لصلاة العشاء، وهكذا ينقلك الإسلام من عبادة إلى عبادة، من طاعة إلى طاعة، تشعرك وتحسسك بأهمية الساعات التي تعيشها، وأن اليوم ينقضي، والمغبون الخاسر على الحقيقة هو من ضيع هذه الساعات في غير منفعة؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي نحفظه جميعاً، لكن قلّ منا من يتمثل العمل به: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس )، مغبون يعني: يبيعها بيع الخاسر، يبيعها بأقل مما تساوي: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، نعمة الصحة، نعمة العافية، إذا لم تستثمر في طاعة الله، إذا لم تستثمر فيما يقربك من الله، إذا لم تستغل فيما ينفعك عند الله فإنها الخسارة بعينها؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول إذا عاد مريضاً يعلمنا ويقول: ( إذا عاد أحدكم مريضاً فليقل ) استمع هذه الكلمات بقلبك قبل أذنك، ( إذا عاد أحدكم مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة )، إذا شفي العبد فماذا يرتجى من الشفاء؟ إذا عوفي العبد ماذا ينتظر من العافية؟ (ينكأ لك عدواً)، أي: يجاهد في سبيل الله، (أو يمشي لك إلى صلاة)،والعافية فيما سوى ما يقرب من الله وبال على هذا الإنسان، حسرة على هذا الإنسان، ندامة وإن كان من الصالحين، كما ورد في الحديث الآخر الذي رواه البيهقي وغيره وصححه الألباني ، يقول عليه الصلاة والسلام: ( ما من ساعة تمر على ابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا كانت حسرة عليه يوم القيامة )، وإن كنت من أهل الصلاة، وإن كنت من أهل الزكاة، وإن كنت من أولياء الله المقربين، إذا مضت عليك ساعة وأنت في حال اليقظة لم تستثمرها فيما ينفعك عند الله تحسرت يوم القيامة، تحسرت يوم تنصب الموازين يوم القيامة، يوم يعرف الإنسان درجات الناس في الجنة وأنهم متفاوتون، ما بين الدرجة والدرجة كما بينك وبين الكوكب الغابر في الأفق، الدرجات تنال بهذه الأعمال، حينها يتمنى أنه استثمر كل لحظة في حياته ليزداد من الدرجات، حينها يقول المفرطون، يقول المسرفون، يقول المضيعون: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، هذه هي الحياة الحقيقية، هذه هي الحياة التي ترتجى وتنتظر، أما ما كان في الدنيا فليس حياة على الحقيقة: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:7-8]. الغرض منها فقط الاستعداد لتلك الدار.

    يقول المفرط: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، فحري بالإنسان أن يتدارك نفسه قبل أن يفوته هذا التدارك فيندم ويتحسر حين لا ينفع الندم ولا تفيد الحسرة.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الحث على اغتنام الأوقات

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    إخوتي في الله! الأحاديث في الأمر باغتنام الوقت والتنبيه إلى أهميته كثيرة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ( اغتنم خمساً قبل خمس )، وذكر منها اثنين يعتنيان بالوقت: ( حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك )، اغتنم الحياة قبل الممات، والفراغ قبل الشغل، وفي الآخرة يوجه للإنسان أربعة أسئلة رئيسة، سؤالان منها عن الوقت أيضاً: ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ )، العمر وأهميته، ينبغي أن تثار هذه القضية في أذهاننا، كم هو الفرق والبون بين إنسان يحسب لحظات عمره، ويتحسر على ذهاب النفس الواحد في غير منفعة، ويجتهد أشد الاجتهاد في استغلال كل لحظة من لحظاته.

    لو قرأنا تاريخ علمائنا فسنجد أن هذه الأمة سادت وعظمت وشرفت، وأصبحت قائدة للبشرية يوم أن عرف أفرادها أهمية أعمارهم، فاستغلوه فيما ينفع، لو قرأنا سير العظماء وسير العلماء في هذه الأمة لوجدنا الشيء العجاب.

    ابن عقيل الحنبلي رحمه الله إمام الحنابلة يقول وهو يتكلم عن حياته اليومية، يتكلم أنه يختار في الطعام، في كيفية تناول الأكل، أنه يستف الخبز بدلاً من أن يمضغه، إذا خير بين أن يمضغ الخبز مضغاً أو يستفه -يعني: يشربه مع الماء على هيئة الشربة التي نعرفها اليوم- فإنه يختار أكل الشربة على أكل الخبز اليابس مضغاً؛ لعلمه بمدى الفارق بين الزمان الذي يستغرقه هذا النوع من الأكل وهذا النوع من الأكل؛ ولذلك صنف لنا أنواعاً من المؤلفات بعضها فقد، ومن كتبه الفنون كتاب واحد فقط، وليس كل كتبه، وهو يقع كما يقول المؤرخون في ثمانمائة مجلد، كتبه ابن عقيل في عمره، وعمره كأعمارنا، ترى ما هي الساعات واللحظات التي قضاها في هذا العمل؟! كان بعضهم يتكلم عن نفس القضية، وهي الفرق بين أن يأكل الخبز جافاً يمضغه وبين أن يستفه سفيفاً، فقال: بينهما قدر قراءة خمسين آية، يعني: بين أن آكل الخبز يابساً وبين أن أستفه إذا أكلت شربت، فإنني سأستغرق الوقت الباقي في قراءة خمسين آية، إن هذا شيء بعيد عما نحن فيه اليوم، نحن اليوم نرى ألواناً من المسلمين يعدون الوقت عدواً، يعدون الوقت خصماً؛ ولذلك يتكلمون بكل صراحة، فيقولون: تعال نقتل الوقت، إذا قتلت الوقت إنما تقتل نفسك، إنما تقضي على حياتك ومستقبلك، ما هو هذا الوقت الذي تقضي عليه وتنهيه؟ ما هو هذا الوقت الذي تميته وتشغله فيما لا ينفع؟ تعال نقتل الوقت، إننا بحاجة إلى إحيائه لا لقتله، إننا بحاجة إلى إعماره لا لإذهابه ودماره، هذا الوقت نحن بحاجة إلى أن نستغله ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

    1.   

    الحرص على استغلال أوقات الإجازة

    نحن نتكلم عن هذا الموضوع أيها الإخوة! لأننا نقبل على إجازة الصيف التي ألفنا فيها الفراغ والدعة، ألفنا فيها تضييع الواجبات عند كثير من الناس ولا أعني الجميع، تضييع الواجبات، الوقوع في المحرمات، التقصير في الأعمال الواجبات، وكأننا نعطي أنفسنا إجازة من كل ما وجب علينا، ليس الأمر كذلك.

    حقيقة الموضوع أنه ليس في حياة المؤمن إجازة، ليس في حياة المؤمن عطلة، في حياة المؤمن انتقال من لون من العمل إلى لون آخر، انتقال من طريقة للحياة إلى طريقة أخرى لتجدد لك النشاط؛ ولذلك إذا لم تستغل أوقات الفراغ بما ينفع، فإنها تعود على الإنسان بأعظم المفسدة، وقديماً قالوا: إذا كان العمل مجهدة فالفراغ مفسدة، إذا كان العمل تعب للبدن وإجهاد له، فإن الفراغ فيه ما لا يتصور من أنواع الفساد، في حياتنا اليومية خلال العام كثير من أبنائنا الطلاب يقومون في الصباح قبل طلوع الشمس فربما صلوا، ويصلون وقت الظهيرة أو وقت العصر لأنهم مستيقظون، وفي نهار الإجازة يسهر أحدهم طوال الليل، فإذا قرب الفجر نام حتى يصير ظل كل شيءٍ مثله، حتى يدخل وقت العصر، لا يصلون فجراً ولا ظهراً، ثم إذا قام بعد ذلك في تلك الساعة لا يبالي بالصلاة، كثير منا في إجازاتهم السنوية يذهبون للقضاء عليها هنا وهناك دون تفكير في أهمية هذه اللحظات التي نحن نحياها ونعيشها.

    أيها الإخوة! إننا بحاجة إلى مراجعة الحساب، كان من قبلنا يقولون: من كان يومه مثل أمسه فهو المغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو الملعون -يعني: المطرود من بركات الله- من كان يومه مثل أمسه فهو مغبون خسران؛ لأنه ما زاد، وكان ينبغي له أن يزيد، ينبغي له أن تكثر أعماله، ينبغي له أن تكثر فضائله، فإذا كان على ما كان عليه بالأمس فهو خاسر بلا ريب، خاسر بلا محالة، أي: مطرود من أنواع البركات وأنواع الرحمات، وهذا حال بعض الناس، بعض الناس يكون بالأمس مؤدياً للصلوات في جماعة، وتراه بعد ذلك تاركاً للجماعة، وبعدها قد يتهاون في بعض الصلوات، تراه بالأمس مجتنباً للكبائر والصغائر وفي اليوم التالي تراه يقع في أنواع الصغائر التي ربما جرته إلى الكبائر، تراه مجتنباً للمكروهات ثم منتقلاً إلى ارتكاب أنواع المحرمات، هذا هو الخسران على الحقيقة أن يكون يومك التالي شراً من يومك الماضي، ألا تزداد في هذه الحياة إلا سوءاً، نسأل الله عز وجل حسن العاقبة، إننا بحاجة أن نراجع أنفسنا ونحن نستقبل هذه الفترة الغالية من أعمارنا، فترة الفراغ لأنفسنا ولأبنائنا وبناتنا، ترى كيف سنستغلها؟ ماذا سنفعل؟

    انظروا يا شباب! انظروا يا إخوان! في تراثنا الإسلامي كتب، الكتاب الواحد يقع في خمسمائة صفحة أو يزيد، أتدرون ما عنوانه؟ عنوانه: عمل اليوم والليلة، أكثر من عالم ألف تحت هذا العنوان، عمل اليوم والليلة للإمام ابن السني ، وعمل اليوم والليلة للإمام النسائي ، وغيرهم كثير، طبع بعضها ولم يطبع بعضها، كلهم كانوا يعتنون بضرورة وضع برنامج المسلم اليومي أمام عينيه، عمل اليوم والليلة، اقرأ صفحات هذه الكتب، بماذا تبدأ وبماذا تنتهي؟ إنها تبدأ بأول عملٍ ينبغي أن يقوله الإنسان عندما يفتح عينيه على هذه الدنيا، يبتدئونه بقولهم: باب ما يقول إذا استيقظ من نومه، أول شيء ينبغي أن تستقبله في هذا اليوم، ماذا تقول عندما تستيقظ من النوم؟ ثم باب ما يقول إذا سمع المؤذن؛ لأن هذا شأن الإنسان المسلم أنه استيقظ من نومه قبل الأذان ليسمع أذان الفجر، فماذا يقول إذا سمع المؤذن؟ باب ما يقول إذا دخل الخلاء، يعني: لقضاء الحاجة، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، باب ما يقول قبل وضوئه، باب ما يقول أثناء وضوئه، باب ما يقول بعد وضوئه، باب ما يقول أثناء مشيه إلى المسجد، وكأنك تلاحظ المسلم أمامك في تمثيل يقضي لك هذا البرنامج اليومي منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا إلى أن يأتي الفراش في آخر يومه، وفي آخر ليلته، فماذا يقول إذا اضطجع على فراشه وكيف يضطجع؟

    المسلم ليس في حياته جزء مضيع من الزمن، يضيع بلا فائدة وبلا استثمار، فمن فعل خلاف ذلك، فعلى نفسها تجني براقش.

    إننا بحاجة إلى استثمار أوقات الفراغ بما ينفع في الدين أو الدنيا، بما يعود علينا بالنفع والربح في عاجلنا أو آجلنا، بما يزودنا من مهارات، من أخلاق، من تعاليم، من آداب، المهم ألا يضيع الوقت سدى، بل وأولى من ذلك وأعظم ألا يضيع الوقت في المحرم، ألا يضيع الوقت مع تضييع فرائض الله الواجبة فيه، فإننا سنندم حين لا ينفع الندم.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. يا حي! يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم خذ بأيدينا إلى كل خير، واعصمنا من كل شرٍ وضير.

    يا حي! يا قيوم! نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اجعل يومنا خيراً من أمسنا، واجعل غدنا خيراً من يومنا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا قوي! يا عزيز! اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك، خذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي! يا عزيز!

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ))[النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756000726