إسلام ويب

قصة التاريخ الهجريللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التاريخ الهجري حسنة من حسنات أمير المؤمنين عمر، ويمثل هذا التاريخ جزءاً من هوية الأمة، وتذكيراً بحدث عظيم من أحداث الإسلام، وهو الهجرة إلى المدينة النبوية. والاعتناء به وتربية الجيل عليه صورة من صور العزة بهذا الدين.

    1.   

    التاريخ الهجري وفضائل واضعه

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! كلما أطل علينا عام هجري جديد ذكرنا بذكريات، ومن هذه الذكريات العظيمة: أنه يذكرنا بهذا التاريخ العظيم (التاريخ الهجري) ويذكرنا بواضعه أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، ويذكرنا بهذا الحدث الجلل وهو هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أرض الشرك امتثالاً لأمر الله تعالى.

    كان التاريخ الهجري واحداً من إنجازات أمير المؤمنين أبي حفص عمر رضي الله عنه، وهو الرجل الملهم، من آتاه الله عز وجل العلم والدين، والفهم وصدق اليقين، وصدق العزيمة، وردت في فضائله العديد من الأحاديث، فقد آتاه الله عز وجل العلم بأوفر نصيب، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( بينا أنا نائم أوتيت بقدح من لبن فشربت حتى رأيت الري يخرج في أظفاري, ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه )، شرب عليه الصلاة والسلام من هذا القدح حتى رأى الري يخرج في أظفاره, ثم أعطى الباقي لــــــعمر رضي الله عنه، ( قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم ).

    وقد آتاه الله عز وجل مع هذا العلم كمال الهدى والتقى والدين، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين أيضاً: ( بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما هو دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره )، أي: يلبس ثوباً طويلاً زائداً على ثياب الناس، ( قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين )، الدين ساتر، وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

    خير ما يلبسه الإنسان ويتزين به التقى، وقد آتى الله الفاروق أوفر نصيب من هذا الدين، وآتاه الله الفهم، فكان ملهماً يوافق رأيه رأي الكتاب، وينزل القرآن موافقاً لرأي عمر في العديد من النوازل، في حادثة الحجاب، وفي حادثة أسرى بدر، وفي غيرها من الحوادث نزل القرآن موافقاً لقول عمر رضي الله عنه، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون )، يعني: ملهمون، ( فإن كان في أمتي منهم أحد فـــــعمر بن الخطاب ).

    هذا عمر عز به الإسلام يوم أسلم، حتى قال ابن مسعود وهو من كبار أصحاب رسول الله ومن المتقدمين إسلاماً: لقد كان إسلام عمر بن الخطاب فتحاً، وكانت هجرته عزاً، وكانت إمرته رحمة، وما صلينا بجوار الكعبة حتى أسلم عمر رضي الله عنه، قال: قاتل قريشاً حتى صلى بجوار الكعبة فصلينا معه، دعا عليه الصلاة والسلام أن يعز الله الإسلام بإسلام عمر ، فقال: ( اللهم انصر الإسلام بأحد العمرين )، يعني: أبا جهل أو عمر بن الخطاب ، فاختار الله خير الرجلين، اختار عمر رضي الله عنه وهداه إلى الإسلام.

    وكانت مواقفه كلها بطولة وتضحية وجهاد، يعلن الإسلام حين يستتر به الناس، وخرج الناس يوم الهجرة مختفين متسترين, وشهر عمر سيفه ونادى في قريش: من أراد أن تثكله أمه فليلحقني إلى بطن الوادي.

    ويوم تولى الإمارة كان رحيماً بهذه الأمة شفيقاً عليها، يتفقد اليتامى، ويتفقد الأرامل، ويخرج في الليل والناس نيام وهو يجول في شوارع المدينة، يتفقد الجائع والمسكين، كانت له إنجازات عظيمة, منها هذا التاريخ العظيم، كتب إليه ولاته في الأقاليم كما ورد أن أبا موسى كتب إليه، يقول له: إنك تكتب إلينا الكتب لا ندري متى هي, يختلط علينا شعبان هذا العام بشعبان السنة الماضية فلا ندري متى هي! فجمع الصحابة وأمرهم بأن يكتبوا تاريخاً، فاستشارهم من أين يكتبون هذا التاريخ! ولم يعتمد رضي الله تعالى عنه على تقاويم الأمم مع أنه يعيش في جو امتلأت فيه التقاويم والتآريخ.

    1.   

    حقيقة الهجرة

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! المعنى الحقيقي للهجرة: انتقال الإنسان مما يغضب الله إلى ما يرضاه، انتقال الإنسان مما يكرهه الله إلى ما يحبه، هكذا قال عليه الصلاة والسلام كما في مسند الإمام أحمد : ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )، المهاجر الذي يثبت له أجر الهجرة إلى الله تعالى: (من هجر ما نهى الله عز وجل عنه)، ولم يكن انتقال رسول الله وأصحابه إلا تحقيق لهذا المعنى. وقد قال عليه الصلاة والسلام في بيان إدراك فضيلة الهجرة: ( عبادة في الهرج كهجرة إلي ).

    العبادة في أزمان الفتن يوم تفتح أبواب الفتن على الناس، فتن دنيوية، فتن في دينهم، في أموالهم، يوم تشتد الشهوات، وتفتح أبواب الفتن على مصارعها، الثبات على ما يريده الله من الإنسان المسلم، العبادة في هذه الأجواء وفي هذه الأوضاع ينال بها الإنسان هجرة: (وعبادة في الهرج كهجرة إلي).

    وبهذا يستطيع الإنسان أن يدرك بعض الخصال التي أدركها الصحابة، لن نصل إلى ما وصلوا إليه لعظم ما قدموه، ولكن بإمكاننا أن نتشبه بهم: ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).

    1.   

    إحياء التاريخ الهجري واختصاص هذه الأمة به

    بمناسبة الهجرة أيها الأحباب! نحن مطالبون بأن نحيي هذا التاريخ (التاريخ الهجري) حتى لا ينسى ويضيع، إذا لم نستطع كأفراد أن نعيده إلى حياتنا رسمياً فلا أقل من أن نذكره بجانب كل تاريخ رسمي، من حق هذا التاريخ علينا أن نحييه في ذاكرة أبنائنا وبناتنا.

    وإذا ذكرنا التقويم الميلادي فلا أقل من أن نذكر بجانبه التقويم الهجري، وأن يحفظ أبناؤنا وبناتنا هذا التاريخ ويعلموا سببه وبدايته وتاريخه، فهو جزء من هويتنا الأساسية، ولم تزل هذه الأمة تقوم بهذا التاريخ إلى أن جاء الاستعمار الحديث، الاستعمار الحديث هو الذي عمم التاريخ الميلادي مكان التاريخ الهجري, وإلى زمن قريب في زمن دراستنا لا يزال يكتب على الجانب الأيمن من سبورة الفصل, في الجانب الأيمن من صفحة الطالب يكتب التاريخ الهجري، وفي الجانب الأيسر يكتب التاريخ الميلادي.

    إلى زمن قريب لم يزل التاريخ الميلادي تابعاً للتاريخ الهجري لحاجة الناس إليه، لكن لا ينبغي أبداً أن يستعاض عن التاريخ الهجري بالتاريخ الميلادي، لا يصح أبداً من المسلمين أن يتناسوا خصائصهم وأن يتناسوا هويتهم.

    نحن مطالبون بأن نعيد لهذا التاريخ حقه، وأن نعلمه أبناءنا وبناتنا.

    من الطرائف التي ذكرها العلماء في التعامل مع التاريخ الميلادي والتاريخ الهجري, ما ذكره الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه: (الحق المر) ذكر أنه لما ولي الملك فاروق في مصر كان دون السن القانونية؛ لأنه لا بد أن يكون بالغاً ثماني عشرة سنة، فلم يكن قد بلغ السن القانونية, فشكل مجلس الوصاية؛ لأن الملك لم يبلغ السن بعد، وحتى يتخلص من مجلس الوصاية حسب عمر الملك بالتاريخ الهجري؛ لأن التاريخ الهجري يوفر جملة من الشهور في ثماني عشرة سنة، سيوفرون جملة من الشهور فحسبوا تاريخ الملك بالشهر الهجري حتى يوفروا هذه الشهور، وبعد أن تولى فاروق الملك أعاد تاريخ الميلاد بما يوافقه من التاريخ الميلادي.

    ما هكذا ينبغي أن يتعامل مع التاريخ الهجري!

    التاريخ الهجري خصيصة هذه الأمة، وهو التاريخ الحق الذي لا يكذب؛ لأنه يعتمد على علامات حسية، وهو التاريخ الذي لا صلة له بالشرك والمشركين، فهو بحق جدير بأن يكون من مميزات أمة الإيمان والعمل الصالح.

    فينبغي إحياؤه وتجديده، والاعتماد عليه ما استطاع المسلمون إلى ذلك سبيلاً.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يعز الإسلام والمسلمين.

    اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم اخذل أعداءك أعداء الدين يا قوي يا عزيز.

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

    فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.

    1.   

    أهمية الهجرة في الإسلام

    الهجرة حدث تاريخي عظيم

    أيها الإخوة! كانت الهجرة حدثاً عظيماً في تاريخ الإسلام؛ لأن الحياة انتقلت به من طور إلى طور، ومن حالة إلى حالة، لم تكن الهجرة حدثاً عابراً، نحن في كل ساعة نختبر بمثل ما اختبر به الصحابة يوم اختبروا بالهجرة، تنازعتهم جواذب الدنيا مع نداء الله، فاختاروا أن يجيبوا نداء الله، لقد كان الواحد منهم يقف مختبراً بين أن يجيب نداء الله وبين أن يبقى مع زوجته وولده.

    ومن أشهر الأمثلة على ذلك: أبو سلمة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أراد أن يخرج مهاجراً فاصطحب زوجته وولده, ولما وصل إلى مشارف مكة اعترضه أهل زوجته وأهله, فقال له أهل زوجته: أما نفسك فقد غلبتنا عليها، إذا أردت أن تهاجر بنفسك فالأمر لك، وأما صاحبتنا هذه فلا، لن نتركك تهاجر بزوجتك! فأخذوا منه زوجته قهراً، وبقي متردداً بين أن يمضي إلى ما أراد الله، يذهب إلى المدينة أو يبقى مع زوجته، لكنه اختار أن يذهب إلى الله وإلى رسوله.

    ثم تنازع القوم: قوم زوجته مع قومه في شأن الولد، فأهله يريدون أن يكون الولد معهم، وأهل الزوجة يريدون أن يكون الولد مع أمه، فتجاذبوه حتى خلعت يده, وأبوه ينظر إلى هذا المشهد العظيم، وأبى إلا أن يمضي في رضوان الله ويترك وراءه الولد المريض والمرأة المفردة الحزينة.

    يا ترى! لو عرض علينا هذا الامتحان كيف سيكون الحال؟ لو وقف أحدنا في هذا الاختبار كيف ستكون النتيجة؟

    وآخر يبتلى في مرضه، ضمرة بن جندب رضي الله عنه نزل التكليف بالهجرة وهو مريض طريح الفراش في بيته في مكة، فأمر أبناءه بأن يحملوه على الراحلة حتى يهاجر، قالوا له: أنت مريض معذور، قال: لا، أريد أن أهاجر؛ لأنه سمع قول الله سبحانه وتعالى وهو يلوم من بقي في مكة ولم يهاجر حتى جاءه الموت وأن الملائكة عاتبتهم عند الموت: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97] لكن الدنيا، لكن الأموال، لكن حب الوطن، حب الجاه، حب البقاء، هو الذي حال بين كثير منهم وبين الهجرة.

    هذا الرجل نزلت عليه تكاليف الهجرة وهو مريض فأبى إلا أن يرحل، وبعد مكة بقليل في التنعيم تحديداً، والتنعيم اليوم من مكة، مات رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال بعض الناس: لو كان في أهله لقاموا عليه ودفنوه، يعني: لو كان بقي في أهله حتى يدفنوه، فأنزل الله سبحانه وتعالى قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].

    أدرك هذا الثواب العظيم، أدرك هذه المنزلة العظيمة منزلة المهاجرين ومات في التنعيم، الموت آتٍ لا محالة، والدنيا إما أن نفارقها وإما أن تفارقنا، لكن الفارق بين الموفق والمخذول، أن الموفق يخرج منها برضوان من الله، يخرج منها لينتقل إلى خير منها، والمخذول يبقى فيها تركسه وتقيده ثم لا ينال منها إلا ما كتبه الله عز وجل له منها.

    ومثال ثالث: صهيب الرومي ، صهيب رجل وفد إلى مكة صاحب صنعة، يصنع الرماح والسهام، فجمع مالاً كثيراً، لما جاء الإسلام هداه الله إلى الإسلام، ولما جاءت الهجرة خرج مهاجراً مع المهاجرين فتبعه كفار مكة, فقالوا له: جئتنا صعلوكاً، جئتنا لا مال لك, واليوم تريد أن تهاجر إلى محمد! يريدون قتله وأخذ ماله، فكانت الكنانة معلقة على كتفه مملوءة بالسهام، فقال: لقد علمتم يا معشر العرب! أني من أحسنكم رماية, والله لا تصلون إلي حتى أنثر كنانتي هذه، يعني: فأنال بكل سهم منها واحداً منكم، فلما رأى إصرارهم على مقاتلته, قال لهم: أرأيتم لو دللتكم على مالي بمكة أكنتم تاركي؟ أدلكم على المال الذي جمعته في مكة، فلما دلهم عليه رضوا منه بهذا العرض، ودلهم على المال، وتركوه ليهاجر.

    هاجر وترك كل ثروته التي جمعها طوال عمره، تركها وراء ظهره وخرج إلى رسول الله وهو يملك هذه الكنانة المملوءة بالأسهم، لما وصل إلى المدينة ورآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ( ربح البيع أبا يحيى ! )، ربحت الصفقة يا أبا يحيى ! كل شيء يهون في سبيل الوصول إلى مرضاة الله.

    هذه الهجرة نحن نختبر بها كل يوم، أترى نقدم ما يريده الله, أم ما تريده هذه النفس من الأهواء والشهوات.

    نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    خصوصية التقاويم ومراحل التقويم الهجري

    اختصاص كل أمة بتقويم لها

    فكل أمة لها تقويم، كان اليونان لهم تقويمهم الخاص، وكان الفرس لهم تقويمهم الخاص، فلم يلتفت إلى تقويم اليونان، ولم يرتض تقويم الفرس؛ لأنه يعلم أن تاريخ الأمة جزء من هويتها، وهذه الأمة خير الأمم، فلا بد أن يكون لها تاريخها الخاص بها، قال عليه الصلاة والسلام: ( إنكم توفون سبعين أمة, أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ).

    وما دام الأمر كذلك فلا بد أن تتميز هذه الأمة بكل ما يقوم هويتها وخصائصها، فأمرهم عمر بأن يكتبوا تاريخاً خاصاً لهذه الأمة, واختاروا الشهور الهجرية؛ لأنها التقويم الحق الذي لا يأتيه الباطل، لا يمكن أن يزاد في أيام شهره ولا ينقص؛ لأنه تقويم يعتمد على شيء محسوس، غياب القمر وظهوره، فليس في إمكان أحد أن يزيد في أيام شهره أو ينقص منها، كما حدث التلاعب بغيره من التقاويم.

    واختار الأشهر الهجرية لأنها مبرأة من كل وصمة تلتصق بالشرك، فالأشهر الأخرى أكثرها مسماة بأسماء آلهة كانت تعبد من دون الله، وكذلك الأيام كما أثبتت ذلك الأبحاث ومن يكتب في تاريخ تسمية هذه الأيام.

    اختار عمر رضي الله عنه هذا التاريخ ليكون أصدق تاريخ، وأبعد التواريخ كلها عن أي صلة بالشرك والمشركين.

    وكانت العرب قبل ذلك تؤرخ بأعظم الأحداث، كلما مر بالناس حدث عظيم اتخذوه مبدأً للتاريخ، ومن ذلك: تاريخهم بعام الفيل، وهو آخر تقويم اتخذه العرب قبل أن يقوم الناس بالهجرة النبوية، اتخذوا عام الفيل سنةً للتقويم، فكانوا يقولون: حصل كذا قبل عام الفيل بكذا، أو حصل كذا بعد عام الفيل بكذا.

    استشارة عمر للصحابة في ابتداء تدوين التاريخ

    فلما أراد عمر أن يختار التاريخ استشار الصحابة من أين نبدأ التاريخ؟ وهذا سؤال مهم، لأنه يحتوي على عمل، يحتوي على مشاعر، من أين نبدأ التاريخ؟ استقر رأي الثلاثة الخلفاء الراشدين: عمر ، و عثمان و علي رضي الله تعالى عنهم على أن يكون أول التاريخ يوم هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قال فيها عمر رضي الله عنه: اكتبوه من الهجرة, فإن الهجرة فرقت بين الحق والباطل. وقال علي رضي الله عنه: اكتبوه من الهجرة منتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض المشركين.

    فرقت بين الحق والباطل، فقد كان الإسلام قبل الهجرة ديناً يستضعف أبناؤه، ويستذل أتباعه، وبعد الهجرة أصبحوا جماعة لها قوة وقيادة، ولها شوكة ومهابة، بهذه الهجرة تكونت دولة الإسلام الأولى، وانتظم جيش الإسلام الأول، وقامت قائمة الإسلام الأولى بالهجرة.

    ابتداء تدوين التاريخ بالهجرة النبوية

    الهجرة هذا الامتحان العظيم الذي تعرض له صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تكن الهجرة سفراً سياحياً، لم تكن الهجرة سفراً تجارياً، لم تكن الهجرة سفراً لتحقيق مآرب وتحصيل مقاصد، كانت امتحاناً صعباً للغاية؛ لأن الواحد منهم خرج وترك بيته، إلى أين؟ إلى لا شيء! ترك ماله، إلى أين؟ إلى الفقر والمخمصة، ترك أولاده، إلى أين؟ إلى الغربة، تركوا كل شيء وراء ظهورهم يبتغون بذلك شيئاً واحداً؛ وهو تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى.

    كما قال الله عنهم في سورة الحشر: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8]، سماهم: فقراء، وقد كانوا في مكة أغنياء يملكون الدور، ويملكون التجارة، ويملكون الأموال، لكن الهجرة حولتهم من أغنياء إلى فقراء، ومن مواطنين إلى غرباء، ومن عائش بين أهله وذويه ومجتمعه إلى وحيد منفرد في أرض بعيدة، قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الحشر:8]، هذا هو المقصود ابتغاء فضل الله، ابتغاء رضوان الله، ابتغاء رحمة الله.

    وفي تحقيق هذا يهون بذل المال، في تحقيق رضا الله يهون بذل النفس، في تحقيق رضا الله تسترخص الأوطان، يسترخص كل شيء إذا تحقق للإنسان رضا الله، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]؟

    قد يعيش الإنسان في ماله، وقد يعيش الإنسان في وطنه، وقد يعيش الإنسان في أسرته بعيداً عن تحقيق مراد الله، قد يعيش عيشةً فارهة بين الأهل والأموال، في الأوطان، في الأمان والدعة، في الراحة والرفاه، ولكنه يعيش يطارده غضب الله، كما قال سبحانه في سورة التوبة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24]، أي: انتظروا فإن كل واحد منكم سينتقل عن هذا، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

    قد يعيش الإنسان في ظل شهواته متمتعاً بما يحب ويتمنى بعيداً عن تحقيق أمر الله له، لكنه يعيش فاسقاً: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

    أما الموفقون الذين علموا حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، علموا أن الفوز كل الفوز والفلاح كل الفلاح بأن تترك كل الشهوات من أجل الله، بأن تترك كل الأمنيات من أجل أمنية واحدة، هي: تحقيق رضا الله تعالى.

    خرجوا من مكة وهم لا يملكون شيئاً سوى الثياب التي على أجسادهم, والسيوف التي علقوها على أعناقهم، وهم ينشدون شيئاً واحداً، هو: رضا الله سبحانه وتعالى، لكنه أخبرهم سبحانه وهم في طريقهم، أخبرهم وهم يتوجهون هذه الوجهة بأنه سيجعل لهم الخلف، وسيكتب لهم العوض، وبأنه سيمكنهم في الأرض ويجعلهم قادةً لها ورؤساء، وأنه سيمكنهم من كنوزها وأموالها، وأن القليل الفاني الذي تركوه وراء ظهورهم يستقبلهم عوضاً عنه كثير باق، قال لهم سبحانه وتعالى كما في سورة النحل: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:110]. وقال لهم: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ [النحل:41].

    سنعطيهم في هذه الدنيا أكبر مما تركوا، ونعوضهم خيراً مما بذلوا، وعد الله لا يخلف، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]. رأينا المهاجرين الذين خرجوا لا يملكون شيئاً، رأيناهم قادة الأمم ملكوا كنوز كسرى وقيصر وأخلف الله عز وجل بما هو خير.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756539988