إسلام ويب

الهجرة والمهاجرين [1]للشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الهجرة بمفهومها العام هي مفارقة ما يكره الله تعالى إلى ما يحب، ولأجل هذا هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة؛ تقديماً لما يحبه الله على ما تحبه النفس، فتركوا أموالهم وأولادهم وأهليهم رغبة فيما عند الله. فالهجرة من أعظم أعمال الإيمان التي لا يزال الناس يطالبون بها ما بقي على هذه الأرض مسلم.

    1.   

    حقيقة الهجرة وفضلها

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! حديثنا اليوم عن الهجرة والمهاجرين، نتحدث عن الهجرة لا على أنها حدث من أحداث التاريخ، وإن كانت من أكبر أحداثه، فقد غيرت مجراه، وأحدثت فيه ما كان مرتقباً منتظراً لإصلاح البشرية، نتحدث عن الهجرة على أنها عمل من أعمال الإيمان.

    الهجرة وما أعده الله عز وجل للمهاجرين، وما هي حقيقة الهجرة، الهجرة بالبدن: هي انتقال من بلد إلى بلد، لكن وراء هذه الهجرة أصل بنيت عليه، وقبل هذه الهجرة هجرة أخرى أسست عليه، وهي هجرة القلب إلى كل مرغوب إلى الله عز وجل وحده، هجرة الإنسان إلى خالقه، هجرة الإنسان إلى مراد الله عز وجل منه، لما هاجر الصحابة هذه الهجرة أولاً سهلت عليهم الهجرة ثانية.

    الهجرة من أعظم أعمال الإيمان التي لا يزال الناس يطالبون بها ما بقي على هذه الأرض مسلم.

    الهجرة بمعناها العام ليست مجرد انتقال من أرض إلى أرض، والفرار من وطن إلى وطن، فذلك مظهر واحد من مظاهر الهجرة الكبرى، الهجرة إلى الله، الهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما وردت بذلك النصوص الكثيرة.

    المراد بالمهاجرين

    نتحدث عن المهاجرين من خلال كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أعده الله عز وجل لهم بعملهم هذا.

    المهاجرون بشر كغيرهم من البشر، كانوا عباداً للأصنام، قطاعاً للطريق، هؤلاء هم المهاجرون أولاً، ثم بعد ذلك صاروا من جلة أولياء الله، ومن صفوة خلق الله، والمقربون السابقون عند الله، هؤلاء هم المهاجرون، صاروا أول الخلائق دخولاً للجنة.

    المهاجرون: من هم وما فعلوا؟

    يقول عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن الحوض كما في مسند الإمام أحمد : ( حوضي كما بين عدن وعمان، أبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، آنيته كنجوم السماء، أول الناس وروداً عليه صعاليك المهاجرين )، أول من يرد الحوض، وأول من يشرب من ذلك الماء الذي لا يظمأ من شرب منه أبداً، أول من يشرب تلك القطرات هم صعاليك المهاجرين، يعني: فقراء المهاجرين.

    وفي حديث آخر يتحدث عليه الصلاة والسلام عن الجنة وما أعد الله عز وجل لأوليائه فيها، فيقول لهم كما في مسند أحمد وغيره: ( هل تدرون أول خلق الله دخولاً الجنة؟ ) أي: هل تعلمون من هم أول الخلق دخولاً الجنة، وليس المقصود أول هذه الأمة، فإن هذه الأمة هي أول الأمم دخولاً للجنة، وأول هذه الأمة دخولاً يسألهم عنهم عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ( هل تدرون أول الخلق دخولاً الجنة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: فقراء المهاجرين )، ثم وصفهم عليه الصلاة والسلام بوصف الله عز وجل لهم، فقال عليه الصلاة والسلام عنهم: ( تسد بهم الثغور )، أي: يجاهدون في سبيل الله: ( وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم بحاجته في صدره لا يستطيع قضاءها، فيقول الله عز وجل لملائكته: ائتوا هؤلاء فسلموا عليهم )، يعني: بعد أن دخلوا الجنة، ( فتقول الملائكة: يا رب! نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، تأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال لهم سبحانه وتعالى: إنهم كانوا عباداً يعبدوني لا يشركون بي شيئاً، تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع قضاءها، قال عليه الصلاة والسلام: فحينها تأتيهم الملائكة، فتقول لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24] )، إنهم أناس كغيرهم من الناس، لهم حاجات، ولهم مطامع، إنهم أناس كغيرهم من الناس يهزهم الشوق إلى أوطانهم، وتخادعهم أنفسهم ليبقوا بين أهليهم وذويهم، إنهم أناس يجرهم المال كما يجر غيرهم، وتلوح لهم الدنيا كما تلوح لغيرهم، وتأخذهم الأطماع كما تأخذ غيرهم، ولكن الفارق بينهم وبين غيرهم: أنهم لما لاح لهم وعد الله، وظهر في الأفق ما وعدهم الله عز وجل به تسابقوا إليه ناسين مطامعهم، تراكلوا إليه مخلفين وراء ظهورهم كل مشتهيات أنفسهم، لما قال الله عز وجل لهم: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل:41]، لما سمعوا هذه الكلمات انتقلوا مخلفين وراء ظهورهم بيوتهم، ومزارعهم، ونساءهم، وأولادهم، حاملين سيوفهم على أعناقهم، ليس لهم شيء مما يراد في هذه الدنيا إلا رضوان الله سبحانه وتعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، مبتغاهم، وطلبهم وأملهم: رضوان الله، وفي سبيل تحصيل رضوان الله يبذل المال، ومن أجل الوصول إلى رحمة الله تترك الزوجة والولد، ومن أجل الوصول إلى النجاة من سخط الله يضحى بالدنيا وما عليها، كما قال الله عز وجل عنهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].

    إن الهجرة كان مبعثها هذا الإيمان العميق بوعد الله، مبعثها هذا الطلب لرضوان الله، فهانت عليهم كل العظائم، وإلا فهم أناس يأتيهم الشيطان فيحاول إغواءهم وصرفهم عما يريده الله منهم، وهذا يصوره لنا عليه الصلاة والسلام أبلغ تصوير، في الحديث الذي رواه النسائي يقول عليه الصلاة والسلام عنهم: ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، كلما أراد أن يسلك طريقاً إلى الله جاء الشيطان فقطعه عليه، فلما أراد أن يسلم أتاه، فقال له: أتسلم وتذر دين آبائك؟ أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ قال عليه الصلاة والسلام: فعصاه فأسلم، ثم أراد الهجرة، فقال له: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ ) أنت مجنوت تترك ديارك، تترك بيتك؟ تترك أهلك وعشيرتك، أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ إنما مثل المهاجر، واسمعوا إلى أمثلة الشيطان، اسمعوا إلى تخويف الشيطان وترويجه، (إنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول)، أي في الرباط، مهما طال الحبل فإنه يظل محصوراً محبوساً في منطقة معينة، يرعى فيها ثم يعود إلى أصل ما ربط إليه، إنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، يقول له: أنت إذا تركت أرضك ووطنك وعشيرتك وأهلك، ستنتقل إلى بلادٍ أنت فيها غريب، مهما كثرت معارفك، ومهما اتسعت رقعتك، فمثلك كمثل الفرس عندما يربط في الطوال، معارفك قليلون محصورون، ومصادرك ضيقة، ورزقك محفوف بالمخاطر، ( إنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، قال عليه الصلاة والسلام: فعصاه فهاجر، فلما أراد الجهاد أتاه، فقال له: أتجاهد فتقتل )، أتجاهد؟ فهو جهد النفس والمال، يعني: تتلف نفسك وتتلف مالك، وإذا جاهدت قتلت فقسمت الأموال، ونكحت الزوجة، أو كما قال، قال عليه الصلاة والسلام: ( فعصاه فجاهد )، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ).

    1.   

    سبب هجرة المسلمين من مكة

    الهجرة يا إخوان! كانت صراعاً بين مشتهيات النفس ولذائذها، وبين مراد الله الذي لاح في الأفق، وطالبهم بأن يتركوا أوطانهم وأهليهم من أجل الله، أمرهم بأن يتركوا مكة وما فيها إيثاراً لرضوان الله، ولما تركوها لله حرم الله عز وجل عليهم أن يرجعوا إليها ليسكنوها، فـ(من ترك شيئاً لله عوضه الله عز وجل خيراً منه)، حرم الله عز وجل على المهاجرين أن يعودوا إلى مكة فيسكنوها؛ لأنهم تركوها من أجل الله، وجاء في الحديث الذي في مسلم وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين بعد قضاء نسكهم في المقام بمكة ثلاثاً، رخص لهم في أن يبقوا بمكة بعد أن فرغوا من الحج في حجة الوداع ثلاثة أيام فقط لا يزيدون، الثلاثة الأيام مدة السفر، وما بعدها إقامة، فحرم الله عليهم أن يقيموا بمكة؛ لأنهم تركوها لله، ووعدهم الله عز وجل بثوابٍ أعظم من ذلك.

    1.   

    نماذج من سير المهاجرين

    هذه هي حقيقة الهجرة، نوازع النفس، صراع بينها وبين مراد الله، وما يطلبه الله عز وجل منه، ولا بأس أن أذكركم ببعض أمثلة هذا الصراع بين النفس المؤمنة وبين مشتهياتها عندما تخالف مراد الله، من حال المهاجرين.

    هجرة أبي سلمة بأسرته

    هذا رجل أراد الهجرة، آمن وآمنت زوجته، وله ولده الصغير فأراد أن يهاجر من مكة بأسرته الصغيرة ليلحق برضوان الله، فماذا كان منه؟ تقول زوجة أبي سلمة رضي الله تعالى عنه وأرضاه: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، يعني: آمنت وأسلمت وتريد الهجرة، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ لماذا نتركك تأخذها وتسير بها في البلاد؟ قالت: فأخذوا خطام البعير من يده وأخذوني منه، وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، هذا المشهد و أبو سلمة يرقبه بعينيه، أهل زوجته جاءوا إليه فانتزعوا زوجته من بين يديه قهراً، وجاء قومه بعد ذلك وهم يحاولون الآن انتزاع ولده الصغير من يد أمه قهراً، و أبو سلمة المؤمن المهاجر ينظر إلى هذا بعينيه، قالت: ففرق بيني وبين زوجي وابني، فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجوا هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟! قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني، فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله، قالت: فخرجت أريد زوجي بالمدينة، فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يا بنت بني أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أو معك أحد؟ قالت: لا والله، إلا الله، وابني هذا، قال: والله ما لكِ من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي حتى أوصلني المدينة، مشهد من مشاهد الصراع، أبو سلمة ينظر إلى هذا الموقف المؤلم، ولده الصغير يتجاذبه الناس حتى سلخوا يده كما جاء في الروايات، فيأخذه أقوام، وزوجته تؤخذ من بين يديه فيأخذها أقوام آخرون، ولا يثنيه ذلك عن الهجرة، لا يرده ذلك عن تحقيق مراد الله عز وجل منه، أبى إلا أن يمضي من طريقه، لا شك أنه إنسان، ويعتصر فيه ما يعتصره من الألم والأسى، ولكنه الإيمان الصادق، والإيثار لمرضاة الله، خرج وترك تلك المسكينة، وولدها الصغير بعد أن فرق بينهما حتى جاء الفرج.

    هجرة صهيب رضي الله عنه

    ومثال آخر من سيرة المهاجرين يظهر فيه الصراع بين النفس والمال: هذا صهيب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، جاء إلى المدينة صعلوكاً فقيراً، فأخذ في حرفة صنع السهام والنبل فصار من أغنى الناس في مكة، فلما جاء الإسلام هداه الله عز وجل إليه، ولما جاء منادي الهجرة أراد أن يهاجر كغيره من المهاجرين.

    روى الإمام الحاكم رحمه الله تعالى في مستدركه أنه لما خرج إلى الهجرة لحقته قريش في الطريق، فلما أحس بهم وراء ظهره التفت إليهم، وعلم أنهم يريدون أسره، فنفل كنانته وأخرج ما فيها من السهام، وكان فيها أربعون سهماً، وهو المشهور بالرمي، ثم قال: لقد علمتم والله يا قريش! إني أرماكم، ووالله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجل منكم سهماً، ثم أنصرف إلى السيف وتعلمون أني الرجل، قالوا له: أتيتنا صعلوكاً لا مال لك، وبلغت فينا ما بلغت؟ قال: أفرأيتم إن تركت لكم مالي بمكة أتتركوني وسبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فذلك لكم، ترك لهم كل الأموال بمكة، حصيلة العمر، وما جمعه من جهد وعناء ومشقة، ولما وصل المدينة نزل قول الله سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]، قال له عليه الصلاة والسلام: ( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )، يعني: ربحت يا أبا يحيى ولم تخسر شيئاً، وما قيمة الدنيا وما عليها إذا بذلت ورضي الله عز وجل عن باذلها؟ ما قيمة الدنيا وما عليها إذا حازها الإنسان، وسخط الله عز وجل عليه؟

    هجرة ضمرة بن جندب

    ومثال آخر يتنازع فيه داعي النفس إلى الراحة والسكون والخلود بين الأهل والأبناء والعشيرة، هذا ضمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أدركه منادي الهجرة وهو بمكة مريض عليل، لا يستطيع أن يركب إلا بعناء ومشقة، قال لأبنائه: احملوني حتى أركب، فآتي المدينة، ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: إنك مريض، قال: ألحقوني بالمدينة، فركب، وخرج من المدينة مريضاً عليلاً، يعاني تعب السفر الشاق، مع ما فيه من آلام المرض، ولم يجاوز مكة إلا بميلين، وهو قريب من مكة فمات في الطريق بعد أن خرج من بيته بمراحل قصيرة، قال بعض الناس: لم يمت في أهله وبين أبنائه، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، إنهم قوم عرفوا ما المطلوب منهم، عرفوا ما هو المراد منهم، وأن هناك غاية من أجلها خلقوا، من أجلها أنزل الله الكتاب، وأرسل الرسل، من أجلها فرق بين الناس إلى حزب الله وحزب الشيطان، أولياء لله وأعداء لله، إنها إقامة دين الله التي لا تحصر بأرض، ولا تحكر على وطن، وليست حكراً على قبيلة أو لون، فراحوا يضربون في الأرض يبتغون رضوان الله، تحقيقاً لهذه الغاية، هؤلاء هم المهاجرون، الذين قال الله عز وجل عنهم في كتابه: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:117]، تاب الله عز وجل عليهم، وبوأهم أعلى المراتب، ولا غرابة ولا عجب، آثروا رضوانه فرضي عنهم، وآثروا مرضاته فأرضاهم، لا عجب، بذلوا له الغالي والنفيس، فأعطاهم أكثر مما يؤملون، وصلوا إلى المدينة، ولا تسأل عن حالهم لما وصلوا المدينة، وصلوا إلى دار الغربة، وجدوا قوماً آثروهم بأموالهم وديارهم وأبنائهم، ومع خصاصة الواحد من الأنصار كان يقسم الرغيف له ولصاحبه، ويؤوي الضيف في بيته، ويتعلل أبناءه وبناته ليأكل الضيف فيبيتون طوىً، يبيتون جائعين ليأكل أخوه المهاجر، وجدوا إيثاراً لم يشهد التاريخ له مثيلاً، ولكنهم صادفوا أقواماً ليسوا من أهل السعة والغنى واليسار، فعاش كثير من المهاجرين حياة الفقراء، يقول سعد رضي الله تعالى عنه وأرضاه وهو يتحدث عن طعامهم لما وصلوا المدينة، وهذا الحديث في صحيح البخاري ، ليس من أخبار كان يا ما كان، يقول: ( كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا طعام إلا ورق الشجر، فيضع أحدنا كما يضع البعير ليس له خلاط )، إذا قضى الواحد منهم حاجته أخرج بعراً كما تخرج الشاة بعرها، لا يختلط بعضه في بعضٍ؛ لأنه لا يجد في المعدة ما يختلط به.

    وإذا سألت عن ملابسهم فلا تتحدث، ففي صحيح البخاري يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه وهو يتحدث عن أهل الصفة وهم كثير، منهم سبعون قتلوا وهم القراء الذين بعثهم رسول الله، وأبو هريرة يحكي عن هؤلاء السبعين الذين رآهم فقال: لقد رأيت من أهل الصفة ما مع الواحد منهم إلا الإزار، ليس هناك واحد منهم يملك ثوبين: ثوب لأعلى البدن وثوب لأسفل البدن، إنما هو ثوب واحد: ليس مع الواحد منهم إلا الإزار، أو كساء قد ربط على أعناقهم، وإن الواحد ليضمه بيده مخافة أن تبدو عورته، هؤلاء هم المهاجرون، خرج عليهم النبي صلوات الله وسلامه عليه كما يقول أنس في صحيح البخاري وهم يحفرون الخندق يوم الخندق، في جو بارد، وجوع شديد، خرج عليهم عليه الصلاة والسلام بعد صلاة الفجر في الغداة الباردة، نظر إليهم وهم يحفرون الخندق، قال أنس : ( فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هم فيه من الجوع والبرد قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة )، جو برد قارص، وجوع قاتل، وهم يجاهدون في سبيل الله، مبتغين ما عند الله، ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة )، هؤلاء هم الأنصار، إنهم حققوا مقاماً من مقامات الإيمان.

    من نتحدث عن الهجرة لا نتحدث عن انتقال من أرض إلى أرض، وإنما نتحدث عن انتصار النفس المؤمنة على شهواتها، انتصار النفس المؤمنة على رغباتها، إيثار النفس المؤمنة لما عند الله والدار الآخرة، وهذه الهجرة لا تزال باقية ما بقي في النفس إيمان.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    مدلولات الهجرة ومعانيها

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! مضى المهاجرون رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومضى معهم إخوانهم الأنصار، وبهم قام الدين، منهم من رأى ثمرة جوده وجهاده في هذه الدنيا فأغناه الله، وملك وترأس، ومنهم من مضى إلى الله عز وجل على فقره، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[النساء:95]، كلهم وعدهم الله أعلى الرتب في الجنة، فعجباً لمن اتخذ سب المهاجرين والأنصار ديناً، ولعن المهاجرين عقيدة، عجباً والله لمن أمر بالاستغفار لهم فاتخذ لعنهم ديناً يتقرب به إلى الله، مضى المهاجرون والأنصار، وبقيت هذه السنة، بقيت هذه الطريقة، بقيت هذه الأخلاق في هذه الأمة، يطالبون بها على مدار الساعة، وكلما تصاعدت منهم الأنفاس الهجرة إلى الله، الهجرة إلى رسول الله، هجر ما نهى الله عز وجل عنه، الهجرة إلى طاعة الله، إيثار مرضاة الله، بقيت هذه الهجرة كما قال عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد : ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عز وجل عنه ).

    كيف نتحدث عن المهاجرين ونحن نغرق في المحرمات إلى آذاننا؟

    نتحدث عن الهجرة والمهاجرين ويعسر على الواحد منا أن يترك ريالات من الحرام، أو مكاسب من الحرام.

    نتحدث عن الهجرة والمهاجرين ويصعب على أحدنا أن يكف بصره عن الحرام.

    نتحدث عن المهاجرين ويعسر على أحدنا أن يصون فرجه عن الحرام.

    نتحدث عن المهاجرين ولم يستطع كثير منا أن يهاجروا إلى المسجد لإقامة الفريضة مع جماعة المسلمين، نتحدث عن الهجرة والمهاجرين ولم يستطع كثير منا هجر الفراش للقيام إلى أداء ركعتين من فريضة الله، بهما فلاح الدنيا والآخرة، ومن ضيعهما عمداً لقي الله وهو عليه غضبان.

    إننا بحاجة أن نقرأ تاريخ سلفنا، وسيرة العظماء والصالحين منا؛ لنعرف كيف قام هذا الدين، وكيف نال هؤلاء القوم رضوان الله، فنتخذ من ذلك نبراس هداية نمضي على نهجهم.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يعيننا على أنفسنا، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم اخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

    اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755973146