إسلام ويب

الشحناء والبغضاء آثارها وعلاجهاللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشحناء والبغضاء داء عضال يفتت الأسر والمجتمعات، ويزرع فيها عوامل الجريمة، وعن ديننا الإسلامي فهو دين المحبة والاجتماع، ولذلك دعا إلى جمع الكلمة والمحبة وإصلاح ذات البين والصفح والتغاضي عن الأخطاء.

    1.   

    من آثار الشحناء والبغضاء

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! روى الإمام ابن ماجه وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا لمشرك أو مشاحن ).

    ليلة النصف من شعبان من الأوقات الفاضلة المباركة، خصها الله عز وجل بهذه الخصيصة، أنه يطلع سبحانه وتعالى اطلاعاً خاصاً على عباده في هذه الليلة، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا من كانت بينه وبين أخيه شحناء بالباطل، فيغفر لكل عبدٍ إلا لمشرك أو مشاحن.

    حديثنا في هذه الدقائق عن الشحناء والبغضاء بين عباد الله المؤمنين، آثارها، أضرارها، وكيف نزيلها، البغضاء من أجل دنيا، البغضاء من أجل الذات، البغضاء من أجل المصالح، البغضاء لا للدين، ولكن من أجل أعراض الدنيا.

    البغضاء حائلة بين الإنسان ومغفرة الله تعالى، على هذا دلت النصوص، ومنها هذا الحديث العظيم الذي سمعتموه، ومنها الحديث في صحيح مسلم ، قال فيه عليه الصلاة والسلام: ( إن أبواب الجنة تفتح يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر الله تعالى لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله تعالى: أنظروا هذين -يعني: أخروا هذين عن المغفرة- حتى يصطلحا).

    الشحناء بين المؤمنين مرفوضة شرعاً، ومذمومة طبعاً، جعلها الله عز وجل حائلاً بين مغفرة الله عز وجل والعباد.

    1.   

    أهمية الإصلاح وإزالة الشحناء

    الإصلاح بين النفوس أيها الإخوة! إزالة الشحناء والبغضاء وتقارب القلوب من أعظم المقاصد القرآنية التي جاءت بها هذه الشريعة.

    ارتكاب بعض المفاسد لتحقيق الإصلاح بين الناس

    أعظم مقصد دعانا الله عز وجل إليه إحداث الألفة والمحبة بين المؤمنين، وفي سبيل هذه المصلحة العظمى يجوز أن نرتكب مفاسد محققة، وإن كانت مفاسد معتبرة شرعاً، لكن ما دامت وسيلة لتحقيق هذا المقصد العظيم، فلا بأس من ارتكاب المفاسد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً )، الكذب حرام، ومن كبائر الذنوب، لكن إذا كان وسيلة للإصلاح بين الناس، وإزالة البغضاء من قلوب المؤمنين، فإنه حلال كحلية الماء أو أشد.

    تذهب إلى الخصم فتقول له: خصمك يثني عليك خيراً، ويذكرك بالخير ويحبك، وهو لا يتصف بشيء من هذا، إنما قصدك الإصلاح بين القلوب وإحداث المحبة.

    عظم وظيفة الإصلاح بين الناس

    الأخوة الإيمانية عليها يقوم هذا الدين، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].. إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:10]، هذه وظيفة ليست من نوافل الأعمال، وظيفة الإصلاح بين المؤمنين، أقارب، جيران، زوج وزوجة، أخ وأخيه، دولة وأخرى، عصابة وأخرى، قبيلة وأخرى، وظيفة الإصلاح بين فئات المؤمنين على اختلافهم وظيفة إيمانية ليست من نوافل الأعمال، إنما ينبغي أن يبتدر الناس إليها، يسارع إليها أهل الكرم، يسارع إليها أهل السجايا النبيلة والصفات العظيمة، يسارعون إلى القيام بهذه الوظيفة، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، هكذا يأمر الله تعالى ويأمر رسوله، الإسراع والمبادرة إلى الإصلاح بين الناس.

    رفعة درجة المصلحين بين الناس

    وفي مقابل هذا يرفع الله عز وجل درجة هذا المصلح، ويخبر عليه الصلاة والسلام بأن هذا العمل من أفضل التجارات، يقول عليه الصلاة والسلام لـأبي أيوب : ( ألا أدلك على تجارة: تصلح بين الناس ).

    ورفعة لدرجته ومحافظة عليه ندب له الشارع وأباح له أن يتحمل الغرامات المالية في سبيل الإصلاح بين المختلفين، الإصلاح بين الناس، قد يحتاج المصلح أن يتحمل غرامات مالية قد تكون هناك ديات، وقد تكون هناك أروش، وقد تكون هناك أضرار يحتاج المصلح أن يتحمل أعباء مالية دعاه الشرع إلى أن يتحمل هذا، وتحمل عنه كل تلك التبعات، وأمر بأن يعطى من أموال الزكاة، فجعل الغارمين، أي: الذين ينفقون الأموال للإصلاح بين الناس، جعلهم مصرفاً من مصارف الزكاة، فمن تولى الإصلاح بين الناس وتحمل غرامات مالية، وأصبح مديناً بها، فإنه لا ينبغي أن يجحف بمكانته، ولا ينبغي أن يخذل، ندبه الشارع إلى هذا وأعانه على ذلك، وحافظ عليه وعلى مكانته، فيعطى كل ما تحمله، وكل ما استدانه من الغرامات المالية إلى الإصلاح بين الناس.

    إكثار النبي من الوصية بإزالة الشحناء والبغضاء

    الحديث عن الإصلاح أيها الإخوة بين النفوس حديث يطول، لكن أخصر ما نعبر عنه بأنه من الأركان الركينة التي تقوم عليها هذه الديانة، ولهذا أكثر عليه الصلاة والسلام من الوصية بإزالة أسباب الشحناء والبغضاء، وقال في الحديث العظيم: ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، لا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض )، وقال في آخره: ( وكونوا عباد الله إخواناً )، أزيلوا كل أسباب الشحناء، وترفعوا عنها، وكونوا كما أمركم الله، وكونوا عباد الله إخواناً، الإنسان بهذا المسلك يهيئ نفسه ليكون محلاً لرحمات الله، يجهز نفسه ليكون مكاناً لنزول مغفرة الله، فإن الله عز وجل غفور يحب أهل المغفرة، رحيم يحب أهل الرحمة، متجاوز يحب أهل التجاوز.

    أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    تولي الله الإصلاح بين الناس يوم القيامة

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! وظيفة الإصلاح بين الناس يتولاه الله عز وجل بنفسه يوم القيامة، كما روي في الحديث وقد ذكره المفسرون عند قول الله سبحانه وتعالى في مطلع سورة الأنفال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، نقف عند هذه الآية: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، هذا خطاب لخير المجتمعات، لصحابة رسول الله الذي كان الواحد منهم يؤثر أخاه بشربة الماء يموت عطشاً من أجلها، ومع هذا يذكرهم الله بين الفينة والفينة، عندما تبدر بوادر النزاع إلى تقوى الله وإصلاح ذات البين: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1].

    ذكر المفسرون عند هذه الآية حديثاً عظيماً رواه أبو يعلى رحمه الله، فيه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ( ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه -ظهرت أضراسه- فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟! قال: الرجلان جثيا بين يدي الله تبارك وتعالى يوم القيامة )، وأنت تأمل هذا الموقف جيداً، (رجلان جثيا) يعني: جلسا على الركب بين يدي الله عند لقاء الله تعالى، فقال أحدهما: (يا رب! خذ لي مظلمتي من أخي)، هذا الرجل ظلمني فخذ لي مظلمتي منه، وانظر إلى العبارة ظلمه واعتدى عليه، ومع ذلك لا تنس الأخوة. نحن قصرنا اليوم الأخوة على أخوة النسب، ومع هذا مع قصرها على أخوة النسب يشوبها ما يشوبها من البغضاء والشحناء من أجل الدنيا أيضاً، هذا أخوه في الديانة، ( فيقول الله للآخر: أعطه مظلمته )، ما الذي يمنعك أن تعطيه مظلمته، ومعلوم لدينا جميعاً أن الأخذ والعطاء في ذلك اليوم إنما هو الحسنات والسيئات: (أعطه مظلمته) يعني: أعطه حسنات في مقابل مظلمته، (فيقول: يا رب! لم تبق لي حسنة)، نفدت الحسنات ولم تبق لي حسنة، (فيقول الآخر: يا رب! فليحمل عني من أوزاري)، إذا لم تكن له حسنات، فليحمل عني من ذنوبي، (قال الراوي: قال الصحابي: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء)، حقيقة مشهد مؤثر حين يتذكره الإنسان، وقال: ( إن ذلك ليوم عظيم، يوم يريد المرء من غيره أن يتحمل عنه أوزاره ) غاية ما يتمناه الإنسان ويتطلع إليه أن يأتي من يحمل عنه الأوزار والذنوب، يوم عظيم.

    ثم قال الله تعالى لهذا الخصم الذي يطلب حقه، ويريد من غريمه أن يأخذ عنه أوزاره، قال الله تعالى: ( انظر في الجنان فينظر، قال الراوي: فيرى مدائن من فضة )، مدن مبنية من الفضة، ( وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ )، يرى هذه المناظر العجيبة، مدائن من الفضة، وقصور من الذهب، وقد كللت باللؤلؤ، ( فيقول: يا رب! لأي نبي هذا، لأي صديق هذا، لأي شهيد هذا؟ ) لمن من الأنبياء؟ لمن من المقربين الصديقين؟ لمن من الشهداء؟ ( فيقول الله: لمن أدى ثمنه )، لمن دفع الثمن، ( فيقول الرجل: ومن يملك ثمن هذا يا رب؟! ) من الذي يستطيع اليوم أن يدفع كل هذا الثمن؟ ( قال: أنت تملكه، فيقول: كيف يا رب! من أين لي هذا الثمن؟ يقول: بعفوك عن أخيك، بعفوك عن صاحبك، ثم يعفو عن صاحبه، فيقول الله عز وجل: اذهبا أو خذ بيد أخيك فادخلا الجنة ).

    الله عز وجل يده سحاء لا تغيظها نفقة، فليست مدائن الفضة ولا قصور الذهب بكبيرة على الله تعالى، وليس بكبير على الله أن يفتدي عبده المؤمن من عذاب الله ببذل كل هذا، ولكن خذ من ذلك درساً، الله يبذل كل هذا الغالي، يبذل كل هذا النفيس، ويعطي كل هذا العطاء، ويزاول سبحانه وتعالى بنفسه الإصلاح بين الأخوين بغية أن يدخل الجنة بغير خصومة، ولن يدخل أحد الجنة حتى يصفي قلبه لعباد الله، والناس يحبسون بعد تجاوز الصراط على قنطرة قبل الجنة يتقاصون مظالم بينهم، ولا يدخل الناس الجنة حتى يقال لهم: طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] أي: اتصفتم بالطيب من جميع جوانبه وبكافة صفاته.

    فلنأخذ من هذا درساً ومثالاً أيها الأحباب، ولنتهيأ لهذه المواسم العظيمة التي نقبل عليها ليلة النصف من شعبان ورمضان وليالي رمضان، كل هذه مواقيت أكد الله تعالى فيها الأسباب الموجبة للمغفرة، فلا يحول الإنسان بينه وبين مغفرة الله بشحناء وبغضاء يغريها الشيطان ويذكي نارها، ويحاول الاستمرار والبقاء عليها.

    أعرف أنا ليس بعيداً هنا في الدوحة بين القطريين وليس للمجاملة ولا للتزلف، ما عرفته وألفته من هذا الشعب من الطيبة، وكرم الخلق، والسماحة الشيء الكثير الذي لا أراه في كثير من الشعوب الأخرى، لكن مع هذا نرى عجباً عجاباً، أنا أعرف خصماء متفاوتين أقارب، وجيران، وإخوان يجمع بينهم النسب والصهر والإسلام والجوار، تدوم الخلافات بينهم عشر سنوات أو أكثر، وكلما حاول المصلح أن يصلح بينهما يتأبى كلا الجانبين، أي نفوس هذه؟ أي إيمان هذا الذي يدعو الإنسان إلى أن يصر على العداوة والبغضاء والشحناء لأقرب الناس إليه؟

    نحن بحاجة أيها الإخوة أن نراجع المعاني الإيمانية في نفوسنا، فنترفع عن ما أراد الله عز وجل منا أن نترفع عنه، ( إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها )، هكذا قال عليه الصلاة والسلام.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الدعوة إلى الإصلاح بين الناس

    دعا الله سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله إلى الإصلاح بين الناس بقدر الاستطاعة، الإصلاح وإزالة هذه الشحناء، والتعالي عن الحظوظ النفسية، التعالي عن الحظوظ الدنيوية، وأن يعيش الإنسان محباً لله، محباً لعباد الله.

    في نصوص كثيرة يأمر الله تعالى بالإصلاح بين العباد وما أكثرها في كتاب الله.

    تعظيم النبي لصلاح ذات البين

    وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم جعلها عليه الصلاة والسلام أعلى مرتبة من الصيام والصلاة والصدقة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين )، فساد ذات البين تحلق الدين، يعني: تزيله، تنقصه، كما يحلق الحلاق الرأس فيزيل ما عليه من الشعر، فساد ذات البين تحلق الدين؛ لأنها تدعو النفس البشرية الضعيفة إلى الانتقام، تدعوها إلى ارتكاب ما حرم الله، فيكذب من أجل أن ينكي بخصمه، يزور من أجل أن يوصل الضرر إلى خصمه، يدعي عليه بالباطل، يظلمه، يثلم عرضه، ينال من سمعته، ينال من حقه، كل ذلك بدافع فساد ذات البين، تحلق الدين، تدعو الإنسان إلى ارتكاب ما حرم الله، تدعو الإنسان أن يتجاوز حدود الله، فكان إزالة هذا الفساد من أعظم المراتب في هذا الدين، خير من الصيام والصلاة والصدقة إصلاح ذات البين، هكذا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإصلاح بين الناس.

    مباشرة النبي لإصلاح ذات البين

    بل باشر عليه الصلاة والسلام بنفسه الإصلاح بين الناس، وكان يتلمس قضايا الخلاف بين المسلمين فيسعى عليه الصلاة والسلام إلى الإصلاح بينهم، والأحاديث في هذا كثيرة، ومن ذلك أنه خرج عليه الصلاة والسلام إلى قباء ليصلح بين أهل قباء لما اقتتلوا، وحصل بين بني عمرو بن عوف نزاع، فخرج عليه الصلاة والسلام يصلح بينهم وقت الصلاة حتى فاتته الإمامة، لم يؤم الناس بسبب انشغاله في الإصلاح بين الناس، بل حتى كادت الجماعة أن تفوته، وجاء وأدرك بعض الركعات منها، وهو عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين في المسجد، كل ذلك ليبين لنا أهمية الإصلاح بين المؤمنين، أهمية الإصلاح بين الإخوان، سواء كثرت هذه الجماعات التي يصلح بينها أو قلت، حتى نصل إلى دائرة الأسرة الضيقة.

    الدعوة إلى الإصلاح بين الزوجين

    الإصلاح بين الزوج والزوجة مطلب قرآني عظيم، في آيات عديدة الله عز وجل يدعو المؤمنين ويحثهم على المسارعة إلى الإصلاح بين الزوجين، النواة الصغيرة لهذا المجتمع الكبير، يدعونا القرآن إلى الإصلاح بين الزوجين.

    وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا يعني: خلاف بينهما، فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، ودعا إلى الإصلاح بين الزوجين ولو بدعوة أحد الزوجين للتغاضي عن بعض حقوقه.

    قال في سورة النساء: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، الصلح خير من الفراق، الصلح خير من تشتت الأسرة، ولو أدى هذا أن تتنازل المرأة عن بعض حقوقها، وينبغي لأهلها أن يحثوها على التنازل عن بعض حقوقها لا لشيء، إلا من أجل الصلح والإصلاح، والصلح خير.

    الدعوة إلى التغاضي عن الحقوق لأجل الصلح والألفة

    دعانا سبحانه وتعالى إلى التغاضي عن الحقوق حتى ولو كنا أصحاب الحق من أجل إقامة الصلح وإبقاء الألفة والمودة بين الناس.

    أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه في حادثة الإفك التي اتهمت فيها أطهر النساء ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، واتهمها المنافقون ظلماً وعدواناً بالفاحشة، وراجت الشائعة في المدينة، تلقفها المنافقون وتناقلوها بينهم في مجالسهم، ووقع في حبائلهم بعض المؤمنين بحسن نية، وكان من بين من روج الشائعة بعض أقارب أبي بكر مسطح الذي يتولاه أبو بكر وينفق عليه، ويحسن عليه الدهر كله، وفجأة يسمع أبو بكر مسطحاً بين الناس يشيع خبر الإفك والفاحشة عن ابنته، وكان أولى الناس بأن يدافع عنها، كان أولى الناس بأن يذب عنها، فأخذت أبا بكر الغيرة لنفسه، والغيرة لله ثانياً؛ لأن هذا ظلم وعدوان، فحلف ألا ينفق على مسطح ، وألا يعطيه بعد اليوم شيئاً، فأنزل الله قرآناً يتلى لا نزال نقرأه ونتلوه، قال سبحانه وتعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22] (لا يأتل) يعني: لا يحلف أهل الفضل والسعة، وقال سبحانه وتعالى في آخر الآيات: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

    نهاه عن أن يحلف هذه اليمين، ودعاه أن يتراجع عنها، والجائزة والثواب أن يغفر الله لكم، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]. هب أنك كنت صاحب الحق، هب أنك كنت المصيب، ألا تطمع في مغفرة الله؟! ألا تطمع في أن يتجاوز الله عز وجل عنك؟! ألا تريد أن يعفو الله عز وجل عنك؟! فمعاملة الله للعبد بمثل عمله من جنس عمله، من غفر غفر الله له، ومن رحم رحمه الله، ومن عفا عفا الله عنه، ومن تجاوز تجاوز الله عنه.

    جاء في الحديث أن رجلاً من أهل الجنة يوم القيامة يدخل الجنة، فيستغرب أهل الجنة؛ لأنهم يعرفون أنه لم يكن من المكثرين من الأعمال، يسألونه: ماذا كنت تفعل؟ يقول: (كنت أبايع الناس في السوق)، رجل أبيع وأشتري، (كنت أبايع الناس في السوق، فكنت أنظر المعسر وأتجوز عن السكة)، إذا بقي الشيء اليسير عند الرجل من الدين أتجاوز عنه، وإذا كان معسراً أنظره، (فتجاوز الله عز وجل عنه)، وفي بعض الروايات: ( نحن أحق وأولى بالتجاوز) فتجاوز الله عنه، وأدخله الجنة.

    هذا المبدأ القرآني العظيم، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، هب أنك انتصرت لنفسك في الدنيا، هب أنك أخذت حقك كاملاً في الدنيا، ماذا تغني عنك هذه الدنيا ستزول عن قريب، صحيح أنك لم تفعل إثماً، صحيح أنك لم ترتكب جرماً إذا أخذت حقك كاملاً، لكن الأولى لك والأرفع لدرجتك والأنفع لك أن تدخر شيئاً عند الله تعالى، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

    لما نستحضر هذه المعاني أيها الإخوة! تتضاءل أمامها الخصومات، لما نستحضر هذه المعاني تتضاءل أمامها النزاعات، سيجد الإنسان نفسه يتمتع بقلب سليم، بصدر فسيحة واسعة للمؤمنين؛ لأنه يعلم أنه ما تواضع عبد لله إلا رفعه الله، وما صبر عبد على مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً ورفعة، حينما نؤمن يقيناً جازماً بأن ثواب المظالم، ثواب الاعتداء مدخر للإنسان، إذا ابتغى بذلك وجه الله.

    الدعوة إلى عدم جعل اليمين حاجزاً للإنسان بينه وبين الإصلاح بين الناس

    يأمرنا سبحانه وتعالى في سورة البقرة بألا نجعل اليمين بعد أن حلفناها، لا نجعل اليمين حائلاً بيننا وبين الإصلاح بين الناس، قد يحلف الإنسان وقت الغضب، يحلف وقت الخصومة ألا يفعل كذا مع قريبه، مع صديقه، مع صاحبه، يدعوك الله تعالى ألا تجعل هذه اليمين عارضاً ومانعاً بينك وبين النزول عند الإصلاح، قال: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224]، لا تجعل يمينك عرضة بينك وبين الإصلاح بين الناس، ارجع عن هذه اليمين وكفر عنها، فإن الرجوع عنها خير.

    والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها كفر عن يمينه وأتى الذي هو خير، سمع مرة وهو في بيته بجانب المسجد أصوات خصومة، والخصومة كلها بحق، رجل يطلب آخر ديناً له عليه، والآخر ربما لا يجد كل الدين، يعرض عليه أن يعطيه البعض ويسقط عنه البعض، والآخر يحلف أنه يريد دينه كله، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام حليف الرجل ألا يسقط عن أخيه شيئاً، خرج عليه الصلاة والسلام، فقال: ( من ذا الذي يتألى على الله ألا يفعل المعروف )، من هذا الذي يحلف بالله أنه لن يفعل المعروف، انظروا إلى عبارة الاستهجان لهذه اليمين، الرجل لم يفعل إثماً، يحلف بحق أنه يريد حقه كاملاً، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج هذه اليمين مخرج التبشيع على صاحبها ليحثه على التنازل عنها، (من ذا الذي يتألى -يحلف- ألا يفعل المعروف، فقال الرجل: أنا يا رسول الله! فقال: كل ذلك له يا رسول الله!) كل ما طلبه بعد أن سمع هذه العبارة، كل ما طلبه له يا رسول الله! فأشار إليه عليه الصلاة والسلام بأن يضع البعض ويطلب البعض، وكان ما كان من الصلح، وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ[البقرة:224].

    الدعوة إلى مخالفة اليمين لإصلاح الأسرة

    وفي داخل الأسرة كذلك، جاء الحديث بأن الرجل إذا حلف ألا يفعل شيئاً لأهله، قال عليه الصلاة والسلام: ( لأن يلج أحدكم بيمينه آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه )، قد يحلف الإنسان في نطاق الأسرة داخل الأهل، يحلف ألا يذهب بهم إلى مكان كذا، أو ألا يعطيهم كذا، أو لا يفعل بهم كذا، ويدعوه الله إذا كان في مخالفة هذه اليمين خير وإصلاح الحال داخل الأسرة، فإن الأولى أن تكفر عن هذه اليمين، ويقول له: إذا كنت تظن أن في مخالفة اليمين إثماً، فاعلم يقيناً بأن الاستمرار عليها والبقاء عليها أعظم إثماً: ( لأن يلج أحدكم بيمينه آثم له عند الله )، وليس ثم إثم، لا في مخالفة اليمين، ولا في الثبات والاستقرار عليها، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يزيل كل حاجز النفس بين الإنسان والإصلاح، (آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756350492