إسلام ويب

أقبل رمضانللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يستقبل المسلمون رمضان في كل عام مرة، فرحين مستبشرين بما فيه، فهو موسم من مواسم المغفرة، وهو كذلك موسم لتغيير النفوس وإصلاح أحوالها، وصيامه يتطلب منا الإيمان والاحتساب، والمحافظة عليه أيضاً مما قد يشوبه وينقصه.

    1.   

    بين يدي رمضان

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    الفرح بقدوم رمضان لما فيه من الأجر ومغفرة الوزر

    إخوتي في الله! وأقبل شهر رمضان، ولم يبق بيننا وبين المنادي إلا ساعات، فينادي المنادي: (يا باغي الخير! أقبل ويا باغي الشر! أقصر).

    رمضان وما أحفه الله عز وجل وأحاطه به من المكرمات، رمضان بين الشهور كيوسف بين إخوته, كانوا اثني عشر رجلاً, وكان يوسف أحبهم إلى أبيهم وأكرمهم عنده، وكذلك شهر رمضان بين إخوانه.

    رمضان أحب الشهور إلى الله؛ ولذلك حفه سبحانه وتعالى بجملة من الخصائص والمكرمات، واختاره سبحانه وتعالى ليكون زمناً لإنزال كتبه وهدايته إلى خلقه؛ فأنزل الكتب السماوية في شهر رمضان، -كما جاء في الحديث- ( نزلت الصحائف على إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزل الله التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان ) ، جعله سبحانه وتعالى موسماً لإنزال الهداية إلى الخلق، كما جعله موسماً للمغفرة والتجاوز عن الزلات.

    رمضان فيه الكثير من الخيرات والمكرمات، ففيه تفتح أبواب الجنان، وفيه تغلق أبواب النيران، وفيه تصفد مردة الشياطين، وفيه عتقاء لله من النار وذلك كل ليلة.

    تفرح بقدوم رمضان النفوس التي تشوفت إلى مغفرة الرحمن، النفوس التي تتطلع إلى مجاوزة الله عز وجل وتجاوزه عن ذنوبها، النفوس التي علمت أنها أسرفت وأذنبت، وأيقنت بأن الله عز وجل مؤاخذ محاسب، وأنه من الخير لها أن تتعرض لرحماته في مواسم الرحمات في رمضان.

    تتشوف النفوس المؤمنة لاستقبال هذا الشهر لما أيقنت بما فيه من رحمة الله عز وجل وتجاوزه؛ ولذلك كان الناس يدعون الله قبل قدوم رمضان بأشهر عديدة قائلين: اللهم سلمني إلى رمضان, وسلم لي رمضان.

    وكانوا يقولون: اللهم بلغنا رمضان، وكانوا يقولون: اللهم تقبل منا رمضان، وأدعيتهم في هذا الباب كثيرة، استشعروا أهمية هذا الزمان وعرفوا قدره، وأيقنوا بعظمته عند ربه فتشوفت نفوسهم لبلوغه، وإذا بلغوه بذلوا قصارى جهودهم في اغتنامه ففازوا بخير الدارين.

    غفران الذنوب وعظم الأجر في رمضان

    رمضان موسم من مواسم المغفرة، فتحت فيه أبواب المغفرة على مصارعها، ( فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

    جعلت فيه هذه العبادة العظيمة التي جعلها الله حصناً حصيناً من النار، قال عليه الصلاة والسلام: ( الصيام جنة يستجن بها العبد من النار )، (جنة) يعني وقاية يتقي بها العبد النار، وقال: ( الصيام حصن حصين من النار )، جعل فيه الله هذه العبادة التي وعد أصحابها فيها بالأجور التي لا تعد ولا تحصى، فقال: ( كل عمل ابن آدم يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به )، جعل الله عز وجل هذا الزمان زمناً يشغل فيه النهار بالصيام، ويشغل فيه الليل بالقرآن، فيجتمع للإنسان فيه شفيعان إذا اجتمعا له لم تخلف شفاعتهما، فقال عليه الصلاة والسلام: ( الصيام والقرآن يشفعان يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوة في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان ).

    هذه العبادة الجليلة التي يقضى فيها الزمن في نهار رمضان خصها الله عز وجل بباب من أبواب الجنة فقال: ( إن في الجنة باباً يقال له: الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق )، وزاد في بعض الروايات: ( ومن دخله لا يظمأ بعده أبداً ).

    هذه العبادة جليلة القدر كبيرة الأثر على هذا الإنسان، كما أنها عظيمة الثواب والمنال عند الكريم الرحمن سبحانه وتعالى.

    التغيير في رمضان

    فريضة الصيام ثالث أركان الإسلام العملية بعد الشهادتين, جعلها الله عز وجل موسماً لتغيير النفوس وتقليبها وإصلاح الأحوال، فيها من الدلائل على أن هذا الإنسان قادر على أن يغير من حياته الشيء الكثير، فإنه يتغير بين لحظة وأخرى، بعد أن كان منهمكاً في لذائذه, مقبلاً على شهوات نفسه, ينقطع عنها الساعات الطويلة، لتقول له هذا العبادة: إن المعاصي والمخالفات ليست ضربة لازب عليك، بل بإمكانك أن تتغير، وبإمكانك أن تتجدد، وبإمكانك أن تصلح إذا وجدت فيك العزيمة الصادقة.

    هذه العبادة العظيمة تهذب النفس وترقق القلب، فإن القلب إذا تفرغ من أثر الطعام والشراب وخف عليه ضغط المعدة المثقلة بالشهوات، وإذا تفرغ هذا القلب لذكر الله، وأقبل على مناجاته رق وانكسر لله، ودمعت العين وسكنت النفس وخشع الفؤاد، وذلك ما يحدث للصائمين في ليالي رمضان.

    هذه العبادة العظيمة التي تضيق في هذا الإنسان مجاري الشيطان، (فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، وكلما أكثر من طعامه وشرابه اتسعت فيه هذه المجاري، فإذا قلل من الطعام والشراب تضيقت فيه مجاري الشيطان فتأهل لعبادة الرحمن، وتقبلت نفسه وسارعت إلى الخيرات.

    قدر صيام رمضان وثمرته

    هذا الشهر وما جعله الله عز وجل فيه من أسباب المكرمات لهذا الإنسان ينبغي أن يفرح فيه الصائمون، وينبغي أن يتطلع إليه التائبون المنيبون، ولا يتطلع إليه إلا من عرف قدر مغفرة الله عز وجل.

    إن الله أخبرنا في كتابه أن من الناس من يأتي يوم القيامة ولو كانت له الأرض وقلاعها، أو الأرض وما عليها من ذهب وفضة لأنفقها من أجل أن يغفر له, ولكنه لا يعطى ذلك المنال.

    إن القرآن أخبرنا في مواطن عديدة أن الإنسان لو توسل وبذل أحب الأحباب إليه، لو بذل أهله وبذل أولاده وبذل عشيرته من أجل أن يغفر له وينجو فإنه لن يقبل منه.

    إن القرآن أخبرنا بأن الإنسان يود يوم القيامة أن لو كانت له الأرض كلها ليفتدي من عذاب الله، ومع ذلك لا يتقبل منه.

    إن الذين كفروا يأتون يوم القيامة، ويتمنى الواحد منهم أن لو كانت له الأرض وما عليها ذهباً ليفتدي بها من حر جهنم ولا يلتفت إليه، ويتمنى الواحد منهم ويقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:24-26].

    لكن الصائم موعود بالنجاة من كل هذه الأهوال، إذا ما هو عرف قدر الزمان الذي يعيشه، إذا ما هو عرف قدر هذه العبادة التي هو مقبل عليها, وقد وعده الله بالمغفرة إذا هو صام إيماناً واحتساباً، ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، (إيماناً) أي: تصديقاً بأن الله عز وجل فرض عليه الصيام، فهو يؤديه وهو يعتقد أن الله عز وجل فرض هذه الفريضة على العباد، وهو يؤديه محتسباً الأجر عند الله (واحتساباً)، أي: يطلب ما رتبه الله عز وجل على الصيام، ليس مجرد إمساك للعادة، ولا لأنه يرى الناس صائمين فصام، إنما يصوم احتساباً أي: يطلب الثواب المرتب على هذه العبادة، الثواب الذي جاء طرف منه في هذه الأحاديث، ومن ذلك أن الله يضاعف هذه العبادة وثوابها أضعافاً لا تعد ولا تحصى، ( إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به )، الصيام وحده هو الذي لم يخبر الله عز وجل عن مضاعفة الثواب عليه، الصيام الذي جعله الله عز وجل وقاية من النار، وسبباً للمغفرة، فينبغي للإنسان أن يستقبل هذه العبادة راجياً متطلعاً إلى ما عند الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    أمور لا بد من التنبيه عليها قبل قرب رمضان

    أيها الأحباب! إننا بحاجة أن نتنبه إلى أمور مهمة، ونحن نستقبل ساعات هذا الشهر ولياليه وأيامه.

    نحن نحتاج إلى أن نعرف الواجبات التي يجب علينا أن نحاسب أنفسنا عليها في نهار الصوم وليله، حتى لا نكون ممن يبني نهاراً ويهدم بعد ذلك، وكما قال الشاعر:

    ولو ألف بان خلفهم هادم كفى فكيف ببان خلفه ألف هادم

    لو أن ألف بان يبنون طوال النهار، وجاء هادم يهدم ما بنوه لاستطاع أن يهدم ما بناه الألف، فكيف إذا كان الباني واحد والهادم ألفاً؟!

    المحافظة على الصلاة في رمضان

    إن المؤمن مطلوب بأنه إذا عمل حسنة أنى يحافظ عليها ويحفظها حتى يلقى الله عز وجل بها، ولا يكون الواحد منا أخرق يبني ثم يهدم، ويخيط ثم يمزق.

    إننا بحاجة أن نحفظ ما عملناه من عمل، فلنحافظ على هذه العبادة التي سنؤديها من الغد، نحافظ عليها من النقصان؛ بل وأولى من ذلك أن نحافظ عليها من الزوال. إننا بحاجة أن ندرك الواجبات التي كفلنا الله عز وجل بها لنحفظ بها أعمالنا, فإن أفضل ما يتقرب به إلى الله أداء الفرائض، هكذا يقول الله جل شأنه: ( وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه ).

    وإن فريضة الصلاة أعظم الفرائض كلها بعد التوحيد عند الله، وكم من صائم يجوع طوال النهار، ثم هو ينام عن الصلوات بلا اكتراث، وهذا صنع الأخرق, فإن تضييع فريضة واحدة في اليوم حتى يخرج وقتها عمداً محبط لعمل ذلك اليوم كله؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله )، أي: من ضيع صلاة العصر حتى يخرج وقتها فقد حبط عمله، أي أفسد عمله، وسائر الفرائض مثل ذلك؛ وإنما تكلم عن العصر لأن الناس ينامون في وقتها، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، فالسيئات يزاحمن الحسنات فيقللنها أحياناً, ويفسدنها أحياناً أخرى.

    الصيام عن المعاصي

    وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، أي: ليس لله حاجة في صيامه عمل صالحاً أو لم يعمل، ولكن مراده عليه الصلاة والسلام أن من لم يحافظ على هذا الصيام فيحفظه من المفسدات المعنوية فليس له عند الله عز وجل ثواب.

    ليس لله حاجة في أن يعذب الإنسان نفسه طوال النهار، ثم هو يتناول معاصي الرحمن في كل ساعة، الطعام والشراب حرام في نهار رمضان، وسائر المعاصي حرام في سائر الأزمان، فكيف يليق بالعاقل أن يمسك عما حرمه الله لساعات، ويتناول ما حرمه الله طوال الأزمان وطوال الأعمار؟!

    الصيام عن المعاصي فريضة فرضها الله عز وجل في الليل والنهار، في رمضان وفي سائر شهور العام، هذا صيام واجب علينا أن نلاحظه في نهار رمضان كما نلاحظه في سائر الأيام.

    وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصيام يفسد إذا ارتكب الإنسان الذنوب التي حرمها الله وجرمها، وهذا المذهب وإن كان ضعيفاً بعيداً عن مذهب جمهور أهل العلم إلا أنه لا يخلو من النظر والاستدلال له.

    فيا أيها المسلم إذا كنت حريصاً على أن تكون من أهل مغفرة الله، إذا كنت حريصاً على أن تكون ممن يشفع لهم في نهار رمضان، فاستيقظ وانتبه أن يسرق منك السارقون هذه العبادة بإفسادها بجرك إلى أنواع المحرمات.

    وبوسائل الإعلام وما تقدمه للناس من أسباب الرذيلة، وما تجره إلى الناس من أسباب القبائح وأسباب الفضائح؛ فعلينا أن نتنبه وأن نتيقظ, وأن نكون على بصيرة من أمرنا، فنحن مقدمون على موسم من مواسم المغفرة والرحمة.

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رمضان

    إننا -أيها الإخوة- بحاجة إلى أن ندرك أننا في رمضان مأمورون بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأولى من نقوم لهم بهذا الدور من نعيش في أوساطهم، ومن ولانا الله عز وجل عليهم من أبنائنا وبناتنا ونسائنا في البيوت، فإن من فرائض الله عز وجل على أولياء الأمور أن يأمروا أبناءهم قبل البلوغ، ليعودهم عليه، حتى إذا بلغ الواحد منهم مبلغ التكليف يكون قادراً على الصوم.

    وإن من فرائض الله أن نجنب أهلينا وأزواجنا وبناتنا أسباب الردى وأسباب الهلاك في شهر رمضان، حتى يختم لنا هذا الشهر بعبادة مقبولة وبذنب مغفور، وبسيئة ممحوة.

    محاسبة النفس خلال شهر رمضان

    إننا بحاجة كما أسلفت أن نحاسب أنفسنا خلال هذا الشهر بأداء فرائض الله أولاً، والاستكثار من النوافل والتقرب إلى الله عز وجل بأنواع الطاعات؛ لعل الله عز وجل أن يجعله موسماً من مواسم الرحمات، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله ).

    فليتعرض منا الواحد لنفحات رحمة الله، يؤدي هذه العبادة بإخلاص قاصداً بذلك وجه الله، مريداً بذلك ثواب الله، متطلعاً بذلك إلى ما عند الله، قاصداً بذلك محو ذنبه والتكفير عن سيئته، قاصداً بذلك إرضاء ربه, فإنه إذا فعل ذلك فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن قصد الله وجده، ومن طلب الله عز وجل أعطاه، ومن ابتغى الله عز وجل بلغه مناه، وعلى الإنسان أن يتعرض لعطايا الله.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    مرض إنفلونزا الخنازير

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! طلب منا في هذه الجمعة أن نتحدث عن مرض إنفلونزا الخنازير، وكنت قد تحدثت عنه قبل شهرين تقريباً بما يغني فيه عن التكرار والإعادة، هذا المرض الذي جعله الله عز وجل إشارة إلى عواقب مخالفة الناس لتوجيهات الله لهم، فإن هذا المرض منسوب إلى هذا الحيوان, وكيفما كانت النسبة سواء كان لهذا الحيوان دور في نشوء هذا المرض أو في انتشاره وبقائه واستمراره، فما هو إلا أثر من الآثار التي تبين حكمة الله عز وجل في تشريعاته، وأثر لبيان حكمة الله عز وجل في تحليله وتحريمه.

    فإن الله حرم هذا الحيوان على الناس؛ بل وأرشدت الشريعة إلى التخلص منه؛ ولذلك جاء في الحديث أن عيسى عليه السلام إذا نزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير، أي: لا يدع ديناً غير دين محمد صلى الله عليه وسلم.

    الموقف الشرعي عند انتشار المرض

    هذا المرض إذا صح أنه انتشر؛ لأننا لا نثق بكل ما يقال الثقة المطلقة، لكن وجدت الأمراض والحالات العديدة من الناس، وعلى الناس إذا ما أصابهم هذا المكروه أن يقفوا موقفين دعت إليهما الشريعة:

    أما الموقف الأول: فهو الإيمان المطلق بالقضاء والقدر، وأنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتبه الله عز وجل له، وأنه لن يقدر على هذا الإنسان إلا ما كتبه الله في الصحائف قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

    ما قد قضي يا نفس فاصطبري له ولك الأمان من الذي لم يقدر

    وتيقني أن المقدر كائن حتم عليك صبرت أو لم تصبري

    لا داعي للقلق, ولا داعي لأن يملأ الإنسان جوفه خوفاً ورعباً مما لم يقدره الله، ما قد قضي سيكون في الوقت الذي قدره الله، سيكون كما قدره الله عز وجل أن يكون، وما لم يقدره الله لن يكون، فما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن، وما قدره الله عز وجل حتماً سيقع.

    هذه العقيدة إذا استقرت في القلب امتلأت حياة الإنسان سعادة وطمأنينة وسكينة، والموت ليس محذوراً على الإطلاق، الموت ليس مخوفاً على الإطلاق, فإننا سنموت يوماً لا محالة، الموت ناقل لهذا الإنسان من حياة إلى حياة هي أنعم، وحياة هي أوسع, وحياة هي أكبر إذا ما أحسن الحياة في هذه الدنيا.

    الموت انتقال من ضيق إلى سعة، وانتقال من عناء إلى راحة، وانتقال من فقر إلى غنى، وانتقال من تعب ونكد إلى نعيم مقيم وشهوة لا تنقضي، هذه هي حقيقة الموت عند المؤمن؛ ولذلك لما مرت الجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مستريح ومستراح منه )، هذه الجنازة أحد اثنين لا ثالث لهما: إما مستريح، وإما مستراح منه.

    ثم فسرها عليه الصلاة والسلام ( أما العبد المؤمن فيستريح من نصب الدنيا ومن تعبها، وأما الفاجر فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب ).

    ليس من الطبيعي لدى المؤمن أن يخاف من الموت الخوف المطلق، الموت واستذكاره يبعث الإنسان على العمل وإحسانه وإتقانه والاستعداد للقاء الله، وإلا فإنه آت لا محالة، ونحن نموت بسبب وبغير سبب, ونموت بالأوبئة وبغير الأوبئة.

    تعددت الأسباب والموت واحد.

    فلا داعي لأن تملأ وسائل الإعلام قلوبنا خوفاً، وتملأ نفوسنا رعباً, فإن ما قضاه الله عز وجل وقدره كائن لا محالة.

    وهناك موقف شرعي آخر أيضاً: وهو الأخذ بالأسباب المادية لدفع العدوى، فإن العدوى لا تفعل بنفسها كما أخبرنا بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: ( لا عدوى )، أي: أنها لا تفعل بنفسها, لا تنتقل العدوى بنفسها، لا تنتقل إلا إذا قدر الله عز وجل إصابة المنتقل إليه بذلك المرض، وإلا فكم من إنسان صحيح يخالط الأمراض والمبتلين بأنواع الآفات ثم يخرج منها سليماً صحيحاً؛ لأن الله لم يقدر عليه ذلك الوباء.

    وهذا الحديث في الصحيحين في أصح الكتب بعد كتب الله، ( لا عدوى )، أي: لا عدوى فاعلة بنفسها, إنما تفعل بقضاء الله وقدره.

    وهذا القضاء والقدر جعل الله عز وجل أسباباً لدفعه قبل وقوعه؛ بل وأسباباً لدفع الإنسان من التحسر والتألم حتى لا يقول بعدها: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، من هذه الأسباب:

    عدم مخالطة المريض للأصحاء، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( لا يورد ممرض على مصح )، فهو صلى الله عليه وسلم يتكلم مع أهل الإبل، ويقول لهم: صاحب الإبل المريضة لا يوردها على صاحب الإبل الصحيحة حتى لا يقدر الله عز وجل على هذه الإبل بأمر فيرجع صاحبه بالندم والحسرات.

    فينبغي للإنسان المريض الذي أصيب بشيء من هذه الأدواء التي تنتقل أن يتجنب اختلاط الناس ومواطن تجمعهم حتى لا يكون سبباً في نفوذ هذا المقدور، حتى لا يكون آلة يجري عليها الله عز وجل القدر المكروه إلى الإنسان الآخر.

    توجيهات المختصين بخصوص مرض إنفلونزا الخنازير

    بالأمس القريب كنت في المركز الصحي ولله الحمد، والتقيت بثقات الأطباء، فسألت أحدهم قلت له: هل جد جديد في إنفلونزا الخنازير؟ قالوا: لا جديد إلا أن الناس ينبغي أن يرشدوا إلى أن من أحس منهم بعوارض المرض، أو أحس بما يشبه أن يكون مرضاً فعليه أن يسارع بعرض نفسه على الأطباء، فلعله يكون قد أصيب فيداوى قبل أن يتطور الخطر ويعظم.

    هذه الملاحظات التي تقدمها جهات الاختصاص ينبغي أن نأخذها مأخذ الجد، وأن نتعامل معها بجدية، فيعرض الواحد منا نفسه على الطبيب إذا شعر بعوارض هذا المرض، وإذا كان قد قدر الله عز وجل عليه ذلك، فعليه أن يستجيب أيضاً للتوجيهات الشرعية التي تأمره بألا يخالط الأصحاء حتى لا يكون سبباً لإعدائهم.

    ومن الأسباب التي نبه إليها المختصون المعانقة في السلام، فإنك إذا كنت لا تدري هل الإنسان مصاب أو غير مصاب فإنه ينبغي لك أن تتجنب المعانقة، وهي في الحقيقة فرصة لإعادتنا إلى السنة في السلام، فالسنة عندما يقابل الإنسان أخاه أن يصافحه باليد فقط، ولم تأت السنة بالمعانقة إلا عند القدوم من السفر، أما ما عدا ذلك فلا عناق.

    وقد سئل عليه الصلاة والسلام كما في مسند الإمام أحمد : ( أحدنا يلقى صاحبه أينحني له؟ قال: لا، قال: أيعانقه ويقبله؟ قال: لا، قال: أيصافحه؟ قال: نعم )، فالسنة في باب المصافحة والسلام إذا لقي الواحد منا صاحبه ما لم يكن مسافراً أن يصافحه باليد، وليس من السنة أن يعانقه كلما لقيه، ولعل في هذه المناسبة ترويضاً وتعويداً للناس على الرجوع للعمل بهذه السنة، فإن جهات الاختصاص توصي بأن يتجنب الناس المعانقة في زمن انتشار هذا الوباء، فلعل الآخر يكون ممن أصيب بهذا الداء.

    أيها الإخوة! على الإنسان في الجملة أن يأخذ التوجيهات الشرعية التي جاءت في صحيح السنة، وتوجيهات من ولاهم الله عز وجل عليه بحفظ صحته، وحفظ صحة مجتمعه، عليه أن يأخذ هذه التوجيهات مأخذ الجد، ويتعامل معها بجدية، ويثقف نفسه بها، ويثقف أهله بها، ويكون -كما قلنا- على يقين بأنه لن يصيبه إلا ما قدره الله عز وجل له، ولن يأتيه إلا ما قضاه الله سبحانه وتعالى، وسيكون ما هو كائن.

    وأخو الجهالة متعب محزون.

    وكم نرجو أشياء لا تقع، وكم نخاف من أشياء لا تقع؟

    فالأمر كله أولاً وآخراً بيد الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يكفينا كل سوء، وأن يصرف عنا كل بلاء.

    اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين, اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! نسألك رحمة من عندك نسعد بها في الدارين يا أرحم الراحمين.

    اللهم بلغنا رمضان، وبلغنا فيه ما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم يسر لنا سبل الرشاد، وخذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى يا رب العباد.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, واخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

    فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756308685