إسلام ويب

تذكر الموتللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الموت هو انتقال من دار العمل إلى دار الجزاء، وهذه الحقيقة تجعل المؤمن يتذكره ولا يغفل عنه، فإذا تذكر المؤمن تلك اللحظات تجافى عن دار الغرور وأخلد إلى دار الخلود، فصلح عمله قبل أن يفجأه أجله، فمن كان مؤمناً سهل عليه الموت وما بعده أيسر، ومن كان غير ذلك اشتد عليه الموت وما بعده أشد.

    1.   

    حقيقة الموت والاستعداد له

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    إخوتي في الله! ورد في كتب التاريخ أن الخليفة العباسي دعا الشعراء والأمراء ليهنئوه بسكونه القصر الجديد, فدخل الشعراء فأدلى كل بدلوه, وكان من بين الشعراء شاعر الوعظ والزهد أبو العتاهية رحمه الله، أنشد الخليفة أبياتاً خر مغشياً عليه بها، قال له:

    عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور

    يجرى عليك بما أردت مع الغدو مع البكور

    فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور

    فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور

    لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

    تذكر الموت والانتقال من هذه الدار من أعظم المنافع الدينية التي أوصى بها كتاب الله, وحث عليها رسولنا صلى الله عليه وسلم.

    تذكر تلك اللحظات العصيبة وما يتلوها من حقائق، وما يتبعها من مقامات، إما عذاب وإما نعيم، هذه القضية من أكثر ما طرقها عليه الصلاة والسلام على مسامع أصحابه في مناسبات شتى.

    حال المؤمن عند الموت

    وأترككم اليوم مع مقام من مقامات النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بهذه الحقيقة والاستعداد لها.

    في مسند الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما أتينا القبر ولما يلحد -يعني: وجدناه لم يلحد بعد لا يزال الناس يعملون فيه- فجلسنا كأن على رءوسنا الطير, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينكت بعود في يده الأرض, ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس, معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة, فيجلسون منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت, فيجلس عند رأسه ويقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال عليه الصلاة والسلام: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء -تخرج سهلةً ميسرةً ذليلة- قال: فيأخذها، -أي: ملك الموت- فإذا أخذها لم يدعوها لحظة في يده حتى يأخذوها فيضعوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط, فتخرج منه نفحة مسك كأطيب مسك على وجه الأرض، ثم ينطلقون به )، أي: صاعدين به إلى السماء، ينطلقون بذلك الكفن وما فيه، ( ثم ينطلقون به إلى السماء، فكلما مروا على ملأ من الملائكة قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فتقول الملائكة: فلان ابن فلان، بأحسن الأسماء التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى إذا جاءوا به إلى السماء الدنيا استفتحوا له )، أي: طلبوا من الملائكة أن تفتح، ( ففتح له، ويشيعه من كل سماء مقربوها؛ حتى ينتهي إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم يأمر به فيعاد إلى الأرض، ويقول: منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى، فتعاد روحه في جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام! فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله ).

    بعد أن يجيب عن هذه الأسئلة الثلاثة يسألونه سؤالاً رابعاً، يقولون له: ( ما علمك؟ )، يعني: من أين علمت هذا حتى تجيبنا به، ( فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة )، قال عليه الصلاة والسلام: ( فيأتيه من روحها )، أي: من نسيمها وطيبها، وفي بعض الروايات: ( ويرى مقعده من الجنة فيأتيه من روحها, ثم يمد له في قبره مد بصره )، يوسع له في القبر مد بصره.

    ( ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول له هذا الرجل: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير! فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! حتى أرجع إلى أهلي ومالي ).

    هذا فريق من الناس وصفهم عليه الصلاة والسلام بهذه الأوصاف، وأخبر عما يلقونه في هذه اللحظات الحرجة.

    إن سكرات الموت ميسرة لهم، سهلة عليهم, تخرج الروح كما تسل القطرة من في السقاء، وإذا خرجت صاحبتها تلك الروائح الطيبة بعد مظاهر التثبيت والطمأنينة، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].

    ثم تفرح الملائكة وتبتهج بمقدمه عليهم، فيسألون عن اسمه، فإذا سمي لهم شيعه الملائكة بل المقربون منهم، في كل سماء يشيعه أفضل أهلها، حتى يصلوا به إلى السماء التي تليها.

    إن من مباهج الفرح أنه إذا استفتح له في باب السماء فتحت له أبواب السماء، السماء تلو الأخرى حتى يبلغ السماء السابعة, وحينها يأمر الله سبحانه وتعالى بأن يكتب كتابه في عليين، ويأمر سبحانه وتعالى بإعادته إلى الأرض لإجراء ما كتبه على بني آدم، منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى.

    إن هذا الفريق من الناس يعيش حياة النعيم بمجرد وصول سكرات الموت إليه، إنه يرى تلك الوجوه الحسان، إنه يشم تلك الروائح الطيبة، إنها تتنزل عليه رحمات الله عز وجل وسكناته بمجرد أن يأتيه خبر الموت، فإذا فارقت الروح الجسد انتقل إلى ألوان أخرى من النعيم، إنه يعيش في قبر ممدود مد البصر، يأتيه فيها ما يأتيه من نصيبه من الجنة، فلباسه من الجنة، وفراشه من الجنة، وريحه ونسيمه من الجنة، ويرى مقعده في الجنة، ويتمنى قرب قيام الساعة حتى يرجع إلى تلك اللحظات الهنيئة، وتلك الحياة السعيدة، ولا يزال كذلك حتى يبعث الله عز وجل من في القبور.

    هذا فريق من الناس، إن السر وراء كل هذه السعادة، إن السر وراء كل هذا النعيم، ذلك العمل الذي قدمه قبل ذلك, فيجيئه عمله في أحرج اللحظات الحاسمة التي هو فيها بحاجة إلى التثبيت والاطمئنان، يأتيه عمله كما قال عليه الصلاة والسلام: ( فيأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك )، ويا سعادة من سمع هذه الكلمة! ويا شقاوة من حرم منها! ( أبشر بالذي يسرك! فهذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ يقول: أنا عملك الصالح إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] ، هذا فريق من الناس.

    حال الفاجر عند الموت

    وفريق آخر وصفهم عليه الصلاة والسلام، فقال: ( وأما العبد الفاجر فإذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة؛ نزلت إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم أكفان من الجنة أو معهم السفود ), أشبه ما يكون بثياب الشعر لا ملمس فيه حسن، ولا منظر فيه جميل، ولا فيه ما يدل على الطمأنينة والسكينة! يأتيه ذلك اللباس لتوضع فيه تلك الروح، ( فتجلس منه الملائكة مد البصر, ثم يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه، ويقول: أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب ).

    اخرجي! وهذا أول مظاهر العذاب، هذا أول مظاهر التنكيل بأهل الفجور، هذا أول المخاوف التي يتعرض لها أولئك القوم عند سكرات الموت، تتلقاهم الملائكة بذلك التقريع، وبذلك التوبيخ، وبذلك التهديد، ( اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنتشر الروح في الجسد )، ولكن هيهات! قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8].

    تنتشر الروح في الجسد, وتتفرق فيه كما قال عليه الصلاة والسلام: ( فتخرج كما يخرج السفود من القطن المبلول )، كما يخرج الحديد الحار إذا انتشر في القطن المبلول، تخرج بصعوبة وعسر، تنتزعها الملائكة انتزاعاً, ويعاني ما يعاني من آلام الموت وسكراته فضلاً عن الضرب الذي يضربه، فيضرب على وجهه ويقبح، وهو يسمع ألواناً من الإهانات والعذاب، ثم ماذا؟

    إذا خرجت تلك الروح قال عليه الصلاة والسلام: ( فإذا أخذها لم يدعوها في يده لحظة حتى يأخذوها منه فيضعونها في ذلك الكفن )، ثم ماذا؟ قال: ( فتخرج منه كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعد به, فكلما مروا على ملأ من الملائكة، قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فتقول الملائكة التي تحمله: فلان ابن فلان بأقبح الأسماء التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، فإذا صعدوا إلى السماء الدنيا واستفتحت الملائكة ليفتح له تأبى ملائكة السماء أن تفتح الباب. ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] ).

    ثم يأمر سبحانه وتعالى الملائكة فتلقي روحه، قال عليه الصلاة والسلام: ( فتلقى روحه )، أي: فتطرح طرحاً، ( فتعاد إلى جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري )، (هاه) كلمة يقول العلماء: يقولها المتحير الذي لا يدري بماذا يجيب، لا يدري إما لأنه ضاع منه علمه، وإما لا يدري بماذا يجيب لشدة الحيرة التي يعانيها، لكنه يريد الجواب ولا يقدر.

    وفيهم المنافق الذي كان يشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ومع ذلك يقول: هاه هاه لا أدري، ( فيقال له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، ثم يأمر سبحانه وتعالى بأن يفرش من النار، وأن يذاق من النار، قال عليه الصلاة والسلام: فيأتيه من حرها وسمومها ).

    (يأتيه من حرها) أي: من إيذائها ولهبها، أي: من شدة حرارتها، من شدة الريح الذي ينبعث عن تلك النار، ( ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه )، تختلف أضلاع جنبيه، ( ويأتيه في ذلك الكرب الشديد رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث ).

    هكذا يلخص لنا عليه الصلاة والسلام ما يجنيه الإنسان في اللحظات الأولى من الانتقال من هذه الدار، اللحظات الأولى، المقام الأول، الدقائق الأولى وما وراءها من جنسها، فمن عاش منعماً في لحظاته الأولى فما بعدها أعذب وأنعم، ومن عاش معذباً في لحظاته الأولى فما بعدها أتعس وأنكى، والموفق من استعد لتلك اللحظات.

    1.   

    فوائد تذكر الموت

    كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يذكر أصحابه بهذه الحقائق في مواطن شتى لا لشيء إلا لأن تذكر الموت يجر الإنسان إلى أنواع من المحامد، تذكر الموت يقلل الرغبة في الدنيا ويزهد فيها.

    تذكر الموت إذا ذكر في ضيق توسع، وإذا ذكر في سعة تضيق.

    تذكر الموت يجر الإنسان للاستعداد للقاء الله تعالى؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ).

    تذكر الموت هي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم التي كان يوصي بها أصحابه في مواطن عديدة، فكثيراً ما روي عنه أنه كان يقول لأصحابه: ( اذكروا هاذم اللذات )، أي: قاطع اللذات، ( ولما سئل عن أكيس الناس، قال: أكثرهم ذكرا ًللموت، وأكثرهم استعداداً له, أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة ).

    من أكثر من ذكر الموت عرف حقيقة هذه الدنيا، من أكثر من ذكر الموت علم أنه عن قريب سينتقل عنها فاستعد للقاء الله، فلا شيء والله أنفع لهذا الإنسان من تذكر ذلك المصير في الصباح والمساء؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يوصي أصحابه بتقصير الأمل.

    وصدق لقمان الحكيم فيما يروى عنه أنه قال لابنه: يا بني! أمر لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك، استعد ولا تغترر بطول الأمل فإن قصر الأمل من علامة عقل هذا الإنسان، فكلما كمل عقله قصر أمله، وإذا قصر الأمل وتذكر الإنسان الانتقال استعد بصالح الأعمال، كما قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: من طال أمله ساء عمله، ومن قصر أمله حسن عمله.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه!

    1.   

    أصناف الناس تجاه تذكر الموت

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! تذكر الموت ليس مقصوداً بذاته، إنما هو وسيلة لغيره، وإلا فالناس كلهم يوقنون بالموت ويؤمنون به، ولو كان آخر أمرنا الموت لهان الأمر ويسر علينا العسير، فإن كثيراً من الناس يستريح من وبال الدنيا وهمها بالموت، ولكن الأمر كل الأمر والشأن كل الشأن بما بعد هذا الموت، ماذا بعد الموت؟

    ولذلك يقول العلماء: الناس في تذكر الموت على ثلاثة أصناف:

    صنف يذكر الموت وهو منغمس في لذات الدنيا، يذكر الموت في المساء والصباح لكنه غارق في لذائذ هذه الدنيا، فإذا ذكره إنما يذكره تذكر المنزعج منه، الخائف منه، فيكرهه ويريد أن يتناساه بقدر ما يطيق، بل من كراهته له يكره من يذكره بالموت.

    وصنف آخر مثله في الحقيقة إلا أنه أقل منه سوءاً: يذكر الموت في الصباح والمساء, وإذا تذكره إنما يتذكره ليتذكر الهموم التي تلاقيه بفراقه لهذه الدنيا، فإذا تذكر الموت تذكر فراق المال، إذا تذكر الموت تذكر فراق الزوجة والأولاد والمناصب والجاه، فتذكره للموت يضيف إليه ألواناً من الحسرات، حسرة تلوها حسرة.

    وهذان فريقان لا علاج لهما إلا بأن يديما ذكر الموت في الصباح والمساء, ويعلما يقيناً بأن هذا المذكور، وهذا المخوف ليس بينه وبين الواحد منا مئات السنين! بل ربما يكون بينه وبينه لحظة.

    فكم من خارج خرج من البيت فلم يعد، وكم من ذاهب لعيادة المريض لم يرجع، وكم من ذاهب لمشيع جنازة لم يعد، فما يدريك ربما كان بينك وبين هذا الذي تخشى وتحذر لحظات أو أقل من اللحظات.

    وصنف ثالث: يتذكر الموت فينزعج، لكن انزعاجه ليس كراهية للموت، انزعاجه ليس حب البقاء والخلود في هذه الدار، إنما انزعاجه لأنه يريد فسحة يصلح بها العمل، يريد فسحة يتمم بها التوبة، يريد فسحة يصلح بها ما فسد، فهذا ذكره للموت يزيده استعداداً، ذكره للموت يزيده إقبالاً على الله والدار الآخرة، فهذا ليس ممن قال فيهم عليه الصلاة والسلام: ( ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ).

    1.   

    أهمية الاستعداد للموت

    إن الاستعداد للموت، الاستعداد لهذه اللحظات من أولى المهام التي ينبغي للإنسان أن يعتني بها، هذه الدار حقيقتها كما قال القائلون: ظل زائل عن قريب يتقشع، ظل عن قريب يزول, وهي الحقيقة التي نطقت بها نصوص الكتاب، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5].

    (إن وعد الله حق) هذا الذي تسمعونه في الأحاديث والله إنه حق، وما بين الواحد منا وبينه إلا لحظات، إلا أنفاس لا يدري الواحد منا كم بقي عليه، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ))[فاطر:5].

    إن ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام من أن الإنسان ( إذا وضع في قبره فإذا كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخير والإحسان إلى الناس عند رجله، فإذ جاءه العذاب من قبل رأسه قالت الصلاة: ما قبلي مدخل! وإذا جاءه العذاب عن يمينه قال الصيام: ما قبلي مدخل! وإذا جاءه العذاب عن شماله قالت الزكاة: ما قبلي مدخل، وإذا جاءه العذاب من قبل رجليه قال فعل الخير والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل ).

    هذا والله حق, وسنراه بأعيننا عن قريب، وكل ما هو آت قريب، مهما تباعدت الأزمان، إن عشرات السنين في حياة الأفراد يسيرة سهلة، لينظر الواحد منا اليوم بعد أن عمر خمسين عاماً وستين عاماً ليلتفت إلى الوراء قليلاً ليتذكر حدثاً حدث له قبل ثلاثين عاماً يراه قريباً قريباً.

    إن مرور الأيام والليالي لا يستغرق وقتاً طويل، وسيقف الواحد منا على تلك الحقيقة، على تلك الكلمة التي يسمعها إما (أبشر بالذي يسرك)، وإما (أبشر بالذي يسوءك)، والموفق من استعد لتلك اللحظات قبل مجيئها.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يأخذ بأيدينا إلى كل خير، وأن يعصمنا من كل شر وضير.

    يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم.

    اللهم انصر المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا قوي يا عزيز!

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين اختم لنا بالحسنى, وتوفنا وأنت راض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756460430