إسلام ويب

التدين وأثره في حياة الفرد والمجتمعللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المجتمع بلا دين مجتمع لا قيمة له، لأنه لا هم لأفراده إلا قضاء شهواتهم ورغباتهم، أما في ظلال الدين الحق فإن الإنسان يعرف علاقته بربه وبالكون من حوله، ويؤدي الحقوق إلى أهلها، كما تزدهر الدنيا وتبنى الآخرة، وتكبح شهوات النفس وتضبط.

    1.   

    حاجة الإنسان إلى التدين

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الإخوة في الله! حديثنا عن أهمية الدين للناس، التدين وأثره في حياة الفرد والمجتمع.

    ومن المناسبات اللطيفة أنني كنت قرأت من الكلمات الجميلة والحكم الظريفة مقولة صاغها أحدهم فصارت حكمة، قال: لو ضربت الطفل الصغير ضربة خفيفة وأنت توبخه لبكى، وإذا ضربته ضربة عنيفة وأنت تضاحكه وتمازحه لضحك؛ لأن ألم الروح أشد من ألم الجسد، يبكي إذا تألم روحه، ولا يبكي حين يتألم جسده؛ لأن هناك شيئاً اتفقت عليه العقول والفطر، وهو أن حاجات الروح أهم وأولى، كما أن آلام الروح أشد وأنكى.

    حاجات الروح وإشراقات الروح وما تطلبه هذه الروح لتنعم وتسعد، أين تجد هذه الروح حاجاتها؟

    إنها لا تجد هذه الحاجات إلا في الدين، وبغير الدين يبقى الإنسان شقياً محروماً ما عاش.

    الإنسان بلا دين متبرم حائر ضجر، لا يدري لماذا جاء إلى هذه الدنيا، ولا يدري متى يخرج منها، وإذا خرج لماذا خرج؟ لا يدري من ألبسه ثوب الحياة، ولماذا ألبسه إياه، ولماذا ينزعه منه؟

    الإنسان بغير هداية الدين لا يعرف حقيقة نفسه، ولا يدرك سر وجوده، لا يعرف حقيقة العلاقة بينه وبين الكون من حوله، فتراه تائهاً ضجراً كالريشة التي علقت في مهب الريح ليس لها قرار ولا سكون، منهم من يختم حياته بالانتحار رغم ما أوتي من زخارف الدنيا وزينتها؛ لأن الروح لم تجد حاجتها، ولم تصل إلى بغيتها.

    وفي مقابله تجد إنساناً راضياً سعيداً منعماً، أغلقت عليه أبواب السجون، وأظلمت عليه الجدران وهو في قرارة نفسه يقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، حين تجد الروح حاجتها، وحين تصل إلى الغاية التي من أجلها خلقت يعيش الإنسان سعيداً بغير شيء، يعيش راضياً مع فقره، يعيش مسروراً مع جوعه وظمأه.

    حتى قال أحدهم وهو يباشر هذه اللذة في ظلمات الزوايا في المساجد، يقول: لو علم الملوك، وأبناء الملوك باللذة التي نعيشها لجالدونا عليها بالسيوف، في الوقت الذي ضاقت على الملوك قصورهم بما رحبت، وقلت الدنيا في صدورهم على سعة ما أوتوا منها بأيديهم.

    هذه باختصار حاجة الإنسان إلى الدين.

    الإنسان بلا دين تائه حائر ضجر لا قيمة للحياة, ولا تغتر بما تراه من زينة الدنيا في يده، والمجتمع بلا دين أشد وأعتى بؤساً.

    صورة المجتمعات المدنية بلا دين

    إن المجتمع مهما لمعت فيه بوارق الحياة المدنية، ومهما أوتي من أسباب الحضارة المادية إلا أنه في حقيقته وفي باطنه يعيش ألواناً من التعاسة والشقاء لا يعرفها إلا من ينتمي إلى ذلك المجتمع حق الانتماء.

    ولذلك بعض الأمريكان وهو يتحدث عن نيويورك -لكنه من عقلائهم- يقول: نيويورك غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء. حقيقتها حالة من التعاسة, حالة من البؤس، حالة من الشقاء والتيه، لكنه يتغطى بغطاء جميل، أعطتهم الحضارة المادية وسائل كثيرة وأدوات كثيرة، لكنها لم تعطهم هدفاً يحيا الإنسان من أجله, ويموت من أجله، أعطتهم الشيء الكثير لأبدانهم، وأعطتهم الوسائل الكثيرة ليعيشوا حياة مريحة, حياة سهلة، حياة مذللة، لكنها لم تعطهم الزاد الروحي الذي به تعيش الروح حياة منعمة، حياة راضية.

    المجتمع بلا دين كما نراه في ظل الحضارة المادية مجتمع لا هم لأفراده إلا قضاء شهوات بطونهم وفروجهم، كما وصفهم ربهم في كتابه: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12].

    أعطتهم الحضارة بعض ما يحتاجون من هذه الدنيا وزخرفت لهم، وزينت لهم ظاهر الدنيا، لكنها لم تصل بهم إلى أعماق هذه الدنيا حتى يدركوا لماذا يحيون فيها؟ وما الذي يريدونه منها؟ وإلى أين سينقلون عنها؟ وكانوا كما وصفهم الله: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].

    المجتمع بلا دين مجتمع لا قيمة له، رخيص تافه، وإن رأيته يتمتع بأنواع الآلات والأدوات, لكن ليست له قيم يناضل ويكافح من أجلها، يحقق بها للناس الرقي المادي والمعنوي، ليست لديه من الفضائل ما يستحق أن يسمى به مجتمع فضيلة، وإن سمي مجتمعاً راقياً مجتمعاً مدنياً، لكن لا يستطيع أحد أن يطلق هذه الألفاظ الشريفة: مجتمع الفضيلة، مجتمع الحياء، مجتمع العدالة, لا يستطيع أحد أن يطلق هذه الألقاب الشريفة على هذه المجتمعات في ظل ما أوتيت من أسباب الحياة المادية لشيء واحد؛ لأن الحضارة المادية لا تملك أن تقدم هذا للناس.

    الذي يستطيع أن يقدم هذا هو الدين، والدين وحده الدين الحق، الذي يربط الإنسان بالسماء، والإنسان خلقه الله عز وجل من بين سائر الكائنات يعيش ويمشي على قدمين, ورأسه مرفوع إلى السماء، وأراد الله عز وجل أن يعيش قلبه كذلك، تغرس فيه كلمات وعقائد تنبع عن هذه الكلمة، وتلك العقائد أعمال صالحة طيبة تصعد إلى السماء: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24].

    حاجة الناس إلى التدين أدركها كل العقلاء حتى الماديون المنصفون من فلاسفة الماديين أدركوا بعد أعمار طويلة، وسنوات مديدة، أن ما يبحثون عنه من تهذيب الفرد أو من القضاء على الأمراض النفسية لا يجده الإنسان إلا في ظلال التدين.

    ولهذا كتب كثير من حكمائهم ديل كارينجي وغيره، كتبوا كثيراً وكثيراً حول حاجة الإنسان إلى التدين، هذا وهم لا يعرفون التدين الحق، فكيف لو عرفوا التدين الذي جاءت به الرسل؟ كيف لو عرفوا الدين الذي أنزله خالق البشر على هؤلاء البشر ليحيوا في ظلاله؟

    لما نتحدث عن حاجة الناس للدين لا نتحدث عن حاجة هامشية، ولا عن شيء ثانوي يستطيع الإنسان أن يستغني عنه, أو أن يعطيه ظهره ليعيش بدونه. إن الحياة بغير دين ما هي إلا جحيم مصغر، ونار مقدمة، وشقاء معجل، ولن يجد الإنسان حياته وحقيقة سعادته ووجوده إلا في ظلال هذا الدين.

    صورة المجتمعات المتدينة

    بالدين وحده يعيش الإنسان مجتمعاً, تجتمع أشواقه .. آماله .. أمنياته مع جسده، يعيش مجتمعاً متماسكاً قوياً, بالدين وحده يجتمع الإنسان، وبغير الدين يتشتت، بغيره يتفرق، فتأخذه الدنيا في كل مسلك، وتطير به في كل واد, ولا يبالي الله عز وجل بعد ذلك في أي أوديتها هلك.

    بالدين وحده يجتمع الإنسان فتتحدد الوجهة، فيعمل من أجل شيء واحد، ويرضي شخصاً واحداً, ويتطلع إلى غاية واحدة، يعمر الدنيا ليقصد من ورائها الآخرة، ويزرع هنا ليحصد هناك، يؤدي حقوق من حوله يبتغي بذلك رضا خالقه، بالدين وحده يجتمع هذا الإنسان، وحينها يعيش جميعاً ويموت جميعاً ويبعث كما مات.

    1.   

    قصة صحابي شاب صنع منه الدين رجلاً

    هناك قصة طريفة ذكرها لنا أصحاب السير، وأطبقت كتب السيرة على ذكرها في قصص الوفود التي قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اخترتها لأن فيها قصة شاب متدين صغير، متدين من بين قوم كثيرين كلهم أهل دين، ولكن لنرى كيف يصنع الدين مثالاً ولو كان الإنسان صغيراً، وكيف يحيا الإنسان سعيداً مهما صغر سنه، حين يدرك حقيقة الدين ويعيش من أجلها.

    هذه القصة ذكرها غير واحد من كتاب السيرة، ومنهم ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العظيم زاد المعاد، وهي في قدوم وفد من وفود اليمن في عام الوفود، اسمهم وفد تجيب، من قبيلة تجيب، والذي ينسب إليها التجيبي، قدم هذا الوفد كما ستروي لنا القصة.

    يقول: ( وقدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد تجيب وهم من السكون ثلاثة عشر رجلاً, قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلتهم، وقالوا: يا رسول الله! سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوها، فاقسموها على فقرائكم، فقالوا: يا رسول الله! ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا -يعني: بما زاد- فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! ما وفد من العرب وفد بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الهدى بيد الله، فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان ).

    ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم رغبة، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم، فأقاموا أياماً ولم يطيلوا اللبث، فقيل لهم: ما يعجبكم؟ قالوا: نرجع إلى من ورائنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إياه، وما رد علينا به.

    ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونه، فأرسل إليهم بلالاً فأجازهم- يعني: أعطاهم من الهدايا- فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، مع أنهم جاءوه بالأموال، جاءوه بالزكاة، لكن لحبه لهم أكرمهم أعظم من أن يكرم غيرهم، ( فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، قال: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: نعم، غلام خلفناه على رحالنا -يحرس الرحال- هو أحدثنا سناً، قال: أرسلوه إلينا، فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني امرؤ من أبزى )، يعني: من قبيلة أبزى يقول: ( من الرهط الذين لقوك آنفاً فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي يا رسول الله! قال: وما حاجتك؟ قال: إن حاجتي ليس كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أعملني من بلادي )، يعني: ما أخرجني من بلادي ( إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، ويجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أقبل بوجهه على الغلام: اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه ).

    ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا -أي: قابلوا- رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم، يعني: في الحج بمنى سنة عشر للهجرة، فقالوا: نحن بنو أبزى يعني: الذين جئناك في المدينة العام الماضي، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله! ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، ولو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله، إني لأرجو الله أن يموت جميعاً ), أن يموت كما عاش، أن يموت مجتمع الهم، همه واحد، ووجهته واحدة، ورغبته واحدة، ( إني لأرجو أن يموت جميعاً, فقال رجل منهم: أوليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا, فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك! ).

    قالوا وهم يصفون هذا الشاب: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزقه الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع من أهل اليمن عن الإسلام من رجع ارتدوا وكفروا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: قام هذا الشاب في قومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد، لم يرتد من قومه أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكره، ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به في قومه، فكتب إلى زياد بن اللبيد يوصيه به خيراً.

    إنه الدين الحق الذي يصنع هؤلاء الرجال، يعيش الواحد واحداً مجتمعاً, الهم واحد والرغبة واحدة والهدف واحد، لا تثنيه عن هذه الرغبة وعن تلك الأمنية مغريات الدنيا ولا زخارفها، لو قسمت الدنيا لم يلتفت نحوها، وحين رجعت الأعراب وارتد الناس على أعقابهم قام هذا الشاب ثابتاً كالطود الأشم، يثبت القبائل بأسرها على الدين والإسلام، ويذكرهم الله ويذكرهم الإسلام، لكن هذا كان لأن همه لما قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما سمعتم ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل لي أن يرحمني ربي ويغفر لي، ويقنعني بما آتاني).

    لما كان يعيش من أجل هذه الأمنيات جمعه الله عز وجل, فعاش إنساناً واحداً, ذو وجهة واحدة، وهذا غاية ما يتمناه العاقل من الرضا، غاية ما يتمناه الإنسان من السعادة أن يعيش بلا هموم، وهذا النوع من العيش لا يجده الإنسان إلا في ظلال دين الله، وفي ظلال طاعة الله، كما قال عليه الصلاة والسلام وقد خرج على أصحابه وهم يذكرون الغنى، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ( إن طيب العيش من النعيم )، ليست كثرة العيش، ليس وسائل العيش ولا كثرة أدواته، إن طيب العيش هو النعيم الذي تسعى من أجله الأرواح، فإذا أدركته ألقت عصا السفر، واستقرت حيث استقر بها وإلا بقيت هذه الروح معذبة تقطع المسافات تلو المسافات، تبحث عن شيء, فإذا وجدته استقرت، وإذا لم تجده عاشت قلقة حائرة متبرمة, وصدق الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] .

    1.   

    آثار الدين في حياة الإنسان ومجتمعه

    الدين يعرف الإنسان علاقته بالكون والحياة

    في ظلال هذا الدين يدرك الإنسان ارتباطه بهذا الكون، فيعرف علاقته بالسماء، وعلاقته بالأرض، يدرك النسب والرابطة التي بينه وبين أنبياء الله، وبينه وبين ملائكة الله، يدري ما وراء هذه الدنيا فيعمل من أجل ذلك الوراء، ويخطط لما سيعيشه بعد الموت, فهو يرى بأن الحياة ثمينة والدقائق غالية، والساعات عزيزة؛ لأن بها يزرع ما يجنيه في حياة طويلة.

    تهذيب الدين لأخلاق الإنسان

    وإذا غابت هذه العقائد عن الإنسان عاش أسير اللحظة التي يعيشها، فيتحول إلى حيوان مفترس وأسد فاتك لا يستطيع القانون وحده أن يهذبه، ولا أن يؤدبه، ولا أن يرتب من أوضاعه، ومهما استطاع القانون أن يبرم من أنواع العقوبات فإنه يقدر على أن يتحلل منها، ويتحايل عليها.

    كم بذل الأمريكان في القرن الماضي والذي قبله من محاولات في سبيل منع الخمور والمخدرات، بذلوا طاقات مديدة وأموالاً عديدة في سبيل منع الخمر في الولايات المتحدة، وأصدروا فيها أنواعاً من القوانين على فترات, وتحت تجارب، مرة بالترهيب بالحبس وبالتعذيب، ومرة بالتغريم بالمال, ومرة ومرة، إلى أن وصل بهم الحال في آخر المشوار إلى أن يقرروا إباحة الخمور, وأن يشربها من شاء، متى شاء، كيف شاء، في أي مكان شاء.

    عجزت القوانين أن تهذب هذا الإنسان، لا يصنع فيه الرادع، ولا يصنع فيه المراقب، لا يصنع فيه الواعظ إلا الدين حين يعلم الإنسان بأنه سيقف أمام صحائف أعماله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، يوم يدرك الإنسان ويوقن وتعلمه العقيدة الإسلامية أن لديه ملائكة يكتبون كل صغيرة وكبيرة، وأنه سيقف على صحائف أعماله، ويقف أمام الكتاب, ويقول الظالمون: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49] .

    يوم تقف كل نفس على سعيها وكسبها، وتتمنى حين ترى الشر لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، حين يدرك الإنسان المؤمن هذه الحقائق لك أن تتصور كيف ستكون حياته؟

    أداء الحقوق في ظلال الدين

    في ظلال هذه العقائد الصحيحة تؤدى الحقوق إلى أهلها، فلا تظلم الزوجة ولا يضيع حق الأبناء، ولا يغدر بالآمن، في ظلال هذه العقائد يؤدي البائع ما عليه في البيع، ويؤدي المشتري ما عليه في الثمن.

    ولقد كان الناس يتبايعون في الأسواق لا يبالي أحدهم كيف باع، ولا كيف اشترى؟ لمن باع، وممن اشترى، حين ساد الدين الناس؛ لأنهم يعلمون أن الدين يرد صاحبه, وكانوا يتوجعون ويتألمون من آخر الزمان حين ترفع الأمانة بارتفاع الإيمان من القلوب، وكيف ستتحول المجتمعات حينها.

    في ظلال الدين وحده تزدهر الدنيا وتسعد وتبنى الآخرة ويسعد أصحابها، وأي خسارة يدركها الإنسان حين يموت حين يخسر هذا الدين, لن يدرك حقيقة خسارته بعد أن تعس وشقي في حياته إلا حين يرى منازل السعداء ومنازل الأشقياء, فهناك يتمنى حين لا تنفع الأماني: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37].

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يهدينا سبل الرشاد, وأن يرزقنا الإيمان والعمل به يا أرحم الراحمين.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    أثر الدين في تقييد الشهوات

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! من وظائف الدين الأساسية تقييد شهوات هذا الإنسان، وتنظيم شهوات هذا الإنسان ورغباته، فيسمح له بأن يأخذ من الشهوات والرغبات ما لا يفسد به عيشه ولا يفسد حياة الآخرين، يتيح له أن ينال من ملذات الدنيا ما لا يفسد بها دنيا الناس، ويتيح له أن يتناول منها ما لا يفسد بها آخرته، وإلا فإذا عاش الإنسان أسيراً لهذه الشهوة عبداً لهذه الرغبة فإنه يتحول إلى سبع يفتك بالآخرين ويظلمهم.

    وأقسى أنواع الشهوات وأعلى أنواع الرغبات لذة الجنس، ولهذا جاءت الشرائع بعقوبات رادعة لهذه اللذة لتوقفها عند حدها، وكان من حكمة الله أن حد الزنا أقسى الحدود من بين سائر العقوبات؛ لأن هذه اللذة أعتى أنواع الشهوات في الجسم البشري.

    لنرى أنموذجاً كيف أدب الدين أبناءه؟ كيف أدب الدين أتباعه؟ فحد فيهم هذه الشهوة, وقلم أظفار هذه الرغبة حتى اتسقت وانتظمت.

    مثال من أمثلة كثيرة، كتاب الله يخبرنا عنها، وأحاديث رسول الله تحدثنا بها، وقصص الصالحين تخبرنا بها مساء صباح، لكن قصة واحدة من هذه تكفي.

    الربيع بن خثيم أحد التابعين، وأحد العباد، أراد بعض الفساق أن يفتنه في دينه، فأغروا بعض المتبرجات العاهرات وأعطوها من الأموال الشيء الكثير، قالت لهم: في سبيل ماذا؟ قالوا: في سبيل قبلة من الربيع بن خثيم ، يعني: من أجل أن تفتني الربيع فيقبلك قبلة واحدة، قالت لهم: وأشد من ذلك، يعني: وسأفعل ما هو أشد من ذلك أن يزني. فتجملت وتحسنت، وتعرضت في طريق الخلوة للربيع رحمه الله تعالى، ولكنها لا تدري ما يحويه قلب الربيع ، تعرضت له متجملة لا يراهما إلا الله، فلما رأته ورآها قالت: هلم يا ربيع لتقبل، فأقبل إليها مسرعاً، تظن أنه يريد منها ما أرادت، قال لها بعد أن رآها: يا أمة الله! كيف بك إذا نزل ملك الموت، كيف بك إذا نزل بك ملك الموت يقطع منك الوتين؟ أم كيف بك إذا وقفت في القبر أمام منكر ونكير؟ كيف بك إذا خرجت من القبر لتقفي بين يدي الله المولى العظيم؟ أم كيف سيكون حالك إذا رميت في جهنم لتشقي في نار السعير؟

    لم يكمل الربيع هذه الكلمات حتى كتب الله الهداية لهذا المرأة فهربت تولول وتصيح، وتقول: وا رباه! تتوب إلى الله وتجهر بالتوبة؛ لأنها رأت رجلاً ذكرها بالله، ذكرها بالآخرة، ذكرها الجنة والنار، ما غابت هذه الحقائق عن صاحب الدين، فهو يقارن بين لذتين: لذة عاجلة فانية زائلة من ورائها العذاب الأليم, ولا خير في لذة من بعدها النار، وبين لذة آجلة متأخرة لكنها النعيم المقيم. إنه العقل مع الدين حين يجتمعان يعيش الإنسان حياة صحيحة متوازنة.

    تابت هذه المرأة وأصبحت من العباد، فكانوا يلقبونها عابدة الكوفة، وكان الفساق يقولون: أفسدها علينا الربيع ، أفسدها علينا الربيع .

    ما أحوج الناس إلى الدين حتى تستقيم أخلاقهم، حتى تستقيم حياتهم.

    بعض الملحدين الماركسيين لما رجع عن فكرته كان يقول لأصحابه: لماذا تشككون في الله، ولولا الله لخانتني زوجتي وسرقت مالي؟ لماذا تشككون في الله؟ وهل تستقيم الحياة إلا بالله؟ وهل يسعد الإنسان إلا بإيمانه بالله؟ وهل تستقيم أخلاقه وتفضل أعماله إلا حين يؤمن بالله وأن الله مطلع عليه؟

    ما تكونون في شيء، ولا تعملون من عمل, ولا تقومون بأمر إلا والله عز وجل شهيد حاضر عليكم يا بني الإنسان، حين يعيش الإنسان في ظلال هذه العقيدة تزكو الأخلاق، وتسمو الأنفس، وتستقيم الحياة، وتؤدى الحقوق، وما أحوج البشرية اليوم إلى هذا التدين الصحيح!

    ومن أعظم الكتب التي كتبت في هذا الباب الكتاب العظيم (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) ماذا خسرت هذه الدنيا لما غاب عنها التدين الصحيح، نحن معشر المسلمين مجتمع المسلمين اليوم ماذا خسر حين تشوهت صورة التدين، وأصبح التدين مجتزئاً مقتطعاً, نتخير منه ما نريد، ونترك منه ما لا نحب، ولو عاش الواحد منا في ظل تدين صحيح لأدرك كيف ستكون الحياة، وكيف سيلذ طعمها؟

    نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يعيشنا في طاعته، وأن يتوفانا وهو راض عنا.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    اللهم اهدنا ويسر الهدى إلينا، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين يا رب العالمين، اللهم اجعل للمسلمين من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.

    اللهم أعن المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعن المستضعفين من المسلمين في سوريا يا رب العالمين.

    اللهم فرج عنهم كربهم، اللهم فرج عنهم كربهم، اللهم قو ضعفهم، اللهم ثبتهم على دينك يا رب العالمين!

    اللهم عليك بأعدائهم، اللهم أمنهم في أوطانهم, اللهم انشر عليهم رحمتك، وأنزل عليهم فضلك وسكينتك يا رب العالمين.

    اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم يا قوي يا عزيز.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا يا رب العالمين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756355397