إسلام ويب

القواعد لابن اللحام [22]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف أهل العلم من الأصوليين في إطلاق الكلام فقال بعضهم: يطلق على الحروف المسموعة حقيقة وعلى المدلول مجازاً، وقال بعضهم من المتكلمين: حقيقة في المدلول ومجاز في اللفظ، وقيل أيضاً: الكلام مشترك بين الحقيقة والمجاز.

    1.   

    القاعدة الثامنة والثلاثون: إطلاق الكلام على الحروف المسموعة حقيقة وعلى المعنى مجازاً

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    فقد وصلنا إلى القاعدة الثامنة والثلاثين من كتاب القواعد لـابن اللحام ، ونشرح إن شاء الله أثناء القراءة.

    الملقي: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة الثامنة والثلاثون: قاعدة الكلام ونحوه كالقول، والكلمة تطلق عندنا على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً، وصححه الإمام في المحصول والمنتخب في الأوامر، ونقل في الكتابين المذكورين عن المحققين أنه مشترك بينهما واقتصر عليه.

    وقال بعض المتكلمين: الكلام حقيقة في مدلوله مجاز في لفظه، وقيل: هو مشترك بينهما، والأقوال الثلاثة منقولة عن الأشعري فيما حكاه ابن برهان عنه.

    إذا تقرر هذا فمن فروع القاعدة: اختلاف أصحابنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم )، هل يقوله بلسانه أو بقلبه؟ في المسألة ثلاثة أوجه لنا].

    الشيخ: هذه القاعدة لها أصل في مسألة علم الكلام، أو في مسائل العقائد، وهذه المسألة تدلك على أن الناس أحياناً ينتشر عندهم القول ولا يلزم أن يكون هذا القول هو الحق، أو هو قول السلف، فكثيرة هي الأقوال التي تنتشر في زماننا، ويظن كثير من الناس أنها على حق، وفي الواقع أنها مخالفة أحياناً لقول بعض السلف، أو أخذت جذوة من أقوال السلف، فظن بعضها أنها بمجموعها كلام السلف وليست كذلك.

    أقوال أهل العلم في إطلاق القول على اللفظ أو المعنى

    ولعل هذه القاعدة مما نحن بصددها من هذا الباب، وذلك أن الكلام ونحوه من القول هل يطلق على اللفظ أو على المعنى؟ الآن إذا أتيت أنا بكلام هل المقصود به الألفاظ المسموعة فقط، أم هو المقصود ما يحمله هذا الكلام؟ فكلمة (قام) ليس المقصود بها القاف والألف والميم، بل المقصود معناها وهو القيام، وكذلك: يقعد، يجلس، يرفث، يفسق، يقول، هل المقصود الألفاظ أم المقصود المعنى، أم المقصود اللفظ والمعنى؟ وهل الحقيقة في المعنى أم الحقيقة في اللفظ؟

    المؤلف ذكر ثلاثة أقوال.

    ذكر القول الأول فقال: (هي على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً)، مدلول ذلك الذي هو المعنى، فهذا القول هو قول النحاة؛ لأن النحاة إنما ينظرون إلى الألفاظ دون النظر إلى المعاني؛ لأنهم يهتمون بهذا الباب، فقولهم بهذا ليس له أثر إطلاقاً من حيث العقيدة ولا من حيث الفقه, والنتائج المترتبة عليها مما ذكره المؤلف، أما أن ينسب هذا القول إلى أهل العلم أو أهل التوحيد فهذا هو الذي فيه نظر.

    والغريب أن هذا القول هو قول أكثر أهل الاعتزال، وأكثر علماء الأصول الذين تأثروا بعلم الكلام، ونسبة هذا القول لـأحمد محل نظر، وإن كان قد قال به بعض الحنابلة المتأخرين، فقول المؤلف: (تطلق عندنا على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً)، يقول: (وصححه الإمام في المحصول)، يقصد به الإمام فخر الدين الرازي ، (ونقل في الكتابين المذكورين عن المحققين أنه مشترك بينهما واقتصر عليه) هذا القول الثاني. يقول: (وقال بعض المتكلمين: الكلام حقيقة في مدلوله مجاز في لفظه).

    أبو العباس بن تيمية رحمه الله -كما هو موجود في التعليق- ذكر قولاً رابعاً، يقول ابن تيمية عن هذا القول: إن هذا القول هو قول السلف والفقهاء، وإن كان لا يذكر في كثير من كتب الفقهاء، وهذا القول هو الحق، وهو أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً؛ إذ إن الاسم لا ينفك عن المسمى، وإن أريد بالاسم دون المسمى فلا بد من وجود قرينة، وإن أريد المسمى دون الاسم فلا بد من وجود قرينة، فإذا قلت: جاء عبد الله، فأقصد بعبد الله هذا اسمه ومعناه، وإذا قلت: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، غير لو قلت: (وجاء أمر ربك)؛ لأنني إذا قلت: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، أقصد بذلك هو الرب المتصف بصفات الكمال والمسمى بذلك الاسم، وإذا قال الله: قال يا آدم! فيناديه بصوت، قول الله سبحانه وتعالى: يا آدم! إذاً مناداة الله بلفظه، والمقصود به معناه وهو الله ليس الشجرة ولا شيئاً آخر، وهذا هو الصحيح والحق.

    يقول ابن تيمية عن هذا القول: وإن كان أكثر الفقهاء لا يذكرونه.

    إذاً قلنا: الكلام حقيقة يكون باللفظ والمعنى؛ لأن انفكاك الاسم عن المسمى قول حادث لم يكن معروفاً عند السلف، وهو مخالف للكتاب والسنة، وإنما قصد أهل الكلام بذلك إما قصداً وإما تلبيساً، يعني: لبسوا عليه؛ لأنهم يريدون أن يفكوا العلاقة التي بين الاسم وبين المسمى، فالمعتزلة يقولون: إن الله سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وحينما قال الله سبحانه وتعالى في مناداة آدم عندما أكل من الشجرة، قالوا: إن هذا خلقه كلاماً مسموعاً في الشجرة فنادى آدم، تعالى الله عما يقولون، فهم يوجدون فيصلاً بين الاسم وبين المسمى.

    هذا الكلام له أثر من حيث العقيدة، وأما أثره من حيث الفروع فهو وإن حاول المؤلف ذكره لكن المقصود أنه في علم العقيدة أكثر.

    أوجه التلفظ بالملفوظ

    ثم قال المؤلف: (إذا تقرر ذلك فمن فروع القاعدة)، حتى أبو الحسن الأشعري حينما ذكر هذه الأقوال، لم يذكر قول السلف أنه حقيقة في اللفظ والمعنى جميعاً، وأنه لا ينصرف إلى أحدهما إلا بقرينة.

    ثم قال: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم )، يقول: لفظه: (فليقل: إني صائم)، هل يقولها بلسانه أم بقلبه؟ يقول: (وفي المسألة ثلاثة أوجه).

    القاعدة عندنا أن الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم إذا قال في القرآن: فقولا، فليقل، فلا بد من وجود قول وهو تلفظ باللسان، ولهذا أوجب العلماء رحمهم الله على القارئ أن يحرك لسانه بالقرآن، وإلا لم يكن قارئاً؛ لأنه إذا كان قد أريد بالمعنى الذي هو بنفسه فلا بد من تقييد، قال تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، فلا بد من تقييد ذلك، فلما قال الله: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [المجادلة:8]، دل على أنهم لم يتلفظوا بألسنتهم.

    أما لو أريد بالتلفظ بالملفوظ لقال: قال يكفي، ولهذا تجدون في كثير من أحكام الشريعة لا بد من وجود قول، ولهذا في الحج النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اشترطي فإن لك على ربك ما استثنيت فقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني )، فإنها لو لم تقل، أو قالت ذلك دون أن تتلفظ به فلا ينفعها، لأن المقصود هو اللفظ.

    كما أن المرء إذا أراد أن ينذر لا ينفعه نذره إلا أن يتلفظ، كقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ).

    الملقي: ثم قال المؤلف: [فهي على ثلاثة أوجه:

    أحدها: يقوله مع نفسه، يعني: يزجرها ولا يطلع الناس للرياء، قاله صاحب الرعاية].

    الشيخ: هذا القول نظر إلى المقصود الحقيقي لأجل زجر نفسه، ( فليقل: إني صائم )، يعني: ليقل: إني صائم؛ لأجل أن يذكر نفسه، وتذكير النفس لا يلزم منها التلفظ، هذا قول.

    الملقي: [والثاني: يجهر به مطلقاً، حكاه أبو العباس واختاره؛ لأن القول المطلق باللسان].

    الشيخ: يقصد بـأبي العباس الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله؛ لأن القول المطلق الصحيح أنه يقوله باللسان، ولكن لا يلزم أن يكون هو اللفظ دون المعنى، هذا هو الصحيح، أنه يقوله بلسانه؛ لأن قوله بلسانه يعتبر تذكيراً لنفسه وليس زجراً، وثانياً يعتبر تذكيراً لغيره، كأنه يقول: ما منعني أن أرد عليك وأن أقيم عليك حجتي بلساني إلا أني كنت صائماً، فهذا كأنه تخفيف للنفس من عدم غلواء المخاصمة، والله أعلم.

    الملقي: [يؤيد ما قاله أنه لو حلف إنسان ألا يتكلم أو لا يقرأ أو لا يذكر، فإنه لا يحنث إلا بما تكلم بلسانه دون ما يجري به على قبله، ولا يقال: الأيمان مبناها على العرف، والعرف يقتضي أن الكلام حقيقة في الحروف المسموعة دون النفساني، لأنا نقول: لو أنشأ الإنسان الطلاق أو العتاق أو غيرهما في نفسه ولم يلفظ بلسانه، وكان ناطقاً؛ فإنه لا يلزمه شيء، جزم به الأصحاب].

    الشيخ: يقول: (لو أنشأ الإنسان الطلاق أو العتاق أو غيرهما في نفسه ولم يلفظ بلسانه وكان ناطقاً) هذا غير صحيح؛ لأنه ليس بناطق، (وكان ناطقاً فإنه لا يلزمه شيء، جزم به الأصحاب)، لا يسمى ناطقاً، هذا صحيح عند عامة أهل العلم أنه لا يقع الطلاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به )، لكنه لم يكن ناطقاً؛ لأن النطق إنما يكون باللسان وهو لم يتلفظ.

    يقول: لو أنشأ الإنسان الطلاق في نفسه فلا يقع الطلاق؛ لأنه لم يتلفظ، أما لو تلفظ فإنه ولو لم يوقعه في قلبه فإنه يقع الطلاق عند الجمهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد )، وهذا الحديث يرويه أهل السنن و أحمد من حديث أبي هريرة ، وفي سنده رجل يقال له عبد الرحمن الحبري وهو ضعيف، ولهذا ذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا يقع الطلاق إلا أن يكون قاصداً، ولا بد من وجود شاهدين يشهدان أنه قصد بذلك الهزل.

    ويظهر لي والله أعلم أن الرجل إذا طلق امرأته باللفظ، فإن خاصمته المرأة بذلك عند القضاء وقع قضاءً، فإن صدقته المرأة أنه كان هازلاً لم يقع شيء، والله أعلم.

    الملقي: [والثالث: إن كان في رمضان جهر به، وإن كان في غيره يقوله في نفسه].

    الشيخ: يقول: القول الثالث: قول: إني صائم، إن كان في رمضان يرفع صوته؛ لأن صيام الفرض ليس فيه رياء، وأما إذا كان صوم تطوع فإنه يقوله في نفسه، وهذا أيضاً ليس بجيد؛ لأنه حين يرد بهذا فكأنه يقول: ما منعني من أن أرد عليك في خصومتك ليس عجزاً ولا عياً وإنما لأجل أني صائم، فيجعل الخصم ينفك عن المخاصمة بسبب صوم أخيه.

    يقول: [واختاره أبو البركات ؛ لأنه لا رياء في رمضان بخلاف غيره]، والذي يظهر والله أعلم: أنه كما قال أبو العباس بن تيمية : يجهر به مطلقاً.

    الملقي: قال في الحاشية: [لم أجد هذا النقل في كتب أبي البركات ].

    الشيخ: أبو البركات هو جد ابن تيمية رحمه الله، وابن تيمية اسمه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ، إذاً جد أبي العباس اسمه عبد السلام الحراني وهو من أئمة المذهب، وإذا قالوا في المذهب: الشيخان، يقصدون بذلك الموفق أبو محمد بن قدامة و المجد بن تيمية أبو البركات صاحب المحرر في الفقه.

    1.   

    القاعدة التاسعة والثلاثون: لا يشترط في الكلام أن يكون من ناطق واحد

    الملقي: [القاعدة التاسعة والثلاثون.

    قاعدة: لا يشترط في الكلام أن يكون من ناطق واحد على الصحيح، ذكره أبو حيان في الارتشاف، إذا تقرر هذا فمن فروع القاعدة إذا قال رجل: امرأة فلان طالق، فقال الزوج: ثلاثاً، قال أبو العباس : هي تشبه ما لو قال: لي عليك ألف، فقال: صحاح، وفيها وجهان، قال: وهذا أصل في الكلام من اثنين: إن أتى الثاني بالصفة ونحوها هل يكون متمم للأول أم لا؟].

    الشيخ: إذا قال الرجل: امرأة زيد طالق، فقال زيد: ثلاثاً، قالوا: كأن زيداً هنا قال: امرأتي طالق ثلاثاً، يقول ابن تيمية: (وهذا أصل في الكلام) إن أتى الثاني بالصفة التي تحدث بها الأول فهل يكون متمماً للأول، أو لا يكون متمماً؟ على قولين، فقوله: (ثلاثاً)، كأن هذا إقرار بتوكيل الوكيل، فكأن زيداً قال: نعم امرأتي طالق ثلاثاً.

    الملقي: [فائدة: إذا أوصى إلى اثنين في التصرف وأريد اجتماعهما على ذلك، قال الحارثي : من الفقهاء من قال: ليس المراد من الاجتماع تلفظهما بصيغ العقود، بل المراد صدوره عن رأيهما، ثم لا فرق بين أن يباشر أحدهما أو الغير بإذنهما].

    الشيخ: يقول المؤلف: (إذا أوصى إلى اثنين)، مثل أن يقول: أوصي أن يكون الناظر على وقفي فلان وفلان مجتمعين، وفي حال اجتماعهما لا يلزم أن يتلفظ كل واحد في اتخاذ القرار، لكنه يكفي لو تلفظ أحدهما وسكت الآخر، ولكن عندي هذا ليس له علاقة فيما نحن بصدده من العقد، (لا يشترط في الكلام أن يكون من ناطق واحد)، هذا وإن لم يكن كلاماً من الثاني فلك السكوت في معرض الحاجة إلى البيان قبول أو بيان، فهذا هو المقصود.

    ولهذا قلنا أيضاً في قول الزوج: ثلاثاً، إن إقراره وسكوته على ذلك دليل على موافقته، وليس له علاقة في اشتراط أن يكون الكلام من ناطق أو ناطقين.

    نحن نقول: إن الأقرب أنه عندما قال الزوج: ثلاثاً، فكأنه أقره على هذا القول، وليس تصرفه فضولياً؛ لأن الحنابلة لا يرون تصرف الفضولي.

    الحنابلة يرون أنه إذا قال الرجل: امرأة فلان طالق فقال الرجل: ثلاثاً، فإن الطلاق يقع، ولا يرون تصرف الفضولي، إذاً الحنابلة أوقعوا الطلاق ليس لأجل تصرف الفضولي، وإن كانت النتيجة واحدة؛ بل لأنه حين قال: ثلاثاً، فكأنه هو الذي قال: امرأتي طالق، فصار هذا بمعنى قبول للقول.

    فلو أن أحداً قالوا له: امرأتك طالق، قال: صدقت، فهو لم يتلفظ بالطلاق؟ لكن الطلاق يقع؛ لأنه أقره على كلامه، فقول الرجل: ثلاثاً، إقرار على كلام الأول، ولا علاقة لها بالتصرف الفضولي من عدمه. وهذا الذي يظهر لي والله أعلم: أنه حتى الشافعية لا يقولون بتصرف الفضولي، ولهم قول في هذا الباب، فهذا يدل على أن لهم روايتان، لكن الرواية لا يلزم أن تكون مخرجة على التصرف الفضولي، إنما خرجت على معنى آخر، فهذا الذي يظهر أن قول الزوج: ثلاثاً، كأن هذا إقرار وتصديق لقول الأول، فكما أنه لو قال: هل امرأتك طالق؟ فقال: نعم؛ يقع الطلاق في قول عامة أهل العلم، فكذلك يقال هنا، ولا علاقة لها بقاعدة: لا يشترط في الكلام أن يكون من ناطق واحد، والصحيح أن يقال في هذه القاعدة -يعني فيما نحن بصدده-، لا يلزم من الحكم على القول بالتلفظ؛ لأنه يكفي فيه معناه.

    ولهذا قالوا في مسألة الإقرار الضمني: لو قال رجل للقاضي: لي في ذمة معاذ مائة ألف، فقال المدعى عليه وهو معاذ: سددت منها خمسين ألفاً، فهذا إقرار منه على أنني استسلفته أو في ذمته لي مائة ألف، ادعى رد نصفها، فيلزمه إثبات ذلك، وإلا لوجب عليه مائة ألف كاملة.

    أما هل الإقرار الضمني يأخذ حكم الإقرار الصريح أو لا؟ قولان عند أهل العلم، والذي يظهر أنه إقرار ضمني يحتج به.

    1.   

    القاعدة الأربعون: حجية القراءة الشاذة

    الملقي: [القاعدة الأربعون: القراءة الشاذة هل هي حجة أم لا؟

    قاعدة: القراءة الشاذة كقراءة ابن مسعود في كفارة اليمين، فصيام ثلاثة أيام، هل هي حجة أم لا؟

    فمذهبنا ومذهب أبو حنيفة أنها حجة نحتج بها، وذكره ابن عبد البر إجماعاً، والصحيح عند الآمدي و ابن الحاجب وحكي رواية عن الإمام أحمد أنه لا يحتج بها، ونقل الآمدي عن الشافعي رضي الله عنه، وقال إمام الحرمين في البرهان: إنه ظاهر مذهب الشافعي ، وجزم النووي في شرح مسلم بما قاله الإمام، ذكر ذلك في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر )، وفي غيره أيضاً.

    وما حكاه هؤلاء جميعهم خلاف مذهب الشافعي وخلاف قول جمهور أصحابه، فقد نص الشافعي في موضعين من مختصر البوطي على أنها حجة، ذكر ذلك في باب الرضاع وفي باب تحريم الجمع، وجزم به أيضاً الشيخ أبو حامد في الصيام وفي الرضاع، و الماوردي في الموضعين أيضاً، والقاضي أبو الطيب في موضعين من تعليقه، أحدهما: الصيام، والثاني: في باب وجوب العمرة، والقاضي الحسين في الصيام، و المحاملي في الأيمان من كتابه المسمى: عدة المسافر وكفاية الحاضر، و ابن يونس شارح التنبيه في كتاب الفرائض في الكلام على ميراث الأخ للأم، وجزم به الرافعي في باب حد السرقة.

    والذي وقع للإمام فقلده فيه النووي مستنده عدم إيجاب الشافعي التتابع في الصيام في كفارة اليمين، مع قراءة ابن مسعود السابقة، وهو منع عجيب، فإن عدم الإيجاب يجوز أن يكون لعدم ثبوت ذلك عند الشافعي ، أو لقيام معارض راجح والله أعلم].

    الشيخ: الآن القراءة الشاذة هل تكون حجة أم لا؟

    ذكر المؤلف القول الأول أنها حجة ونسبه لـأبي حنيفة والإمام أحمد ونقله أبو عمر بن عبد البر إجماعاً، واختلف في قول الشافعي ، فقال بعضهم: إنه ليس بحجة، وهذا قول إمام الحرمين ، ونسبه إلى ظاهر مذهب الشافعي وكذلك النووي ، والقول الثاني عن الشافعي أنها حجة ورجحه المؤلف.

    ثم قال المؤلف بعد ذلك: والذي أوقع إمام الحرمين وقلده النووي بأن يقول بأن مذهب الشافعي عدم حجية القراءة الشاذة أنه حينما رأى الشافعي قال في مسألة كفارة اليمين بعدم لزوم التتابع، ثم قال المؤلف هو يقول: لا يلزم من عدم إيجاب التتابع في كفارة اليمين القول بأن القراءة الشاذة ليست حجة؛ لأنه جائز أن يكون لعدم ثبوت ذلك بدليل آخر، أو لقيام الدليل المعارض الراجح؛ لأننا أحياناً نحتج بهذا بحديث وأحياناً لا نحتج به، مع أن الحديثين كلاهما صحيح؛ لوجود معارض أقوى.

    والذي يظهر والله أعلم: أن القراءة الشاذة -وهي قراءة ابن مسعود أو أبي بن كعب التي ليست من القراءات العشر- إذا ثبتت عنهم بإسناد صحيح فيؤخذ بها للاستحباب لا للوجوب؛ لأن نسخها دليل على عدم وجوبها، وقراءتهم لها دليل على مشروعيتها.

    وأما في الصلاة فهل تصح أم لا؟

    جمهور أهل العلم قالوا: لا تصح القراءة الشاذة في الصلاة، فلو صح عن ابن مسعود أنه قرأ قراءة لكنها لا تصح في الصلاة، والذي يظهر لي والله أعلم: أن هذا القول محل نظر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد )، فـابن مسعود كان له أصحاب وأتباع، فقرءوا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1] وخلق الذكر والأنثى، هذه قراءة ابن مسعود ، فكان ابن مسعود يقرؤها وكان أصحابه يقرءونها، فهل كانت قراءتهم باطلة وصلاتهم باطلة؟ هذا يبعد كل البعد.

    فإذا ثبت بإسناد صحيح قراءة شاذة عن ابن مسعود أو عن أبي ، فإن من قرأها في الصلاة لا حرج عليه، والقراءة في الصلاة شيء، وأخذ الحكم الشرعي منها شيء آخر، والذي يظهر لي أن ذلك مستحب.

    وهذه القراءة نسخت فقد كانت في القرآن: فصيام ثلاثة أيام متتابعات، ثم نسخت بقراءة أخرى.

    ثم في عهد عثمان أخذوا بالقراءات العشر فقط، فقيل: السبع، وقيل: العشر، وما عدا ذلك لم يأخذوا به، فكأن هذا الذي منع من الصلاة قال: هذا إجماع من الصحابة على عدم صحة ذلك.

    لكن الصحيح أنها نسخت لكن بنسخها لم يثبت بطلانها.

    فإذا تقرر هذا، فهل يجب التتابع في صيام كفارة اليمين أم لا؟

    الملقي: [المذهب المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله الوجوب، وعنه رواية أخرى لا يجب، والله أعلم].

    الشيخ: المنصوص عن أحمد لا يلزم أن يكون هو المذهب، وإلا فإن المذهب فيما أعرف أنه لا يجب التتابع، وإنما يستحب لقراءة ابن مسعود ، وهذا الذي يظهر: أن القراءة الشاذة إن كان قصد بالحجة أنها مشروعة فهذا جيد، وإن قصد بالحجة أنها واجبة فهذا محل نظر، والذي يظهر لي والله أعلم أن الذين قالوا: إنها حجة، يقصدون بذلك أنها يحتج بها، لكن الاحتجاج لا يلزم أن يكون واجباً أو يكون مستحباً، هذا الذي يظهر والله أعلم.

    وعلى هذا فهو موافق للقول الذي رجحناه والله أعلم.

    1.   

    القاعدة الحادية والأربعون: لا يلزم المكلف حكم الناسخ قبل علمه به

    الملقي: [القاعدة الحادية والأربعون، قاعدة: لا يلزم المكلف حكم الناسخ قبل علمه به].

    الشيخ: إلزام المكلف بحكم ناسخ قبل علمه به، هذه مسألة داخلة في مسألة التكليف، هل يجب من حين ورود الخطاب من الشارع، أم من حين علم المكلف، أم يفرق فيه بين وجود ناسخ من عدمه، كما يقول محفوظ الكلوذاني؟

    الملقي: [قال أبو البركات : قاله أصحابنا، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الحنفية، وللشافعية وجهان، وخرج أبو الخطاب من أصحابنا اللزوم].

    الشيخ: الآن عندنا حكم شرعي ثابت، وهو مثلاً الوجوب، كما قال الله تعالى في مسألة التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم في النجوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، هذا الحكم ثابت، ثم بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم نسخه، فهذا النسخ هل نحن مكلفون به من حين بلوغه للنبي صلى الله عليه وسلم، أم من حين علمنا له؟

    خذ مثالاً آخر: القبلة كانت جهة المشرق ثم نسخت إلى جهة الكعبة، فالذين صلوا إلى جهة المشرق بعد النسخ هل يكونون مكلفين بأن يعيدوا الصلاة بناءً على أنهم مكلفون به من حين وروده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أم من حين علمهم؟ هذه مسألة العلم بالخطاب.

    ابن تيمية ذكر هذه المسألة وذكر ثلاثة أقوال، وقال: والصحيح أن التكليف لا يكون إلا بالعلم، ولا أثر لذلك من وجود ناسخ أو عدمه، وهذا الذي يظهر والله أعلم؛ وذلك لأن فاطمة بنت أبي حبيش كانت بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تستحاض سبع سنين وتدع الصلاة، ولم يأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وعلى هذا: فالذين صلوا إلى جهة المشرق ولم يبلغهم النسخ؟ لا يلزمهم الإعادة.

    ولو لم يأت نسخ أيضاً لا يلزم الإعادة؛ لأنه لا عقوبة إلا بعلم، وهذا هو قول الجمهور.

    ثم قال: (وخرج أبو الخطاب لأصحابنا)، أبو الخطاب هو محفوظ الكلوذاني، وقد فرق محفوظ الكلوذاني فقال: إن التكليف إن كان ثمة ناسخ فيكون واجباً.

    الملقي: [وخرج أبو الخطاب من أصحابنا اللزوم على رواية انعزال الوكيل قبل العلم بالعزل، وفرق القاضي و ابن عقيل وغيرهما بينهما بفروق جيدة.

    منها: أن أوامر الله تعالى ونواهيه مقرونة بالثواب والعقاب، فاعتبر فيها العلم بالمأمور به والمنهي عنه، وليس كذلك الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب، وليس الحكم مختصاً بالناسخ، بل يشمل الحكم المبتدأ وفيه أيضاً الخلاف، ذكره أبو العباس ].

    الشيخ: هذا الذي ذكره أبو العباس بن تيمية رحمه الله، ذكرها في المسودة وذكرها أيضاً كما قلت لكم في مجموع الفتاوى: أن التكليف لا يلزم إلا من حين العلم، هذا القول الأول.

    القول الثاني: يلزم من حين وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    القول الثالث: التفريق بين ورود ناسخ وعدم وروده، فإن كان ورد ناسخ فيلزم، وإن لم يرد ناسخ فلا يلزم، كما هو قول محفوظ الكلوذاني .

    والصحيح: عدم اللزوم مطلقاً، وهذا اختيار أبي العباس بن تيمية .

    الملقي: [ومحل الخلاف إذا وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان مع جبريل قبل بلوغه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يثبت حكمه في حق المكلفين اتفاقاً].

    الشيخ: هذا تكلف؛ لأنه قبل أن يرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورد إلى جبريل، هل نعرف شيئاً أنه حكم شرعي أو دليل؟

    الملقي: [قاله الآمدي ، وتبعه ابن الحاجب وجزم به أبو البركات بن تيمية ، وإن بلغ النبي صلى الله وسلم في السماء فهل يثبت أم لا؟ لم أر من صرح بذلك، ولكن كلام الآمدي يقتضي الثبوت، فإنه لما ذكر نسخ الأمر قبل امتثاله، استدل له بنسخ الخمسين صلاة ليلة الإسراء حتى بقيت خمساً، قلت: فلو لم تكن ثابتة لم يكن رفعها نسخاً، وقال القرافي في منع الاستدلال بهذا الحديث: ولأنه نسخ قبل الإنزال، وقبل الإنزال لا يتقرر علينا حكم، فليس من صور النزاع، فكلام القرافي هذا يقتضي أنه إذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في السماء، أنه يكون كما لو كان مع جبريل ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، والله أعلم].

    الشيخ: القرافي إنما أشار إلى الحكم في مسألة إخبار جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ولأنه نسخ في السماء قبل الإنزال، وقبل الإنزال لا يتقرر علينا حكم؛ فليس من صور النزاع، هذا الذي يظهر.

    على كل حال هذا من التكلف، ونحن إذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم حكماً فإنه يكون دين، سواء كان في السماء أو في الأرض.

    بهذا نكون قد انتهينا من هذا الدرس، ونكمل إن شاء الله القاعدة التي بعدها وهي الثانية والأربعين إن شاء الله في الأسبوع القادم.

    نسأل الله التوفيق والتسديد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755808116