باب المواقيت:
وميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، وأهل اليمن يلملم، وأهل نجد قرن، وأهل المشرق ذات عرق، وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم، ومن حج من أهل مكة فمنها].
تقدم لنا ما يتعلق بحكم العمرة في الدرس السابق، وذكرنا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في العمرة: هل هي واجبة أو لا؟ على ثلاثة أقوال: المشهور من مذهب الإمام أحمد والشافعي : أنها واجبة.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ومالك : أنها سنة.
والرأي الثالث: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنها واجبة إلا على المكي، فأهل مكة لا تجب عليهم العمرة، وذكرنا أدلة كل قول، وذكرنا أن الأدلة الواردة في هذه المسألة، سواء ما استدل به الموجبون، أو استدل به غير الموجبين أنها لا تخلو من مقال وفيها ضعف، وذكرنا أن الأقرب أن العمرة واجبة، ومما يدل على الوجوب حديث عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة الحج الأصغر).
وأيضاً ثبت في صحيح مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه).
وأيضاً تقدم لنا من المسائل: هل يجب الحج على الفور أو التراخي؟ وأن جمهور أهل العلم يرون أن الحج يجب على الفور، وأن الشافعية يقولون: بأن الحج يجب على التراخي، وأنه لا بأس أن يؤخر ما لم يخش العطب، وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم للقاعدة الأصولية: أن الأمر المطلق المجرد عن القرائن أنه يقتضي الفورية، وورد عن عمر رضي الله تعالى عنه بإسناد صحيح أنه قال: من كان ذا ميسرة فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً.
وأيضاً ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن الحج فرض في السنة التاسعة، وأن هذا ما عليه أكثر أهل العلم، خلافاً للشافعي رحمه الله في أن الحج فرض في السنة السادسة، وكذلك أيضاً من قال: بأنه فرض في السنة الخامسة، وأن أصوب الأقوال في هذه المسألة: أن الحج فرض في السنة التاسعة كما هو قول أكثر أهل العلم رحمهم الله.
ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا).
وهذه المسألة تقدم أن تكلمنا عليها، وذكرنا أن القدرة في الحج تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: القدرة بالمال والبدن، فإذا كان قادراً بماله وبدنه فيجب عليه أن يحج فوراً.
القسم الثاني: القدرة بالبدن دون المال، أن يكون قادراً ببدنه دون ماله، وهذا كما قال المالكية رحمهم الله: إذا كان يستطيع أن يمشي وله حرفة وصنعة يتمكن من أن يحترف ويكتسب ويأكل فهذا يجب عليه أن يحج، أو كان مثله من يخدم الناس، فإذا كان يستطيع أن يمشي ويخدم إذا كان مثله يخدم فهذا يجب عليه أن يحج.
أما إذا كان يستطيع أن يمشي، ولكنه ليس ذا حرفة ولا يخدم مثله فهذا لا يجب عليه أن يسأل الناس.
القسم الثالث: أن يكون قادراً بماله دون بدنه، فهذا يجب عليه أن ينيب في الحج، وذكرنا دليل ذلك من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة الخثعمية التي ذكرت: (أن أباها أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، قالت: أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه)، رواه البخاري ومسلم .
وقوله رحمه الله: (من حيث وجبا).
هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه يجب أن يكون النائب من حيث وجب الحج عن المنيب، فمثلاً إذا كان المنيب الذي لا يستطيع ببدنه لمرض لا يرجى برؤه، أو لكبر إذا كان من أهل هذه البلدة، فإنه يجب عليه أن ينيب من هذه البلدة، فهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وقالوا: بأن القضاء يحكي الأداء.
والرأي الثاني: أن الإنابة يجب أن تكون من الميقات، كما ذهب إليه مالك والشافعي رحمهما الله.
والصحيح في ذلك: أنه لا تجب الإنابة، لا من حيث بلد المنيب، ولا من حيث ميقات المنيب، بل لو أنابه من مكة أجزأ ذلك، أو حتى لو أنابه من عرفة أجزأ ذلك؛ لأن المسافة هذه ليست مقصودة لذاتها، إنما هي مقصودة لغيرها، فالسعي إلى مكة هذا ليس مقصوداً لذاته، بل هو مقصود لغيره، وإذا كان كذلك فإنه إذا حصل فلا يلزم تحصيله.
قال المؤلف رحمه الله: (ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام).
صورة المسألة: رجل عاجز عن الحج لمرض لا يرجى برؤه، ولنفرض أنه مريض بالسرطان، ومن المعلوم أن مرض السرطان اليوم من الأمراض المهلكة التي لا يرجى برءُ صاحبها، فهو عاجز عجزاً لمرض لا يرجى برؤه، فأناب من يحج أو يعتمر عنه، ثم بعد ذلك عوفي بإذن الله عز وجل، فهل يجزئ حج النائب عنه أو نقول: يجب عليه أن يحج مرةً أخرى؟ نقول: هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يعافى قبل شروع النائب ودخوله في الإحرام، فهذا لا يجزئه حج النائب.
إذاً: كيف يكون الحج هنا، والنائب دخل ولا يدري وما علم، فهو دخل وأهل بالحج أو أهل بالعمرة ولا يعلم، نقول: بأن الحج أو العمرة تكون للمنيب نفلاً وعليه النفقة إذا كانا اتفقا على نفقة، وهذه من المسائل التي يعايا بها، يقال: رجل صح نفل حجه قبل فرضه، والأصل أنه لا يصح النفل قبل الفرض، فلو أن شخصاً أحرم بالحج نفلاً قال: تطوعاً لله ينقلب فرضاً، فالحج من أوسع العبادات فيما يتعلق بالنية.
الخلاصة في هذا القسم: أنه إذا عوفي المنيب قبل أن يشرع النائب في الحج، وقبل أن يحرم بالحج أو العمرة، نقول: بأن الحج لا يجزئه فرضاً وإنما يكون نفلاً له، وعليه النفقة.
القسم الثاني: أن تكون المعافاة بعد فراغ النائب من النسك، يعني بعد أن انتهى النائب من نسك الحج أو نسك العمرة عافاه الله عز وجل، فهذا يجزئه بالإجماع.
القسم الثالث: أن تكون المعافاة بعد الدخول وقبل الفراغ، بين هذين القسمين، فللعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك قولان:
القول الأول: قال المؤلف رحمه الله: (ويجزئه وإن عوفي بعد الإحرام).
يعني: أنه يجزئه، فما دام أن النائب أحرم بالنسك فإنه يجزئه ولو قبل تمام النسك، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ويستدلون على ذلك بأنه كالمتمتع، فالمتمتع -كما سيأتينا- يجب عليه هدي، فإذا لم يجد هدياً فإنه يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج ويصوم سبعةً إذا رجع إلى أهله، فلو أنه شرع في صيام الثلاثة ثم بعد ذلك قدر على الهدي، هل يجب عليه أن يقطع الصيام وأن يرجع إلى الهدي؟ نقول: لا يجب عليه، فكذلك أيضاً هنا.
القول الثاني: لا يجزئه، ويكون نفلاً له، وهذا وجه عند الحنابلة رحمهم الله تعالى، واستظهره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، واستدلوا على ذلك بأنه قدر على الأصل قبل تمام البدل، وما دام أنه قدر على الأصل قبل تمام البدل فإنه يجب عليه أن ينتقل إلى الأصل، ونظيره المتيمم إذا قدر على الماء بعد أن شرع في الصلاة، فإنه يجب عليه أن يقطع صلاته، وأن يتوضأ، وأن يعيد الصلاة، وسبق أن رجحنا أنه إذا صلى ركعةً فإنه يمضي في صلاته، وأما إذا لم يصل ركعةً فإنه يقطع، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، أيضاً هنا نقول: الصواب في هذه المسألة أنه إن وقف النائب بعرفة ثم عوفي يجزئه؛ لأنه بوقوف النائب بمعرفة قد أدرك الحج، وأما إن عوفي قبل أن يقف بعرفة فإنه لا يجزئه ويكون نفلاً، هذا الأقرب؛ لأنه ما دام أنه وقف بعرفة يكون قد أدرك الحج؛ لحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)، فإذا وقف النائب بعرفة قبل أن يعافى المريض تم الحج.
إذاً: إذا كانت معافاته بعد الوقوف بعرفة فإنه يجزئه، وأما إذا كان قبل الوقوف فلا يجزئه.
وهذا هو المشهور من المذهب، أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الوجوب.
والوجه الثاني في المذهب: أن محرم المرأة ليس من شرائط الوجوب، وإنما هو من شرائط اللزوم.
الذين قالوا: أنه شرط من شرائط الوجوب -كما هو المشهور من المذهب- قالوا: بأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، والمرأة إذا لم تجد محرماً فإنها ليست مستطيعة، وهذا القول هو الصواب، أن المحرم من شرائط الوجوب، وليس من شرائط لزوم الأداء.
وهل هناك ثمرة لهذا الخلاف بين الذين قالوا: بأنه من شرائط الوجوب، أو قالوا: بأنه من شرائط لزوم الأداء، أو نقول: بأن الخلاف لا ثمرة له؟
نقول: الخلاف له ثمرة، فإن قلنا بأنه من شرائط الوجوب فلا يجب عليها أن تعزم على الحج؛ لأنه ما وجب عليها أصلاً، فكيف نقول: يجب عليها أن تعزم على الحج وهو ما وجب عليها.
وإن قلنا: بأنه من شرائط لزوم الأداء وجب عليها أن تعزم؛ لأن الحج قد ترتب في ذمتها، ولكن لا يلزمها أن تؤدي حتى تجد المحرم؛ لأنه لا يجوز لها أن تسافر إلا بمحرم، فهذه الثمرة الأولى.
الثمرة الثانية: لو ماتت ولم تحج، إذا قلنا: بأنه من شرائط الوجوب، لا يخرج من التركة؛ لأنه لم يجب عليها، وإن قلنا: بأنه من شرائط لزوم الأداء فإنه يخرج من تركتها؛ لأنه قد وجب عليها، ولكنها ما تمكنت من السفر لعدم وجود المحرم.
ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)، رواه البخاري ومسلم .
ويؤخذ من الحديث أن المرأة لا يجب عليها الحج حتى تجد المحرم، وكذلك أيضاً لا يجوز لها أن تسافر إلا مع محرم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تسافر امرأة إلا مع محرم)، بهذا نفهم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم أنها تخرج مع جماعة النساء، أو تخرج مع حرة مسلمة ثقة، أو تخرج مع ثلاث نساء فأكثر، أن هذا الكلام كله فيه نظر، فما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر امرأة إلا مع محرم)، فالحديث نص واضح في هذه المسألة، بل في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك (قال رجل: يا رسول الله! إني كتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجة، قال: انطلق فحج مع امرأتك)، مع أن امرأته خرجت مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الجهاد وأن ينطلق ويحج مع امرأته.
يعني: محرمها في السفر، زوجها، وهذا بالإجماع.
ثم قال رحمه الله: (أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح).
المحرمات على التأبيد والمحرمات على التأقيت هذا سيأتي بحثهن إن شاء الله في كتاب النكاح، فالمهم أن محرم المرأة هو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب، مثل: أبيها وإن علا، وابنها وإن نزل، وأخيها وعمها وخالها... إلخ.
وقوله رحمه الله: (أو سبب مباح) دليله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، كأخيها من الرضاع، وأبيها من الرضاع.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (أو سبب مباح).
يخرج السبب المحرم، ويخرج أيضاً الملاعنة على الملاعن، فالسبب المحرم كما لو زنى بامرأة، فالمشهور من المذهب أن السفاح كالنكاح، فإذا زنى بامرأة فإن بنتها تحرم عليه، كما لو تزوج هذه المرأة ودخل بها فإن بنتها تحرم عليه، وأمها تحرم عليه، فهم يقولون: السفاح كالنكاح، فأم المزني بها محرمة إلى يوم القيامة، كأم زوجتك محرمة عليك إلى يوم القيامة، وبنت المزني بها محرمة عليك إلى يوم القيامة، كربيبتك بنت الزوجة.
فيقولون: بأنها محرمة عليك، المهم هذا سبب محرم، ولا تكون محرماً لها إذا قلنا بما مشى عليه الفقهاء رحمهم الله.
والملاعنة على الملاعن كما سيأتينا، فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا فالبينة أو حد في ظهره أو يلاعن، فإذا تلاعنا، إذا لم يكن عنده بينة أربعة شهود حد في ظهره ثمانون جلدة إن كانت محصنة، أو التعزير إن كانت غير محصنة، فلكي يسقط الحد هنا يحتاج إلى أن يلاعن، فإذا حصل اللعان حرمت عليه الملاعنة إلى يوم القيامة تحريماً أبدياً.
وأحكام المحرم إذا أردت أن تعرفها فلترجع إلى كتاب الحج، ففي هذا الموضع يذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أحكام المحرم، ويذكرون شروطه، يعني: في الكتب والشروحات المطولة تجد أنهم يتعرضون لأحكام المحرم.
والمحرم يشترط أن يكون مكلفاً، أي: يكون بالغاً عاقلاً، وهل يشترط أن يكون بصيراً أو لا؟ وهل يشترط أن يكون مسلماً أو لا؟
كذلك أيضاً ما هو السفر الذي يشترط له المحرم؟ هل هو السفر الطويل، أو أنه كل سفر، سواء كان طويلاً أو قصيراً؟ وهم إذا قالوا: سفر طويل، يقصدون به السفر الذي تقصر فيه الصلاة، يعني: أربعة فراسخ فما فوق، كذلك أيضاً من هي التي يشترط المحرم في سفرها؟ هل هي كل أنثى أو أنها البالغة أو أنها من لعورتها حكم؟ هم يقولون: التي لعورتها حكم، يعني: بلغت سبع سنوات فما فوق، فهذه هي التي يشترط المحرم لها.
فالمهم إذا أردت أن تعرف أحكام المحرم فلترجع إلى كتاب الحج، ففي هذا الموضع يتكلم الفقهاء رحمهم الله عن أحكام المحرم.
يعني: من مات من لزمه الحج والعمرة فإنهما يخرجان من تركته؛ لأن هذا دين واجب في ذمته، والله عز وجل يقول: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، فإذا مات الشخص يبدأ بما يتعلق بمؤن التجهيز، ثم بعد ذلك الديون؛ سواء كانت لله أو للآدميين، ثم الوصايا، ثم الميراث.
فالحج أو العمرة دين في ذمته، فإذا لم يحج ولم يعتمر وخلف تركةً فإنه يخرج من تركته ما يدفع إلى من يحج ويعتمر عنه، وسواء أوصى بذلك أو لم يوص، يعني: حتى وإن لم يوص بذلك؛ لأن هذا دين ولا يحتاج إلى وصية، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الشافعي .
واستدل الشافعية والحنابلة بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن امرأةً قالت: يا رسول الله! إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: اقضوا فالله أحق بالوفاء)، رواه البخاري .
والرأي الثاني: أنه لا يخرج من تركته إلا إذا أوصى بذلك، ويستدلون بأن الله سبحانه وتعالى قال: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فالإنسان ليس له إلا ما حصل وكسب، وقد مات ولم يوص، وما دام أنه مات ولم يوص فإنه لا يخرج من تركته إلا إذا وصى فحينئذ يخرج؛ لأن الوصية يجب تنفيذها.
ويظهر والله أعلم أن يقال في مثل هذا: إن كان الرجل قد فرط؛ -لأن بعض أهل العلم أصلاً قال: ما يجزئ عنه الحج، إذا كان فرط وتعمد ترك الحج وتهاون في ذلك حتى أدركه الأجل- فيظهر ما ذهب إليه الحنفية والمالكية، وأما إذا كان ما فرط، ولكن عنده نية وسيخرج، ولكنه لم يظهر التفريط البين ثم وافاه الأجل أو كانت له أعذار فهذا يخرج من تركته، ويكون من رأس المال، وليس من الثلث؛ لأن هذا الثلث للوصايا؛ لأن هذا دين، والديون تكون من رأس المال، إلا إذا وصى أن يكون ذلك من الثلث.
المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي : أنه يشترط في النائب أن يكون قد حج عن نفسه.
والرأي الثاني: عند الحنفية والمالكية: أن هذا ليس شرطاً.
والشافعية والحنابلة استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة شبرمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن
والذين قالوا: بأنه يجزئ استدلوا بحديث عمر المشهور: (إنما الأعمال بالنيات)، وهذا الرجل نوى أن الحج لفلان.
والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، وهو أنه إن نوى عن فلان فإنه ينقلب عن نفسه، وكما أسلفنا أن الحج هو أوسع العبادات فيما يتعلق بالنية، فالصواب في هذه المسألة والأقرب والله أعلم هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة.
هذا موضع خلاف، والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يجوز، وعند الشافعية: أنه جائز، والشافعية هم أوسع المذاهب في أخذ الأجرة على القرب والعبادات، ولكل منهم دليل، وهذه المسألة ستأتينا إن شاء الله في باب الإجارة.
والذي يظهر والله أعلم هو ما ذهب إليه الشافعية؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا كان الشخص قصده بأخذه أن يحج ويشارك الناس في هذا الموسم العظيم، ويقف في تلك المواقف المباركة، ويقضي حاجة أخيه، فإن هذا جائز ولا بأس به.
ومن حج ليأخذ فليس له عند الله من خلاق، إذا كان حجه إنما هو لعرض الدنيا.
أما فرض الحج فإنما هي للعاجز فقط، ولكن من كان قادراً على نفل الحج، فهل له أن ينيب وأن يجلس أو لا؟ المشهور من المذهب أن له ذلك، فهم يقولون: تجوز النيابة في نفل الحج كله أو بعضه، فينيب زيداً من الناس لكي يحج عنه، أو بعضه، يقول مثلاً لفلان: اذهب وارم عني الجمار وهو قادر على ذلك، أو قف عني أو نحو ذلك، وهذا فيه نظر.
والصواب في هذه المسألة القول الثاني: وأن النيابة لا تصح في نفل الحج إلا لمن كان عاجزاً، وهذا هو قول الشافعية، ودليلهم على ذلك: أن الحج عبادة، والعبادة توقيفية، ولم ترد النيابة إلا في حال العجز فقط.
نقول: بأن هذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون النائب قد حج بأجر معلوم، فهذه يقول العلماء رحمهم الله: الحج يكون مضموناً عليه، وهذا ما عليه كثير من الناس اليوم، يحج عن فلان ويعطيه ألف ريال أو ألفي ريال أو ثلاثة آلاف ريال، فالحجة تكون مضمونة عليه، لو أحصر، أو لو فعل محظوراً، أو احتاج إلى نفقة.
القسم الثاني: ألا يكون قد حج بأجر معلوم، وإنما حج بالنفقة فقط، فما يلزمه يلزم النائب من فدية أذى أو دم ونحو ذلك، فهذا ليس مضموناً عليه إلا إذا تعدى وفرط، فإنه حينئذ يكون مضموناً عليه.
الميقات في اللغة: الحد.
وأما في الاصطلاح: فهو زمان العبادة ومكانها.
والمواقيت تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مواقيت مكانية.
والقسم الثاني: مواقيت زمانية.
والحج له ميقاتان: مكاني وزماني، والمكاني بدأ به المؤلف رحمه الله تعالى، فقال: (وميقات أهل المدينة والحليفة).
بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، وهذا من أحسن التأليف، يعني: اتباع الألفاظ الشرعية، فالمؤلف رحمه الله بدأ بميقات أهل المدينة؛ لكون هذا هو الوارد في الحديث.
وقوله رحمه الله: (ميقات أهل المدينة ذي الحليفة) الحليفة تصغير الحلفة، والحلفة شجر معروف هناك، ويسمى هذا الميقات بأبيار علي، وذلك أن العامة تدعي أن علياً قاتل فيه الجن، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنكر مثل هذه التسمية، ولا شك أن الصواب هو التسمي بالألفاظ الشرعية الواردة في القرآن وفي السنة.
وميقات ذي الحليفة يبعد عن المسجد النبوي بما يقرب من ستة أميال، وكان خارجاً عن المدينة في الزمن السابق، أما الآن فلحقه العمران وأصبح داخل المدينة النبوية.
وميقات ذي الحليفة هو أبعد المواقيت عن مكة، ويبعد الآن ما يقرب من أربعمائة كيلو متر عن مكة.
قال رحمه الله: (وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة).
هذا الميقات الثاني، ميقات أهل الشام ومصر وبلاد المغرب، ومن جاء من جهة تلك البلاد.
والجحفة سميت بهذا الاسم لأن السيل اجتحفها، وأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة دعا أن تنقل حمى المدينة إلى الجحفة، وكانت الجحفة يسكنها اليهود، فنقلت حمى المدينة إلى الجحفة فهجرت، ثم بعد ذلك هجرها اليهود وتركوها ولما أخرج اليهود منها ذهب عنها الحمى بإذن الله عز وجل، وكان الناس إلى وقت قريب يحرمون من رابغ، ورابغ قرية معروفة على ساحل البحر الأحمر؛ مدينة كبيرة، ولكن الآن بني في الجحفة مسجد كبير، وعمر الميقات الموجود في الجحفة، فأصبح الناس يحرمون من الجحفة، والجحفة تبعد عن مكة بثلاثة مراحل، والعلماء يقولون: بثلاث مراحل، والمرحلة بالأميال تساوي عشرين ميلاً، يعني تبعد ستين ميلاً تقريباً.
وميقات الجحفة هو أبعد المواقيت عن مكة بعد ذي الحليفة، يعني تبعد ستين ميلاً تقريباً.
قال رحمه الله: (وأهل اليمن يلملم).
ميقات اليمن يلملم، ويقال: ألملم، ويلملم هذه تطلق على جبل هناك يقال له: يلملم، وتطلق أيضاً على البقعة، فهي تسمى بيلملم، فيقال: يلملم ويراد بذلك البقعة، ويقال: أيضاً يلملم ويراد بذلك الجبل، وهذا الميقات يبعد عن مكة بمرحلتين، والمرحلة -كما تقدم- تساوي عشرين ميلاً، يعني فهي تبعد عن مكة بما يقرب من أربعين ميلاً.
قال رحمه الله: (وأهل نجد قرن).
هذا الميقات الرابع، ميقات أهل نجد والطائف قرن، قال بعض العلماء: قرن الثعالب، وهذا فيه نظر، فإن قرن الثعالب جبل مشرف على عرفات، وليس قرن الثعالب هناك، وإنما قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى، فتسميته بقرن الثعالب غير صواب، ولكن يقال: قرن المنازل، ويبعد قرن هذا عن مكة بمرحلتين ويسمى السيل الكبير، فعندنا ثلاثة مواقيت مسافتها عن مكة متقاربة، يلملم وقرن وذات عرق، وقرن مسافته عن مكة بمرحلتين تقريباً، والمرحلة كما ذكرنا تساوي عشرين ميلاً.
قال المؤلف رحمه الله: (وأهل المشرق ذات عرق).
ميقات أهل المشرق ذات عرق، والعرق هو الجبل الصغير، وهذا الميقات هجره الناس، وحتى الآن لم يعمر فيه مسجد، ولهذا الذين يأتون من المشرق يحرمون من ميقات أهل نجد، لكن بتغير الطرق ربما أنهم يمرون مع المدينة ويحرمون من ذي الحليفة، فالمهم أن ميقات ذات عرق لا يزال مهجوراً ولم يبن فيه مسجد كبقية المواقيت، ولعله يبنى فيه بإذن الله.
وميقات ذات عرق اختلف فيه العلماء رحمهم الله: هل النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقته أو أن عمر هو الذي وقته؟ فللعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك رأيان:
الرأي الأول: قالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقته، واستدلوا على ذلك بحديث جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، إلى أن قال: ومهل أهل العراق من ذات عرق)، حديث جابر ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومهل أهل العراق ذات عرق)، وهذا رواه مسلم في صحيحه.
وفي صحيح البخاري : أن عمر رضي الله تعالى عنه لما أتاه أهل البصرة والكوفة حد لهم ووقت لهم ميقات ذات عرق.
وعلى كل حال سواء قلنا: بأن الذي وقته هو النبي صلى الله عليه وسلم، أو الذي وقته هو عمر رضي الله تعالى عنه، فالخلاف هنا يترتب عليه أن عمر له سنة متبعة رضي الله تعالى عنه.
وأيضاً نعرف أن الميقات ليس نقطة محددة، وأن الميقات منطقة واسعة، فمثلاً: ذو الحليفة، كل تلك المنطقة يحرم منها، قرن المنازل ميقات أهل نجد، فكل الوادي هناك يحرم منه، وإذا أحرمت من جميع الوادي هناك فإنك تكون أحرمت من الميقات، وقل مثل ذلك في بقية المواقيت، أو مثلاً: ما كان دون المواقيت من البلدان، فإن أهلها يهلون منها، فمثلاً: أهل خليص يهلون من خليص، وأهل وادي فاطمة يهلون من وادي فاطمة، فكل مدينة خليص يهلون منها؛ سواء من طرفها البعيد عن مكة أو من طرفها القريب من مكة، كل ذلك يصح، ومن جدة تحرم من جميع جدة، سواء كان من طرفها البعيد عن مكة، أو طرفها القريب إلى مكة، ولكن لا تخرج من عامر البلد حتى تحرم.
قال رحمه الله: (وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم).
يعني: هذه المواقيت التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم هي لأهلها المذكورين، ولمن مر عليها من غيرهم، ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة لأهل المدينة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمهله من أهله)، حتى أهل مكة يهلون من مكة، رواه في الصحيحين.
قال: (ومن حج من أهل مكة فمنها).
يقول: من حج من أهل مكة فإنه يهل من مكة، فلو أهل من خارج مكة جمهور العلماء على أنه يجزئ، ولكنهم يقولون: أهل قبل الميقات، وهذا يفعله الآن أهل مكة، تجد أنهم يخرجون إلى منى في أعمالهم، ثم يهلون من منى، أو يخرجون إلى عرفات ويهلون من عرفات، فجمهور أهل العلم أن المكي إذا أهل من مكة فله ذلك، وكذلك أيضاً لو خرج إلى منى وأهل من منى فله ذلك وأهل من عرفات، وغير المكي أيضاً حتى الآفاقي، الآفاقي إذا ورد مكة حاجاً متمتعاً وانتهى من العمرة يحرم من مكة، فلو أحرم من منى يجزئ أو أحرم من عرفات، نقول بأنه يجزئ، لكن عند الشافعية: لا يجوز إلا من داخل مكة.
والصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم رحمهم الله تعالى: أن المكي لو أهل من مكة، أو أهل من خارج مكة أن هذا جائز، ومثله أيضاً الآفاقي إذا جاء متمتعاً فإنه سيحرم للحج من مكة، ولكن لو أحرم من خارج مكة فإن هذا مجزئ.
الجواب: لا، ليس صحيحاً، وليس عليه دليل.
الجواب: مصافحة الكافر لا بأس به؛ لأن الذي ورد النهي عنه هو بدؤه بالسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا بأس أن يقول: أهلاً وسهلاً ومرحباً.. إلى آخره، فإن هذا جائز ولا بأس به، ولكن الذي ينهى عنه هو البدء بالسلام؛ لأن السلام دعاء له بالسلام، أما المصافحة أو قول: مرحباً أو أهلاً وسهلاً فهذا جائز.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر